Qawmi

Just another WordPress site

17571454_1602878046409063_743145731_o

الحرب الثقافية”: مفهوم ماركسي الجذور قبل أن يصبح دينياً أو إمبريالياً

حرب مواقع، بين جيوش ثابتة، لا بد أن تسبق الحرب المتحركة

غرامشي: نجاح الثورة يعتمد على إنتاج ثقافة بديلة

 

د. إبراهيم علوش

في عشرينيات القرن العشرين، قبل انتشار مقولة “صراع الحضارات” وتوظيفها من قبل المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية لشن الحروب، وقبل صعود الحركات الإسلامية بأمدٍ طويل، صاغ المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) في “دفاتر السجن” مفهوماً اجتماعياً-سياسياً جديداً وقتها هو مفهوم “الهيمنة الثقافية”.  وقد سعى من خلال ذلك المفهوم إلى تفسير سبب عدم انتشار الثورة الاشتراكية إلى أوروبا الغربية قائلاً أن هيمنة الطبقة الرأسمالية على المجتمع لا تعتمد على القوة والمال والسلطة فحسب، بل على “الرضا”، رضا أغلبية المجتمع المسحوقة، عندما تتحول قيم الطبقة الحاكمة ومفاهيمها إلى قيم “بديهية” – حتمية وطبيعية – عند عامة الناس يرون الخروج عنها خروجاً عن المنطق السليم أو “الحس العادي” أو “الطبيعة الإنسانية”.    ومن هنا، اعتبر غرامشي أن الثقافة، أو الهيمنة الثقافية بالتحديد، تشكل بعداً أساسياً لهيمنة الرأسمالية على المجتمع لا يمكن تجاهله أبداً في خضم الإعداد للثورة السياسية أو حتى لفهم الوضع السياسي الراهن.

ومن هنا انطلق غرامشي، الألباني الأصل، ليحاج بأن نجاح الثورة أو التغيير الاجتماعي يعتمد بشكل أساسي على إنتاج “ثقافة بديلة” عند الشرائح المسحوقة في المجتمع، ثقافة تكرس ربط المعاناة الخاصة للمواطن بالمشكلة العامة، لأن الفرد قد يعيش أو يلمس انعكاسات البنية الاجتماعية الظالمة على جزيرته الصغيرة في الوجود، دون أن يتمكن من رؤية الأسباب الأساسية للظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

وفيما بعد طور غرامشي هذه الفكرة في “الأمير الصغير” ليتحدث عن دور الطليعة الثورية في المجتمع في إنتاج “مثقف عضوي”، من صفوف المستضعفين، يحمل ثقافة بديلة للثقافة السائدة، ثقافة بديلة لقيمها ومفاهيمها ومؤسساتها وتقاليدها بكل ما للكلمة من معنى، و”عضوية” بمعنى أنها بديلة لشريحة “الإنتلجنسيا”، أو شريحة منتجي الثقافة والفكر والفن والكتابة (دون أن يكون كل هؤلاء من الكتاب طبعا.   وهي شريحة تمثل أداة الهيمنة الثقافية للرأسمالية على المجتمع، قد تظن نفسها فوقه أو منفصلة عنه، وهي في الواقع جزء عضوي من نوع أخر للهيمنة التي تفرزها البنية الاقتصادية-الاجتماعية السائدة على عقول الناس وقلوبهم. وقد تبلورت فكرة “تثقيف المسحوقين” فيما بعد بشكل مستقل نسبياً كما نراها عند فرانز فانون في “المعذبون في الأرض”، أو عند باولو فراري من أمريكا اللاتينية كما في “علم تربية المضطهدين”.   كن هذا ليس موضوعنا هنا.

موضوعنا هو مفهوم “الحرب الثقافية” التي اعتبرها غرامشي “حرب مواقع”، أي حرب بين جيوش ثابتة، لا بد لها أن تسبق “الحرب المتحركة”، وهي مرحلة الهجوم أو الثورة السياسية.    وبذلك دخل مفهوم “الحرب الثقافية” معجم العلوم السياسية والاجتماعية من أوسع أبوابه، وإن كان غرامشي، كماركسي قح، قد ربطه بالصراع الاجتماعي الداخلي فحسب عند هذه النقطة، لا الخارجي، وقد عنى به تحديداً ضرورة قيام السياسيين والمفكرين المعادين للبنية السائدة وهيمنة النظام الرأسمالي بمحاولة طرح فكرهم وخطهم منهجياً في وسائل الإعلام والمنظمات الجماهيرية والمؤسسات التعليمية بقصد تعزيز الوعي الطبقي وغرس القناعة ببديل أخر للفكر السائد، وهو بديل شيوعي بالنسبة لغرامشي طبعاً.

ومع أن غرامشي هو واضع الفكرة بشكلها الأصلي، أي فكرة “الهيمنة الثقافية”  و”الحرب الثقافية” اللازمة للتخلص من تلك الهيمنة، يسهل كثيراً أن نتخيل نسخة قومية أو إسلامية، أو حتى إمبريالية، من مفهومي “الهيمنة” و”الحرب الثقافية”.  ففكرة غرامشي يمكن سحبها على كل حالة تعمل فيها جماعة بشكل منهجي منظم لنقل الثقافة السائدة جذرياً للأمام أو للخلف.  ويمكن سحبها على جهود الغرب لتغيير قيم المجتمع العربي ومفاهيمه، من خلال مراكز الأبحاث ومنظمات التمويل الأجنبي مثلاً، كما يمكن سحبها على مشروع إحلال ثقافة قومية وحدوية محل الثقافة السائدة القطرية والطائفية والعشائرية والاثنية… أو التفكيكية عامة، كما يمكن سحبها على بعض الدعاة الإسلامويين في سعيهم لفرض ثقافة الفتنة والتفكيك والقرون الوسطى.

في التسعينيات من القرن العشرين، انطلق محافظو الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة ليشنوا حرباً ثقافية، كما سميت رسمياً وقتها، لإعادة تنظيم المجتمع الأمريكي نفسه من خلال نفس الآليات التي وصفها غرامشي، مثل التعبئة والتنظيم وشن حملات في وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية والمنظمات الجماهيرية والقضاء.  وكان ذلك على خطوط ثقافية الطابع تشق المجتمع الأمريكي نصفياً تقريباً مثل قضية حق الإجهاض أو حقوق المثليين أو حقوق الأقليات أو حق امتلاك السلاح فردياً أو حق الصلاة في المدارس الخ…   وكان السياسي والصحافي الأمريكي بات بيوكانن، القادم من الحزب الجمهوري، أحد أبرز رموز ذلك التيار اليميني المحافظ في السياسة الداخلية، والمعادي للوبي الصهيوني ولحروب الولايات المتحدة في الخارج، ومنه العراق، في السياسة الخارجية.  وقد خاض بيوكانن معركته الانتخابية رسمياً ضد جورج بوش في مؤتمر الحزب الجمهوري عام 1992 تحت عنوان “الحرب الثقافية  .” ويمكن تصنيف اليميني المحافظ ليندون لاروش، القادم من الحزب الديموقراطي، تحت نفس العنوان.

ولينتبه القارئ الكريم أن تعريف “اليمين” و”اليسار” يصبح صعباً جداً، وخارجاً عن أي سياق واقعي هنا، إذ ترى “اليميني” بات بيوكانن، المحافظ في القضايا الثقافية والاجتماعية، يناهض العولمة باسم حقوق العامل الأمريكي، ويناهض اللوبي الصهيوني وحروب أمريكا الخارجية، في الوقت الذي يدافع فيه عن التدين ضد علمانية الدولة، ويناهض مع التيار المحافظ في أمريكا حق الإجهاض للمرأة وحقوق المثليين الخ…  وإذ ترى “اليسار”، بالمقابل، بتركيزه على تجاوز الهوية القومية والحضارية، وبتركيزه على حقوق الأفراد والأقليات على حساب الحقوق القومية، وبإدانته لحركات المقاومة ذات الهوية القومية أو الإسلامية، وجهاً آخر للعولمة الإمبريالية!

ويصح هذا بالأخص عندما تتحول “الحرب الثقافية”، من جهة قوى الهيمنة الخارجية، من معركة داخلية إلى معركة خارجية، لندخل حالاً في مفهوم “الإمبريالية الثقافية”، وهو مفهوم تبلور في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، يدرس عملية تحويل قيم المستعمِر ومفاهيمه ومؤسساته وتقاليده إلى أمرٍ “بديهي” و”طبيعي” و”حتمي” في عقول الشعوب المستعمَرة وأفئدتها… ويحتاج مفهوم “الإمبريالية الثقافية” إلى معالجة أكثر تفصيلاً، خاصةً في سياق علاقة التبعية التي تفرضها على الشعوب والأمم الفقيرة، من خلال سيطرتها الكونية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وعلى وسائل إنتاج الثقافة والفن والإعلام عالمياً، عبر شركات عملاقة عابرة للحدود تصنع برنامج الحاسوب وفيلم هوليود والتقرير الإخباري الذي تتناقله وسائل الإعلام العربية كأنه كلامٌ مُنزل!

وقد أنتجت ممارسة “الإمبريالية الثقافية” في التسعينيات، خلال فترة الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة، مفهوم “القوة الناعمة”، وهي فكرة فرض الهيمنة من خلال استمالة وجذب العقول والقلوب عبر الأدوات الثقافية، مقارنةً بمفهوم “القوة الخشنة”، أي استخدام القوة العسكرية والسياسية والمالية لفرض الهيمنة. ويمكن أن نعتبر “الثورات الملونة” شكلاً من أشكال توظيف القوة الناعمة من قبل الإمبريالية. ومفهوم “القوة الناعمة” بلوره عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي في تسعينات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، وقلنا بلوره، ولم نقل وضعه، لأن ابن خلدون سبق أن تطرق لمفاهيم “الهيمنة الثقافية” وتشبه المغلوب بالغالب في العادات والكلام واللباس الخ … وكذلك فعل بعض فلاسفة الصين القدماء.

المهم، في مثل ذلك السياق، سياق مقاومة “القوة الناعمة” كأداة لفرض الهيمنة، وسياق مقاومة “الإمبريالية الثقافية” في ظل العولمة، أن العودة للأصول والتراث عند الشعوب المستهدفة قد تصبح شكلاً غريزياً من أشكال “المقاومة الثقافية”، لا يجوز تقييمه إلا في سياقه، سياق الصراع السياسي الواقعي ضد الإمبريالية وأدواتها الثقافية، واعتماداً على ما إذا كانت العودة للأصول والتراث في خدمة الإمبريالية أم في خدمة مقاومتها.   فهذا ليس صراعاً في مختبر ثقافي أو برج عاجي بين أنصار “ما قبل الحداثة” وأنصار “ما بعد الحداثة”، كما أنه ليس صراعاً بين “بربريتين”، كما ذهب بعض اليساريين الغربيين والعرب، بل هو انعكاس ثقافي للصراع السياسي الدائر على الأرض لا يقل عنه ضراوةً.  في مثل ذلك الصراع، لا يجوز الاصطفاف إلا مع مشروع مقاومة الهيمنة الإمبريالية ثقافياً.

أما آليات الدفاع الثقافي الغريزية، ومنها تلك التي تتخذ شكل الغلو الديني في المجتمع العربي، حتى عندما تاخذ شكلاً مقاوماً للهيمنة الخارجية، فهي بالضبط آليات دفاع، أي “حرب مواقع”، وهذا هو دورها، ولن تستطيع أبداً أن تصبح مشروعاً نهضوياً، وأن تعالج الواقع بشكل صحيح تاريخياً، أي أن تتحول إلى “حرب متحركة” بمعنى التصدي للأسباب الحقيقية للظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الداخلي والخارجي، بدون رؤية علمية وموضوعية لتحديات العصر وتناقضاته. فذلك يحتاج إلى مشروع حداثوي عربي من نوع آخر، لا يقطع مع التراث، بل ينبثق منه، ولا يغمض عينيه عن تناقضات العصر وتحدياته في ماضٍ مجيد كانت ظروفه وتحدياته ومشاكله مختلفة تماما.   نحن بحاجة إذن لمشروع مقاومة ونهضة ثقافية لا يضيع الهوية في ما بعد الحداثة، ولا يضيع صوابه بالهروب من الواقع في ما قبل الحداثة، ولا يستورد حداثة ذات مقاسات جاهزة من أزمنة أو أمكنة أخرى.

 

من وحي الفكر السياسي العربي

جميل ناجي

ضمن إطار عام، نحاول في هذه الزاوية إعادة تقليب أوراق وأدبيات الفكر السياسي العربي، وطرحها للنقاش كمحاولة لإنتاج أرضية مشتركة، من خلال وضع اليد على أهم منتجات هذا الفكر وإعادة تقديمه ضمن إطار منهجي منظّم. وإذا كنا نقول “الفكر السياسي العربي”، فإن المقصود هو الفكر النهضوي السائد حتى عقودٍ خلت، الذي كان بمعظمه قومياً ويسارياً.  الفكرة هي تشكيل حلقة وصل بين تلك المرحلة ومرحلتنا الراهنة، من خلال إعادة إنتاج قاعدة نظرية صلبة تلعب دوراً ولو بشكل متواضع في انطلاق عموم المشتغلين بالحقل القومي، في ظل واقع لا يختلف الكثيرون على أنه أكثر مأساوية بكثير من الواقع الذي أنتجَت فيه تلك الأدبيات.

هنا لا بد من التأكيد على أن المسالة لا تقف عند حدود الطرح السابق بقدر ما تحتاج إلى إعادة بلورة، وتخليق الأفكار والنظريات القادرة على مواجهة الواقع بمضمونه المتغير دائما وبشكل علمي محض، فالقضايا الكبرى كما قال أحدهم تحتاج دائما إلى نظريات كبرى.  وهنا نتطلع على الصعيد المنهجي إلى إعادة بناء أو بالأحرى إكمال الصيرورة النظرية تاريخياً، بالإضافة إلى تقديم تحليل بنيوي أكثر عمقاً كمحاولة لردم الهوّة التي حدثت في العقدين المنصرمين على الأقل، في حاضر تغوّلت فيه الإمبريالية إلى أقصاها وتبعثرت فيه عواصمنا “ربيعاً عربياً”.  وهذا يحتاج إلى جهود ضخمة جداً، ومن هنا ندعو المعنيين بهذه المهمة التاريخية إلى الالتفات لما نرمي إليه، ونرحّب طبعاً بأي جهد ضمن هذا الإطار.

تحميل الإنتيلجنسيا العربية الهزيمة أو الهزائم السابقة، وأن أي نضال ثوري عربي قادم يجب أن يخلق إنتيلجنسيته الخاصة، العقلانية أولاً، والقومية الوحدوية ثانياً أو العكس، هكذا قدّم نديم البيطار كتابه المثقفون والثورة (سقوط الإنتيلجنسيا العربية).   ضمن هذا الإطار لابد إذن من التأكيد على ضرورة ملحّة وآنية دائماً هي إعادة بناء المشروع القومي وإحياء النضال الوحدوي، الذي يستلهم ويستفيد من تجارب واخفاقات ونجاحات المشاريع التي سبقته، بعد أن عجزت هذه المشاريع وقياداتها سواء على الصعيد الفكري أو السياسي على حل المشاكل التي واجهتها. ومفهوم التجارب هنا لا يقتصر فقط على التجارب العربية فقط؛ بل ما هو أهم أيضاً: تجارب الشعوب الأخرى.  والحديث عن تجارب، وتنظيرها، لا يمكن أن يتم بمعزل عن الانخراط فيها مباشرة، مما يقودنا بشكل طبيعي لمفهوم المثقف العضوي الذي كرسّه غرامشي ولم يتصدَ له د. نديم البيطار.

إنّ المشتغل بحقل الفكر السياسي يصطدم بمسألة طرقها دائماً المفكرّون العرب الأعلى كعبا، وهي قصور الوعي ومسألة الخراب الفكري وغياب العقلانية التي كانت ترافق العمل السياسي العربي، في مراحله الذهبية منها أو إخفاقاته.  صحيح أنه إذا غابت العقلانية غاب أي شيء أمامها أو أي خيارات يفتحها المستقبل، لكن غياب أساس نظري واضح أو أهداف واضحة يحمل نفس المفاعيل. النقطة الرئيسية هنا هي في تجسيد الأبعاد النظرية على أرض الواقع، فالحديث عن وحدة الرؤى في تحقيق هدف سياسي معين يقتضي تحقيق أساس عقلاني ونهاجية علمية صلبة، وتجاوز هفوات وإشكاليات التجارب الثورية السابقة على صعيد النظرية والممارسة. وهذا يمثل الربط الصحيح المتكامل للتحول من وعي الواقع إلى تحقيق هذا الواقع، أو إلى تثويره بالأحرى، وهنا يكمن الرابط بين النظرية والممارسة، لأن العبرة ليست في تفسير الواقع، بل في تغييره.

النقطة الأخرى التي تكررت في الأدبيات القومية هي مسألة غياب النظرية.   وللأمانة التاريخية، أدركَ الكثير من المفكّرين العرب هذه النقطة منذ بواكير نشوء حركة التحرر القومي، وساهموا بشكل أو بآخر في محاولة بناء مثل هذه النظرية ولو جزئياً، كأمثال عصمت سيف الدولة ونديم البيطار.  لكن هذه المحاولات لم تتبلور كما يدلّل ياسين الحافظ لترتقي لمستوى تُهيمن فيه على الأمة ككل، شأن تأثير نظرية “هيغل” في الدولة على الشعب الألماني، وله في ذلك أسبابه من نقص في البنية الحداثية وضعف الاندماج القومي، بالإضافة إلى عدم قدرة التطور العربي على إفراز دولة تملك القدرة على إنتاج نظرية من هذا النوع. لا يغيب هنا طبعا إسهام نديم البيطار في نظريته القائلة بضرورة وجود إقليم قاعدة أو دولة مكوّرة تستطيع أن تدفع باتجاه بناء الدولة القومية الواحدة وكسر حدود التجزئة شأن بروسيا بسمارك في ألمانيا.

بقي أن نضيف ضمن هذا السياق أنّ البعض يذهب إلى إعادة تقييم هذه المسألة بالذات بعد شطب محاولات الدول التي ذهبت لإنشاء هذا الإقليم كما حدث في مصر والعراق من قبل الإمبريالية. كما أنّ بناء نظرية من هذا النوع في ظروف العالم الثالث عامة، والوطن العربي خاصة، لا يمكن أن يتم إلا من خلال عملية قيصرية، من فوق، ما دامت قنوات التطور الطبيعي قد سُدّت قسراً، وهذا يعني بالضرورة أنّ مثل هذا المشروع لا يكون فردياً بل جزءاً من مهمات الطليعة العربية في خضم صراعها من أجل قيادة قاطرة الوحدة والتحرير والنهضة.

نعود للنظرية، يدلّل نديم البيطار في كتاباته كثيراً على أهمية وجود وبناء النظرية كما غيره طبعاً، لكنّه ربما يكون الأكثر تفصيلاً وتمحيصاً لهذه المسألة، وهذا يحتاج إلى وقفة مطوّلة لا مكان لها الآن.  وفي العموم يشير البيطار إلى أنّ النظرية تحررنا من حدود الحاضر الصرف، ومن الذات ضيقة الأفق. فالنظرية طبعاً تشكل بالأساس دليلَ عملٍ، موّجه للنضال والممارسة العملية ضمن آلية من التلاحم الجدلي بينهما، بعيداً عن التخبط والاعتباط (السليقة) الذي لاحق عموم ممارسات النضال العربي. وفي نقطة أخيرة أيضاً دلّل عليها البيطار ضمن هذا السياق، أنّ وحدة النضال أو حتى وحدة الفرد مرتبطتان بشكل أساسي بمستوى ترابط تصوره ووعيه حول الواقع الذي يعيش فيه، وهذا ما يدفع إلى سيادة هذا الواقع والتخلص من حكم الضرورة، مما يفتح أفقاً أوسع ومستقبلاً أكثر إشراقا لهذا النضال.

لا بد هنا من التوقف قليلاً، وفي نظرة على عجل حول أن تجارب التثوير في الوطن العربي لم تستطع تعميم القيم الحداثية والعقلانية كما حدث في الغرب نتيجة النهضة الصناعية. كنا نقول أنّ مسؤولية تحديث البنى الثقافية وغيرها في المجتمعات المفوتة وفي ظل غياب آليات تحديث اقتصادية أو تصنيعية، هي بالأساس مهمّة على عاتق حركات التحرر العربي.   طبعاً الواقع يدلل على انحسار وفشل هذه الحركات منذ عقود ولا نبالغ حين نقول على مستوى جميع الأصعدة.  النقطة هنا، وفي ظل غياب منظومات نضالية ثورية، أنّ هذا فتحَ الباب على مصراعيه للحركات الإسلاموية ولثقافة القرون الوسطى لإعادة الانتشار من جانب، وللفكر الليبرالي ومشروع التفكيك والاختراق الثقافي كمشروع إمبريالي من جانب آخر بحكم “أن الطبيعة لا تحتمل الفراغ”.

ولا بد من السؤال هنا في ظل واقع يحكمه مشروعان تفكيكيان بالدرجة الأولى من زوايا مختلفة على المستوى البنيوي والتاريخي، (اتضح مؤخراً أنهما مشروع واحد في الحقيقة بعد تكشّف حقيقة العلاقة التاريخية المقدسة بينهما)، مع غياب للمشروع الوحدوي الحق ذو الأهداف القومية الحقّة، عن ماهية وآليات المواجهة على الصعيد النظري والثقافي من جهة والسياسي من جهة أخرى، سواء على مستوى المنظور اليومي التكتيكي أو على المستوى الاستراتيجي النظري، مع خلق آليات التغذية الراجعة الجدلية بينهما، التي تستطيع أن تقلب الموازين وتحوّلنا من الحفاظ والدفاع عن ما هو قائم إلى مستقبل أكثر قرباً لتحقيق المهام الكبرى للأمة، كي لا نصطف بمصاف الأمم المنقرضة أو كما يقول ماركس نرتد الى كائنات حيوانية.

بقي أن نشير كنقطة أخيرة ضمن هذا السياق، أن المشاريع أو الدراسات السابقة على الصعيد النظري قدمت تفاسير للوقائع على الأغلب وفي أحسن الأحوال، ولم تقدم حلول ناجعة (ناهيك عن الإسقاطات الميكانيكية هنا وهناك)، بالشكل الذي نراه في تجارب الأمم الأـخرى، عند الروس والصينيين في مواجهة مشاكلهم القومية على سبيل المثال لا الحصر. فالبعض ذهب الى استيراد قوالب جاهزة بشقيه الماركسي والليبرالي، والبعض الآخر اختبأ وراء مبادئ وشعارات طوباوية، والقليل فقط من استطاع أن يترك ما ينفع الناس. نتوقف هنا لنكمل في العدد المقبل في هذه الزاوية من مجلة “طلقة تنوير”.

إعادة صياغة المشروع القومي العربي

صالح بدروشي

 

إن حجم وعمق ودلالة ما تتعرض له أمتنا العربية اليوم من هجمة استعمارية وسعي حثيث لمحو هويتها، خاصة ما جرى ويجري منذ بداية هذه العشرية إلى الآن من تقسيم واحتلال وتدمير، وآخره ما جرى في ليبيا بعد التمكن من تونس ومصر من خلال إضعاف أركان الدولة في كلّ منهما ثمّ الحرب على سورية، كل هذا وما انكشف لنا من أهداف لهذه الحملة وفشلها في اجتياز عقبة سورية التي انكسرت على أعتابها موجات الربيع المزيف أنار السبيل أمام العديد من أبناء التيار القومي  ودفع بهم إلى مراجعة كلّ تقييماتهم السابقة لنصل إلى قناعة مفادها أن إعادة صياغة المشروع القومي العربي ضرورة ملحّة بناء على ما سبق ذكره من تجلّيات و بناء على النتائج التي آل إليها المشروع القومي بعد مرور أكثر من نصف قرن على انطلاقه. حيث أننا وصلنا إلى وضع متردي أكثر مما كنا عليه فترة الخمسينيات والستينيات ووصلنا إلى مزيد من الاحتلال بدل التحرير وإلى مزيد من التقسيم بدل الوحدة ناهيك عن التقدم والتخلف.

هذا ونحن لا ننكر أنه بالإضافة إلى الأخطاء، فقد خاضت الأنظمة العربية الوطنية التي انتزعت استقلالها بالقوة صراعا مريرا وغير متكافئ مع الاستعمار الذي لم يتوقّف عن محاولة إخضاعها بشتّى الطّرق، حتى أضعفها وأخرج معظمها من دائرة الفعل وأوصل أنظمتها إلى الحال التي هي عليه اليوم.  ومرّة أخرى يتدخّل الاستعمار اليوم بشكل مباشر في شؤون الأمة العربية بتأجيج الحراك وتوجيهه لصالح حلفائه كما في تونس ومصر للسيطرة عليها لمصلحته، وبافتعال التفجيرات واصطناع الثورات كما حدث في ليبيا وسورية، حيث يقوم الاستعمار بنفسه بمحاربة الأنظمة الوطنية تحت ذريعة مقاومة الاستبداد نيابة عن الشعب، وحيث أصبح الصهيوني برنار ليفي وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هم المدافعين عن حرية العرب والمسلمين!! فيجب ألّا ننخدع وننساق وراء أوهام الديمقراطية المزعومة وشعار مساواة أيّ استبداد داخلي بالاستعمار، إنّ ما يجري اليوم هو محاولة تصفية الخطّ الوطني الرافض للاستسلام مهما قيل فيه، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع العدوّ الخارجي.

إلى جانب كلّ ذلك، فإنه لا يخفى علينا أن الساحة العربية تشهد اليوم تراجعا ملحوظا في الفكر القومي، ووهَنًا يعتَرِي حركة النضال القومي، وتشظّياً لا مثيل له في الحركات السياسية القومية من المحيط إلى الخليج.  فبعد الكبَوات التي ألمّت بالمشروع القومي منذ هزيمة الانفصال وهزيمة 67 ونكبة “مخيّم داود”، مُنِيَ هذا المشروع بنكبة أخرى في عام 2003 تمثّلت في احتلال أحد أكبر البلدان العربية وهو العراق ممّا أفسح المجال أمام القوى السياسية الدّينية والعلمانية إقليمية التوجه لتَعتلِي منابر العمل السياسي.  ولعل من أكبر الكوارث التي مُنِيَ بها المشروع القومي العربي قرار حاكم الاحتلال الأمريكي بالعراق الذي أقدم على فكرة الإبادة الثقافية حين قرّر وبجرة قلم إبادة البعث كفكر وثقافة ورؤية في العراق ليجرّد الفكر القومي العربي من أحد أهمّ روافده وبغض النظر عن الموقف السياسي من البعث فقد شكّل رافدًا كبيرا للفكر القومي.  فإنه يتبيّن بكلّ وضوح أن إطلاق فكرة وعملية اجتثاث البعث مباشرة إثر احتلال العراق لم تكن عبثية أو تستهدف فقط نظام الرئيس الشهيد صدّام حسين وإنما كانت الشروع في استبدال المشروع القومي على الأرض بالمشروع الإسلاموي، وإبراز كلّ الحراك الذي يجري اليوم على أنه ثورة على المشروع القومي، وأن البديل المنشود هو المشروع الاسلاموي-الأمريكي ويضاف إلى ذلك بروز تنظيم القاعدة كابن مدلّل للغرب الاستعماري!!

وبالإضافة لاحتلال العراق وإخراجه من دائرة المواجهة مع العدوّ الصهيوني، فإنّ ما يميّز مشهد انحدار المشروع القومي العربي هو تحوّل الثورة الفلسطينية بعد أوسلو إلى بيروقراطية تسعى إلى إدارة بلديّات مفكّكة تحت الاحتلال وتراجع التيارات السياسية العربية من أحزاب وتجمّعات وهيئات ومنتديات وغياب الفكر القومي عن مناهج التعليم. ورغم قتامة هذا المشهد، فإننا نعتقد أنّ الهزائم والنكبات والانكسارات العربية فكريا وعسكريا وسياسيا يجب ألاّ تكون مثبّطا للقوميين العرب بل محفّزا لهم ليتقدّموا إلى السّاحة ويملئوا الفراغ السياسي الذي يتنازعه الآن المتطرفون من الجانبين: التغريبيون بشكليْهم “الحداثوي” و”الإسلاموي”، والذين يقدّمون رؤية للمستقبل مناقضة للمشروع القومي العربي.   فكما أنّ هذا التردّي يجب أن لا يتحول الى مثبط  للقوميين العرب، فإنه يجب أن يكون أكثر من ذلك عامل وحدة وليس عامل تفكيك. إنّ التمسك بالمشروع القومي العربي وإعادة صياغته بالشكل المطلوب هو الكفیل بإخراج الإنسان العربي من حالة الإحباط التي یعیشھا، وهو أیضا الكفیل بقلب المفاھیم الإنھزامیة التي ترسّخت لدى المواطن العربي، وھو كذلك الضمان للتغییر الذي ينشده كلّ القوميين.

وعلى عكس ما يحاول أعداء المشروع القومي ترويجه من أن الفكر القومي العربي انتهى عهده، وأنه بات فكراً بائداً وغير صالح للقرن الحادي والعشرين، نقول بأن الفكر القومي يبقى راهنا بمقدار ما الأمة العربية موجودة كحقيقة اجتماعية-سياسية قائمة، وأهداف المشروع القومي وهي الوحدة والتحرير والنهضة ستبقى قائمة حتى تتحقق، فالفكر القومي لا يقاس بمقاييس الموضة !!!

ان النتيجة التي لا يختلف فيها إثنان هي أننا لم نفلح نحن القوميون العرب طيلة أكثر من نصف قرن بمختلف مشاربنا (بعث سوري، بعث عراقي، ناصريين، ماركسيين، عروبيين، لجان ثورية…) لم نفلح في تحقيق أي  من الأهداف التي من أجلها انطلق المشروع القومي العربي.   وفي الوقت الذي كنا ننتظر تحالف القوميين في جبهة قومية عتيدة، تكون قادرة على فرض نفسها سياسيا، باعتبار أن الإيديولوجية القومية قريبة جدّا من المواطن العربي البسيط المتمسّك بهويّته العربية الإسلامية وبمبادئ العدالة الاجتماعية، إلاّ أن العكس هو الذي حصل بانقسام البعثيين من ناحية، وانقسام الناصريين من ناحية أخرى والقوميين اليساريين…إلخ إلى عدّة أحزاب وتنظيمات مع بقاء معظم المنتمين إلى الفكر القومي خارج هذه الأحزاب. إن انطلاق المشروع القومي سيكون خير حافز لكلّ الوطنيين لكي لا يتراجعوا أو يضعفوا أمام الهجمة الشرسة التي يواجهونها والسبيل الوحيد للخلاص هو تكتلهم داخل حركة شعبية عربية منظمة لا تتمسك بأيديولوجيا مغلقة بل إطار عريض تحكمه المرونة الأيديولوجية ضمن حدود الثوابت القومية، ملتزما بأهداف العمل القومي الوحدة والتحرير و النهضة.

في مسألة “حصان طروادة” النضالي محاولة لفهم أمراض الطليعة المزمنة

محمد لافي الجبريني

علينا أن لا نحصر الخيانة في خانتها الفردية الكلاسيكية، كالإبلاغ عن المناضلين وإفشاء الأسرار أو العداء المعلن للقضية موضع النضال. هل فكرنا أنّ التفشي المفرط لليمينية بما تتميز به من نزعات رجعية كالانتهازية والفئوية، حزبية كانت أو ذاتية، هي بدورها أهم أنواع التهديم الذي نجحت القوى المعادية في تأسيسه ضمن الحالات النضالية؟

من الواضح أننا لم نصدف حتى الآن تلك الحركة الطليعية الحديدية التي بدأت بصهر طاقات الأمة واستئصال سرطاناتها الهدامة، وذلك الأمر يخضع لاعتبارات لا أدّعي الإلمام بها، إلا أنّ الناشط السياسي سيلاحظ بقليل من الجهد أن هذه العدائية تتفجر تارة بشكل حالات تشهير شخصية، تنظر لحالة رفاقية نظرتها للأعداء الذين قد يفسدون مكاسبها، فتعمل على استغلال كل ما من شأنه تفتيت الحالة أو هز ثقة الجماهير بها عبر إثارة قضايا تمس نشطاء بعينهم، متجاوزة كل الأفكار التقدمية التي تدعي القتال في سبيلها، لإعادة إثارة المشاعر الرجعية في المجتمع والقتال بواسطة حدودها.

فمن سلبيات شخصية يمكن الاطلاع عليها ببساطة بسبب صداقة أو رفاقية ثم خيانتها، إلى مشاكل عائلية أو مهنية أو شخصية، إلى كل ما يمكن للمرء أن يتخيله من أسرار أو عموميات تتحول على حين غرة إلى فضائح لا تحتاج أن تكون حقيقتها نيران حارقة، بل يكفي أن تكون دخائن كبريتية، إن لم يعرف مصدرها فعادة ما يحب المحيطون الابتعاد عنها، وتنسلّ تارة أخرى بصمت كخيوط ماء تحت معامل الحنطة لتفسدها بالتعفن، وهنا تتجلى اليمينية من أعماق جذورها، لتكشف عن وجهها القبيح، لا باعتبارها رد فعل غير منضبط، أو بقايا أمراض اجتماعية تظهر غريزيا، بل بكونها عقيدة ثابتة لم تتغير يوما، ثابتة لا في عمق اللاوعي وحسب،  بل إنها هي الأساس المكون للحالة اليمينية، بشخوصها التي تجتمع عادة ضمن جاذبية خاصة بين أفرادها الذين تجمعهم -كما ستفرقهم بالضرورة- أخلاقهم المتحللة لدرجة ارتداء أفكار مكلفة في بعض الأحيان، معتمدين على حساسيتهم الفطرية تجاه المكاسب التي تكاد تكون سليقة تجارية مثيرة للإعجاب للوهلة الأولى، أو بما هو أكثر عمقا من مجرد انصياعهم لمثل “الطيور على أشكالها تقع”، ليكون مسألة منظمة خاضعة لخطط واعية بالمسببات والنتائج، تكون عادة من الذكاء بأنها لا تأخذ تعليماتها بشكل مباشر من الأطراف المعادية، بل بالإيعاز ضمن قواعد يمكن اعتبار أشهرها تلك النظرية بوضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، وهي بذلك ستستغل النماذج الشريفة، والشباب المتّقد حماسة، بالصعود على ما ستنجزه، وكبح جماح تطورها الطبيعي الذي تفرضه شروط النضال.

هذا التهديم هو الأشد خطرا، لما يتمتع به من تنظيم وحنكة وبعد مدى، فهو لن يهاجم الحالات النضالية بشكل مباشر غير ذي جدوى استراتيجيا، بل سيعمل جاهدا في مراحله الأولية على التقرب منها وممالقتها، وقد يدفع بتضحيات مثيرة للامتنان، مكرسا أهدافها ضمن مستويات، عادة ما تهتم في بدايتها بكشف جسم الحالة النضالية المستهدفة “تماسكها، كوادرها، مصادرها، علاقاتها، أهدافها..” ثم تقييمها بعد مشاركتها، وكشف بواطن الضعف، ومواطن الثغرات المفترضة، إلى أن يصل عبر مراحل تطول أو تقصر من محاولات شق الصف، بالترغيب والترهيب إلى الهجوم البارد المركّز بأساليب لا تكاد تحصى، لا تبدأ من الاقصاء والتشكيك، ولا تنتهي بترويج الأفكار المغلوطة التي لا يعمد المحترفون فيها إلى الكذب الصرْف، بل بأنصاف حقائق تحتاج لبراعة في السفسطائية وتعتمد على طول النفس والكثافة وكسل الجماهير عن البحث في أصول الأمور.

إذن. كم نملك من أمثلة هنا وهناك؟ وكم من صورة تمر في ذهن المناضل وهو يقرأ هذه الكلمات في مشاهد مرّ بها، وربما دفع أثمانا باهظة في مواجهتها؟ وكم من مرة شعر بغصّة وهو يقمع إحساسه بالخيانة دون أن يجرؤ على طرح الأمر، لأن لا أدلة ولا نضوج ثوري يسمح بالمعاقبة أو التحقيق في الحالة على الأقل؟

لكن من جانب آخر، لا نستغرب أن يكون العنصر اليميني والانتهازي والعميل قد وجد في الكلمات ما سيعتبره دليلا على تعرّضه لمظالم من هذا النوع أو ذاك، ليعزز بناءه اللاواعي –هناك نماذج عميلة من طراز خاص تصدّق فعلا أنها مناضلة، إما بسبب انفصامات نفسية أو تدريب عال- أو لتثبيت هجومه وتنويع ذرائعه على الحالات النقية نسبيا أو المنافسة ميدانيا، فمن نافلة القول التذكير بأنّ الانتهازي صاحب موهبة تتغذّى على اللامبدئية بحيث يمتلك من الرشاقة ما يسمح له باستغلال أدنى فرصة للكسب.

أما كيف نواجه هذا النوع، وكيف نميز الطيب من الخبيث، فلست أظن أنّ الأمر بهذه الصعوبة كما يبدو للوهلة الأولى، فكل ما يحتاجه المناضل -بل وما يجب توفره في المناضل قبل كل شيء- هو حسّه النقدي السليم، وحساسيته المرهفة تجاه الروائح غير الطبيعية في محيطة، أو الانفلاتات الصوتية النشاز في فرقته، وحسمه في اتخاذ خياراته، فالممالقة المستمرة ستدفع المناضل آجلا أم عاجلا للانزلاق نحو الخطيئة الثورية، إما بالعمالة الصرف أو بتحوله لدرجة يصعد عبرها الانتهازيون والعملاء، أو بخسارة الثوار لعنصر نقي كان يمكن أن يكون رافعة للإنجازات العامة فإذا به يتحول إلى خصم أو أقلّه عثرة.

وهكذا وبالتطور الطبيعي، لن يعتم المناضلون من بناء جبهتهم، التي ستتفوق بطبيعة الحال دون مقارنتها بالجهود المبذولة ضمن الطرف الآخر، لأن طبيعة الأشياء تعاند كل ما هو غريب عليها وتناغم بسلاسة مع ما هو طبيعي، كحبة الدواء الكيميائية التي قد يرفضها الجسم أو يعلن احتجاجه عليها بالآثار الجانبية مقارنة بعشبة طبيعية أو ماء غير ملوث ينسجم معه الجسم..

ضدّ الوعظ

نور شبيطة

كلنا يعرف قصة العربي الذي سرق لصٌّ حصانه بعد أن نزل عنه لينقذه من الموت عطشا، فلما أدبر اللص بالحصان هاربا، صاح الرجل باللص: ناشدتك الله ألا تروي قصتي هذه معك لأحد، حتى لا تموت النخوة بين العرب!  لكن ربما يغيب عنا المفهوم الذي أدركه هذا العربي بمجرد أن انتقل من الخاص إلى العام.

المفهوم ذاته حاضر قرآنيا، فآية سورة النور (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ١٩)، تحمل ذات الفكرة في المعالجة القرآنية لحادثة الإفك، فالذين تولوا أكبر الإثم في هذه الحادثة، أي من اختلقوها، يصفهم القرآن بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة، وهؤلاء غير الذين تلقوا الحديث بألسنتهم دون أفهامهم ودون أن يفكروا في أثر القصة على المجتمع، ودون أن يحركوا أذهانهم بين الخاص والعام، وسبق هذه الآية بقليل آية تهدي لهذه الحركة إذ قال: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

واليوم نسمع الكثير من جلد الذات في كلمات متداولة من مثل (مواعيد عربية/ ماتت الرجولة/… إلخ) نؤكد هنا أننا نفهم الدافع الذي يكون أحيانا كثيرة ساميا وراء هذه الكلمات، وهو الغيرة على حال الأمة، والشكوى من دروس واختفاء بعض أخلاقها الحميدة، لا ننكر أن جذر تداول الكلمات ذاتها يكون في أحيان كثيرة نوعا من التطهر الأجوف، وادّعاء الأفضلية على المجتمع، لكن هلا حركنا ذهننا بين الخاص والعام، وفكّرنا أين تؤدي بنا هذه الكلمات، فإذا كنا نتداولها للحض على الأخلاق الحميدة، فهي تؤدي عكس هذا الغرض تماما.

وفي قصة طريفة، يقال أنها حدثت مع الحسن البصري، مثال جميل على ما نرمي إليه، وقد أوردها الدكتور رفعت سيد أحمد في مقدمة كتابه الذي يحمل اسم القصة ذاتها (من سرق المصحف؟)، وهي باختصار شديد، أنه كان يقرأ من مصحف مذهّب له ويشرح لتلاميذه، حتى بلغ آية تتحدث عن الأمانة فاستفاض بأحاديث الرقائق التي تتحدث عن اختفاء الأمانة بين الناس حتى بكى فأبكى كلّ من حضر، ولما التفت من بكائه الذي أخضل لحيته، لم يجد مصحفه، فصرخ قائلا: كلكم يبكي الأمانة، فمن سرق المصحف!

العقل القومي الجذري الذي لا يمنعه سوء الواقع من جودة الحلم، ويسيطر فيه العام على الخاص، لابدّ وأن يمتلك خطابا مختلفا عن السائد الآن في هذا الشأن، فبمجرد التعافي من حالة التلقّي باللسان (كما يصفها القرآن) أي إعادة الكلام قبل تقليبه والتفكير في أثره، يتبين أن ذمّ الواقع بهذه الطريقة يختطف المستقبل ويحكم عليه بالفشل، إذ أنه وكما أن صورة الإنسان عند نفسه تتحكم بما سيكون عليه، فصورة المجتمع عند نفسه تتحكم بما سينتهي إليه أمره، وهذا يحتّم علينا تغيير لغة النقد الذي يوجه للمجتمع خصوصا ذلك النقد الذي يشيع في المجتمع ذاته، وحسب هذا الفهم يصبح من المنطقي كيف أن حديث الحسن البصري كان مساعدا على سرقة مصحفه أكثر من كونه عائقا في وجهها، على عكس ما تخيّل.

وقد يقول قائل وهو محق إنه لابدّ لنا من عملية النقد إن كنا نريد التغيير، فكيف لنا أن ننقد دون أن نجلد ذاتنا! والجواب هنا يكمن في اللغة، فالنقد في الأصل هو ما يقوم به الصيرفي لفصل العملة المزورة من العملة الحقيقية، فهو يفصل بين الضار والنافع، ولا يهاجم بعموميات، ويبدو أن الخلل الذي أصاب طريقتنا في الانتقاد كان وراءه نية طيبة في عدم شخصنة الهجوم، ولكن عدم الشخصنة يجب ألا يعني الفشل في التشخيص، فالهجوم يجب أن يكون موجها ضد الفئة التي تستحقه، وليس عموم المجتمع، وتجنب الشخصنة يمكن بالإشارة لهذه المجموعة من خلال سيئاتها أفعالا وصفات، لهذا كثر في كلام النبي العربي قوله “ما بال أقوام يفعلون كذا”، وهكذا بعد أن حددت جهة الهجوم ودافعه ستضمن أن هجومك فعال في هدمهم، فماذا عن بناء البديل الصحيح، وماذا عن صرعة “الإيجابية” التي يكررها علينا الإعلام ويعيد من خلفه الناس!؟

الإيجابية في الأصل هي الصياغة الموجبة للمعنى، والذين ابتكروا مصطلحها عنوا ذلك بها، لأنهم اكتشفوا أن العقل الباطن أو اللاوعي لا يستقبل أساليب النفي بالطريقة التي يستخدمها الناس بها، فقالوا قل: “سننتصر” بدل أن تقول “لن نهزم” وهكذا دواليك، ولم يعنوا بها المداراة أو الكذب أو الميوعة والتصفيق لكل شيء، مما نراه يمارس بحجة الإيجابية، وهي في ذاتها على حقيقة أمرها فكرة جيدة، لأن الصياغة الموجبة للقول تجبر القائل على الإتيان ببديل أو المساهمة في الحل، فالذي يقول: “سنظل مهزومين ما دمنا لا نحترم كذا ولا نفعل كذا”، جنح لقول سهل لا يمكن فحص صدقه، لكنه عندما يجعل قوله قولا موجبا فهو يجبر نفسه على محاولة خلق حل ما، ويكون قوله قابلا للفحص وتبيان صدقه من كذبه، فيقول: “ننتصر عندما نفعل كذا وكذا” ويمكن للسمع فورا تمييز درجة صدقية هذا القول ومنطقيته، وهو لم يزل في خانة النقد، لكنه نقد بعيد عن جلد الذات، موجه ضد سلوك محدد، وليس شتائم تلقى على عواهنها، مما يتداوله البعض للأسف بدافع الغيرة كما أسلفنا فيزدادون تفريطا.

(الفن السابع والاقتباس من الرواية والمسرح(

 

معاوية موسى

 

الاقتباس عن الرواية والمسرح وتحويلها لأعمال سينمائية أمر شائع للغاية، وليس من المبالغة القول بأن ما يقرب من نصف ما ينتج سينمائيا يكون مقتبسا من رواية (ذهب مع الريح، زوربا) أو سيرة ذاتية (مالكوم أكس ودوني براسكو) أو مسرحية )عربة اسمها الرغبة وروميو وجولييت) أو حتى التقاط لرسائل ثورية (القلب الشجاع).

والاقتباس يتطلب غالبا براعة عالية من كاتب السيناريو ومعرفة كبيرة بلغة الفيلم ، بالإضافة الى توفر خلفية ثقافية كافية عن العمل الأصلي وصاحبه.

وكاتب السيناريو عندما يقتبس فإنما هو يقوم بترجمة تلك الكلمات إلى مشاهد وحوارات، وأحيانا تجده يضيف وأحيانا أخرى يحذف، ويخلق شخصيات ويستبعد غيرها.

كل هذا في محاولة منه لتهيئة العمل وإعادة تشكيله لجعله صالحا للتصوير ومن ثم العرض السينمائي.

وهنا تبرز قضية غالبا ما شغلت النقاد وكتاب السيناريو والمخرجين والمشاهدين على حد سواء، وهي الأمانة في نقل الرواية أو المسرحية الى السينما.

معظم النقاد يهتم كثيرا بالعمل الأصلي. ونجد بعضهم لا يشاهد الفيلم الا بعد أن يطلع على هذا الأصل الذي اقتبس منه.   وتجدهم غالبا يقللون من قدر الفيلم ، لا لشيء، الا لأنه لم ينقل الأصل الى السينما بعناية وأمانة.

ولكن هل تجب دائما المقارنة بين العمل السينمائي والعمل الأصلي؟؟  وهل نضع العمل الأصلي مقياسا نقيس به جودة الفيلم؟؟

أحيانا المقارنة بين الأصل وبين الفيلم غير ضرورية، فالفيلم السينمائي هو عمل فني مستقل بذاته، فالفنان السينمائي (مخرجا كان أم كاتبا) عندما يقتبس فيلما فإنه في الواقع يقوم بخلق عمل آخر، وليس من الضروري المحافظة على دقة النص إذا كان الفنان السينمائي يرى أن يغير ما يتوافق مع رؤيته الشخصية (مع الإشارة لذلك) ، ومن هنا سُمي ما يقوم به اقتباسا لا نقلا صريحاً.  ويبقى الأهم مستوى الفيلم ونجاحه في إيصال رسالته.

-أنتوني كوين ليس الغجري ملكيادس

ظل الأدب الشريك الدائم والرفيق الوفي للسينما في العالم، وعلى الرغم من أن السينما لم تنشأ من رحم الأدب بل عرفت مراحلها الجنينية بعيدا عنه فإنها تمكنت من ربط علاقة هي أمتن ما ربطته السينما بالفنون الأخرى.  ولقد استطاعت الرواية بمرونتها وانفتاحها أن تمتص معظم الفنون الأخرى وتهضم عوالمها، فانفتح النص الروائي على المسرح وعلى السينما مثلما انفتح على الرسم وعلى النحت والموسيقى.

وما بين حالة من الوئام وأخرى من الخصام ، في النظرة إلى الاقتباس ما برحت القضية في إطار المنحاز للرواية في الاصل، ومن هو منحاز بالمقابل للفيلم السينمائي، فها هو غابريل غارسيا ماركيز يرفض أن تقتبس روايته “مائة عام من العزلة”، حين سعى الممثل أنتوني كوين إلى شراء حقوقها، مبرراً ذلك بأنه لا يريد لكوين أن يصبح الغجري ملكيادس أو العقيد أورليانو بوينديا، وبالتالي تتصدر صورته أغلفة طبعات الرواية، في إحالة إلى “زوربا” وكيف أصبحت صورة أنتوني كوين تحتل أغلفة رواية كازانتزاكس بعد أن جسد تلك الشخصية في فيلم “زوربا” عام 1964.

لكن يبقى تجسيد فرانشيسكو روزي لرواية “قصة موت معلن” 1987، واحدا من أهم الافلام المقتبسة عن روايات ماركيز، لأمر عائد ليس للمعالجة الحصيفة التي قام بها روزي والإضافات التي أضافها على أحداث الرواية وخاصة في نهايتها، بل لأن الرواية نفسها أيضاً، جاهزة تماماً لكي تكون فيلماً، فهي ويكفي إيراد ذلك عن حدث نعرفه من بداية الرواية ألا وهو أن سانتياغو نصار قد قتل، إلا أننا سنصعق ونفاجئ حين يقتل على يدي الأخوين اللذين لا يريدان قتله أصلاً.

أما فيلم “الحب في زمن الكوليرا” المقتبس عن رواية ماركيز التي حملت نفس الاسم وهو من بطولة خافيير بارديم فقد أخفق إخفاقاً ذريعاً في الوصول إلى جمال الرواية ورومانسيتها وأسلوبها السحري.  تلك الرواية الذي دفع بعض النقاد لاعتبارها أروع قصة حب في تاريخ الأدب. (هل من الممكن ذكر شرح بسيط عن فكرة أن الفيلم أخفق في تجسيد الرواية ؟)

-ماذا عن المسرح؟؟؟

ارتبطت السينما بالمسرح كثيرا في بداياتها فقد كان بطبيعته أقرب الفنون إليها، ولا أدلّ على ذلك من أن معظم دور السينما الأولى كانت مسارح في الأصل، وما زالت شركات دور عرض الأفلام الأمريكية، وهي الأضخم في العالم، تسمى مسارح، كشركة  AMC، وشركة مسارح لويز Loews، وشركة مسارح  Carmike، وشركة مسارح  Cinemark، وشركات أخرى كثيرة (الرسالة السياسية لهوليود- تفكيك الفيلم الأمريكي، د. إبراهيم علوش).

كما أنّ الممثلين السينمائيين الأوائل كانوا ممثلين مسرحيين قبل أن يقفوا أمام الكاميرا، بل إن الأساليب الأولى في الإخراج والتصوير كانت تشبه المسرح إلى حد كبير.  وما قيل عن الاقتباس عن الرواية ينطبق هنا عن المسرح، ولكن هناك نقطة مهمة، فأحيانا نشاهد فيلما هو أشبه بالمسرحية المصورة، بمعنى أن المخرج قام بنقل المسرحية مع المحافظة على حواراتها (نصيا) وأحداثها الأصلية أو كثير منها إلى الشاشة الكبيرة.

وغالبا نجد الفيلم يصوَر في مكان واحد (عربة اسمها الرغبة) أو نجد الممثلين كأنهم على المسرح تماما في أدائهم أو حواراتهم (فيلم روميو وجولييت الشهير).   فتكون النتيجة عملا لا يمتّ للفن السابع بصلة (عدا التصوير وعدم وجود الجمهور) بل هو للمسرح أقرب.

(الكاريكاتور)

رباح أحمد الصغير : فنان كاريكاتير وناقد فني عربي من أصول فلسطينية، يعتبر رائد فن الكاريكاتير الأردني ومن رواد فن الكاريكاتير العرب، بالإضافة لكونه من نقاد الفن التشكيلي المتميزين.  ولد في قرية الفالوجة الفلسطينية عام 1937.  بدأ العمل في مجال الرسم الكاريكاتيري في ستينيات القرن العشرين، وعمل في العديد من الصحف كجريدة المنار والدفاع قبل أن يضطر لمغادرة فلسطين عقب ملاحقة القوات الصهيونية له بتهمة مقاومة الاحتلال ويستقر به المطاف في النهاية للإقامة في مدينة عمان والعمل في جريدة الرأي الأردنية.  تميزت أعماله بالانتقاد اللاذع للأنظمة العربية وللهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية مما تسبب في الكثير من الأحيان في منع نشر رسوماته الكاريكاتيرية، بالإضافة لمنعه هو شخصيا من دخول عدد من البلدان.   توفي الفنان رباح الصغير في عام 1989 عن عمر يناهز 52 عاما.

لمتابعتنا، انظر موقع لائحة القومي العربي على الإنترنت: www.qawmi.com

 

أو صفحة “لائحة القومي العربي” على الفيسبوك.

 

روابط صديقة:

 

موقع الصوت العربي الحر: www.freearabvoice.org 

 

موقع جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية: http://nozion.net/

 

 

 

 

 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *