Qawmi

Just another WordPress site




المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 كانون ثاني 2015

ويضم هذا العدد:

– كلمة العدد: العرب المسيحيون

– العرب المسيحيون والمشروع القومي/ جميل ناجي

– العرب المسيحيون تاريخٌ وحضارة/ د. فدوى نصيرات

– عروبة الآراميين/ د. إبراهيم علوش

– الهلال يعانق الصليب… ملاحظات في عروبة الأقباط/ معاوية موسى

– عن تاريخية الإنتماء العروبي: المغرب الأقصى نموذجاً – الجزء الأول/ إبراهيم حرشاوي

– قضية للنقاش: الخيار المسيحي “فلسفياً”/ نور شبيطة

– شخصية عربية تاريخية: فارس خوري/ نسرين الصغير

– مدينة عربية: أوروك انطلاق المدنية

– إبداع وموهبة الممثلة اللبنانية برناديت حديب في فيلم (لما حكيت مريم)/ طالب جميل

– قصيدة العدد: يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً/ بشارة الخوري (الأخطل الصغير)

– كاريكاتور العدد/




العدد رقم 8 1 كانون الثاني عام 2015 للميلاد

لقراءة المجلة عن طريق فايل الــ PDF




للمشاركة على الفيسبوك



 

 

.

مقدمة العدد الثامن من “طلقة تنوير”: العرب المسيحيون

 

قال المفكر الإمام محمد مهدي شمس الدين: ليس في بلادنا أقليات، بل هنالك أكثريتان، أحدهما عربية تضم غير المسلمين، والأخرى مسلمة تضم غير العرب.  وإننا إذ نتناول محور العرب المسيحيين في هذا العدد من “طلقة تنوير”، فإنما نفعل ذلك للرد على مقولة “الأقليات” التي كانت منذ نشأت ذريعة للتدخل الأجنبي ولتفكيك المجتمع العربي وبذر الفتن، ومن أجل التأكيد على المشروع القومي وإظهار الوحدة الحضارية لمكونات المجتمع العربي.

باختصار، العرب المسيحيون ليسوا أقلية، ولا يجوز التعامل معهم على هذا الأساس، وقد كانوا عرباً قبل أن يصبحوا مسيحيين، وظلوا عرباً بعد أن تحولوا للمسيحية، ثم بعد أن تحول قسمٌ منهم للإسلام، وقد كان لهم دورٌ تاريخيٌ مشهود في نهضة الأمة قديماً وحديثاً لا بصفتهم أقلية، بل بصفتهم ابناء أصليين للأرض العربية، أي بصفتهم مواطنين عرباً لهم حقٌ وعليهم واجبٌ متساوٍ في الدفاع عن هذه الأمة ونهوضها.

في هذا العدد من “طلقة تنوير” نسلط الضوء لا على الدور التاريخي للعرب المسيحيين في المشروع النهضوي للأمة فحسب، بل أيضاً على محاولات فصلهم عن هذا الدور من خلال التأثير التغريبي والصهيوني المناهض للعروبة والاندماج، وهو التأثير الإنعزالي الذي يحاول الارتداد إلى مرحلة “الفرعونية” و”الآرامية” و”الفنيقية” ومشتقاتها لنبين الجذور العربية القديمة للعروبة السابقة للإسلام، ولنرد على من يعتبر العروبة خارج الجزيرة العربية احتلالاً.

لقد تصاعد دور العرب المسيحيين في كل مرحلة نهضوية من التاريخ العربي وأفل مع كل عصرٍ من عصور الظلام والانحطاط، ولهذا اخترنا في هذه الليلة الليلاء من تاريخ أمتنا أن نسلط الأضواء على موضوعة العرب المسيحيين في هذا العدد من “طلقة تنوير”، إلى جانب طائفة من المواد الأخرى.

 

العرب المسيحيون والمشروع القومي

 

جميل ناجي

لقد حملت الأرض العربية الديانة المسيحية كواحدة من ديانات التوحيد التي تغلغلت بين أطياف القبائل العربية وشكلت واحداً من أهم الروافد الثقافية العربية تاريخياً. وفي سرد سريع: أسهم العرب المسيحيون في مواجهة الوجود الروماني وصبغته المسيحية، وهو ما عزز وثبت انتمائهم العروبي تاريخياً.  ومع قدوم الإسلام شكّل العرب المسيحيون ركيزة أساسية في بناء الدولة وتمكين سلطتها فلم يخلُ أي ديوان من الدواوين من الوجود العربي المسيحي سواء في العصر الأموي أو العباسي الأول والثاني.

كذلك أسهم العرب المسيحيون إسهاماً مهما في حركة الفلسفة والعلوم في ظل الدولة العربية الإسلامية، فكثير من الترجمات والشروحات للرومانية واليونانية ولغات أخرى اعتمدت بشكل رئيسي على جهودهم ناهيك عن مؤلفاتهم وإسهامهم في الفلسفة والطب والعلوم الأخرى.  لقد تعامل العرب المسيحيون مع الدولة العربية كممثل لهم فشاركوا في بنائها وإدارتها، بعد قرون من الاضطهاد الروماني وغير الروماني.

لقد خفًتَ هذا الدور المهم والرئيسي فيما بعد مع وصول الأعاجم إلى سلطة الدولة العربية-الإسلامية، وقد ترك تحجيم الدور العربي بالمجمل داخل الدولة أثره العميق على الوجود العربي المسيحي.  ومن هنا بدأ التعامل معهم كأقلية داخل الدولة التي يفترض أنهم مواطنوها وبُناتها.  لقد أرتبط مصير العرب المسيحيون داخل الدولة بمصير العرب كافة بشكل لا يمكن فصله.  فرابطة العروبة هنا مثّلت الرابطة الأعلى شأناً فوق كل الطوائف وفوق مقولة “الأقليات” المصطنعة.

إن التمييز الطائفي الذي مارسه العثمانيون، ومن سبقهم من جهاتٍ ناهضت الوجود العربي بكافة أشكاله، وتحديداً المسيحية العربية، لعب دوراً في تشكيل النزعة الديمقراطية عند العرب المسيحيين الذين لعبوا دوراً كبيراً في النهضة العربية وتحديث الفكر العربي، بالإضافة إلى أنهم شكلوا الروافد الأساسية للأيديولوجيا القومية العربية بصيغتها العصرية كما يشير ياسين الحافظ، مع أن الجذر التاريخي للحركة القومية العربية المعاصرة يمكن نعود به لمحمد علي باشا ومشروعه الوحدوي النهضوي في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولم يفقد العرب المسيحيون إذا البوصلة في مواجهة الاحتلال التركي وغيره كما فقدها البعض.

إنّ إسهام العرب المسيحيين في النهضة العربية الحديثة شكّل نقلة حقيقية في التاريخ العربي لا تتسع الكتب لسرده، فقد لعبوا دوراً محورياً في الحركة الثقافية من خلال عملية التعليم وتحديث اللغة وغيرها من الترجمات ونقل منتجات الفكر الحديث إلى العربية، بالإضافة إلى دورهم السياسي في إنشاء الجمعيات وإصدار الصحف والكتب والمنشورات ذات الطابع القومي. باختصار، إنّ النهضة العربية الحديثة قامت إلى حدٍ بعيد على كواهل العرب المسيحيين.

لقد شكّل الوجود العربي المسيحي إذن ثِقلاً قومياً ونهضوياً لا يمكن إغفاله أو تجاوزه، وبالتالي لا نستطيع أن نغفل الدور الغربي في تفكيك وعزل وتهجير هذا المكوّن كجزء من عمليه ضرب الهوية العربية.  إن موقف الإسلام السياسي من العرب المسيحيين على سبيل المثال مرتبط  بشكل أساسي بدورهم النهضوي (العرب المسيحيون) التاريخي في عملية التحديث العربي ومواجهة الأتراك والاستعمار الأوروبي على حدٍ سواء مما يصبّ مباشرة في خدمة المشروع الغربي والصهيوني في ضرب الهوية الجامعة للأمة العربية.  ولا بد من الإشارة أن ارتفاع النغمة الطائفية من أي طرف وفي أي وقت هي إشارة على مشاريع هدامة عامة.

لا يمكن على أي حال اعتبار العرب المسيحيين أقلية داخل مجتمعاتهم فهم مكوّن تاريخي للأمة حتى قبل الإسلام. وبالتالي، من وجهة نظر قومية، المواطَنة هي في النهاية مرجعية الفرد للدولة ولا مكان داخل هذه الدولة للطوائف والإثنيات وغيرها.

بالمقابل هناك على النقيض وجه أخر طائفي كان يُدفع به لطمس الإرث المُشرقي للعرب المسيحيين، ولقد ترك ياسين الحافظ بعض المقالات حول المسألة الطائفية في كتابه “في المسألة القومية الديمقراطية” يشير فيها أن الحكم العثماني بنى المجتمع الإسلامي من عمارات طائفية متعددة (نظام الملل) حوّل من خلالها الظاهرة الطائفية من ظاهرة سياسية أيديولوجية إلى ظاهرة مجتمعية كلية.  وقد أسهمت هذه التفرقة في تبلور نزوع قومي ديمقراطي لدى العرب المسيحيين  لعب دوراً مهماً في النهضة العربية.  توسع التغلغل الاستعماري ساهم في ضمور هذه النزعة الديمقراطية المسيحية العربية، ففي لبنان بدلاً من اليازجي والبستاني بدأ تظهر شخصيات كسعيد عقل، كمال الحاج، كمال صليبي وشارل مالك، تحت تأثير فكر استشراقي غربي أو اغتراب كامل عن عموم الشعب العربي.

وبدلاً من دعاوي الإحياء العربي والوحدة العربية بدأ يظهر نفس طائفي نتن.  باختصار إنّ الفكر العربي المسيحي كان غنياً، علمياً، ديمقراطياً، علمانياً عندما كان عربي الهوى، وانحطّ وتساقط عندما أصبح معادياً للعروبة.  بمعنى آخر، لعب هذا الفكر دوراً ثورياً عندما عبّر عن نزوع مساواتي إندماجي مع الأكثرية.  وعلى النقيض، فقَدَ هذا الفكر، تحت التأثير المتغرب، طابعه الديمقراطي التحديثي، بمعنى أن دعاوي الغرب في الشعارات التي تعتبر المسيحيين العرب أقليات ضمن مجتمعاتهم وتتبنى الدفاع عنهم باعتبارهم أقلية، ليست سوى محاولات لسلخ هؤلاء من مجتمعاتهم  كمحاولة لتفكيك هذه المجتمعات وتغذية الصراع طائفي فيها.

إنّ تراجع الحركة القومية، وعدم نمو الاتجاهات العلمانية بشكل كافٍ داخلها، فتح المجال أمام نمو الحركات الأصولية عامة وانتشار الفكر الطائفي ليس فقط على مستوى هذه الحركات السلفية بل داخل بنى المجتمع وزواياه. وبالتالي أصبح جزء من مهام الحركات السياسية العربية اليوم هو المواجهة الشرسة مع تغلغل الفكر الطائفي بشكل يومي فاعل وصلب.

وأخيراً، إن وجود (الأقليات) داخل جسد الأمة يغنيها ويوسّع روافدها الثقافية، ولا يمكن أن تتناقض بأي شكل مصالح هذه الأقليات مع المشروع القومي وتحقيق الأهداف القومية إلا إذا ارتبطت بمشاريع خارجية أو انفصالية.  ويجب أن يدركَ العرب المسيحيون أنّ انتماءهم القومي هو المستهدَف هنا كأي محاولة تفتيت لهذه الأمة تاريخياً، وأن المشروع القومي مهمّة كافة أبناء هذه الأمة بغض النظر عن تلاوينهم الثانوية.

 

 

العرب المسيحيون تاريخ وحضارة

 

د. فدوى نصيرات

“العرب المسيحيون تاريخ وحضارة” عنوان كبير لموضوع مهم لاسيما في ظروف التحديات التي تواجهها أمتنا العربية، وفي مقدمتها محاولات نشر الفرقة والتعصب وجعل الانتماء الطائفي والعشائري والقبلي يتعارض مع الانتماء الوطني أو القومي.

لعب المسيحيون العرب دوراً قومياً وحضارياً في نهضة وخدمة الأمة العربية، فقد كانوا رواداً وروافد لا ينبض عطاؤها فوقفوا مع إخوانهم المسلمين في معارك التحرر الوطني والقومي والنهوض الحضاري. وقد كانت مساهمة العرب المسيحيين شديدة الاتساع في ميادين الفلسفة والشعر والقصة والمسرح والرواية والغناء والنحت والرسم والنقد واللغة وإحياء التراث مما يصعب أن نحيط بها في هذا العرض.

نتبيّن دور العرب المسيحيين في التطور الحضاري في عصر النهضة من خلال:

أولاً: الجمعيات الثقافية والنوادي الأدبية التي كان جلّ أعضائها من العرب المسيحيين وكان لها دور ثقافي وسياسي واجتماعي مهم، إذ ألقيت فيها المحاضرات المختلفة وتدرب فيها المثقفون على الحياة والنظم البرلمانية، ونشروا دعوات وأفكاراً جريئة عن أنظمة الحكم، ومن هذه الجمعيات نذكر: مجمع التهذيب، الجمعية السورية لاكتساب العلوم والفنون، الجمعية العلمية السورية، ونذكر من فضل وتأثير هذه الجمعيات: التشديد على الانتماء العربي ووحدة العرب وفضائلهم والإشادة بلغتهم وآدابهم. ونقدم أمثلة على ذلك في كلمة بطرس البستاني “خطاب في آداب العرب”، حيث أشاد البستاني بالعقل العربي وفضل العرب ولغتهم على العلوم الإنسانية وعلى ضرورة الاتحاد لبلوغ الأهداف القومية للأمة، وحاول استثارة الحمية العربية وفتح آفاق المستقبل أمام الأجيال الصاعدة من خلال ربطها بماضيها العريق واستيعابها لمعطيات عصرها الحديث، وهي المعادلة الصالحة لفكرة التقدم في جميع السياقات الحضارية. وفي الجمعية العلمية السورية ألقى إبراهيم اليازجي قصيدته الشهيرة “تنبهوا واستفيقوا أيها العرب” التي عدها انطونيوس، أول صوت لحركة العرب القومية، وكانت عامل تحريض للثورة على الدولة العثمانية.

ثانياً: الصحافة والدوريات العربية التي أنشأها العرب المسيحيون كان لها دور أساسي في النهضة الفكرية والثقافية العربية وفي تطور الوعي القومي العربي ورسم ملامح الشخصية العربية المستقلة، بدءاً من “حديقة الأخبار” لخليل الخوري عام 1857م، و”نفير سورية” لبطرس البستاني مروراً بعشرات الصحف التي كان لها الأثر العميق في النهضة العربية من خلال الدعوة إلى الرابطة الوطنية ونبذ التفرقة الطائفية والاعتزاز باللغة العربية باعتبارها علّة الضم الحقيقية، ومدار الوحدة الوطنية بين العرب.  ومن المسلّم به أن الصحافة العربية قامت على أكتاف المسيحيين العرب في بيروت ودمشق والقدس والقاهرة، بلّ إن معظم الصحف التي تميزت بعطائها في الخارج (باريس، لندن، الإستانة) كانت للمسيحيين العرب.

ولم يتوانَ المسيحيون العرب في دورياتهم عن الإشادة بالجنس العربي وعوائده وأخلاقه وشجاعته وكرمه، كما لم يألَوا جهداً في الدعوة إلى الاعتصاب بالعصبة الوطنية وتقديم رابطة الوطن على رابطة الدين، والسؤال عن الجنسية قبل السؤال عن الطائفة.  ونشر المسيحيون في دورياتهم ثقافة التقدم فنادوا بالاقتباس النقدي عن الغرب، على رغم الاختلاف بيننا وبينه في الجنس والدين، ودعوا إلى الاقتداء به في الأخذ بأسباب التقدم والمدنية وأولها العدل وأخلاق الحريات.

كذلك أسهم المسيحيون النهضويون العرب عبر مؤلفاتهم ودورياتهم في تعزيز المشاعر القومية، ومن أهم الصحف التي تأسست على أيدي العرب المسيحيين وتركت تأثيرها وتنوعت اهتماماتها ما بين الاهتمامات السياسية والعلمية والأدبية والتاريخية والاجتماعية، نذكر “الجوائب” 1860م لأحمد فارس الشدياق (مسيحي أشهر إسلامه)، والتي لم تخلو من المناظرات العلمية واللغوية بين صاحبها وأكبر علماء ذلك العهد كإبراهيم اليازجي، ولويس صابونجي، وبطرس البستاني.

“الجنان”، مجلة سياسية علمية أدبية رفعت شعار “حب الوطن من الإيمان”؛ “الأهرام” أسسها  سليم وبشارة تقلا؛ “المقطم” كانت لفارس نمر؛ “المقتطف” كانت ليعقوب صروف وفارس نمر؛ “لسان الحال” كانت لخليل سركيس؛ “الهلال” كانت لجرجي زيدان؛ “الضياء” كانت لإبراهيم اليازجي؛ “الكرمل” كانت لنجيب نصار؛ “النفائس العصرية” كانت لخليل بيدس؛ “فلسطين” كانت لعيسى العيسى؛ وغيرها الكثير…

ثالثاً: التمثيل، أول من حاول إدخال هذا الفن في النهضة الحديثة هو مارون النقاش، الذي قدم أول مسرحية له بعنوان البخيل أواخر 1847م.

ومن قدماء المشتغلين بالمسرح في سوريا سعد الله البستاني، وسليم النقاش. وانتقل التمثيل إلى مصر على يد سليم النقاش وأديب اسحق، ومن أشهر من قام على تعريب الروايات نجيب حداد، ومن أكثر الروايات التمثيلية المؤلفة في اللغة العربية كانت لخليل اليازجي.

رابعاً: حركة التأليف وإحياء اللغة العربية، تبرز أمامنا شخصيات أدبية مثل بطرس البستاني الذي وضع القواميس بهدف تحديث اللغة العربية لتُجاري العصر فألّف “محيط المحيط” و”قطر المحيط”، ووضع العديد من الكتب المدرسية في الصرف والنحو والحساب.  ولقد بدأ العمل بأول دائرة علمية ظهرت في اللغة العربية وهي “دائرة المعارف” وتضمنت العلوم الدينية والفلسفية والمدنية والسياسية والتاريخية وعلوم اللغة العربية.

وكتب البستاني العديد من المؤلفات التي تناولت خصائص آداب العرب وعلومهم، ولقد كان البستاني في مؤلفاته أحد الدعاة إلى تحرير اللغة العربية من الجمود والدخول بها إلى معركة الحضارة القائمة. ولدينا أحمد فارس الشدياق، إذ وضع مؤلفاته مثل “الجاسوس على القاموس”، وذلك لحثّ أهل العربية على حب لغتهم الشريفة، وألّف “الساق على الساق” من أجل أن يُبرز غرائب اللغة ونوادرها. وتمثل مقالات الشدياق في الجوائب ألواناً أخرى من جهوده في تطوير اللغة بالأدب “كنز الرغائب في منتخبات الجوائب”.

وقد اشتهر ناصيف اليازجي وإبراهيم اليازجي وحبيب اليازجي وخليل اليازجي بمؤلفاتهم الأدبية واللغوية التي تعبّر عن عمق الإحساس بالعروبة والثقافة العربية، إذ استثاروا الحمية العربية للدفاع عن اللغة والتراث، وذلك عبر تذكير العرب بماضيهم التليد والتمسك بلغتهم لأنه لا بقاء للأمة إلا بلغتها.

وهنالك مسرحية “عنترة” التي وضعها شكري غانم 1898م، وتوخى من خلالها بثّ الدعاية للقضية العربية ووحدة البلاد العربية، و”غابة الحق” لفرنسيس المراش، وفيها دعا إلى محبة وطنية منزهة عن أغراض الدين وأكد على أن الأحقاد الطائفية والدينية من أخطر نتائج الجهل والتوحش، وله أيضاً “رحلة باريس”.

وهناك كتاب الدرر لأديب اسحق الذي دعا من خلاله إلى إحياء التراث العربي، و”غرائب المكتوبجي” لسليم سركيس وفيه طالب بالتقدم عن طريق منح الحرية، كما لدينا مؤلفات شبلي شميل والتي ساهم من خلالها في إثارة العقلية العربية ومحاولة دفعها للسير في طريق التقدم من مثل الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، والثورة على القيود الاجتماعية، والاهتمام بتعليم العلوم الطبيعة.

ولدينا نجيب عازوري أول من نبّه لخطر الصهاينة على أرض فلسطين وطالب بخلافة عربية. وهناك مؤلفات فرح انطوان “رأي في مسألة” وغيرها، وفيها أكد على الروابط التي تجمع ما بين العرب المسلمين والمسيحيين.

وكتب جورج علاف “نهضة العرب”، “لويس شيخو”، و”تاريخ الآداب العربية”.  وكان عبد الله مراش من بين أوائل الذين حرروا جرائد المهجر العربية،  مثل “مرآة الأحوال” لرزق الله حسون، و”مصر القاهرة” لأديب اسحق، و”الحقوق” لميخائيل عودا.

وكان نقولا توما من أوائل المسيحيين الذين التقوا بأصحاب مشروع النهضة الذي تصدّره جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

وكان جميل نخلة المدور مولعاً بالتنقيب عن آداب العرب وتاريخ الأمم الشرقية القديمة، فصنف تاريخ بابل وأشور وعرّب كتاب التاريخ القديم ووضع كتابه الشهير “حضارة الإسلام في دار السلام”.  وبرز أيضاً في مجالات الفكر والأدب جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، أمين الريحاني، مارون عبود، سعيد عقل، أمين نخلة، ميشال شيحا.

ونلخّص أبرز الموضوعات التي ركّز عليها العرب المسيحيون في مؤلفاتهم وكتاباتهم، مع مراعاة التنوع في اتجاهاتهم الفكرية ما بين قومية ووطنية ويسارية وليبرالية: إحياء التراث العربي والتغنّي بأمجاد العرب، فصل الدين عن الدولة “فلا مدنية، ولا تساهل، ولا عدل، ولا أمن، ولا حرية، ولا علم، ولا فلسفة، ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة الدينية عن المدنية”، تبني نظام حكم يقوم على أسس ديمقراطية من عدل وحرية ومساواة؛ صياغة تصورات للتمدن المنشود والذي يقوم على أسس منها التعليم والألفة المدنية حب الوطن، الاهتمام بالوقت للعمل والإنتاج، تحسين العادات والتقاليد والأخلاق العامة، النظافة، احترام القانون، والنظام؛ وأخيراً الحرية الأدبية والسياسية، فعبر الحرية يمكن للفرد أن يحقق الإبداع على المستوى الشخصي ومن ثم الوطني.

ونشير إلى دور العرب المسيحيين الريادي في تأسيس المدارس الوطنية ” الخصوصية” وأشهرها “المدرسة الوطنية” لبطرس البستاني، بهدف الابتعاد عن الطائفية، والحفاظ على اللغة العربية، والتأكيد على حرية الدين.  وهناك “مدرسة الحكمة” ليوسف الدبس، و”مدرسة الإحسان” التي أسستها نخبة من أديبات الطائفة الارثوذكسية وعّلمت مختلف اللغات، و”مدرسة عين ورقة” 1789 ليوسف اسطفان، والتي تخرّج منها كبار أدباء النهضة أمثال يوسف الخازن، وبولس مسعد، وبطرس البستاني، وفارس الشدياق.

وكذلك كان للعرب المسيحيين دورٌ كبير مع مواطنيهم في تأسيس وانطلاق معظم أحزاب المعارضة، وهو ما مهّد فيما بعد لانطلاق حركة القومية العربية.

استنتاجات تاريخية: الدروس من أجل مستقبل زاهر

من الأهمية بمكان أن ندرك بأن للعرب المسيحيين بكل مللهم ونحلهم تاريخ حافل من التقاليد والمنتجات، وأنهم أبناء حقيقيون لهذه الأمة إذ يُعتبرون من أقدم السكان، وأن نرى كل أبناء الأمة سواء كانوا من المسلمين أم المسيحيين يحترمون بعضهم بعضا، ومتضامنين بوحدتهم الحضارية ومتعايشين على الخير والصلاح، وأن يكونوا فوق كل الجراحات، وأن يطووا صفحة الانشقاقات والانشطارات وإثارة النعرات، وأن يقفوا بوجه كل الأحقاد والضعائن والكراهية، وأن تكون المواطنة والمحبة والحريات “بأن لكم دينكم ولي دين”، سلاحاً عربياً قوياً فوق التفرقة بين “أغلبية” و”أقلية” أو بين طوائف وشيع أو بين أديان وعقائد أو بين أقوام وعناصر.  ولا بد للعرب المسيحيين أن يدركوا بأنّ لهم تاريخاً رائعاً من التعايشات مع كل العرب بمختلف أديانهم وأطيافهم وألوانهم وعروقهم، وعلى العرب المسلمين أن يعتزوا بكل العرب المسيحيين في كل شبر من أرض هذه الأمة.

          وننتهي بالأسئلة التالية:

هل انتهى مشروع النهضة العربية إلى الخيبة والإخفاق بعد قرابة القرنين على انطلاقته، أم أنه سيعود للنهوض من كبوته من خلال تجدد المشروع القومي؟

هل تداعت وسقطت مقولاته القومية والوطنية والعلمانية ورهاناته على وحدة الأمة العربية، أم أن الفتنة الأهلية والحروب الدموية ستدفع أمتنا لإيجاد طريقها نحو إعادة صياغة مفهوم المواطنة كما حدث بعد الحروب الدموية الطائفية في أوروبا؟

هل قدر العرب المسيحيين الذين تبوأوا ريادة النهضة العربية أن يكونوا أكبر ضحايا عثارها وإخفاقها وأن يدفعوا ثمن مخاضها المزمن والعسير، وهل سيفضلون الهجرة، أم سيعودون للعب دورهم التاريخي في حركة النهوض القومي؟

هل قدر المسيحيين العرب أن يعاقبوا على مناداتهم بحقوق الإنسان المواطن والنهضة العلمية والحكم الدستوري ودولة الحركة والمساواة وعلى تنبيهاتهم المبكرة والطليعية إلى مخاطر الصهيونية وأطماعها في العالم العربي، أم أن الأمة ستصحو من كبوتها لكي تعيد صياغة العلاقة ما بين مكوناتها الطائفية المختلفة في سياق دولة المواطنة؟

هي اسئلة معقدة ومربكة تضغط على الفكر العربي المعاصر إزاء المآلات البائسة للواقع العربي الراهن المهدد بالانقسامات العصبوية والأصوليات الظلامية .

في هذا الإطار التراجعي القاتم استعدنا في هذه الورقة ” دور العرب المسيحيين الرائد وإسهاماتهم المركزية الكبرى في النهضة العربية .

بهذا نكون قد اطّلعنا على صفحة مشرقة من التاريخ العربي المعاصر، مهددة بالتغييب والنسيان.

 

عروبة الآراميين

 

د. إبراهيم علوش

 

نقلت وسائل إعلام مختلفة في أواسط شهر أيلول 2014 أن وزارة داخلية الاحتلال الصهيوني قررت الاعتراف بما أسمته “القومية الآرامية” في البلاد، وأنها ستبدأ، بناء على ذلك، بوضع وصف “آرامي” إلى جانب كلمة مسيحي في بطاقات هوية المواطنين المسيحيين في الأرض المحتلة عام 1948، وهي الخطوة التي لاقت احتجاجاً عارماً من قبل المواطنين والكنائس العربية في فلسطين المحتلة، باستثناء حفنة تافهة من العملاء الصغار مثل الضابط في جيش الاحتلال الصهيوني شادي حلول (من بلدة “الجش”) الذي كان قد أسس قبل خمس سنوات “الجمعية الآرامية في إسرائيل” التي تعمل على استقطاب المسيحيين العرب الفلسطينيين بدعمٍ من الاحتلال.

وإذا كان رد فعل المواطنين المسيحيين والمسلمين على هذه الخطوة الصهيونية قد ركّز على البعد الفتنوي فيها، ومحاولة شق الصفوف على أسس طائفية، وهو ديدن العدو الصهيوني في فلسطين وخارجها كما نعرف جيداً، وإذا كان المواطنون والكنائس المسيحية قد ردّوا محقين بالتأكيد على عروبتهم، فإن معظم تلك الردود الوطنية الشريفة تمحورت حول البعد السياسي للخطوة الصهيونية محللةً أبعادها ومؤكدةً على رفضها وإدانتها، أما الحلقة المركزية التي يستند إليها العدو الصهيوني في مشروعه التفكيكي القذر فقد تُركَت له، على ما نعلم، وهذه الحلقة المركزية هي بالطبع الحلقة الثقافية المتمثلة بزيف زعمه بوجود قومية آرامية مستقلة.  فحقيقة الأمر هي باختصار أن الآراميين عربٌ!

الآراميون من الأقوام العربية القديمة كما أثبتنا من خلال عشرات المصادر العربية والأجنبية في كتاب “أسس العروبة القديمة” (الصادر عن دار فضاءات عام 2012).  ويمثل ذلك الكتاب محاولة لتلخيص عددٍ من المراجع الأساسية التي تثبت عروبة العراق وبلاد الشام ووادي النيل والمغرب العربي قبل ألفياتٍ عديدة من الدعوة النبوية في القرن السابع للميلاد.  أما الآراميون، موضوعنا هنا، فقد كانوا عرباً في: 1) أصلهم المتحدّر من الجزيرة العربية، 2) لغتهم، 3) أسماء مدنهم وقراهم وأعلامهم، و4) ثقافتهم.  وقد استند “أسس العروبة القديمة”  في تأصيل عروبتهم لأعمال الدكتور أحمد الداوود، ومحمد عزة دروزة، ود. فؤاد المرعي، ود. إدمون غريب.  فالآراميون عربٌ قبل أن يصبحوا مسيحيين، وظلوا عرباً بعد تحولهم للمسيحية…  أو تحول قسم منهم للإسلام.   وما محاولة اختلاق قومية آرامية معاصرة، وبالمعية، “أقلية آرامية”، إلا بغرض تحويل الوطن العربي لـ”شرق أوسط” صهيوني بعد شطب هويته.

ويأتي نفي العروبة عن الآراميين في سياق الحملة ضد الهوية القومية والحضارية لأمتنا، وهي حملة قديمة قدم الاستشراق نفسه، لكنها تبلورت كإستراتيجية سياسية ذات معالم ملموسة بالأخص في حقبة المعاهدات مع العدو في التسعينيات، ثم بشكل مكشوف بعيد احتلال العراق.   وكان اسم تلك الإستراتيجية: “الشرق أوسطية”.

يبدأ نفي الهوية العربية في العقل الاستشراقي والمتغرب بمحاولة إظهار الوجود العربي خارج الجزيرة العربية كاحتلال أو كوجود طارئ منقطع الجذور، وبتقديم الفتح الإسلامي في حدود الوطن العربي الحالية كغزوٍ غاشمٍ لأقوام من الجزيرة العربية لأقوام أصيلة لا يرتبطون معها برابط!

يقول محمد عزة دروزة:  إن بلاد الشام، كوادي النيل والعراق، من مهاجر الجنس العربي الطبيعية، وأوطانه الثانية، لأنها الجناح الغربي للهلال الخصيب الذي كان يجذب هذا الجنس من جزيرة العرب بصورة مستمرة، وهي متصلة بالجزيرة من جنوبها اتصالاً مباشراً.

…ويضيف دروزة: وإذا كان الباحثون لا يستطيعون أن يجزموا في أمر هوية سكان هذه البلاد في العصور الحجرية والظرانية السابقة للتاريخ، أو إذا كان منهم من يذهب إلى أن هؤلاء السكان مزيج من عناصر آرية أو أرمنوية، كما يسميها فيليب حتي، تسربت من الشمال، وعناصر حامية تسربت من الجنوب، فليس هناك من يماري في طروء جماعات أو موجات متلاحقة عديدة عليها، منذ أقدم الأزمنة التاريخية المعروفة، ممن سموا “ساميين”، وسميناهم الجنس العربي، وغلبة طابعهم على هذه البلاد، وعلى من كان فيها قبل طروئهم المعروف، أو جاء إليها بعد أن أخذوا يطرأون عليها، وعدّوها بذلك من مهاجر هذا الجنس، وأوطانه الثانية.

…ثم يتابع: وإذا كان هناك من لا يقول بمجيء تلك الجماعات أو الموجات التي سميت بالساميين من جزيرة العرب، فإن جمهرة الباحثين يقررون العكس، ويقولون أنه مهما اختُلِف في أصل مهد الساميين الأول، فإن مهدهم الثاني كان جزيرة العرب، وإن الموجات والجماعات التي طرأت على بلاد الشام من ناحية باديتها، أو من طريق العراق، إنما جاءت في الأصل من الجزيرة العربية، حيث نزح بعضها من جنوبها إلى شواطئها الشرقية على بحر الهند فالخليج العربي فالعراق فبلاد الشام أو إلى بلاد الشام مباشرة عن طريق البادية.

…ثم يؤكد: وهذا ما تؤيده الشواهد والوقائع، حيث كان التشارك في اللغة والخصائص والتقاليد قوياً بين هذه الموجات، وبين سكان جزيرة العرب قبل تطورهم من العروبة غير الصريحة وبعده، وحيث عُرِف يقيناً في دور العروبة الصريحة قبل الإسلام الذي بدأ في الألف الثاني قبل المسيح، انسياح الموجات من جزيرة العرب إلى بلاد الشام، وإقامتها الدول العديدة من عريبية وقيدارية ورهاوية وايطورية ونبطية وتدمرية وتنوخية وضجعمية وغسانية… الخ، فضلاً عن الموجات التي تلاحق ورودها من جزيرة العرب، من طريقي العراق والبادية إلى هذه البلاد، تحت راية الإسلام، والتي لم يكد تلاحقها ينقطع في دور من أدوار الحقبة الطويلة الممتدة إلى اليوم، والتي انطبعت بلاد الشام بها بطابع العروبة الخالد المقدس، مما هو متسق مع طبيعة جزيرة العرب منذ أقدم الأزمنة، ومما يصح أن يعد دليلاً حياً لا يمكن دحضه، مهما بلغت المكابرة والتزمت في بعض الباحثين من مبلغ.

…ومن ثم يستخلص: وقد تكون دماء الموجات العربية التي طرأت على بلاد الشام قبل دور العروبة الصريحة، اختلطت بدماء من كان قبلها فيها، أو من جاء إليها بعد أن أخذت تطرأ عليها من غير جنسها، كما كان شأن أمثالها في العراق ووادي النيل، وقد تكون اكتسبت شخصية خاصة نوعاً ما في الأرض الجديدة التي حلت فيها.  غير أن هذا لا يغير من الأمر شيئاً كبيراً، ما دامت هذه الموجات قد جاءت من جزيرة العرب، وظل طابعها العربي هو الغالب على بلاد الشام، ومن فيها من غير جنسها، وظلّت تحتفظ بكثير من خصائص جنسها ولغته وتقاليده.

… ويضع دروزة هنا قائمة بأسماء الأماكن في بلاد الشام حسب الترتيب الأبجدي، من آبل وابتر إلى يحمون ويرموك، تضم أسماء مئات القرى والقصبات والمدن في مختلف أنحاء بلاد الشام الساحلية والداخلية والجنوبية والشمالية، بما فيها فلسطين، منقولة عن معجم البلدان لياقوت الحموي، المتوفى في القرن الهجري السابع، مما يحمل اللمحة العربية القديمة من اللهجات أو اللغات الكنعانية الفينيقية والعمورية والآرامية السريانية والعبرانية.

…ليصل دروزة لما يلي: لقد لبثت بلاد الشام تحت حكم اليونان والرومان نحو ألف عام (من 331 ق.م إلى 640 ب. م)، وجاء إليها منهم الألوف المؤلفة، واستقروا فيها، ونشروا لغتهم وثقافتهم… وقد جمع بينهم وبين أهل البلاد دين واحد هو النصرانية منذ القرن الرابع الميلادي، وترجمت إلى اليونانية الكتب المقدسة، وصارت من اللغات التي تؤدى بها طقوس العبادة، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يطبعوا البلاد وأهلها بطابعهم، بل وكانت جمهرة الشاميين منقبضين عنهم، متحاشين الامتزاج بهم، في حين أن الموجات العربية الصريحة التي جاءت إلى بلاد الشام قبل الإسلام، أخذت تطبع البلاد وأهلها بالطابع العربي الصريح بسهولة ويسر، واشتد هذا الطابع في عمله حينما جاءت موجة الفتح الكبرى تحت راية الإسلام، فلم يمض بضعة أجيال حتى تم له السيادة الخالدة المقدسة.  وليس من تفسير لهذه الظاهرة، إلا صدق نظرية وحدة الدم والأرومة والمنبت والروح التي كانت تجمع بين سكان هذه البلاد وجزيرة العرب والجنس العربي كما هو المتبادر.

وعلى كل حال، المراجع التي تؤكد العروبة المتصلة لبلادنا منذ أقدم العصور متوفرة لمن يبحث عنها، ونقول المتصلة، لأن العروبة لا يخل بها احتلالٌ عابر، ولو طال به الأمد.  وفي مادة بعنوان “الفتح الإسلامي لم يكن غزواً” في مجلة البيان الكويتية، عدد شهري 7 و8 لسنة 1998، يظهر د. فؤاد المرعي أن اندفاع سكان العراق وبلاد الشام ومصر للانضواء تحت راية الإسلام، بعد ألف عام من الاحتلالين الرومي والفارسي، يعود أساساً لعدم قدرة الاحتلالين على اجتثاث العروبة التاريخية للمنطقة.

تظهر نفس المادة للدكتور المرعي أن المسلمين دخلوا بلاد الشام والعراق ومصر محررِين لا مستعمِرين، وأن المسلمين الأوائل كانوا يعرفون أن مسيحيي الشرق، أبناء عمومتهم بالنسب، كانوا مضطهَدين من الروم، وبالتالي أنهم سيؤيدونهم على أساس قومي عربي، ولو لم يدخلوا في الإسلام، فذلك حساب استراتيجي واثق، لا عمل مغامر، يقوم على شعور غريزي بوحدة الأرض والثقافة والإنسان العربي في وعائه الجغرافي الطبيعي الذي لا يميز بين جزيرةٍ عربية، وهلالٍ خصيب، ووادي نيلٍ، ومغربٍ عربي، وهي العروبة التي هيأت لانتشار الإسلام نفسه كحركة وحدة وتحرير ونهضة للأمة العربية.   وثمة سبب، بالمقابل، لعدم تخلي فارس عن لسانها بعد الإسلام!

ويظهر د. إدمون رباط في بحثه “المسيحيون في الشرق قبل الإسلام” (المنشور في مجلة “حوار” عدد حزيران 1989): 1) الأصول السامية العربية للأغلبية الساحقة من سكان بلاد الشام والعراق بالأخص، 2) الصراع القومي العنيف بين مسيحيي بلاد الشام والعراق ومصر من جهة، والكنيسة البيزنطية الممثِلة للمستعمِر الرومي والبيزنطي من جهة أخرى، وهو صراع طائفي بين مسيحية عربية ومسيحية رومية كان في الواقع إفرازاً أيديولوجياً للصراع بين مشروعية الاستعمار الروماني ومشروعية مقاومته، أي أنه كان باختصار صراعاً مقنعاً بين قومية عربية مضطهَدة، وقومية رومية مضطهِدة… وقد مهّد ذلك الصراع، بشكليه القومي والديني، لمجيء الإسلام بشكل طبيعي إلى بلاد الشام ومصر بلا قتال، لا بل بتأييد الجماهير العربية له وانتقالها إلى صفوفه خلال 24 ساعة بعد حوالي ألفية من الاحتلالين الرومي والفارسي.  وكل ذلك يشهد لا على عروبة بلاد الشام والعراق ومصر منذ الأزل فحسب، بل يشهد على عروبة الإسلام نفسه.!

لقد بات من الضروري أن نذكر بكل هذا اليوم في مواجهة غزاةٍ جدد يحاولون إظهار العروبة والإسلام في بلادنا كاحتلال طارئ، وفي مواجهة هويات التفكيك الدموي المدعومة غربياً.

كذلك ننبه إلى التتمة الصهيونية المباشرة لهذه الرواية المؤسِسة ل”الشرق أوسطية”: من خلال نفي عروبة القدس قبل الإسلام، وهو ما يؤسس لزعم هوية يهودية مزيفة لها قبل الرومان.  وهو أمرٌ من أخطر ما يكون في ظل مشاريع تهويد القدس الحالية الذي تشكل فكرة “القومية الآرامية” تتمةً له.

إن باني القدس هو “ملكي صادق” ملك قبيلة اليبوسيين الكنعانية.  فمن لا يصرّ على دور اليبوسيين العرب في تأسيس القدس وعلى عروبة الكنعانيين الناجزة عروبةً لا ريب فيها، وبالتالي عروبة أرض كنعان، فإنه يقدمها مع الأقصى والقيامة لقمةً سائغة لليهود بذريعة ملكيتهم التاريخية لها.   فإذا مر العبرانيون يوماً بأرض كنعان كما يزعمون، فإنهم يكونون قد مروا بها كأي احتلال، وقبلهم ومعهم وبعدهم بقي الكنعانيون ليحافظوا على عروبة الأرض، وتِلْكم هي الهوية العربية المتصلة التي لا يبدلها أي احتلال.

ملحق:

جدول ببعض الكلمات العربية الفصيحة وما يقابلها في البابلية الآشورية وفي الآرامية والعربية القديمة يظهر بأننا نتحدث حقيقة عن لهجات لا عن لغات منفصلة، وأن بعض تلك الكلمات لا يزال دارجاً في لغتنا المحكية اليوم في بلاد الشام مثل  (المصدر: محمد عزة دروزة):

عربي فصيح أشوري بابلي آرامي لغة جنوب الجزيرة العربية القديمة
أب أبو أبا أب
ابن بنو برا ابن
أخ أخو أحا أخو
أخذ إخوز أحد أخذ
أحد أدو حد أحد
أذن أزنو أودنا أزن
اثنتان شنا تريْن سنيث
أرض أرضو أرعا أرقا أرض
أربع أربعو أربع أربع
اسم شومو شما سم
أم أمو أما أم
امة أمتو أمتا أمة
إنسان نشو ناشا أنش
دبس دشبو دبشا دبس
دم دمو دما دم
ذئب زيبو دابا زاب
ذنب زباتو دونبا زناب
راس رشو ريشا راس
ركب ركب ركب ركب
زرع زو زرعا زرع
سبع سبو شبع شبعو
ست ششو شتا سسو
سلام شلمو شلما سلم
سن شنو شنا سن
سنبلة شوبلتو شبلتا سبل
سماء شمو شماريا سماي
شمس شمشو شمشا شمس
شعر شرتو سعرا سعرت
طحن إطن طحن طحن
طيب طبو طبا طيب
ظفر مبرو ظفرا ظفر
صل صلّو طلا صالوت
عشر عشرو عسر عشرو
عظم عصمتو عطما عضم
عقرب عقربو عقربا عقرب
عمود إمدو عمودا عمد
عنب انبو عنبتا عنب
عين أنو عينا عين

فتح أبت فتح فتح
فم بو بوما أف
قرن قربو قرنا قرن
قمح قمو قمحا قمح
كبد كبتو كبدا كبد
كرش كرشو كرسا كرش
كلب كلبو كلبا كلب
كوكب كاكبو كوكبا كوكب
لب (بمعنى قلب) لبو لبا لب
لسان لشانو لشنا لسان
لهب لابو شلهب لهب
ليل ليلتو لليا ليله
ماء مو مايا ماي
مائة مأتو ما ماأت
مثل مشل متلا مسل
مر مرو مرنمر مرا
ملك ملكو ملكا ملكي
موت موتو موتا موت
نمر يمرو نمرا نمر
ود ودّ يد وُدّ
ورق ورقو يرقا ورق
وفر وفرو أبقر وقر
ولد وُلد أيلد ولد
يد إدو أيدا أد

 

 

الهلال يعانق الصليب…ملاحظات في عروبة الأقباط

معاوية موسى

بالقدر الذي نكتب فيه عن مصر أو أحد مكوناتها، لا نشعر بأننا ندخل إلى بيت الجيران من النافذة، بل من البوابة الكبرى لوطن نتجول في أروقته وحجراته، لطالما لعبت فيه دور الرافعة في الوطن العربي، ونذكر للمثال فقط أن روّاد التنوير والنهضة العرب الذين وفدوا إليها من بلاد الشام وجدوا فيها الحاضنة الدافئة والتربة الخصبة لتحقيق مشروعهم… فمنذ مينا وآمون وأخناتون استطاعت مصر أن تحافظ على عبقرية المكان .. الذي بقي ومازال  جملة واحدة، مبتدأها العروبة وخبرها الوحدة، وبالقدر الذي يحميها من التفكك والتجزئة والإنقسام .

لم يكن في الأسابيع الأولى من يناير رغم برودة الجو لأحد أن يشعر بصقيع العزلة، وكان دم أحمد قد امتزج بدم جورج.

في مصر، تبادل الأقباط والمسلمون في ميدان التحرير من يؤمّهم في الصلاة، وأعادوا إلى الذاكرة هتافات ثورة عام 1919 وفي مقدمتها الهلال أخ الصليب.

وفي مصر لم يكن الأقباط استثناء من اضطهاد وعرقية وإستعمار اللورد كرومر، ولم تستثنِ الطائرات “الإسرائيلية” التي قصفت مدرسة بحر البقر المصرية طفلاً لأنه ينتسب إلى هذه الطائفة أو تلك.

لقد ساد اعتقاد في سبعينات القرن الماضي وبالتحديد في نهاية ذلك العقد عام 1979 أنّ أحداث ذلك العام، وهي حاسمة، سوف تجعل القرن العشرين أقصر قرون التاريخ، فإذا كانت بدايته الفعلية هي مع الحرب العالمية الأولى فإن نهايته هي مع الفصل الختامي من الحرب الباردة. وبالفعل كان عام 1979 بأحداثه الجسام مفصلياً، ففيه استُكملت إتفاقية كامب ديفيد وأنتهى عهد شاه إيران وتولى الرئيس الشهيد صدام حسين الحكم في العراق، ولم يمضِ سوى عام واحد حتى اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية فيما كانت الولايات المتحدة قد بدأت تطرق أبواب سور الصين.

في تلك الآونة الحرجة قال بعض الاستراتيجيين الأمريكيين أن هناك دولاً لا يمكن تفكيكها من الخارج أي عن طريق الغزو العسكري وإسقاط النظم بالقوة، لهذا لابد من السّعي إلى تفكيكها من الداخل على غرار الإتحاد السوفييتي الذي تفكك أيديولوجياً وسياسياً من داخله وليس من خلال حرب عالمية ثالثة. ومصر واحدة من الدول العميقة والعريقة التي لا تُفَكّك إلا من داخلها، لأن الأقباط والمسلمين هما الطائفتان الوحيدتان فيها، كلتاهما تحاول البرهنة أكثر على أصالتها ومصريّتها، وكانت فترة الاحتلال البريطاني لمصر منذ عام 1882 اختباراً لهذا التكوين الديمغرافي لمصر، إذ سرعان ما رُفع شعار الهلال يعانق الصليب وتبادل القساوسة والشيوخ الخطابات في الكنائس والمساجد، وتكرس هذا المشهد في الحروب التي خاضتها مصر وبالتحديد حرب السويس أثناء العدوان الثلاثي بعد إعلان ناصر تأميم القناة.

لقد لعب العرب المسيحيون دوراً كبيراً في إحياء الفكرة القومية وبعث روح العروبة، وهذا القول ينطبق بالدرجة الأولى على مسيحي بلاد الشام، سواء كانوا من الموارنة أو الروم الأرثوذكس أو الروم الكاثوليك “الأرثوذكسية المشرقية والشرقية وأقلية إلى الكاثوليكية” أو غيرهم من الطوائف المسيحية الأخرى، وكان التفسير البديهي هو أن المسيحية العربية في بلاد الشام  هي امتداد لقبائل عربية قبل الإسلام كان من أهمها عرب «الغساسنة» على الحدود بين الجزيرة العربية والإمبراطورية الرومانية وعرب «المناذرة» على الحدود بين الجزيرة العربية والدولة الفارسية. لذلك فإن أصولهم العربية تسبق ظهور الإسلام وتجعل العروبة هوية تاريخية أصيلة من دون النظر الى اعتناقهم الإسلام أو بقائهم على دين آبائهم وأجدادهم (إبراهيم علوش: أسس العروبة القديمة – بتصرف).  وتجهل أجيال كثيرة من الشباب العربي اليوم ما للعرب المسيحيين من دور، مع غيرهم من ابناء وطنهم العربي، في تشكيل الحركة القومية العربية فى مواجهة المد العثماني والاستعماري الأوروبي من مفكرين عرب مسيحيين مثل قسطنطين زريق، وكذلك ظهرت حركة البعث أيضاً فى النصف الثاني من القرن العشرين على يد مفكرين مسيحيين مثل ميشيل عفلق (تحول للإسلام لاحقاً).

على الجانب المصري نجد مكرم عبيد الذي زار القدس عام 1931، وتضامن مع نضال الشعب العربي الفلسطيني، وأكد على أن “فكرة الفرعونية كانت تمثل حركة لفصل مصر عن الدول العربية الأخرى”، كان ذلك الموقف غير تقليدي، ليس بالنسبة لسياسي قبطي فحسب، ولكن مقارنة بأى سياسي مصري فى ذلك الوقت، وفى عام 1939 كتب مكرم عبيد مقالاً بعنوان: “المصريون عرب” ناقش فيه للمرة الأولى قضية الوحدة العربية، مشيراً إلى أن “التاريخ العربي سلسلة متصلة؛ بسبب اللغة، والثقافة العربية” (الأقباط والقومية العربية: سليمان شفيق، جريدة اليوم السابع).

إن الأقلية القبطية التي تعايشت في سلام تاريخي مع أشقائها من المسلمين، خرجت من عزلتها مع يقظة “الوطنية المصرية”، وساهم الأقباط في الحركة النضالية من خلال حزب الوفد، باستثناء أسر بيروقراطية والت القصر والإنجليز (أسرة بطرس غالي مثلاً)، وكان سكرتير الوفد مكرم عبيد يؤكد عروبة الأقباط قبل أن تستعيد مصر وعيها بعروبتها مع جمال عبد الناصر.

وقبل رحيله بسنوات عدة استطاع البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في مصر إنهاء الخصومة التاريخية بين فكرة العروبة والأقباط، إذ لا بد من أن نعترف أن عروبة الأقباط قبل وصول البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية، لم تعد هي ذاتها بعد أن أصبح ذلك الحبر الجليل هو رأس الكنيسة القبطية، فالرجل يرجع إليه الفضل في انصهار شخصية الأقباط في إطار أمتهم العربية وكيانها العريض، ويجب أن نتذكر أن دفاع البابا شنودة عن القضية الفلسطينية قد تقدم المؤسسات الدينية المصرية الأخرى وهو الذي منع أتباع كنيسته الوطنية من زيارة القدس وهي تحت الاحتلال الصهيوني، وذلك على رغم كل الإعتراضات التي وردت على ذلك القرار القومي.

لقد استحق البابا شنودة عن جدارة لقب “بطريرك العرب”، نتيجة لدوره القومي، ودفعه للأقباط ليكونوا جزءاً من الهوية العربية، وتفاعله مع القضايا القومية، وسوف يسجل التاريخ لذلك البابا المستنير أنه قد حدد الملامح السياسية والثقافية للأقباط في صورتهم العصرية، كجزء لا يتجزأ من نسيج الوطن المصري، خصوصاً أن البابا شنودة قد دخل في مواجهة شهيرة مع أنور السادات، حتى سحب الأخير اعتراف الدولة به وفرض عليه النفي الاختياري في الدير، وعين لجنة باباوية تدير شؤون الكنيسة، إلى أن اغتيل السادات وعاد البابا شنودة إلى مقره في القاهرة بعد سنوات قليلة من ذلك الصدام بين الكنيسة والدولة.

وبخلاف ما حاوله بعض أقباط المهجر، ووجِهَ بشجب وإستنكار من أقباط مصر، إلى المطالبة بتغيير أسم الدولة ليقتصر على “جمهورية مصر” فقط وإسقاط وصف العربية الذي أعتبروه “تهميشاً للحقبة القبطية في التاريخ المصري” ، والدعوات المتكررة للإنفصال، فإن الأقباط المصريين رفعوا شعاراً منسوباً إلى البابا الراحل شنودة هو أن مصر تعيش فينا وليس فقط نعيش فيها.  وعلى العموم، ثمة وفرة في الدلائل التاريخية التي تثبت أن الأقباط المصريين عربٌ في أصولهم ولغتهم وثقافتهم (أنظر أسس العروبة القديمة، د. إبراهيم علوش، 2012).

إن تفكك الدولة المصرية أو وقوع البلاد والعباد تحت براثن الفوضى كان لا بد أن يفضي إلى التمزق، وبالتالي تأكل الهويات الفرعية والصغرى الهوية الأم كما يحدث الآن في بعض الأقطار التي وُعدَت بـ”الحرية” فلم تحصد غير الموت والقبور الجماعية.

لكن لا ريب نحن كعرب، لنا معتصم آخر نناشده، وهو ليس سلطانا أو حتى خليفة في زمننا، إنه وعينا القومي والجمعي بأننا جميعاً في خطر. وأن الكنيسة كما المسجد، لم تكن يوماً في منجى من إسالة الدماء والانتهاك.

 

عن تاريخية الانتماء العروبي: المغرب الأقصى نموذجاً

الجزء الأول

إبراهيم حرشاوي

غالباً ما تُطرح مسألة الهوية والإنتماء القومي على مستوى الأفراد والشعوب والأمم كلما كان هناك تحدٍ أو تهديد خارجي مباشر أو محلي غير مباشر (تفكيكي) يرتبط بجهات خارجية معادية.  وبالتالي يصبح من الواجب للطرف المستهدف أن يتفاعل مع  العنصر أو العناصر التي تستهدفه بغرض التأكيد على الذات وترتيب العلاقات بين كل مكونات الهوية حفاظاً على وجوده واستقراره.  وليس هناك ريب بأن المغرب الأقصى، كباقي أقطار وأقاليم الوطن العربي، يجتاز ظروفاً سياسية وثقافية صعبة يهدد كثيرٌ منها وجود كيانه.  نذكر بهذا الخصوص بسياسة البلقنة التي يقودها الغرب على مستوى الهوية كشرط للمضي قدماً في التفكيك الجغرافي للأقطار العربية ولإعادة رسم الجغرافيا السياسية في منطقتنا وفقاً للمصالح الإستراتيجية للإمبريالية والصهيونية.

انطلاقاً من هذا الطرح والتصور يفرض التساؤل التالي نفسه: من نحن؟ وهذا السؤال يحتاج إلى مقاربة تاريخية في قراءة ظاهرة الهوية، أي، كيف يتطور الوعي بالذات عبر التاريخ انطلاقاً من الزاوية التي تُلزِم النظر إلى ظواهر تاريخية كالوعي القومي لا من خلال لحظات السكون والجمود بل من خلال التموجات التاريخية.   إذن ينبغي النظر إلى مسألة الوعي القومي من منظور تاريخي، كونه كائنا متغيراً و متجدداً.  ويتمخض عن هذه الفكرة سؤال آخر، إلى جانب سؤال “من نحن”، وهو: كيف تطورت العروبة كقاسم مشترك داخل المغرب الأقصى ومع باقي الوطن العربي؟  كيف تبلورت في المغرب الأقصى جدلية تاريخية بين العروبة والإسلام من جهة والهويات الفرعية من جهة أخرى؟

 قبل معالجة الأسئلة المطروحة أعلاه يجب الاعتراف بوجود تعريفات مختلفة للعروبة سواء كوعي ثقافي محض أو كوعي قومي – سياسي في مختلف الأقاليم العربية الممتدة بين المحيط والخليج بسبب السياقات والظروف المتنوعة التي مرّ فيها وطننا العربي طيلة تاريخه العربي- الإسلامي وقبله.  فالتكوين التاريخي للهوية العربية والوعي العروبي في بلاد المشرق العربي  يختلف بعض الاختلاف عن التكوين ذاته في المغرب العربي لأن العروبة بكل بساطة كائن هوياتي وحضاري حي يؤثر ويتأثر وينمو ويتغير وفق الظروف الخاصة والمحيطة  به، دون أن يلغي ذلك وجود قاسم مشترك يمثل العروبة كلها يستل معانيه من تفاعل مدلولاتها عبر الأقطار العربية المختلفة.  وبخصوص المغرب الأقصى، الذي يُعتبر أحد الأقاليم المركزية في الوطن العربي، تتسم الهوية العربية فيه بتداخل وتشابك بين العنصر الديني والقومي والوطني بشكل ملحوظ، أكثر مما عليه الحال في المشرق العربي، حيث يعتبر المغربي نفسه عموماً عربياً بالإسلام لا باللغة أو النسب فحسب ولا ينفصل في وعيه الإسلام عن العروبة ولا العروبة عن الإسلام.

ففي المغرب الأقصى شكّل الإسلام مكوناً أساسياً كقاسم مشترك في نسيجه الاجتماعي والنفسي وفي الوعي الجماعي كونه استوعب كل مكونات الهوية المغربية ومن بين تلك المكونات العنصر العربي.  وهذا المعطى مهم للنظر الى العلاقة بين العروبة والإسلام داخل السياق المغربي،  وبالأخص إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية تاريخية.  فالإسلام يمثل تاريخياً العامل الذي يضمن، إلى حد ما، الوحدة الإجتماعية والسياسية للمغرب ككيان سياسي واجتماعي يتسم بتنوع ملحوظ يتجسد بالتعايش الأمازيغي – العربي.  فالإسلام لعب دوراً أساسياً منذ تواجده في المغرب كعنصر قادر على سد الثغرة التي قد تكون سبباً في عصف وحدته، مع التأكيد على الجذور العربية للأمازيع كما اثبتت اعمال ودراسات د. عثمان السعدي وعلي فهمي الخشيم وغيرهم.

لكن يجب الإشارة في الوقت نفسه إلى الدور التاريخي للعروبة في الانتقال المفصلي الذي عرفه المغرب بعد الفتح الإسلامي من النفوذ اللاتيني-المسيحي إلى دينامية حضارية يقودها العرب تحت راية الإسلام ساهمت بدورها في بروز نواة الطابع العربي الصريح للهوية المغربية من خلال دور اللغة العربية في نشر معاني الإسلام وبالأخص بعدما فشلت محاولة “تمزيغ” الإسلام خلال فترة دولة البورغواطية على سبيل المثال.

كما ترسخت عروبة المغرب تاريخياً عبر الدور التعبيري الذي لعبته اللغة العربية في مجال العلوم الدينية وغير الدينية والفضاء الثقافي والأدبي.  وهو ما أعطى الهوية المغربية منذ الفتح الإسلامي صبغة عربية بامتياز، وجعل من اللغة العربية لغة هوياتية جامعة، لا لغة طقوس دينية فحسب.  وقد تمكن هذا التحول الجوهري الذي عرفه المغرب مع بزوغ الإسلام إلى تكوين وعي ذاتي أثّر على مستوى نظرة المغاربة لأنفسهم وطريقة إدراكهم لذاتهم.

فمنذ القرن الرابع الهجري أصبح المغرب عربي – إسلامي الانتماء منسجماً حضارياً ودينياً مع بقية الوطن العربي دون أن يُقصى المكون الأمازيغي من نسيجيه الإجتماعي والثقافي، بل ظلت الهوية الأمازيغية راسخة بوظيفتيها الاجتماعية والتواصلية كلغات شفوية وثقافة محلية.  ومن الملحوظ أنّ تجذر العروبة والإسلام في القرون الأولى بعد الفتح الإسلامي أفرز ثوابت هوياتية صمدت في وجه الهزات التاريخية التي مرّ فيها المغرب أكدت متانة عروبة المغرب وأهم هذه الثوابت: الإسلام، واللغة العربية كلغة مشتركة بين جميع المغاربة سواء كانوا ناطقين بالعربية أو بلهجة من اللهجات الأمازيغية، والتراث الثقافي والحضاري العربي.

مثل هذا الدور الوحدوي للإسلام والعروبة يتضح أكثر عند تسيلط الأضواء على وضعية المغرب على مستوى الهوية في فترة ما قبل الفتح الإسلامي بحيث أن المغرب كان منقسماً على ثلاثة مناطق هوياتية: الهوية الامازيغية – الوثنية التي كانت مهيمنة في صحراء المغرب، والهوية اللاتينية – المسيحية التي كانت مهيمنة في شمال المغرب المكشوف متوسطياً ووسط المغرب، والتواجد اليهودي الذي كان موزعاً بين الأقاليم الثلاثة.  ولم يكن هذا الانقسام منحصراً فقط على مستوى الهوية والدين بل كان لديه أيضاً بعد سياسي، فشمال المغرب كان خاضعاً للهيمنة البيزنطية بينما كانت صحراء المغرب خاضعة للحكم القبلي الأمازيغي، أما الوسط كان يتأرجح بين حكم الطرفين.

أما على مستوى الوعي القومي، بمفهومه الحديث، في ارتباطه بطبيعة علاقة العروبة بالإسلام، فيختلف المغرب عن المشرق بحيث ساهم التنوع الطائفي والديني في المشرق في بروز أيديولوجية القومية العربية التي كانت الأنسب كقاسم مشترك للتفتت السياسي الذي أثاره الاستعمار العثماني والغربي.  بالإضافة إلى ذلك لم يسقط المغرب تحت قبضة العثمانيين وبالتالي كانت القومية العربية عنصر تمييز إزاء المستعمر العثماني المشارك في الملة بالنسبة للمشارقة، بينما المغاربة لم يكونوا بحاجة إلى مثل هذا التميز، فمارسوا انتسابهم العربي في ظل الإيديولوجية الإسلامية المتجسدة في  شرعية الدولة الشريفة المغربية.  وينبغي في هذا الصدد الإشارة إلى التجانس المذهبي والديني في المغرب الذي عزز كذلك عدم انفصال الوعي العروبي عن الوعي الديني وجعله متداخلاً بشكل عضوي.  وقد يطرح سائلٌ سؤالاً حول الأقلية اليهودية في المغرب وإمكانية تأثير وجودها على العلاقة بين العروبة والإسلام، على غرار تأثير المسيحية في المشرق على هذه العلاقة.  فالتاريخ يشهد عدم ميل اليهود طيلة تاريخيهم إلى رابط العروبة المشترك، عكس المسيحيين العرب، إذ ظل اندماج اليهود مع الأغلبية الإسلامية ضعيفاً وظل إنتماؤهم الديني مهيمناً في وعيهم وولائهم وبالأخص أن التداخل بين العروبة والإسلام في المغرب جعل نظرة المغاربة لليهود جزء من “الآخر” بدلاً من ” الأنا”.

فعروبة المغرب مرتبطة إذن بكل ما ذكر، بعروبة اللسان والدين لا بعروبة “العرق” أو النسب، على الرغم من الدراسات التي تؤكد على الأصل العربي للأمازيغ.  فهذا المعطى هو الذي خلق لدى المغاربة هوية موحدة ومتماسكة أفرزها تراكم تاريخي – بنيوي مرتكز على علاقة  ترابطية بين العروبة والإسلام خلال فترة تاريخية طويلة ساهم فيه الناطق باللغة الأمازيغية والناطق باللغة العربية على حد سواء.  إلا أن المستجدات السياسية والثقافية التي كان من ورائها قدوم الاستعمار الأوروبي، و بالأخص سياسة الفرنسة من جهة و سياسة البربرية من جهة أخرى،   ساهمت في تعميق الوعي القومي العربي لدى المغاربة إلا أننا سنتناول هذا الموضوع في الجزء الثاني لهذه المادة في العدد المقبل للمجلة بإذن الله.

المراجع:

– الدكتور محمد عابد الجابري: الهوية..العولمة..المصالح القومية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، أغسطس 2011.

– الدكتور محمد عابد الجابري: مسألة الهوية، العروبة والإسلام… والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، يناير2006.

– عبد الإله بلقزيز، العربي مفضال، أمينة البقالي: الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية 1947-1986 محاولة في التأريخ، مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت، يونيو 1992.

– الدكتور سعدون نصر الله: تاريخ العرب السياسي في المغرب، دار النهضة العربية، بيروت، 2003.

– مجموعة مؤلفين: اللغة والهوية في الوطن العربي وإشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، يناير 2013.

– مجموعة مؤلفين: تطور الوعي القومي في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، أبريل 1986.

 

 

قضية للنقاش: الخيار المسيحي “فلسفياً”

نورشبيطة

احتاج العرب المسيحيون إلى الفلسفة والمنطق أكثر من سواهم من العرب قديماً، ذلك أنّهم كانوا جُلّ أهل الحاضرة العربيّة، إذ كانت البادية العربية أقرب للميثولوجية الأوزيريسية، متمثّلة في منظومات عقديّة هضمها الإسلام مثل (الحمس والطلس والحلة) ولم تكن تخلو من المسيحية والحنفية والصابئية المندائية وسواها من العقائد التي أهملها البحث التاريخي العربي بدرجة أو بأخرى، ما نريد هنا هو أن نمط الحياة التي تحتاج إلى نظام وبالتالي إلى دين (حسب شروط ذلك الزمن) كان مقصوراً على أهل الحضر دون المدر، واكتفى المدر بأعرافهم (منها حلف الفضول الذي أشاد به الرسول ص وقال إنه لو شهده لدخل فيه) فهم كانوا خارج شرط الصراع الوجودي الذي دخل فيه مسيحيو المشرق العربي ضدّ السيطرة الرومانية من جهة وضد السيطرة الفارسية من جهة أخرى.

قبيلة تغلب مثلاً كان جُلّها من النصارى المسيحيين العرب، ومنهم الشاعر المعروف غياث بن غوث التغلبيّ الملقّب بالأخطل، ومنهم أيضاً حيّ من بكر وهم بنو عجل بن لُجيم، وكان منهم القائد العسكريّ للعرب –من شتّى العقائد- في معركة (ذي قار) واسمه (حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي) وقد أشاد النبيّ العربيّ بها إذ قال لما بلغه أمرها وكان في المدينة : “اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نُصروا”، أي أننا حين نتحدّث عن واقع العرب النصارى قبل الإسلام من حاضرة وبادية، فإننا نصف وجوداً يدرك قوميّته، ويدافع عنها دفاعاً مستميتاً ضدّ الظلم والغطرسة الخارجية، وأن رسول الله كان يعي ذلك ويقول به، ويتبنّاه، وهذا كفيل بإغنائنا عن شرح طويل، لنثبت ما ادّعيناه.

أما وقد كانت السيطرة الرومانية من الجهة الأخرى تتقنّع بالمسيحية فإنه من الطبيعي أن التصدّي لها كان فلسفيا، ويظهر هذا للمحقق في الفروقات العقديّة بين مسيحيي المشرق العربي ومسيحيي الغرب الأعجميّ، وهذا أمر قديم حديث لا أظنّه انقطع خلال التاريخ، لاسيما وأن العرب لم يحتاجوا لترجمة النصوص الدينية، فمنهم من كان ينطق بذلك اللسان (نقول لسان لأننا نعتبره لهجة عربية واليوم تعدّه الأكاديمية الغربية لغات قديمة)، فكانت الفروقات العقدية التي تفرضها الترجمة بين الشرق والغرب سبب نزاع فكريّ وفلسفيّ في تحليل النص الديني، ومن المثال الذي يتيحه المجال الضيق: أبّ السريانية هي ذاتها ربّ في لهجة عرب الجزيرة. أي أننا هنا أمام قويّ روماني يحاول احتكار الفهم الديني ليبسط نفوذه، وبين عربيّ يدافع عن وجوده الثقافي والعقديّ وإن لم يتوّج هذا الدفاع بإرادة تحرر حقيقية حتى الفتح الإسلاميّ.

جاء الفتح الإسلامي والتفّ حوله العرب من شتّى الطوائف وقاتلوا في صفوفه، ولابدّ أننا سنجد بعملية تفكير بسيطة أن الخيار هنا كان خياراً قوميّاً لاسيما عند سوى أصحاب العقيدة المحمّدية من الطوائف العربية، هنا يجدر بنا ذكر أن البشارات القديمة كانت عن “مخلّص” يتمثل في نبيّ ممكّن له في الأرض، أو لنقل ملك يوحى إليه، وهي البشارات التي كان يتوقع أن يكون مقصودها المسيح (كلمة مسيح أتت من طقوس تولية الحاكم)، لكنه لم يتمّ له الملك، وقد اتّهمه اليهود بأنه صاحب دعوى ملك لأنهم يعلمون بأمر البشارات، وهو قد نفى ذلك، ويقال أنّه بشّر بمن يأتي من بعده، ليفعل ذلك، ولأننا نريد أن نبقى في حدود المتفق عليه تاريخيا عند الجميع، سنتجنّب نقاش فكرة المخلص التي تكررت في الأديان التي ظهرت في المنطقة العربية، وفي صورة المقال تجدون رسم كلمة يسوع بالآرامية!

كذلك يحسن أن نشير إلى أنّه بلغنا من الأخبار عن الرسول أنّه صرّح باسم مولده في “حديث شريف” حين عدد أسماءه، فقال أنه قُثَم ( قرأها البعض قيم بتصحيف ولكنها على التحقيق قثم على وزن أمم وهو اسم مشهور بين الهاشميين ومعناه الرجل الجامع لكل فضيلة) ولقّبه العرب بمحمد تيمّنا بالبشارة وبسبب حسن خلقه وما يُحمد له من صدق وأمانة، وقد سبق أن تسمّى ستة رجال باسم محمد من قبله، إذ أراد لهم آباؤهم أن يدّعوا النبوّة، لكن لم يدّعِها أحدٌ منهم، ولمّا ادّعاها محمّد النبيّ، بدّل الكفّار لقبه وباتوا ينادونه (مُذمّما)، ولابدّ أن نذكر أن القرآن سمّى الناس بأفعالها لا بأسماء الميلاد، وهذه لغته العامّة، بل ويحسن أن يكون محمّد لقبا لأن اللقب مكتسب بفعل الإنسان وليس قدراً يقدره الآباء عليهم.

حتّى هذه الفقرة في المقال نحن لم نتجاوز السرد التاريخيّ والتوطئة لفهم البيئة في ذلك الحين، ولأنّ المقالة هي عن الخيار الفلسفيّ المسيحي وأثره على الإسلام، فإننا سندخل في موضوعنا، الخيارات أمام النصارى العرب كانت محدودة، فمنهم من دخل في الإسلام وهذا كثر عند مواجهة عدوّ مشترك، وبعضهم بقي على مسيحيته أو نصرانيته بما كفله له القرآن (…لا إكراه في الدين…)، وبقي قساوسة مناطقة متمرسون في علم اللاهوت، إذ قارعوا به زمنا طويلا، على دينهم، بيد أنّهم كانوا أصحاب يد في الدولة العربية الأمويّة، ومنهم القس الفيلسوف يوحنّا الدمشقي، وأبوه من قبله فهما شغلا منصباً يكافئ “وزير المالية” في أول العهد الأمويّ، ولأنّ معاوية اختار نصّاً مرجعيّاً آخر غير القرآن وهو المرويّات الحديثية، فإنّ القسّ يوحناّ الدمشقي اتّهم تاريخيا بتأسيس حركة تزوير ووضع للأحاديث الشريفة في فترة مبكّرة قبل تدوينها بقرنين على الأقل، وقد تصدّى الفيلسوف يوحنّا للذبّ عن عقيدته المستقاة من تفسيره للنصوص المسيحية ومن علمه بالمنطق ومن التأثير الروماني والإغريقي والسكندريّ، فقام يقارع الدعاة المسلمين بالمنطق، وهذا هو مربط الفرس الثابت تاريخيا بغض النظر عن التهم الأخرى.

فإن كان الفيلسوف اللاهوتي المسيحي يوحنا الدمشقي ومن مثله، متّهما بالمعونة على حرف الدعوة الإسلامية عن مسارها من جهة، فإن له فضلا لا يضاهى ويداً بيضاء على العقل العربي، الذي ساد فيه الفهم السلفيّ للدين الإسلاميّ بسبب الحنين إلى عهد عدل رسوليّ وراشديّ فُقٍد، وهذا الفضل يتجلّى في إجبار العقل العربي المسلم على الخروج من فكرة السردية الميثولوجية، بإطلاقه فتنة للعقل العربي، بمساءلة المسلمين أسئلة تسببت في تخلّق العقل الكلاميّ المعتزليّ العروبيّ النزعة، الذي شدد على حرية المعتقد، وعلى أن نظام الناس يقرره العقل العارف بأحوال الزمان، ولا يكون أسيرا للنص، فأي فتنة جميلة تلك التي أطلقها يوحنّا الدمشقي؟ ولماذا؟

عندما وُوجه الفيلسوف اللاهوتي بقول المسلمين أن المسيح ليس ابن الله (ابن لها معنى آخر في السريانية غير الولد على فكرة) وأنّه ليس هو الله، وإنّما كلمته التي ألقاها إلى مريم، وواجه تهديد المنطق القرآني لعقيدة قومه، ومن جهة أخرى واجه الفهم المدريّ البدويّ للنص القرآني والذي أدرك أنّه يتهدد العرب وجوديّا ويتهدده هو وحرية معتقده أوّلا، ضمرها في نفسه، وانطلق في النقاش من مكان آخر: قال أنتم تقولون أن القرآن كلام الله، فهل هو مخلوق أم قديم؟ فإن كان مخلوقاً فهو ليس بكامل متجاوز للزمان والمكان، لا يلحقه نقص لأنّ ذلك متعذرٌ على المخلوق!(وهذا يضرب الفهم السلفي للقرآن) وإن كان قديما فإنكم تقولون أن كلام الله قديم، وبذلك فإننا مثلكم نقول أن كلمة الله المسيح عيسى ابن مريم قديم، فهو إما أن يكون الله أو يكون صفته القديمة!

هنا بقي المسلمون عاجزين عن الردّ حتى انطلق أصحاب اللسان العربي من المعتزلة العرب فأسسوا لعلم منطقيّ آخر غير المنطق اليوناني هو (علم الكلام) وتصدّوا للرد على الشبهات التي غاص فيها السلفيون من المحدّثة، والتي افتعلها الشعوبيون، وانطلق العقل العربي، الذي كان نتيجةً حتميّة لتحرّر أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاستقرار فرضه بنوا أمية الذين بظلمهم وبطشهم وحّدوا العرب، ولاستفزازٍ للعقل العربي جاء به فلاسفة اللاهوت المسيحي الذين أرادوا إجبار السيرورة التاريخية الإسلامية على استيعابهم وعدم الغلوّ والاستقواء بالدعوة المحمّدية، ولإرادة قومية عربية عند المعتزلة، فإما أن نتساوى بالميثولوجيا التي نؤمن بها دون تفكير، وإمّا أن نتساوى كأقرانٍ من شتى العقائد وذوي رحم قبليّ معروف للتاريخ ومواطني دولة عربية واحدة عمادها العقل والمصلحة الجمعية.

نعم نعلم أنّ هناك من سيجادل بالقول أنّ هذا التفسير للتاريخ وإن كان يقف على روايات صلبة إلا أنه يتخرّص النوايا، ولكنّنا نؤكد على أنّنا اعتنينا بنتائج الفعل وليس بنوايا الفاعل فالنوايا أمرها لله جلّ وعلا وهو الحكم عليها.

 

شخصية عربية تاريخية: فارس خوري

نسرين الصغير

ولد  المفكر القومي العربي فارس يعقوب خوري في 20 تشرين الثاني من عام 1873 في قرية الكفير في لبنان لعائلة مسيحية بروتستانتية.  بدأ فارس خوري المرحلة الإبتدائية في مدرسة القرية التي ولد فيها، وتوجه بعدها لصيدا ليكمل المرحلة الثانية من تعليمه في المدرسة الأمريكية حيث كان تلميذا متميزا متفوقاً.  عمل فارس خوري في التعليم وتنقّل بين المدارس من مجدل شمس عام 1892 لصيدا.  تم اختياره لاحقا ليكون معلماً في مدرسة ابتدائية في زحلة، وانتقل بعدها للكلية الإنجيلية السورية سابقاً، التي أصبحت تدعى فيما بعد “الجامعة الأمريكية في بيروت” إلى أن حصل على درجة البكالوريوس في العلوم من الجامعة الأمريكية عام 1897.

انتقل بعدها للعمل في المدارس الأرثوذكسية في دمشق، وتمّ تعيينه ترجماناً في القنصلية البريطانية.  لم يترك فارس خوري الدراسة بعد انتقاله لمرحلة العمل، فبدأ بالتعليم الذاتي حيث تعلّم اللغتين الفرنسية والتركية لوحده دون معلم، ونجح في مهمته بإرادته، وبعدها انتقل لمرحلة المطالعة في الحقوق والقانون، وعمل في المحاماة في دمشق وتقدم لامتحان معادلة الليسانس بالحقوق فنالها بمجهوده، وفي عام 1908 بدأ فارس بالعمل السياسي لإيمانه أن العثمانيين ليسوا إلا احتلال في الوطن العربي، وانتسب لجمعية الاتحاد والترقّي.

برع خوري في المجالات التي عمل فيها، بل والتي كان يميل إليها، حيث كان مولعا ومحبا للشعر وكتب شعراً وطنياً، وكان يُنشر له في الصحف السورية والمصرية، ولكنّ العمل السياسي شغله عن رغباته الشعرية، وقد أنشد فارس الخوري في إحدى المناسبات، وهي إلغاء قرار إبعاده، في الاحتفال الذي أعدَّه له ألوف المستقبلين في 24 شباط 1928، قصيدةً خَتَمَها بقوله:

وها قد دنا يومُ الموازين عندنا    وكلُّ يمين قد أتـت بكتـابها

ومـا كانت الأفعالُ ذاهبةً سدًى   وكلُّ يد مسئولةٌ عن حسابها

شغل فارس خوري عدة مناصب رسمية، حيث أصبح عام 1914 في ظل الاحتلال العثماني نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان، وفي عام 1916 قام جمال باشا بحبس فارس خوري بتهمة التآمر على الدولة العثمانية، ولكن بعد تبرئته، تمّ نفيه إلى اسطنبول.

عاد فارس لدمشق بعد سقوط الدوله العثمانية عام 1919 وكانت الدولة الملكية قد بدأت بوضع أقدامها في دمشق.  وفي عام 1920 عندما عُين الأمير فيصل ملكا على سورية بعد مؤتمر 7 آذار وإعلان استقلال سورية، شارك فارس الخوري في أول وزارة عربية في عهد الملك فيصل حيث كُلّفَ رضا الركابي بتشكيل الوزارة، فعين رضا الصلح للداخلية، وفارس خوري للمالية وساطع الحصري للمعارف، واستمرت تلك الوزارة أقل من شهرين.

كُلّفَ هاشم الأتاسي بعدها بتشكيل وزارة جديدة لسورية، حيث احتفظ فارس خوري بحقيبة المالية، والحصري بالمعارف، وعيّن يوسف العظمة وزيراً للحربية، فكان شاهداً على معركة ميسلون في 24 تموز عام 1920، حيث زحف غورو المفوض السامي لفرنسا، ودخل دمشق، واستشهد على أثر هذه المعركة الوزير الشهيد يوسف العظمة بطل معركة ميسلون، وبعد المعركة تم تكليف علاء الدين الدروبي بتشكيل وزارة جديدة في 25 تموز عام 1920 واحتفظ خوري بالمالية للمرة الثالثة.

في العام 1920 احتلّ الفرنسيون سورية، وبدأ خوري بممارسة مهنة المحاماة إلى أن انتُخب نقيباً للمحامين وبقي نقيباً خمسة أعوام على التوالي وكان أحد مؤسسي المَجْمَع العلمي الذي ما زال حتى يومنا هذا صرحاً شامخاً في دمشق ويسمى (المَجْمَع اللغوي). وقد عمل خوري مدرسا في معهد الحقوق العربي لتدريس أصول المالية وأصول المحاكمات الحقوقية، وكانت له ثلاث مؤلفات في هذين الموضوعين وهي:

  • أصول المحاكمات الحقوقية
  • موجز في علم المالية
  • صكّ الجزاء

كان فارس خوري ينادي بالقومية العربية وكان من قادة الحركة الوطنية، حيث أسس هو وعبدالرحمن الشهبندر وعدد من الوطنيين في سورية حزب الشعب والنفي، وكان ردّاً على استبداد السلطة الفرنسية.  وبعد أن قامت الثورة على فرنسا عام 1925  تمّ اعتقال فارس خوري و آخرين ونفيهم إلى معتقل أرواد الواقع في جزيرة تطل على مدينة طرطوس السورية.  وفي العام 1926 تمّ نفيه إلى خارج سورية، وبعدها بقي فارس فارساً في محاربة الاحتلال الفرنسي، إذ أصبح نائباً لرئيس الكتلة الوطنية، وكان يكتب منشوراتها، وقادت تلك الكتلة حركات المعارضة والمقاومة ضد الاحتلال الفرنسي.

في عام 1936 تمّ عقد معاهدة بين سورية وفرنسا وبدأت المفاوضات للمطالبة بإلغاء الانتداب الفرنسي، وكان الخوري أحد أعضاء الوفد المفاوض ونائباً لرئيسه، وانتُخب خوري رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936 وبقيَ في منصبه حتى نهاية عام 1943، وعمل في عدة مناصب رسمية منها وزارة المعارف والداخلية ورئاسة مجلس الوزراء ورئاسة السلطة التنفيذية، ولقي شَغله هذا المنصب صدى لكونه مسيحياً بروتستانتياً أصبح رئيساً تنفيذياً لدولة مسلمة.

أشهر أقوال فارس خوري عن الإسلام:

  • يقول عن (الإسلام) الذي درسه وتعمق فيه أنه محققٌ للعدالة الاجتماعية بين بني البشر.
  • يمكن تطبيق الإسلام كنظام دون الحاجة للإعلان عنه أنه إسلام.
  • لا يمكننا محاربة النظريات الهدامة التي تهدد كلاّ من المسيحية والإسلام إلا بالإسلام.
  • عندما تم إبلاغه من الجنرال غورو أن فرنسا جاءت لاحتلال سورية لتحمي المسيحيين من المسلمين، ذهب فارس للجامع الأموي يوم الجمعة وصعد إلى المنبر أثناء الخطبة حيث قال “إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله” فحمله المصلين على أكتافهم، وخرجوا به لشوارع دمشق وخرج مسيحيو دمشق في مسيرات حاشدة وهم يهتفون لا إله إلا الله.

من مواقفه التي ما زال التاريخ يذكرها له أنه كان مشاركاً بالوفد الذي توجّه للأمم المتحدة عام 1945 لمناقشة جلاء الفرنسيين عن سورية، وكان له موقف مشرّف أمام العالم قبيل تلك الجلسة، عندما دخل إلى الأمم المتحدة حديثة المنشأ، بطربوشه الأحمر وبزته البيضاء الأنيقة… قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سورية من أجل رفع الانتداب الفرنسي بدقائق، واتجه مباشرة إلى مقعد المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا، وعندما  بدأ السفراء بالتوافد إلى مقر الأمم المتحدة لم يملكوا  إخفاء دهشتهم من جلوس ‘فارس خوري’ المعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي، تاركا المقعد المخصص لسورية فارغا.  وعندما دخل المندوب الفرنسي، ووجد فارس خوري يحتل مقعد فرنسا في الجلسة، توجه اليه وراح يخبره أن هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع أمامه علم فرنسا، وأشار له إلى مكان وجود مقعد سورية مستدلا عليه بعلم سورية، ولكن فارس بيك لم يحرك ساكنا، بل بقي ينظر إلى ساعته.. دقيقة، اثنتان، خمسة…  وبقي السفير الفرنسي يحاوره وقد بدأ يظهر عليه الغضب واستمر في محاولة إفهامه أن هذا مقعد فرنسا وأن مقعد سورية في الجهة المقابلة، وكان السفراء يتبادلون النظرات والسفير الفرنسي في قمة غضبه.  وكان فارس ما زال ينظر إلى الساعة حتى وصلت الدقيقة الخامسة والعشرين إلى أن أدخل ساعته لمكانها، ونظر للسفير الفرنسي وقال كلمته المشهورة:

سعادة السفير، جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضبا وحنقا، سوريا استحملت سفالة جنودكم خمس وعشرين سنة، وآن لها أن تستقل.

وفعلاً في تلك الجلسة من جلسات هيئة الأمم نالت سورية استقلالها، ورحل آخر جندي عن أرضها عام 1946.

كم من فارس خوري نحتاج اليوم بعد أن أصبح السفراء والوزراء العرب يتسابقون للتذلل لسفراء الدول المحتلة للوطن العربي مثل “الفرنسي، البريطاني، الصهيوني والأمريكي”!

كان فارس خوري مهتماً بالقضايا العربية، فكان يطالب بجلاء البريطانيين عن مصر، وكان من أوائل من وقفوا لإعلان رفضهم إعلان دولة صهيونية في فلسطين، وكانت حاله كحال أي قومي عربي يشغله الوطن العربي من المحيط للخليج ومن أشهر أقواله:

“من الطبيعي أن لا ينام المرء على الذل والاستعباد عندما يفهم أنه خلق حراً ليعيش حراً”.

من الجوائز التي حصل عليها فارس خوري جائزة الدولة التقديرية في العلوم الإجتماعية، والتي منحها له الرئيس جمال عبد الناصر.

تزوج في 22 آب من عام 1909 من أسماء جبرائيل عيد، من أهالي عكا والتي التقى بها بالصدفة عندما كانت حاضرة لزيارة خالها من عكا، وشاء القدر لقاءها بفارس.  بقيت في دمشق حتى وفاتها عام 1969 أي بعد وفاة فارس بسبع سنوات، وكان لفارس ولد واحد اسمه سهيل.

وفي مساء يوم الثلاثاء 2 كانون الثاني من عام 1962 بعد عمر قضاه في خدمة سورية، ودعم القضايا العربية، توفي القومي العربي فارس خوري وكانت وفاته في مستشفى السادات بدمشق.

 

 

مدينة عربية: آوروك إنطلاق المدنية

علي بابل

 

لتزدهر أحوال أهل مدينتك

وليبتهج صغار أوروك

ليكن شعب أوروك حليفاً لشعب إريدو

ولتتبوأ أوروك مكانتها العظيمة الحقة

هكذا بدأت أول حضارة للمدينة قبل حوالي 4000 قبل الميلاد، مع الأسطورة السومرية “إنانا وأنكي”، قصة إنتقال أسس الحضارة من مدينة  “إريدو” إلى أوروك أول مدينة كبيرة في تاريخ البشرية، هذه المدينة التي سطرت فيها أول كتابة عرفها البشر “المسمارية” ومدينة الإنقلاب الحضاري الثاني عند البشرية بعد الأول “إكتشاف الزراعة”، هذا الإنقلاب الحضاري المدني الذي لا نزال نعيشه إلى الأن سمي “بعهد أوروك” نسبة إلى المدينة الجنوبية التي تجاور نهر الفرات والتي تعرف الأن “بالوركاء”.

مدينة الملك الأسطورة “جلجامش”، والذي ذكر في الوثيقة التاريخة “ثبت ملوك سومر” على أنه خامس ملوك أوروك بعد الطوفان، أسهمت في دخول البشرية إلى عهد الحضارة المدينة عبر تأسيس سلطة مركزية من خلال التنظيم السياسي لأحوال المدينة في ظل حكم ملكها “جمدة-نصر” في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وبناء أول سور كبير في بلاد الرافدين في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد.

هذه المدينة التي كانت درة المدن في بلاد الرافدين وأعظمها قوة خلال الفترة الممتدة ما بين 3100-2900 ق.م، كانت تمتد على مساحة كبيرة وصلت إلى 400 هكتار، وقامت المدينة على أسس الحضارة “العبيدية” العربية التي هي أساس كل حضارة بشرية عرفها التاريخ، فمن “زاقورتها” الشهيرة “آنو” ومعابدها الكثيرة التي رسخت حكم طبقة الأغنياء “الأرستقراطية”،  كما يذكر الكاتب فراس سواح في كتابه “كنوز الأعماق قراءة في ملحمة جلجامش”، أنطلق حكام مدينة أورك إلى ضفاف بحر قزوين عبر حملاتهم العسكرية المتعددة.

أختلف علماء الآثار والتاريخ حول عدد سكان المدينة والذي تراوح في أفضل أزمانها بين خمسين ألف إلى ثمانيين ألف نسمة، وهذا يؤكد على أنها كانت أكبر مدن الأرض في زمانها، وأعتمد سكان المدينة على الزراعة كما كل أهل بلاد الرافدين من خلال شبكات الري الكبيرة التي كانت تحت رعاية الحاكم بشكل مباشر نظراً لأهميتها الوجودية للمدينة وساكينها.

أوروك مدينة الإله أنو “رب السماء” والألهة إنانا “ألهة الحب والخصب” وكانت مركز الحضارة قبل أكثر من ستة ألاف عام وقد سطرت فيها ملحمة الحياة “جلجماش”، هذه الملحمة الإنسانية التي عبرت عن دواخل الإنسان ومشاعره الفطرية كالحب، الخوف من الموت، الصدق، الشجاعة، وحب الحياة والمعرفة.

أوروك يا أول من كتب، ومدن الإنسان، كنت في العراق وستظلي إلى الأبد.

المراجع:

  1. نص من الأسطورة السومرية (إنانا وانكي) وهي تعبير عن إنتقال الحضارة من إريدو إلى أوروك.

    2. – Daniel c. Snell – 1997- Yale University – Life in the Ancient near East

  2. 3. كنوز الأعماق قراءة في ملحمة جلجامش، فراس سواح، العربي للطباعة والنشر،1987

إبداع وموهبة الممثلة اللبنانية برناديت حديب في فيلم (لما حكيت مريم)

 

طالب جميل

قدمت الممثلة اللبنانية (برناديت حديب) دوراً استثنائياً في الفيلم السينمائي اللبناني (لما حكيت مريم) فكانت لها مساهمة كبيرة  في إنجاح الفيلم الذي صُنعَ بإمكانيات بسيطة، وتم تصويره خلال مدة لا تتجاوز (15) يوماً وبموازنة بسيطة  (15) ألف دولار، وهو من إنتاج عام 2002 ومن سيناريو وإخراج المخرج اللبناني (أسد فولادكار) وبطولة مجموعة من الممثلين اللبنانيين على رأسهم (برناديت حديب) و(طلال جردي) و(رينيه الديك) و(أميه لحود).

ما يميز هذا الفيلم أنه واقعي وبعيد عن أفلام الحرب التي كانت مسيطرة على أجواء وشكل السينما اللبنانية لفترة طويلة، والفيلم يحكي قصة مريم التي أدّتها باقتدار (برناديت حديب) زوجة زياد (طلال جردي) المرأة التي حكم عليها القدر بأن تكون عاقرا، وغير قادرة على الإنجاب، لكن هذه المشكلة لم تفسد الود والحب الموجود في علاقتهما الزوجية ولم تعكر صفوها. وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على زواجهما إلا أنهما يعيشان حالة من الانسجام والتفاهم مليئة بمشاعر الحب والألفة، حيث يصور الفيلم معاناة امرأة عاقر ذهبت في حبها نحو اللامحدود فكانت تلهث وراء الأمومة لإنقاذ حياتها الزوجية فانتهى بها الأمر إلى تلك النهاية التراجيدية غير المتوقعة.

يترك لنا المخرج مريم لتسرد قصتها بشكل مباشر ودون اللجوء إلى الرمزية والتعقيد منذ بداية الفيلم حتى نهايته، حيث تبدأ مأساتها عندما تحاول حماتها (رينيه الديك) تعكير صفو علاقتها مع زوجها من خلال استجواب ابنها زياد وبشكل مستمر وإلحاحها عليه بترك مريم والزواج من امرأة أخرى كونها لا تنجب أولاداً، ويحاول زياد إقناعها بأن حياته مع مريم تبدو في غاية السعادة وأنه ليس بحاجة لأولاد ولا رغبة لديه بالإنجاب، لكن الأم لا تقتنع بمثل هذه المبررات وتحاول أن تكون أكثر قسوة معه من أجل أن يوافق على الزواج من امرأة أخرى.

لكن كل هذه الضغوطات تصب في النهاية على رأس مريم فهي تعرف أن زوجها يتعرض لإحراجات كبيرة من والدته، وهي تعلم أن استمرار الوضع على حاله سيضعها في مأزق كبير وتعرف أيضا أنها تعيش في مجتمع لا يرحم، وأن المجتمع اللبناني جزء من المجتمعات العربية القائمة سلوكياته على العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية والمسيطرة في تعامل الناس مع بعضهم البعض حتى ولو كانت هذه العادات مبنية على أساس خاطئ أو على خرافات أو أوهام وأساطير، لذلك فإن مريم ستقع تحت رحمة ألسنة الناس وستكون مادة دسمة لأحاديثهم في مجتمع يؤمن بالقضاء والقدر وقت ما يشاء ويتخلى عن هذا الإيمان في مناسبات أخرى، لذلك فإن مريم تشعر بحجم وصعوبة الموقف فتحاول إيجاد حل من خلال اضطرارها لمرافقة والدتها والذهاب إلى أحد المشعوذين الذين يدّعون قدرتهم على حل مشاكل الناس والتنبوء بمستقبلهم، ورغم عدم قناعتها بجدوى مثل هذه السلوكيات إلا أنها اضطرت للاستسلام للأمر الواقع ومسايرة والدتها. ففي المرة الأولى تضطر لتناول خلطة المشعوذ ولكن دون جدوى وفي المرة الثانية تضطر للانحدار أكثر ومجاراة أفكار المشعوذين من خلال قيامها بالنفخ في فم جثة فتاة ميتة لكي تطرد الجنّية من جسمها إلى جثة الفتاة  – حسب وصف المشعوذ- وذلك مقابل مبلغ من المال في مشهد يبدو مخيفاً وغير مألوف.

في هذا الجزء من الفيلم يلاحَظ مدى عجز مريم عن مقاومة بعض العادات والسلوكيات السيئة والمنافية للأخلاق والدين، فتضطر وهي غير مقتنعة بأن تسلك هذا المسار لعل وعسى أن يوصلها هذا الطريق إلى علاج لحالة العقم التي تعاني منها والتي تهدد استقرار حياتها الزوجية، وهذا السلوك يعكس بعض جوانب التخلف الموجودة في مجتمعاتنا العربية.

وتسير أحداث الفيلم باتجاه يدفع زياد للخضوع لضغوطات والدته حيث تحاول مريم بعد رفض حماتها لفكرة التبّني كحل لمشكلة العقم أن ترضى بأفضل الحلول السيئة وهي أن تقبل بأن يتزوج زوجها من امرأة أخرى مع محاولة زياد إقناعها بأن الزوجة الثانية ستكون للإنجاب فقط ولن يعاملها كزوجة عادية، وبأنها ستبقى هي الزوجة الغالية والحبيبة الأولى والأخيرة التي لن يحب امرأة غيرها.

تدخل مريم في خضّم المأزق وتذهب مع زياد إلى إحدى الأسر الريفية البسيطة التي تقطن في إحدى القرى المجاورة لطلب يد ابنتهم لزياد في مشهد تبدو فيه مريم متحاملة على نفسها في سبيل إرضاء زوجها وإخراجه من أزمة الإنجاب من خلال قبولها بأن يتزوج من امرأة أخرى لكي ينجب منها فقط، وقبولها لم يكن على قناعة بل كان على مضض بعد أن ضمِنَ لها زياد بأن تكون علاقته بالزوجة الثانية علاقة مصلحة، وبهدف الإنجاب فقط دون أن يبادلها أية مشاعر حب حقيقية.

يتم الاتفاق وتسير الأمور على ما يرام، وفي يوم العرس يذهب زياد إلى الحفلة وهو يرتدي بنطلون جينز فتحاول مريم إقناعه بان يرتدي بدلة لكي يظهر بمظهر العريس لكنه يرفض بحجة أنه غير مقتنع بهذا الزواج ولا يشعر بأنه عريس حقيقي، ولكن هذا الكلام كان مجاملة من زياد لمريم ومراعاة لمشاعرها ويظهر ذلك عندما قررت مريم بعد ذلك بأن تلحق به إلى بيت العروس فوجدته يجلس بجانب عروسته وهو يرتدي بدلة ويظهر بمظهر أنيق لتبدأ بعد ذلك برقصٍ أشبه ما يكون بالرقص الهستيري أمام العروسين على إيقاع أغنية (شربتك المي) لإلهام        المدفعي- والتي تحمل كلماتها دلالات ليست ببعيدة عما حدث لمريم- إلى أن وقعت على الأرض في تعبير عن ردة فعل لا إرادية لديها.

يتزوج زياد وتنجب له زوجته الجديدة طفلا ويبتعد وينشغل أكثر عن مريم وينغمس بتفاصيل حياته الجديدة على الرغم من أنه حاول في بداية الأمر التواصل معها من خلال الالتقاء بها في أكثر من مكان مثل بيت والدتها، إلا أن خيوط التواصل تبدأ بالتفتت شيئاً فشيئاً وتنقطع العلاقة تدريجياً وتسوء حالة مريم النفسية لتقترب من الجنون أكثر فأكثر من خلال بعض الأحداث إلى أن يلتقيا في إحدى الليالي بعد غياب طويل فيتحدثان عن التغيرات التي حدثت في حياة كل منهما، فتكون والدة زياد قد ماتت ووالدة مريم أيضا، ويكون زياد قد رزق بطفل أسماه نديم وعمره سنة ونصف، وتطلب منه أن يقبّل يدها كما كان يفعل سابقاً، وفي نهاية اللقاء يطلب زياد من مريم أن يوصلها إلى بيتها إلا أنها تنزل قرب مستشفى للأمراض النفسية، حيث يتبين لاحقاً أنها تقيم في هذا المستشفى لأن تطور حالتها النفسية نتيجة الصدمات التي تعرضت لها من تخلي زياد عنها وانشغاله بحياته الجديدة ووفاة والدتها، أوصلها إلى هذا المكان علماً أنها قد حرصت على أن لا تخبر زياد بذلك.

تبقى مريم في المستشفى وتتدهور حالتها النفسية والصحية إلى أن تموت، فيتم الاتصال بزياد لإخباره بمراجعة المستشفى لأمر يتعلق بزوجته، وعندما يذهب للمستشفى معتقداً أن الأمر يخص زوجته الجديدة، يُخرجُ له الممرض الجثة من الثلاجة ليكتشف بأنها جثة مريم ويسلّمه الممرض ورقة كتبتها مريم توصي فيها زياد بأن يقوم بدفنها في مشهد صادم ومؤثر.

تنتهي قصة مريم نهاية مأساوية، ويتجسد ذلك بوضوح عندما يظهر زياد في مشهد حزين وهو يقوم بغسل جسد مريم تمهيداً لدفنها وهذا المشهد قام بتوزيعه المخرج على أجزاء الفيلم فيظهر في أثناء ذلك وكأنه مشهد رومانسي أو حميمي بين زياد ومريم لكن في النهاية يتبين أن هذه المقاطع جزء من مشهد طويل لزياد وهو يغسل جثة مريم بعد وفاتها.

عموماً فقد قدم الفيلم صورة مصغرة لما تعيشه كثير من العائلات في مجتمعاتنا العربية من هموم اجتماعية وأزمات إنسانية، ورغم بساطته وعدم احتوائه على مؤثرات بصرية مميزة إلا أنّ المخرج استطاع أسر المشاهد منذ اللحظة الأولى في الفيلم كونه اعتمد على براعة الممثلة (برناديت حديب) التي أتقنت دورها بتمكّن وحرفية عالية تشِي بمستقبل كبير لها في مجال التمثيل، فعنصر التشويق في الأحداث وخفة حركة الكاميرا السمة الأبرز على ابتعاد المخرج عن التفاصيل غير المفيدة التي يتّبعها بعض المخرجين.

وأجمل ما ميّز الفيلم هي تلك اللقطات التي وزعها المخرج بين أجزاء الفيلم بأسلوب سردي حيث تظهر فيها مريم بوجهها الأسمر الشاحب وبعفوية صادقة وهي تقول ما حدث لها وتتحدث مع الكاميرا مباشرة، وهذه اللقطات يتبين في نهاية الفيلم أنها كانت عبارة عن خدعة ولم تكن أكثر من اعترافات لمريم أو رسالة من مريم لزياد، قامت بتسجيلها بنفسها وتركتها له، وهي محاولة من المخرج لسرد حكاية الفيلم بطريقة ميلودرامية مؤثرة في كثير من الأحيان مستغلا براعة وقدرات (برناديت حديب) التي استطاعت تقديم دور استثنائي ومميز في هذا الفيلم وأثبتت أنها ممثلة غير عادية وجذبت المشاهد من خلال قدرتها على تجسيد ما تمتلك من مشاعر متضاربة، علما أنها كفنانة تبدو أكثر أهمية من الدور الذي قامت بأدائه في هذا الفيلم  وأكثر قدرة على تقديم ما هو أصعب وأكبر من تلك المشاهد المهمة التي أدتها بإتقان وموهبة عالية لو أتيحت لها الفرصة في أعمال أخرى.

الفنانة اللبنانية (برناديت حديب) استطاعت من خلال هذا الفيلم الوصول إلى المجد نظرا لحصولها على جائزة أفضل ممثلة عن هذا الفيلم في المهرجان السادس للسينما في باريس عام 2002، وفي أيام قرطاج السينمائية في تونس في نفس العام، وفي مهرجان مسقط للسينما في سلطنة عمان عام 2003، وهي تحمل دبلوم دراسات عليا في التمثيل المسرحي من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية عام 1995 وعملت في المسرح مع المخرج اللبناني المعروف روجيه عساف، وشاركت في أعمال مسرحية مهمّة مع الفنان الكبير دريد لحام ولها بعض التجارب في مجال الدراما التلفزيونية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *