Qawmi

Just another WordPress site

 

طفلة فلسطينية تعزف لحن (الناجي من المحرقة) في عزف مشترك مع صهاينه آخرين في حفل مدعون من أحدى ثريات الصهاينة
فتاة فلسطينية من مخيم جنين تعزف لحن (الناجي من المحرقة) في عزف مشترك مع أطفال صهاينه آخرين في حفل مدعوم من أحدى ثريات الصهاينة

 

د. إبراهيم علوش

 

سبقت الإشارة في مادة أخرى عن “المحرقة” إلى ضرورة محاصرة تعبير “المحرقة” بين مزدوجين، تماماً كما نفعل مع “إسرائيل”، بسبب العلاقة العضوية ما بين الكيانين، وضرورة التأكيد على رفض الاعتراف بهما لأن كلاهما يقوم على الكذب.  فإما أن نحاصر “المحرقة” بين مزدوجين، وإما أن نسميها بمضمونها، أي المِخرقة، بالخاء، من مخارق، كناية عما لا يقبله العقل لأنه يخرق قوانين الطبيعة. 

 

وقد جاء التطرق لهذه النقطة في سياق تناول الجهد والأموال المبذولين من قبل الحركة الصهيونية وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية للترويج لأساطير “المحرقة” عربياً، بالأخص عن طريق وضع موسوعات عربية عنها على الإنترنت.    

 

أما الترويج للمِخرقة المزعومة فلسطينياً، أي بين الضحايا المباشرين للحركة الصهيونية، من خلال متحف للمِخرقة في الناصرة العربية المحتلة افتتح في 15/3/2005، فيمثل محاولة لتجريع الشعب العربي الفلسطيني رواية جلاديهم المباشرين، فهي محاولة لتسويغ الصهيونية واغتصاب الوعي، وهي حملة بدأت فعلياً مع دعوة إدوار سعيد الفلسطينيين “لتفهم معاناة اليهود التاريخية في المحرقة”، وباتت اليوم ضرورة سياسية لبرنامج “الدولة الواحدة” أو “ثنائية القومية” الداعي للتعايش مع اليهود في فلسطين، أي مع البعد الديموغرافي للبرنامج الصهيوني، على قاعدة انسلاخ الهوية والانتماء، وشطب القضية وتقزيمها، لأن الفلسطيني أو العربي الذي يقبل مجرد قبول بالمِخرقة عليه أن يقبل بأنها أهم حدث في التاريخ العالمي تتحول النكبة الفلسطينية إزاءه إلى “صفر على الشمال” كما يقال، أو كما قالها أحد المروجين فلسطينياً للمِخرقة:

 

تهجيرة ونكبة الشعب الفلسطيني صغيرة بحجمها أمام الأحداث الرهيبة في المحرقة”!! (كما جاء في مقدمة كتاب صدر بالعربية مؤخراً يدعو للاعتراف بالمِخرقة بعنوان “الفلسطينيون ودولة المحرقة”).

 

وهذه ليست شطحة بالمناسبة، بل هو التعريف الدقيق للمِخرقة لمن يقرأ أدبياتها، كما سبق أن أوضحنا مراراً.  فالمِخرقة ليست مجرد مجزرة أو حدث رهيب، بل هي أهم حدث في تاريخ البشرية، واكبر مجزرة فيه على الإطلاق، وبالتالي فإنها عصية على المقارنة، وتأتي مع أل التعريف دوماً: “المحرقة”، فأي ربط أو مقارنة لمجزرة أو حملة إبادة أخرى بها يعتبر نوعاً من الشرك، هو أخطر من أي شرك عرفه الإنسان، ومنه الشرك بالله عز وجل، كما يريد اليهود أن يفرضوا على العالم، وكما يريد “العالم” أن يفرض الآن على العرب والفلسطينيين.  

 

المِخرقة لا تُقارن بشيء إذن، فالحديث عن “محرقة” مقابل “نكبة” يمثل نوعاً من الجهل عند من تشربوا “المحرقة” في قلوبهم، والاعتراف بالمِخرقة وسن قوانين لمنع إنكارها يعني بالضرورة وأولاً القبول بها كمرجعية للتاريخ البشري برمته، فوق كل شيء، ولا تقارن بأي شيء.   وبالتالي لم يعد من الممكن الدخول للتاريخ المعاصر إلا من خرم إبرة متحف “ياد فاشيم”، متحف المِخرقة في الكيان الصهيوني.  فهناك يُبارك السياسيون والمثقفون وينالون المقبولية والاعتراف السياسيين من “العالم المتحضر”، فالمِخرقة هي الاعتراف بالنفوذ اليهودي سياسياً، بالرواية اليهودية ثقافياً، وبالرؤية اليهودية للعالم أيديولوجياً، وهي لا تتعلق بتبرير سياسيات دولة “إسرائيل” فحسب، ولا باحتلال فلسطين فقط، بل بجعل العالم، برمته، يهودياً.  فالاعتراف بالمِخرقة اليوم هو الاعتراف الرسمي بحكم الأوثان المقدسة، أوثان النفوذ اليهودي العالمي، تماماً كما أن إشهار “لا إله إلا الله محمد رسول الله” دخولٌ في الإسلام.  والمِخرقة باتت  تحدٍ مباشرٍ للمسيحية والإسلام ولكل عقيدة تحررية عندما يصرح اليهود علناً في أدبياتهم عن المِخرقة بأن “الله مات في أوشفيتز”… وبينما يرون نقد الأديان وتحقير الأنبياء حرية رأي، يعتبرون مجرد رفض الاعتراف بالمِخرقة والإقرار بها جريمة كبرى يجب أن يعاقب عليها القانون الأوروبي والدولي.  ألا فليذهب هكذا قانون بمقاييسه المزدوجة إلى الجحيم! 

 

المِخرقة ديانة دنيوية جديدة يلعب فيها “الشعب اليهودي” نفسه دور المسيح المخلص الذي يضحي بنفسه من أجل البشرية، وستكون لنا عودة في مادة أخرى للبعد الديني للمِخرقة.  لكن المهم هنا هو الجهود المبذولة لفرض الاعتراف بالمِخرقة إسلامياً، من مؤتمر في بالي في أندونيسيا في شهر تموز 2007 إلى ما نقلته قناة الجزيرة صباح يوم 28/3/2009 عن توقيع رئيس المؤتمر الإسلامي أكمل الدين أوغلو (تركي) وثيقة مع الفرنسيين يعترف فيها بالمِخرقة المزعومة ويوافق على تحريم إنكارها.   وهو ما يأتي بالطبع رداً على تبني إيران لقضية “المراجعة التاريخية”، أي تبني دراسة المِخرقة علمياً وتفنيدها.  ولا بد من الإشارة هنا أن دحض المِخرقة هو قضيتنا قبل أن يكون قضية إيران، سواء تبنت إيران أو غيرها هذا المشروع أم لا، فالمِخرقة هي شعر شمشون القوة اليهودية العالمية وكعب أخيلها في آنٍ معاً، ولهذا لا يمكن أن نفصلها عن الصراع العربي-الصهيوني، وفي هذه النقطة فقط، وفقط في هذه النقطة، أي فيما يتعلق بقوة صلة “المحرقة” بنا، يلتقي مروجو المِخرقة العرب ورافضيها…

 

الفلسطينيون المروجون للمِخرقة باتوا يحاولون اليوم التلاعب بالعواطف الدينية النبيلة لشعبنا فراحوا يرشون على خطابهم آياتٍ وأحاديث نبوية شريفة من الواضح أنهم لا يفهمونها لأنها جاءت تماماً خارج السياق الذين يحاولون من خلاله تكريس المِخرقة مرجعية سياسية لشعبنا، وينسى هؤلاء أن اليهود لن يرضوا عنهم حتى يتبعوا ملتهم (المِخرقة في زماننا المعاصر)، وهو ما يفعله مروجو المِخرقة فعلياً، فإذا بهم يوالون من أخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم  و”إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون”.

 

ونتيجة هذه الجهود الحثيثة لتسويق المِخرقة فلسطينياً هي تقمص الضحية لرواية الجلاد، أي لجلد ذاتها، في نوع من الانتحار المجاني لكسب قلب عدو… ففي عرض ثقافيٍ لا يقل دلالةً عن توقيع الفرنسيين وثيقة استسلامهم مع الألمان تحت قوس النصر في باريس، عرضت لنا وسائل الإعلام الغربية صوراً لفتيات فلسطينيات محجبات من مخيم جنين – مخيم البطولة والعزة – وهن يعزفن الكمان “لضحايا المحرقة اليهود” في تل أبيب، بمناسبة إحياء يوم “ذكرى الكارثة النازية”، ويمكن إيجاد مثل هذه الصور على موقع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي على الإنترنت  .

 

فاحتلال الأرض يحدث في تاريخ كل الشعوب، أما احتلال الرأس، فهو الذي يضيع الأرض والإنسان.  وهذا هو رأس القضية الفلسطينية يعرض في السوق.  والتطبيع الموسيقي أيضاً سبق أن بدأه إدوار سعيد مع الموسيقار “الإسرائيلي” بارنبوم… فأنجزه “الموسيقار” الأمني الأمريكي الجنرال دايتون!  وقد غطت النيويورك تايمز الحدث بتقرير تفصيلي مع صور في عددها الصادر في 25/3/2009.

 

ومن الواضح أن تسويق المِخرقة فلسطينياً، على المستوى الشعبي، وليس فقط على مستوى النخب المخترقة والمتغربة والمنفصلة عن شعبها، هو جزء من حملة منهجية منظمة، ممولة جيداً، كما رأينا في حالة الموسوعات العربية عن المِخرقة، ومدعومة جيداً… ومنه ما نشرته مجلة “أوكتوبر” المصرية في 22/3/2009  نقلاً عن يديعوت أحرونوت عن إقامة معرض ثقافي للمِخرقة المفبركة في نعلين في فلسطين المحتلة، التي تشهد تظاهرات أسبوعية ضد جدار الضم والإلحاق، يتم تنظيمها دوماً بالاشتراك مع “يهود تقدميين”!   وتقول “أوكتوبر” أن “اللجنة الشعبية للدفاع عن الأراضي في نعلين قررت هذا العام في خطوة مفاجئة إحياء يوم (الكارثة العالمي) بإقامة معرض للصور التي توضح مدى فظاعة ما تعرض له اليهود في أوروبا. وقامت اللجنة بشراء هذه الصور من متحف الكارثة والبطولة في القدس المعروف باسم (ياد فاشيم)”.

 

وهذا هو بالضرورة الثمن المبدئي والإستراتيجي الذي ندفعه دوماً تحت عنوان “النضال المشترك ضد الصهيونية” مع من يزعمون أنهم “يهود تقدميون”، وهم بالطبع تقدميون تقف تقدميتهم دوماً عند حدود السطوة والنفوذ اليهودي العالمي، وقدسية أساطير “المحرقة”، ورفض الاعتراف بعروبة كامل فلسطين ومشروعية العمل المسلح… فتلك خطوطهم الحمراء التي تمحو خطوطنا (ولا منطقة رمادية بين هذه التخوم، بل ساحة اشتباك)! وهم ينالون المشروعية السياسية بيننا بإثارة القضايا الجزئية بجدارة، مثلاً قضايا حقوق الإنسان والعنصرية، لكي يدفعونا للتخلي عن الكليات: عن العمل المسلح لمصلحة العمل السلمي، وعن عروبة فلسطين لمصلحة التعايش معهم والاعتراف بالكيان، وأهم شيء على الإطلاق، عن مشروعية قضيتنا برمتها من أجل الاعتراف بالمِخرقة..

 

مروجو المِخرقة الفلسطينيون، إن كانوا يعتبرون أنفسهم كذلك، يحاولون أن يوهمونا، وربما يتوهمون أنفسهم، بأن الاهتمام الغربي أو اليهودي الذي يتلقونه عندما يسوقون المِخرقة فلسطينياً يعني كسر الاحتكار اليهودي على المعاناة، ونيل المقبولية الغربية للقضية الفلسطينية، لكنه يعني شيئاً واحداً فقط: شطب القضية الفلسطينية.  فلو افترضنا أن اليهودي اعترف بالنكبة، واعترف الفلسطيني بالمِخرقة، فإن اعتراف اليهودي يمثل بالمقارنة جنحة صغيرة، أما المِخرقة فليست مجرد جناية كبرى، بل هي الخطيئة الأصيلة بعينها. 

 

لكن مروحي المِخرقة الفلسطينيين يظنون أنهم يمكن أن يحصلوا بالفهلوة والتدليس والتقرب من اليهود على زاوية صغيرة من التاريخ تحت ظل المِخرقة العالي، ما دامت المقاومة وعناؤها ليسا مشروعهم، لكي نتمكن أخيراً من التمتع “بقراءة الأدبيات الفلسطينية من سيرة الرسول وبطولات ياسر عرفات وأشعار محمود درويش”، كما راح أحدهم يخربط بضراوة بدون أي ضابط عقلي أو رابط منطقي (من نفس مقدمة كتاب “الفلسطينيون ودولة المحرقة”). 

 

وربما لا يمتلك مثل هؤلاء الفطنة الكافية ليدركوا أن الاهتمام الذي ينالونه يشبه تماماً الاهتمام المتعالي الذي يناله مستسلم عندما يتخلى عن قضيته…  أو عن ثيابه تحت قوس النصر في باريس، أو في أوسلو!  وهم  في غمرة ولعهم بذاتهم واحتفالهم بعريهم الثقافي راحوا يرددون كالببغاوت ذلك الخطاب المستهلك منذ ما قبل تأسيس دولة العدو الصهيوني حول أن العرب واليهود كلاهما ضحية للمشروع الإمبريالي، البريطاني والأمريكي، وليس فقط الألماني، وهذا في نفس اللحظة التاريخية، أي في بداية الألفية الثالثة، التي بات يتكشف فيها النفوذ – والمشروع – اليهودي العالمي كشريك عضوي للإمبريالية العالمية في كل مكان على أوسع نطاق، حتى لم يعد بإمكان أحد أن ينكره، إلا هم، أصحاب الإستراتيجية “العبقرية” لشطب القضية الفلسطينية من خلال الاعتراف بالمِخرقة! 

 

فالاعتراف بالمِخرقة هو هو نفسه الاستسلام غير المشروط للعدو الصهيوني. 

 

 

 

 

  

 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *