Qawmi

Just another WordPress site


المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 شباط 2015


ويضم هذا العدد:

– تساؤلات على ناصية الرواية العربية/ إبراهيم يونس البطوش

– الرمادي يليق بك: الشحنة السياسية الملتبسة في رواية مستغانمي/ د.إبراهيم علوش

– الثورة بعيداً عن المثاليات في رواية (اللاز) للطاهر وطار/ طالب جميل

– ثنائية المرأة والرجل في الرواية العربية… ثلاثة نماذج مختارة/ معاوية موسى

– الأدب الروائي، المحتوى السياسي والثقافي/ جميل ناجي

– العربي بين الرواية والرواية/ نور شبيطة

– تعريفات: جائزة نوبل للآداب

– شخصية روائية عربية: غسان كنفاني/ نسرين الصغير

– المثقفون العرب والمقاومة اللبنانية/ مقتطف من مجلة “الآداب” عام 2006

– في الذكرى الثالثة لرحيل سي عبد الحميد مهري: سلام على مدرسة تمشي على قدمين/ عبد الحفيظ عبد الحي

– أرض عربية محتلة: لواء الاسكندرون/ علي بابل

– قصيدة العدد: عيد العروبة/ إعداد صالح بدروشي

– كاريكاتور العدد: غسان كنفاني


العدد رقم 9 – 1 شباط عام 2015 للميلاد

لقراءة المجلة عن طريق فايل الـ PDF

مجلة طلقة تنوير 9


للمشاركة على الفيسبوك

https://www.facebook.com/Qawmi
























































































تساؤلات على ناصية الرواية العربية

 

إبراهيم يونس البطوش

 

إذا صح ما يقال بأن تاريخ الفن زائل، فهل علينا أن نتفهم تسيّد الرواية الأدبية على مستوى العالم بأممه وشعوبه..؟؟

وإذا صحّ أن أوروبا خلقت كل فن من فنونها في موعده ليستحيل بعدها إلى تاريخ.  فهل المعجزة العظيمة لأوروبا لا تكون في فنها، بل في تاريخية فنها..؟؟

وهل يصبح الجدل حينها رحبا وملتزما بمعاني الحياة والأخلاق والطبائع الإنسانية، ما خفي منها وما بان..؟؟

ثم هل الرواية التي مزق ستارتها الإسباني (ميجيل دى سيرفانتس)، حين أرسل “دونكشوته” برحلته ليتبدى بعدها العالم بكل عريّه الهزلي للنفس، تلك الستارة الممزقة والمسحورة والمطرزة في الأساطير، ترى هل مزقتها الرواية العربية لتفضح الواقع العربي، وينكشف بعدها ما هو مخبئ ومكتوم من مخجل ومعيب على المستوى الإنساني..؟؟

أم أننا ما زلنا نتعلق بأهداب تلك الستارة المخضبة بدماء أحزاننا المتخثرة..؟؟ أليس على الرواية العربية أن تقوم في جوهرها على استراتيجية الحفر في الطبائع الإنسانية، وأن تعرف كيف تشكل مسارها، وأن لا تنتهي إلى خلاصة أن الحياة هزيمة محققة..؟؟ وهل هنا يكمن حينها السر أو السبب في ديمومتها وخلودها..؟؟

وهل الستارة هي تلك التي تحجب حيثيات الحياة بالأحكام المسبقة والتقاليد البالية وبالقناعات الموروثة وبكل شيء نستخدمه لنعمي به أطفالنا عن التفاصيل والجمال الحقيقي للحياة اليومية..؟؟

ومن غير استعارة أو تذكّر المأثور التراثي بأن الشعر “ديوان العرب”، هل يمكن أن نتساءل عن الهموم والشجون التي تعيق الرواية العربية بأن تكون حيزاً كتابيا جديدا يعيد صياغة جوهر الأمة كما يرغب أفرادها أن تكون..؟؟

وهل الركن الاجتماعي الحداثي، الذي لا تنهض الرواية الاجتماعية ولا تقوم إلا به، لا يمكن له أن يكون أو يستوي بدون تحرر وطني حقيقي..؟؟

وهل الرواية العربية هي الحيّز الكتابي الذي نتطلع منذ بداياته إلى مجتمع عربي فيه الحداثة الاجتماعية والتحرر الوطني في آن معا..؟؟

وهل يمكن أن يشكل هذا فرقا بين فهم الحداثة كهدف بين الروايتين الأوروبية والعربية..؟؟

ربما تتصل التساؤلات ببعضها تماما كما يرتبط الهم بأشجانه، ومحاور الرواية العربية عموما تتباين من مجتمع إلى آخر، وفي الرواية الأوروبية يعود إلى أسباب تلت تحقيق الحداثة الاجتماعية هناك، وانتصار دولة الأمة عندهم.

أما محاورها في الرواية العربية فيعود إلى أسباب مختلفة تماما: فلا الحداثة تحققت، ولا التحرر الوطني وصل لغاياته المنشودة، ولا الدولة القومية الواحدة تحققت على أرض الواقع.

فهل يمكن أن يشكل هذا فرقا إضافيا لأهداف الرواية العربية عن الغربية، ومحرضا لها على أن تغادر ما يوضع لها من أهداف جديدة على قارعات الطرق، وأن يتوقف البعض عن اللهاث الراكض خلف ما يسمى: ما بعد الحداثة..؟؟

ليس السؤال هنا عن أزمان الرواية العربية ولا عن أزمان الهزيمة، بل عن الكائنات المشوهة التي أطلقتها الرواية العربية في معظمها، ممسوخة أو عاشقة أو مجنونة، وعن المخلوقات عميقة الكآبة، التي تسير في الروايات ولا تتطلع إلا للموت.

التساؤل عن اليوم والعصر الذي ما زالت تفتح فيه الرواية العربية عدساتها على كائنات بلا ملامح، يعاد توليفها مجددا بحيوات يساكنها الموت وتعيش في مجتمعات ملتهبة تطلق مخلوقات مهزومة في كل الاتجاهات. فإلى أي عوالم مأساوية تنتمي رواياتنا اليوم..؟؟

أقف حائراً على روايات أبطالها يحرّضون ولا يعدون بشيء. وسردها يطرح تساؤلات ويستبعد اليقين، أو أي إجابات ممكنة.

فإلى متى نحمل هذا القلق..؟؟ وهل ثمة أمل بأن يسعى الفن بكل أشكاله في بلادنا ليكون في خدمة الحياة الاجتماعية، لينتج جمالية التكرار، ومساعدة الفرد على الاندماج بسلام وفرح في نفق هذا الوجود الذي نحيا فيه..؟؟

 

 

الرمادي يليق بك: الشحنة السياسية الملتبسة في رواية مستغانمي

 

إبراهيم علوش

 

 

لو انتشلنا المقتطفات التي تتناول شأناً سياسياً مباشراً في رواية “الأسود يليق بك” لأحلام مستغانمي (دار نوفل 2012)، وعرضناها بشكل متتالي، دون إذهال تكتيكات العشق وأوتار الكلمات وسياسات العلاقات العاطفية المحيطة بها، لما التبس المعنى المستتر على الإطلاق في أعين أي مواطن عربي وطني أو قومي، ولما كانت هناك ضرورة لكتابة هذه المادة.  أما حين تتسرب الحرب في الحب، بجرعاتٍ محسوبة جيداً، عبر ثنايا الصور واللقطات والحوار في رواية “الأسود يليق بك”، على كل ما هو وطني وقومي، وكل المعاني النضالية الكبرى، من أجل إثارة الإحباط السياسي وتكريس مرجعية السعادة الفردية على حطام الوطن وقضاياه العامة، فإن لفت النظر للرسالة السياسية الملتبسة في تلك الرواية يصبح عملاً وطنياً قبل أن يكون نقداً أدبياً، أو قل أنه نقد أدبي ملتزم وطنياً وقومياً.

 

حتى لا ننطلق من حكم مسبق، فلنعرض بعض تلك المقتطفات كما هي حسب تسلسلها عبر صفحات رواية مستغانمي:

 

– “كان فيه شيء من غيفارا… دون أن يفرق بين الظالم الحقيقي والظالم المدجج بسيف العدالة” (ص 69).

 

– “الخيار إذن بين قتلة يزايدون عليك في الدين… وآخرين مزايدين عليك في الوطنية” (ص 70).

 

– “خرجَت للغناء لكسر القيود التي يكبل بها الرجل العربي المرأة، لا لتتحدى القتلة.  ثم ماذا لو كان الجيش هو الذي يقتل الأبرياء.. ثم يقدم نفسه كطوق نجاة فيفضل الناس الطاعون على الكوليرا؟!” (ص 78).

 

– “وتدري أن كل شيء كان ممكناً في وطنٍ من فوق قبوره تبرم صفقات الكبار، وتحت نعال المتحكمين بمصيره يموت السذج الصغار” (ص 78).

 

– “في لبنان، ما من قضية إلا وتصب في جيب أحد.  فليعمل المرء إذا لجيبه.. بدل أن يموت ليصنع ثراء لصوص القضايا، وأثرياء النضال، المقيمين في القصور والمتنقلين بطائراتهم الخاصة.  شرفاء الزمن الجميل، ذهبت بهم الحرب، كما ذهبت بأبيه…” (ص 84).

 

– “هل ثمة ميتة أغبى؟” (ص 84)… ثم على الصفحة التي تليها مباشرة: “وثمة عبثية الشهيد الأخير في المعركة الأخيرة، عندما يتعانق الطرفان فوق جثته.. ويسافران معاً ليقبضا من بلادٍ أخرى ثمن المصالحة.. إلى حين” (ص 85).

 

– “حتى الكلمات تتطلب منه إعادة نظر: “الوطن”، “الشهيد”، “القتيل”، “الضحية”، “الجيش”، “الحقيقة”، “الإرهاب”، “الإسلام”، “الجهاد”، “الثورة”، “المؤامرة”، “الكفار”: أتعبته اللغة.  أثقلته.  يريد هواءً نظيفاً لا لغة فيه. لا فصحى ولا فصاحة ولا مزايدات.  كلمات عادية، لا تنتهي بفتحة أو ضمة أو كسرة.. بل بسكون.  يريد الصمت” (ص 95).

 

– “سمعوا صوته وهو يستجدي قتلته، ثم شهقة موته وصوت ارتطام جسده بالأرض، عندما غادروا مخابئهم بعد وقتٍ، كان أرضاً وسط بركة دم، راسه شبه مفصول عن جسده، ولحيته مخضبة بدمه.  كانت لحيته هي شبهته، فقد دخل الجيش إلى حماه لينظفها من الإسلاميين، فمحاها من الوجود” (ص 194).

 

– “كانت حماه الورعة التقية تدفن ثلاثين ألف قتيل في بضعة أيام، بعضهم دفن الوديعة في جنح الظلام.  كان ثمة زحمة موت، لذا لم يحظَ الراحلون بدمعٍ كثير.  وحدهم الموتى كانوا يمشون في جنازات بعضهم” (ص 194).

 

– “العرب لا يفهمون شيئاً في الكلاب، لذا ترين شعوباً بكاملها مهرولةً خلف طغاتها تستجدي أبوتها” (ص 272).

 

– “إنها في النهاية كالشعوب العربية، حتى وهي تطمح للتحرر، تحنّ لجلادها.  مثلها، تتآمر على نفسها، تخلق أصنامها، تقبل يد خانقها، تغفر لقاتلها، وتواصل تلميع التماثيل بعد سقوطها، تغسلها بالدموع من دم جرائمها” (ص 308).

 

– (عن العراق) “لننجو من طاغية، نستنجد دوماً بمحتل، فيستنجد بدوره بقطّاع طرق التاريخ، ويسلمهم الوطن” (ص 322).

 

فليلاحظ القارئ الكريم أن المقتطفات أعلاه أخذت حرفياً كما هي، دون اللجوء لتأويل النص الحافل بمعانٍ أخرى متضمنة ليست بالضرورة بالوضوح نفسه.  وكنت قد تناولت بعض تلك المعاني في مادة سابقة عن كتاب آخر لمستغانمي بعنوان “عقدة أحلام في التهجم على صدام: قلبها معنا وقنابلها علينا“، حيث مررت سريعاً على فكرة تكسير النموذج الوطني أو النضالي في ثلاثية أحلام (ذاكرة الجسد – فوضى الحواس – عابر سرير)، خالد بن طوبال نموذجاً، لتكمل ذلك بمحاولة تكسير نموذج صدام حسين بعد استشهاده على يد الأمريكان، والمقاتلين العرب الذين استشهدوا في مواجهة الأمريكان في العراق، في كتابها “قلوبهم معنا وقنابلهم علينا”.

 

أما في رواية “الأسود يليق بك” فإن الهدف هو تكسير الفكرة – الخطاب – المعنى الوطني أو النضالي، بالمعنى المجرد، من خلال فكرة “الحياد” السياسي، والانتماء للذات الفردية المهاجرة عن كل انتماء ذي معنى عام.  ومع أن تلك رسالة ليبرالية صرف، فإنها تنصَبّ في حالة “الأسود يليق بك” على تأسيس رسالة سياسية مزدوجة: الدفاع عن التكفيريين في مواجهة ما تعتبره الرواية “أنظمة ديكتاتورية”، ومهاجمة التكفيريين باسم ما تعتبره “حقوق إنسان”، لتدين من يزايدون عليك، والحديث للمواطن العادي، باسم الدين أو الوطنية، ولتضع الجيوش الوطنية على قدم المساواة مع التكفيريين!  ثم يأتي تبخيس معنى الشهادة بالمطلق (“هل ثمة ميتة أغبى؟”)، دون تقديم أي نموذج مقاوم بديل، غير انتهازي، لا يتاجر بالقضايا الوطنية، بل يخلص لها، لكي يشبه خطاب الرواية ما يسمعه المناضل من المحققين في أقبية الاحتلال وغرف التحقيق: إنهم يتاجرون بك، وعندما ينتهون منك ستجد نفسك وحدك!   والشعب العربي في مثل هذا السياق غبي، جاهل، فاقد للكرامة، يمجد من يقتلونه ويضطهدونه… فلا تكن كالشعب، بل لا تكن جزءاً منه أصلاً.  كن لوحدك.  واتبع أجندتك الخاصة.  أي كن فرداً فقط.

 

… ولهذا اقتضى التنويه، مع كل الاحترام والتقدير لمتابعي روايات أحلام مستغانمي التي لا تفتقد بكل تأكيد لعنصر الإثارة والتشويق، أسوة بالفيلم الهوليودي، والتي باتت عند كثيرين منهم موسوعةً لقوانين العلاقات العاطفية في المجتمع العربي.

 

 

الثورة بعيداً عن المثاليات في رواية (اللاز) للطاهر وطار

 

طالب جميل

 

ما يبقى في الوادي غير حجارة… بهذه الجملة ذات الدلالات الرمزية أنهى الروائي الجزائري الطاهر وطار (1936- 2010) روايته الشهيرة (اللاز)، هذه الجملة التي تكررت عدة مرات في الرواية وكأنها بداية الحدث ونهايته، ذلك الحدث المرتبط بالثورة الجزائرية وبالتحرر والتخلص من المستعمر.

 

هذه الرواية كانت أول رواية للطاهر وطار وقد صدرت عام 1974 وتدور أحداثها في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي استمر حوالي (132) عاماً حاول خلالها المستعمر طمس الهوية العربية للجزائر والزجّ بها في غياهب المجهول إلى أن نالت الجزائر استقلالها بعد قصة نضال طويلة، وبعد أن دفعت ثمناً له أكثر من مليوني شهيد.

 

 

(اللاز) هو لفظ عامي باللهجة العامية الجزائرية يطلَق على الشخص ذو النزعة الشيطانية، لذلك أطلق الراوي هذا اللفظ على بطل الرواية الذي هو عبارة عن شاب جزائري لقيط مجهول الأب، ويمثل في مراحل كثيرة من الرواية رحلة البحث عن الخلاص من خلال الخط الثوري الذي يخطّه لنفسه لاحقاً، حيث يحاول الراوي أن يوضح بشكل أو بآخر أن (اللاز) كان لقيطاً بالمعنى الأخلاقي، أما ظروف الاستعمار فهي التي كانت غير شرعية، ومفهوم اللقيط في هذه الرواية يحمل دلالة رمزية للواقع في حينه كتعبير عن فقدان الهوية، فهو اللقيط لكنه ابن الثورة الشرعية للشعب الجزائري.

 

 

عانى اللاز من نظرة المجتمع القاسية له كلقيط وتحول مع مرور الوقت إلى إنسان يهوى ممارسة الشرور وإيذاء الآخرين.  ولم يكد يتخلص من عالم الصعلكة والتستر حتى أحس فجأة بأنه إنسان آخر يجب أن يقوم بعمل عظيم يشعره بعظمة ذاته وطهرها ويحرره من الإحساس الفظيع بكونه لقيطاً ومنبوذاً من طرف المجتمع، وذلك بعد أن قرر الانخراط في صفوف الثورة، وبعد أن ساهم ظهور (زيدان) واعترافه له بأنه أبوه الحقيقي بهذا التحول الإيجابي في حياة اللاز على اعتبار أن وضوح معالم انتسابه البيولوجي ترافقت مع تشكل أيديولوجيا ثورية تحررية.

 

 

ينقلب أمر اللاز رأساً على عقب عندما يخبره زيدان بأنه أبوه الشرعي وتحدث في شخصيته ثورة وجودية ونفسية واجتماعية، لذلك يحاول التكفير عن جرائمه بحق المجتمع والنهوض من انحطاطه، ويستبسل في فرض شخصيته التي يريد أن يطهّرها فهو لا ينقصه شيء من صفات الرجال العظماء الذين أنجبتهم الجزائر، فيثور على ماضيه السيء والشيطاني ويرفع شعار النبل والشرف والكفاح ليصبح مناضلاً فاعلاً في صفوف الثورة، فيتسامى اللاز شيئاً فشيئاً وذلك بفضل زيدان.

 

يصوّر الراوي زيدان بالإنسان الثوري الملتزم المرتبط بقضيته والمتمسك بمبادئه والقائد الفذ ذو الخلفية الشيوعية الذي عاش لسنوات طويلة بعيداً عن الوطن ليعمل ويتعلم، وقد تنوعت ثقافته بين الفرنسية والروسية، ثم عاد إلى وطنه لينضم إلى الثوار وقد عاد وهو يحمل أفكاراً منظمة عن الثورة والوطن والتحرير، حيث سئل ذات يوم هل ما زلت شيوعياً؟ فأجاب: وما يهم إذا كان الإنسان أحمر أم أبيض ما دام يحارب العدو كما يحاربه الناس فالمهم أن نقاتل جنباً إلى جنب ونتحمل نفس المشاق وننظر إلى العدو نظرة واحدة.

 

بعد التحاق اللاز بصفوف الثوار عن طريق والده زيدان يبدأ بالعمل مع فرق المقاومة إلى أن يكتشف أمره حيث يتم اعتقاله وتعذيبه إلى درجة كادت أن توصله إلى حافة الانهيار، فقد تلقّى لكمات وصفعات وضربات بمؤخرات البنادق، ثم يتم تهريبه بعدها ليعود مرة أخرى للعمل مع الثوار.

 

تتدحرج أحداث الرواية لتصل إلى الحدث المؤلم المتمثل بقيام أحد (شيوخ) المقاومة بإلقاء القبض على زيدان وبعض المتطوعين الأوروبين الذين كانوا يعملون مع الثوار، فيطلب منهم التبرؤ من مبادئهم والدخول في الإسلام وإذا لم يستجيبوا فسيتم ذبحهم، فيرفض زيدان ورفاقه الاستجابة لمطالب الشيخ والارتداد عن عقيدتهم ومبادئهم فيتم ذبحهم أمام أعين اللاز الذي صاح في تلك اللحظة: ما يبقى في الوادي غير حجارة.

 

 

شخصية الشيخ في الرواية يتم تصويرها بأنها شخصية تعبر عن الجناح الرجعي في الثورة وذات الوقار المفتعل من خلال قيامه بنصب كمين لزيدان ورفاقه وذبحهم بعد أن رفضوا التخلي عن معتقدهم الأيديولوجي وخيانة مبادئهم.

 

يفقد اللاز صوابه بعد نحر والده حيث يتحول إلى لاجئ ومتشرد يطوف من مركز عسكري لآخر ومن خيمة لاجىء لآخر يهتف دون وعي: ما يبقى في الوادي غير حجارة… والناس يتساءلون عما يمكن أن يعنيه!!

 

على الرغم من كلاسيكية الموضوع المطروح في الرواية إلا أنه غني بموضوعه التاريخي المعاصر ومليء بالإشارات والدلالات التي تشكل الثورة الموضوع الرئيسي والقضية المركزية فيه، مع الإشارة وبشكل واضح إلى بعض الإشكالات التي صاحبت مسيرة الثورة الجزائرية كالخلافات بين الثوار لصالح الأيديولوجيا الحزبية وبطش الثوار بعضهم ببعض، عدا عن أنها تناولت الواقع الاجتماعي المتردي والمتأزم نتيجة قمع وتسلط قوى الاستعمار، كما أنها رسخت لفكرة أن المثقفين هم الذين يمثلون الطليعة في المجتمع.

 

أما ميّزة هذه الرواية في الجزائر، فهي أنها تعتبر العمل الأول الذي مهّد لظهور الرواية الوطنية المكتوبة بالعربية والتي كانت حرب التحرير مادة لها، فلحقتها أعمال كثيرة تحمل ذات الاتجاه بعد فترة من طغيان صدور أعمال أدبية لكتاب جزائريين باللغة الفرنسية، لذلك وصف الطاهر وطار ذات يوم من يكتبون بالفرنسية بأن عيونهم على الصهاينة لكي يأخذوا بأيديهم في باريس لأنهم ارتضوا ألا يكتبوا لقومهم وارتضوا أن يتوجهوا لآخرين.

 

قدم الطاهر وطار عدداً من المجموعات القصصية والروايات المهمة التي رصدت الكثير من جوانب النضال الوطني بقالب فني وإبداعي متميز، وتطرقت لمظاهر الفساد والقهر والانتهازية السياسية والظلم والتخلف وتناولت مفاصل مهمة من مشاهد الحياة السياسية والاجتماعية والتاريخية المعاصرة في الجزائر بلغة شعبية واقعية تستلهم الموروث الشعبي والديني الجزائري.

 

 

تجدر الإشارة هنا إلى أن الحس القومي العربي له إيقاع وتأثير في أعمال الطاهر وطار ويظهر جلياً في هذه الرواية عندما يمتزج الوعي الوطني بالوعي القومي فيعلو الصوت:

(…لسنا وحدنا نطمع بكل هذا ..هناك أيضاً المصريون والتونسيون والمغاربة، وحتى الكفار أيضاً…فيهم من يعاني مثل وضعنا، ففي الهند الصينية أناس مثلنا، ولو أن جينهم يختلف).

 

 

ثنائية الرجل والمرأة في الرواية العربية…ثلاثة نماذج مختارة

معاوية موسى

 

لا يبدو وضع المرأة في المشرق حالياً أكثر وضوحاً من الصورة الفقهية القاتمة الجوانب التي ترسمها داعش وأخواتها في هذه المنطقة التي استجابت دونما إبطاء لمطالب العبيد والإماء بالتحرر من رسن العبودية في بدايات القرن المنصرم.  وقد جاءت داعش وأخواتها لتُخْرِج علينا من نافذة الحروب وفقهها فتاوى السبايا، لنعود من جديد للمربع الأول من علاقة الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى.  فبين الحبيبة والمحبوبة والمحبوب والحبيب فواصل من الطاعة وواجبات الزواج وحقوق السيد والسيدة على المملوكة والمملوك.  بين المشاعر التي لا يحكمها عقل وبين العقل الفقهي الجامد الذي يلخص عقد الزواج بامتلاك بَضْع المرأة ( وبهذه الصيغة التشريعية ) تمر شتاءات القلب و خريفه بين مد وجزر .

 

الرواية التي تحمل فن الحكي العربي على ظهرها اليوم بلا سند.  للسارد اليوم حق الوقوف والتصوير.  فبعد نجيب محفوظ الذي وضع المرأة بواقعية في موضعها الذي كانته في بدايات القرن المنصرم، برز روائيون من خارج مصر يحملون معهم بصمات الحداثة وتشوهات القلب المشرقي الذي عاش في الغرب فلم يعد يعرف من يكون السيد في هذه العلاقة، لقد خرج منها ينظم على طرفي المتوسط قصيدة موازاة بين المرأة الأرض والتاريخ في علاقة سِمَتها التوتر .

 

عند الطيب صالح في رائعته ( موسم الهجرة إلى الشمال )، التي نشرت في العام ١٩٦٦، المرأة المحبوبة الأجنبية بنت المستعمر، والامتداد الطبيعي له، تلك التي تفهمه حقاً وتعرف لغة عقله وقلبه، تلك التي يغويها بأساطير الغابات الممتدة على خط الاستواء وروائح الصندل والبخور لينتقم من هذا العالم جنسياً.  هذا العالم الاستعماري الذي يكتشف فضائحه، فينتقم منه، بشكل امرأة تتجاوز حدود العقل إلى صحراء القلب، فتكنس الدفء منها إلى أن تتجمد، ليعود البطل محملاً بخيباته إلى بلده، فيتزوج من جديد امرأة تصيبها علاقتها به بمرض الثلج، لتقطع أوصال الماضي الذي يبيعها لعجوز يريد أن ينكحها غصباً في علاقة انتحارية لا عودة فيها و منها إليه.  إن امرأة الطيب صالح لا تساوم على مستقبلها ولا تقبل أن تباع كما العبيد من زوج لآخر .

 

إن المرأة لدى الطيب صالح لا تشبه لاحقتها في رواية عبد الرحمن منيف ( قصة حب مجوسية ) . البطل الذكر المحب الولهان هنا لا توقد نار المجوس في قلبه (تلك النار التي لا تنطفيء ) – و بعد عدة علاقات غرامية – إلا امرأة متزوجة، في خط يسترجع التاريخ العربي العذري، لا يلتقي في نهايتها الحبيب بمحبوبته، لكن الحوار الداخلي يمتد على طول فاجعة البعد والقرب، وألم المساومة مع القلب يطغى على كل شيء في سطورها، وما يلفت النظر فيها أن المسرح الروائي وشخوص الرواية جميعهم من بلاد اوروبا خارج الوطن العربي.  وإن كانت هذه الرواية الثانية في النشر بعد الأشجار واغتيال مرزوق ( نشرت قصة حب مجوسية في العام ١٩٧٤ التي – والحديث هنا عن الاشجار واغتيال مرزوق – تقع في بلاد العرب)، تأتي قصة حب مجوسية فريدة بين رواياته التي يسيطر عليها المكان العربي، فالرواية تقع خارج الوطن العربي.  يبدو أن عبد الرحمن لم يستسغ أن تكون علاقة الحب السوية التي تنتهي نهاية طبيعية بعودة الجميع الى أشغالهم، لم يستسغ أن تكون عربية، فلا فناء هنا ولا انتحار، وبعكس بطلاته اللواتي هن أكثر جرأة في أغلب أعماله، فبطلته هنا صامتة.  إنها علاقة الجيل ربما بالنساء، هذا الجيل الذي كان شاهداً على بدايات الخروج من الشرنقة وسطوة المجتمع الذكوري.

 

في عام ٢٠١٢ أصدرت دار الفيل لعباد يحيى رواية ( رام الله الشقراء ) “رواية ترصد التغيرات التي طرأت على رام الله مؤخّراً، الغزو الناعم لمنظمات التمويل الأجنبي”، بعد “ربيع عربي” لم تتفتح أزهاره إلا على خراب، رواية تحمل في طياتها التباس العلاقة الفردية بين العربي والأجنبي القادم إلى بلاد لا يدخلها إلا أهلها ( فالضفة الغربية لا يسكنها إلا أهلها ولا يسمح لغيرهم بسكناها والأجانب فيها عابرون ).  تشتبك على طول الرواية في الرسائل كلمات شاب وفتاة يتبادلان الحوار الندي على صفحات الفيسبوك – وسيلة التواصل الحديثة التي قامت بنقل “الثورات العربية” الى الشبكة العنكبوتية – هذا الحوار بين الأخذ والجذب يضع نموذجين: نموذج المرأة الأجنبية المتهتكة التي تأسر الشباب العربي، والتي لا يعلم أحد بالضبط طبيعة صلتها باجهزة المخابرات الغربية، في مقابل الفتاة الرصينة الجادة العربية، التي تؤسس لعلاقة ملؤها التفاهم بينها وبين بطل الرواية، في تحدٍ غريب ينتهي بافتراقهما دون لقاء، بعد أن تغويه فاتنة غربية لينضم إلى السرب الماضي غرباً .

 

هذه النقلة في العلاقة بين الرجل و المرأة و إصرار الروائي العربي على الفراق، كنهاية حتمية لثنائية الرجل والمرأة، تحث الخطى بنا نحو السذاجة النقية لعلاقة أفلاطونية عذريةٍ قابعة في المخيال العربي، لامرأة ما إن تحبها وتحبك حتى تصبح ملك النظام الأبوي خارج إطار القلب، فلا لقاء بين محبين اثنين.  إن السرد العربي المجروح لا يزال يتمدد في أشعار المحبين، ولا تزال قصص عفراء وليلى وعزة وقود الليالي العربية الحزينة حيث يجتمع المخيال العربي الحديث بتراثه .

 

الأدب الروائي ، المحتوى السياسي والثقافي …..

 

 

جميل ناجي

 

 

نستطيع اليوم اعتبار الرواية أهم شكل أدبي في العصر الحديث فاق الشعر وكافة أنواع الأدب الأخرى في شيوعه وتأثيره.  فهي واحدة من أدوات التعبير التي استطاعت أن تتغلغل في المجتمع بكافة شرائحه وأنماطه. وباعتبارها مادة نثرية فهي سلسة القراءة ومرنة في نقل الفكرة والأخطر أنها تمتاز بالسيطرة العالية على القارئ على المستوى الواعي أو اللاواعي، فهي تمثل مادة إعلانية ضخمة وأداة من أهم أدوات نشر الأفكار على الصعيد الثقافي العربي والعالمي.

 

 

أما الرواية العربية التي تأخذ طابعاً تاريخياً، وخاصة التاريخ السياسي، فهي تمتلك ميزة إضافية على حساب الروايات التي تعالج إشكاليات اجتماعية وغيرها، بحكم الجوع للتاريخ الذهبي كفكرة سائدة في المجتمع. ومن ناحية أخرى، تتمحور عقلية المجتمعات المتأخرة نسبيا على الماضي، خلافا للأمم الأكثر تقدما المتمحورة على المستقبل. على سبيل المثال: تاريخ الثورات، تاريخ العرب ما قبل الإسلام وبعده، وما يتضمنه ذلك من رؤية سياسية للأحداث.

 

 

هنالك موضوع آخر يتعلق بالرواية ذات الطابع السياسي التي تعطي القارئ أو “المثقف” نوعاً من الرضى في الفهم على حساب المشاركة الفعلية بالحدث السياسي القائم، إضافة طبعا إلى نوع الرسالة السياسية ضمن إطار النص الروائي، إضافة إلى الكتابة المنمقة المكثفة بالأفكار التي تسلب العقول وتستدعي الدهشة، وتفرض قداسة معينه على أصحابها، هم أبعد ما يكونون عليها ثقافيا وسياسيا كمحمود درويش في الشعر والموقف السياسي على سبيل المثال.

 

 

وإذ نضع الرواية تحت المجهر هنا، فإننا لا ننظر إطلاقا إلى الجانب الأدبي في التحليل الروائي، أو ندّعي معرفته، فله أساتذته ومريديه.  فما يعنينا هنا أهم من لعبة صياغة الكلام، وهو النقد السياسي والثقافي الغائب عموما عن الساحة العربية.  فالمسألة كما نراها لا تتعلق بمدى التزام الكاتب الروائي بأسس النص أو السرد الروائي بقدر ما يحمله النص من رسالة سياسية أو ثقافية.  وهذا ما نبحثه ضمن هذا الإطار، بمعنى تجاوز التفاصيل لحساب الرؤية السياسية الثقافية العامة، بغض النظر عن مدى جودة الرواية أو سوءها أدبياً، فالمعيار والمقياس السياسي قد يختلف تماما.  فكثير من الروايات التي تلقى اهتماما نقديا وبحثيا أو انتشارا كبيرا قد تتضمن خطاباً سياسياً وثقافياً عفناً، والعكس صحيح.

 

 

عند التطرق للأدب والفن عامة يلوح في الأفق دائما الكتاب الشهير “من يدفع للزمار؟”  للكاتبة الإنجليزية فرانسيس سوندرز الذي يناقش أنّ الحرب الباردة لم تكن في أحد جوانبها سوى حرب ثقافية حاولت فيها وكالة المخابرات الأمريكية نشر الفكر الليبرالي أمام المد الشيوعي آنذاك بكافة الطرق والسبل المتاحة.  بمعنى أنّ الأمريكان  نصّبوا أنفسهم رعاةً للثقافة، والآداب والفنون، من خلال دعم أو شراء الأدباء والمفكرين، أو الوقوف في وجه آخرين وغيره.  وما زالت تلك الحرب قائمة طبعا، فالتفكيك الثقافي يبقى واحداً من أهم الأدوات الإمبريالية في السيطرة.

 

 

بالتالي السؤال المهم هنا يبقى: من أو ما الذي يفرض المحتوى السياسي والثقافي للأدب عامة، والنص الروائي خاصة ؟؟  ولماذا تسود كتابات محددة أو روائيين معينين على حساب آخرين في مرحلة تاريخية ما؟؟  فالساحة الإعلامية والثقافية ومراكز النشر لا تنتظر الثوريين والمناهضين للإمبريالية والصهيونية بفارغ الصبر.  والواقع القائم ليس ثوريا، بل ينتظر من الليبراليين والمفككين أن يتساقطوا بأنفسهم، والإمبريالية لم تترك السيف الثقافي والأدبي للمخلصين والثوريين طبعاً لكي يعتلوه.

 

 

وإننا إذ نتحدث عن موضوع الاختراق السياسي والثقافي على مستوى الأدب عامة، فالقائمة تطول عربيا، فمن متقاضٍ مباشر إلى مستلَب أو متغرب تماما عن عموم الواقع العربي.  ولا يمكن إلا أن ننظر بعين الريبة والشك إلى كافة الأعمال الأدبية والفكرية المتناثرة هنا وهناك، ومن ضمنها الأعمال الروائية، خاصة الأكثر انتشارا بينها، التي تحتاج حقيقة إلى إعادة قراءة المضامين ذات البعد السياسي فيها أو التوجه الثقافي العام بشكل مفصل.  فبعض الروايات الرائجة عربيا بحاجة الى تمحيص وتقييم بشكل منفرد،  قد نتصدى لبعضها في المقالات القادمة. ونخص هنا كتابات أمين معلوف ذات الطابع الليبرالي الصرْف في نظرته الروائية الاستشراقية للتاريخ، ويوسف زيدان الحاقد على فض العقل العربي إسلاميا.

 

 

على سبيل المثال أوردت الكاتبة غادة فؤاد سمان نموذجا قيما في كتابها “إسرائيليات بأقلام عربية – الدس الصهيوني” حول التحقق من مضامين النص الروائي لأحلام مستغانمي في رواية “ذاكرة الجسد” بعد أن أسقطت فدوى طوقان صديقة موشي ديان، ومحمود درويش صاحب الهالة المقدسة التي ضاعت في البحث عن الذات. على أي حال، تشير غادة إلى أن رواية ذاكرة جسد تمثل رواية تطبيعية بامتياز، من حيث أنها حاولت بناء الجسور مع كل ما هو يهودي ضمنيا، في الوقت الذي كانت تشوّه فيه الوطن “الجزائر”، إضافة إلى ردة الفعل أو الموقف العام من العمل النضالي عامة سواء عند المناضل الجزائري المبتور الذي أمضى حياته بين لوحاته السقيمة بعد انتهاء المعركة والذي تركته هي، أو الفلسطيني الذي تركها ليموت في أحضان بيروت في مواجهة العدو الصهيوني.  فكلاهما أنهى حياته عبثا كما ترى هي، لتذهب وترى خلاصها الفردي فيما بعد في أحضان رجل الدولة المتواطئ مع كل ما هو دنيء.

 

 

رسالة قذرة جدا بعبارات منمّقة جدا، تحاول فيها تشويه العمل النضالي لحساب ميزان خيارها الفردي… هذا ما حاولت أحلام مستغانمي على سبيل المثال إيصاله للقراء وخاصة الشباب منهم.  وهذا ما يجب التحقق منه في العمل الروائي أو الأدبي عامة قبل الخوض في تفاصيل الاهتمام بالعمل من الناحية الأدبية الصرْف.

 

 

نقطة أخيرة لقراء الروايات، لماذا يحاول نيكوس كزنتزاكس اليوناني في رواية زوربا المقارنة بين المثقف وزوربا صاحب التجربة “الممارس”، في محاولة لطرح فكرة جدلية بامتياز حول العلاقة بين النظرية والممارسة، بعد أن يستهل روايته بعبارة “لإنقاذ نفسك عليك أن تناضل من أجل الآخرين”، في الوقت الذي تحقق فيه بعض الروايات العربية التي تشوه مناضلينا ورموزنا وتسرق تاريخنا وتتبجح في نشر الفكر الليبرالي وخياراته الفردية، أعلى المبيعات؟  أتمنى أن يكون ذلك للنقد، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، ويبقى السؤال مطروحا على أي حال.

 

 

العربي بين الرواية والرواية

 

 

نور شبيطة

 

 

لو سمع عربيّ من العصور القديمة كلمة رواية لربطها بالشعر فوراً، فالرواية كانت عند العرب هي رواية الشعر، فيقولون فلان من الشعراء كان راويةً لشعر لفلان، أي أنه يستظهر شعره، وتنسحب على رواية الأحاديث ورواية الأقاصيص والأخبار، ومؤخراً باتت كلمةُ رواية اسماً لجنس أدبي مستقل وهو الرواية التي نعرفها اليوم.

 

 

رغم ما يقوله بعض النقاد والمؤرخين عن كون أقدم رواية في التأريخ “تصلنا كاملة” هي رواية (الحمار الذهبي) لأفولاي الأمازيغي 180 ق.م.، إلا أن الرواية في رأي كثيرين لم تظهر بشكلها الحالي الذي نعرف إلا في آيبيريا على يد سيرفانتيس في رائعته “دون كيخوته”، ولعلّ الجميع يتفق على أنها أول رواية حديثة، أثرت فيما بعد عالميّا وأنشأت سِمة الرواية الأبرز التي تفصلها عن الأجناس الأدبية المجاورة لها، وهذه السمة هي ما يصطلح عليه بالسرد متعدد الألحان، ألا وهو رواية الحدث من عدة وجهات نظر متراكبة، مما يوفر غوصاً في حقيقة الحدث وغوصاً في النفس الإنسانية، إلا أن الغوص في الحدث يورث ضبابية رؤيته بعكس الحكايا القديمة، والغوص في النفس الإنسانية يورث رؤية أكثر خصوبة لها بعكس الحكايا أيضا.

 

 

السرد الروائي هنا، بعكس السرد الإخباري، يقدم عدة وجهات نظر مما يترك الباب موارباً أمام الحقيقة، ويسقط سُلطة (صوت الراوي)، أي أنه يدعي تركه للقارئ حرية اختيار صورته عن الحقيقة، رغم أن هذا لا يحدث عادة، ولكن هذه هي مهمة هذا الجنس الأدبي عند كثير من النقاد، هنا لا بدّ أن نجعل الحديث يأخذ بعضه بأطراف بعض ونضيف أنّ هذه السمة أو المهمة كانت منوطة بالشعر عند العرب لا بالأسمار (الحكايا والأخبار- ما يُتسامر به)، ففي الشعر نجد الالتفات من وجهة نظر لأخرى، بين الشخوص وبين الأزمنة، ويخفت صوت الإخبار على الأقل في جيد الشعر، حتّى أن التأريخ للحدث بذاته كان من مهمات الشعر أيضاً، فقالوا: “الشعر ديوان العرب”.   فإذا كانت مهمتا الرواية وسمتاها الأساسيتان أقرب عند العرب للشعر، وهو بعيد بالنظر لشكله عن الرواية، فماذا كانت مهمة الأجناس العربية الأقرب شكلا للرواية؟ هذا السؤال سيكون الزاوية التي ستبين أننا إذ نتحدث عن الأجناس الأدبية المجاورة من جهة الشكل للرواية، فإننا نتحدث عن السمْت الروائي العربي قبل التغريب فالعولمة، أي نتحدث عن أصلٍ يمكن البناء عليه في حقل الرواية العربية.

 

 

لكن دعونا أولاً نفهم لماذا كان الشعر ديوان العرب، وهذا يرجع لشرط في بنية الشعر يجعله عصيا على التحريف، فنرى أن إنشاء القول شعراً كفيل بحفظه لفظاً ومعنى، ومن جهتين أيضا حفظ في الصدور والحفظ من التحريف، وقد لجأ النحاة والفقهاء لفكرة النظْم لتسهيل حفظ القواعد الجامدة، لأن النظم المتوفر في الشعر كشرط فني يجعله أسهل للاستظهار، من جهة أخرى فالنظم يحد من إمكانية إبدال كلمة مكان كلمة وإن كانت من مرادفاتها، وهذا وفر لثقافة سمعية شفاهية كثقافة عرب الجزيرة وسيلةً تقربها من التدوين الكتابي، لكن يبقى أن الشعر كان قابلا للتحريف من حيث نسبة القصيدة لقائل غير قائلها، أو إبدال السياق الذي قيلت فيه، مما يغير المعنى بشكل رئيس لا يمكن تجاهله، ولذلك فراوية الشعر كان ملزما برواية سياق القصيدة، أو اختلاق سياق لها في بعض الحالات مما يدخل الشعر بطريقة أو بأخرى كمسمار ثابت في لوح الأسمار المتحرك، ونرى ذلك جليا عند تتبع أصول أخبار سيرة من السير، إذ نجد الحكاء أو القاصّ يركب من الأخبار المتفرقة التي حدثت مع شخوص مختلفة رواية سيرة متكاملة تحدث مع شخوص السيرة ذاتها.

 

كل ما سبق يمكننا من فهم كيف لبّى العربي حاجته للتدوين التاريخي مما يسمح بتراكم التجربة العربية، وكيف حقق الاتصال بين الأجيال وهو الضروري جدا لإضفاء صفة التراكمية على الثقافة العربية حتى البدوية منها، وجواباً على السؤال المؤجل عن وظيفة الأجناس الأدبية الأقرب للرواية، نستطيع أن نتلمس دور الحكاية، تخييلية كانت أم إخبارية، في قصص الأمثال التي حافظت على مستويات عُليا من معنى المثل، وفي أيام العرب التي حافظت على الإطار السياقي للشعر فحفظت معناه، وفي الحكاية الشعبية في بُعدها الميثولوجيّ والأسطوري المعني بنقل الحكمة بين الأجيال، وفي غيرها من الأسمار إذ أناط العربي بالشعر مهمة السرد المتعدد الألحان (كأن يتحدث على لسان الذئب والجبل والحمامة)، وأناط النسق الروائي والإطار السياقي بالجزء السرديّ من الحكاية.

 

 

وكإشارة مقتضبة لمثال على هذا الرأي نذكر الحكاية العربية الأشهر “ألف ليلة وليلة” التي استطاعت نقل محتوى هندي وفارسي (كما يقال) وضمتها للمحتوى العربي من حكايات، في شكل عربي من القصص المتداخل قصة في قصة (وهو طابع حكائي عربي صرف) مطرزة بشعر عربي خالص، يبدو طبيعيا وروده في سياق القصة، مع أنه قيل من قِبَل شعراء في مواقف حقيقية حدثت على أرض الواقع، لا بين شخصيات وهمية وُجدَت لتشكل حاملا لهذا المحتوى السردي، وفي الآن ذاته لُحمةً لسدى المقطعات الشعرية المتناثرة فيها، أو لنقل مادة روائية مالئة تغمر الشعر فتؤطره وتحفظه وتحسن التقديم له.  لكن هذا النظام القصصي ورد في روايات أخرى، فحريّ بنا أن نتجاوز البحث في أثره وإمكانياته، إلى البحث في معناه هو كنمط نظام كلامي بغض النظر عن محتواه، فنحن نجده في (كليلة ودمنة) أيضا، وفي سور قرآنية، وفي المقامة، وغيرها.

 

 

وفي محاولة لتجريد صورة هذا النمط العربي في السرد، لننظر المثال التالي لتعاقب سردي عربي افتراضي: [قول إنشائي استفتاحي مضمونه على الخاطر العام لكن زاوية تناوله خاصة بموضوع الحكاية، بداية الحكاية (أ)، مآل الحكاية (ب)، عبرة الحكاية (ج) كاملة، حكمة، بداية الحكاية (ب)، تتمة الحكاية (أ)، حكمة مبنية على المشترك في كل ما سبق]… وهذا التعاقب مبسط، لتسهيل التعامل معه، قد نجده في بعض سور القرآن. ففي ألف ليلة وليلة مثلا الحكاية (أ) تتضمن داخلها مئات الحكايات، كذلك في كليلة ودمنة، وهذا النمط لا يُعرف في هذه الأيام نموذجٌ منه أقدم من القرآن، ويغلب على الظن أن منشأه قرآني، ونلاحظ في هذا النمط إغلاقاً للرواية بطريقة حمائية، تجعل من نقل حكاية واحدة من الحكايات نقلا مخلاً بالمعنى الكلي بالضرورة، ما يقابل فكرة عدم جواز تعضية القرآن، لأنها تؤدي بالضرورة إلى معنى خاطئ، على عكس الشعر الذي يركب من وحدات تامة المعنى في مقطع أو بيت أو شطر، وإن كان تجاورها ينتج معنى تكامليا أكثر شمولية، كما أن تداخل الحكايات وتراكبها وتفرعها واشتباكها في نظام السرد العربي ينتج معنى للحكاية الكبيرة (أ) لا يمكن فصله عن الحكايات الداخلية فيها، لكن الحكاية (ج) مثلا يمكن أن تنقل مستقلة بصفتها حكاية مسمطة لا تحتوي في داخلها حكايات فرعية، وهذا نظام اختياري فالتراث العربي مليء بالقصص الشعبي البعيدة عن هذا النظام، حتى أن القرآن ذاته ضرب مثلا للقصة المستقلة في سورة يوسف والتي من أولها لآخرها لا تحوي حكايات أخرى، وهذا يثبت أن هذا التداخل في النظام العربي هو خيار قصدي له معناه، وفي اعتقادي أنه يعبّر أول ما يعبّر عن نظرة عربية في فهم الكون، قرآنية النشأة، أي أنه يمكن إطلاق صفة “إسلامية” عليها أيضاً، تقول بأن المعرفة كل لا يتجزأ، وتجزئتها وإن كانت ضرورية باعتبار محدودية قدرة الإنسان، فهي تسبب انحرافاً في الفهم إذا ظن الإنسان أن ما امتلك من حقيقة هي الحقيقة كاملة.

 

ومن المُعيب ألا تحظى الليالي (ألف ليلة وليلة) عربياً بالدرس الذي حظيت به أوروبياً وعالمياً، فهي وحسب كثير من الباحثين بئر روائية لا قرار لها، وهذا لا يعني أنها لم تدرس وإنما نحن نتكلم عن كمّ الدراسة ونوعها، فالدراسات العربية لليالي، كانت غالباً تدور في فلك الدراسات الغربية لها، وهي أهمِلت مؤخراً لأنها تحتوي على مشاهد “مخلة بالحياء” المتأسلم الزائف، أي أنها لم تكن أخذت حقها واليوم تظلم، خصوصاً في المشرق العربي، فالمغرب العربي منذ أفولاي الأمازيغي وحتى اليوم، مروراً بالسيرة الهلالية وحي بن يقظان وغيرها، كان معنياً بالسرد أكثر من الشعر، ولا غرابة أن ينطلق السرد المتعدد الألحان من إسبانيا بُعيد سقوط الأندلس، ويمكننا استنكاه الأنواع السردية في الليالي من زوايا المقاربات التي درستها، ومنها (حسب د.سعاد مسكين في خزانة شهرزاد):

 

  1. “ما ركّز على الجانب الموضوعاتي في رصد صور المجتمع العربي، والعلاقات التي تربط بين مختلف فئاته، وفي إظهار أساليب الحكم ومقومات الخلافة، ثم في الإحاطة بالأبعاد الأخلاقية والسلوكية للإنسان العربي في تلك الفترة.
  2. ومنها ما اتخذ من التاريخ مقوماً استراتيجياً للمماثلة بين الأحداث الحكائية للنص، والأحداث الواقعية عبر المقارنة بينهما…
  3. سلكت دراسات أخرى منحى مقارنا بين الليالي العربية، وبين بعض النصوص العالمية لإبراز مدى تأثر الثقافات الغربية بها، والانجذاب نحوها.
  4. دون أن ننسى تلك المقاربات التي حاولت التأصيل لها، بالبحث في جذورها لمعرفة مؤلفها الحقيقي، وقد شكلت أبحاث المستشرقين اللبنة الأولى لهذا النمط من الأبحاث.”

 

نكتفي بهذا القدر من الحديث الوصفي عن نظام السرد العربي، لنعود للفكرة الأساس لهذه المقالة، وهي أن الإغراق في الذاتية الذي يرافق السرد المتعدد الألحان – وهو يبقى ذاتيا ولو كان يرد على لسان أكثر من شخص-  تركه العرب للشعر، وأناطوا بالسرد العربي مهمات أخرى أوسع من ذلك، ولا نطلب هنا انغلاق الثقافة العربية على نفسها، لكن نؤكد أن الدراسات التي تعافت من النفس الإستعماري، سواء عند المستعمِر أو المستعمَر، وجدت في أنماط السرد العربي غنى لا مثيل له، والبناءُ على هذا الإرث الضخم ينتج أدبا يعيد تعريب الذات العربية دون استنساخها عن الغرب، ودون الرجوع فيها إلى الزمن الماضي، لاسيما وأن البناء على هذا الإرث لم يتوقف ولكنه اتخذ طابع الأسلمة والحنين المَرَضيّ إلى الماضي، الذي لا يبرره إلا استشعارنا لسوء الحاضر.

 

 

هذا الذي يحدث اليوم من تعلق الجماهير العريضة بالواقع الإفتراضي القصصي الذي يقدمه لهم الكهنة المسلمون من “الشيوخ” بطريقة الثقافة الشفاهية ذاتها، يمكن فهمه بطريقة تسمح بتوظيفه توظيفا نهضويا وحدويا تحرريا، لا يُهمل مركزية الحكاية أو السرد العروبيّ النظام في بناء الذات العربية الحديثة، لا لصالح استغلال إرثه شكلاً أو مضموناً في عملية إنتاج نمط تديّن متخلّف، ولا لصالح الارتهان لوجهة نظر الأدب العالمي وحدها، لا سيما وأن العالم عند الكثيرين يعني الغرب المستبدّ وحده! تعدد وجهات النظر مهم، فما تبصره العين الواحدة كصورة مسطحة تختفي منها الأبعاد، إذا أضيف لما تبصره عين أخرى فهو يساهم في تكوين صورة أقرب للحقيقة، أي أنه ثمة مساحة بين رواية العربي للشعر والأحاديث والأخبار، وبين “فن الرواية” الغربي (فن الرواية اسم كتاب في التنظير للرواية للروائي ميلان كونديرا)، هذه المساحة يغطيها السرد العربي بالكامل تقريباً (التقريب سببه اختفاء بعض الأجناس كروايات الخيال العلمي مثلاً، وليس اختفاء التقنيات السردية).

 

 

ونستطيع أن ننطلق من هذه المساحة لرواية عربية لا تتحول لأحلام يقظة معلبة يبيعها رأس المال للناس لكي يحسوا أنهم يعيشون حياتهم المعطلة، أو يشتريها من يساريين ليحسوا أنهم قاموا بثوراتهم الوهمية، ودون أن تفكك الوعي العربي وتنهكه في متاهة اختلاف وجهات النظر الذاتية عن العالم الحقيقي خارجنا، فتُمحوِر ثقافتنا حول الفرد بدلا من الجماعة، ودون أن تنقل اهتمام الذات العربية من الفعل إلى المشاعر والانعكاسات الذاتية (في السرد العربي تجد حتى أسماء الشخصيات مشتقة من فعلها أو دورها في الحكاية) لكن هذا لا يتأتى إلا بدراسة معمقة لا تخلو من افتراض وتجريب للنظام السردي القرآني المنشأ والعربي الطابع للحكاية المتداخلة، الذي بلغ من علو الشأن أن شكل لاوعي الأمة وحمّل عليه العرب يوما من الأيام حلمهم في التحرر والوحدة في تكرار فكرة المخلص، إلى أن أنجبته الأمة بالفعل بعد تشرّبها  لسرديته، وهو للآن لاوعي الأمة الجمعي الحاضر في القرآن الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار، والحاضر في الزخرفة العربية وسائر الفنون، والحاضر في حديث “الشيوخ” الكهنة، فمن انبرى لمهمة استعادة هذه الأداة لتكون معنا لا علينا، ووظفها في ما يخدم بناء الذات العربية المبتغاة، غير آبه بجوائز نوبل والبوكر وأوسكار ورفوف الأكثر مبيعاً، فقد أهدى أمته خلوداً على خلودها، ولا عجب أن تبادله هي الهدية!

 

 

 

 

 

 

تعريفات: جائزة نوبل للآداب

 

 

 

يصعب على أي مراقب أن ينكرَ البعد السياسي في اختيار المرشحين والفائزين بجائزة نوبل للسلام الذين تختارهم لجنة نوبل النرويجية سنوياً تقريباً منذ عام 1901 بناء على دورهم في القيام بأفضل عمل لتحقيق “الأخوة بين الأمم، ومن أجل إلغاء الجيوش أو تقليصها، وعقد مؤتمرات السلام والترويج لها”.   وتكفي نظرة واحدة على قائمة أسماء بعض الفائزين بجائزة نوبل للسلام لمعرفة طبيعة التوجه السياسي لمانحيها، ومنهم السياسي الأمريكي المخضرم هنري كيسينجر عام 1973،  والمنشق السوفييتي أندريه زخاروف عام 1975، وأنور السادات ومناحيم بيغن عام 1978، ومؤسس حركة “تضامن” البولندية المناهضة للسوفييت ليخ فاليسا عام 1983، والكاهن الأكبر لديانة “المحرقة” اليهودية أيليا ويزل عام 1986، والمنشق الصيني الدايلي لاما عام 1989، ومقوِض الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف عام 1990، وموقعو اتفاقية أوسلو ياسر عرفات وشمعون بيريز وإسحق رابين عام 1994، وكوفي عنان عام 2001، والمعارِضة الإيرانية شيرين عبادي عام 2003، ورئيس هيئة الطاقة النووية الدولية محمد البرادعي عام 2005، وأخيراً باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة، عام 2009… قبل أن ينهي ولايته أو ينجز شيئاً.

 

 

الطريف أن داعية اللاعنف المهاتما غاندي مثلاً، إن كان تشجيع محاربة اللاعنف هو هدف “نوبل للسلام”، لم يحصل على جائزة نوبل للسلام أبداً، مع أنه رُشّح لها عدة مرات!

 

 

بالمقابل، فإنّ جائزة نوبل للآداب التي تسيل لها ريالة عددٍ غير يسير من الأدباء والشعراء العرب، في سعيهم نحو “العالمية”، والتي دفعت أكثر من واحد بينهم للتنكر لهويته الوطنية والحضارية علناً وللقيام بخطوات تطبيعية مع العدو الصهيوني طمعاً فيها، هي جائزة يتم تحديد مرشحيها وفائزيها منذ عام 1901 من قبل “الأكاديمية السويدية”، وهي بالأساس جمعية ملكية سويدية من ثمانية عشر شخصاً تأسست من أجل الارتقاء باللغة السويدية… أي أن تلك الأكاديمية التي تمنح نوبل للآداب تأسست كمشروع قومي سويدي بالأساس.

 

 

لكن لا يتضح التحيّز السياسي المتضمن في “جائزة نوبل للآداب” بنفس الدرجة الصارخة التي يتضح في “جائزة نوبل للسلام”، خاصة أن جائزة الآداب تفيد موضوعياً في تعزيز توجهات ثقافية معينة في مرحلة تاريخية معينة، وخاصة أن بعض اليساريين مثل الشاعر الأمريكي اللاتيني من تشيلي بابلو نيرودا سبق أن حصل عليها عام 1971، وكان المنشق السوفييتي المعروف الكسندر سولزنيتسن Solzhenitsyn قد حصل عليها أيضاً عام 1970، وسبق أن نالها من قبله الروائي السوفييتي ميخائيل شولوخوف عام 1965، ولكن بعد مجموعة من الكتاب الوجوديين وغير الوجوديين من المناهضين للشيوعية في سنوات الحرب الباردة مثل الفيلسوف بيرتراند راسل عام 1950 وألبير كامو عام 57 وجان بول سارتر عام 64… أو خذ مثلاً الكاتب “الإسرائيلي” شموئيل يوسف أغنون الذي حصل على “نوبل للآداب” عام 66 لدوره في تصوير “حياة الشعب اليهودي”، أو خذ السياسي البريطاني ونستون تشرتشل، وزير المستعمرات سابقاً، ورئيس الوزراء خلال الحرب العالمية الثانية، الذي حصل على “نوبل للآداب” في عام 53 لكتاباته في حقل التاريخ والسير الذاتية، ولمهاراته الخطابية المتفوقة.

 

 

مع هذا، حصل الروائي غابريال غارسيال ماركيز على “نوبل للآداب” عام 82، كما حصل عليها الكاتب الأمريكي الكبير أرنست همنغواي عام 1954، أي بعد تشرتشل بسنة واحدة… النكهة اليسارية في بعض سنوات نوبل للأداب تجعل الصورة أكثر ضبابيةً إذن، لكن التوجه العام يبقى مسيّساً في السياق الثقافي العام الذي عبرت عنه الكاتبة البريطانية فرانسيس سوندرز أفضل تعبير في كتابها “من يدفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية”… وفي الثقافة بالذات، لا يمكن دوماً تجاهل المستوى الإبداعي للفائزين بنوبل للآداب إذا أراد مانحوها أن تحافظ على مصداقيتها، كما أن التحيز السياسي الصارخ يحوّل الجائزة بالضرورة من ثقافية إلى سياسية، ولذلك لا بد من الحفاظ على قدر ما من المهنية من أجل تحقيق الهدف السياسي، وهو تشكيل مناخ ثقافي يخدم استراتيجية سياسية.

 

 

ويرى كثير من نقاد “نوبل للآداب” بأنها تكرس مفهوم “المركزية الأوروبية” و”التقليد الأوروبي في الثقافة”، ويدللون على ذلك بأن الأغلبية العظمى من الفائزين بنوبل بكافة فروعها، ومنها الآداب، من الأوروبيين، ومن الأوروبيين الغربيين تحديداً.. وهناك من علق بأن عدم منح “نوبل للآداب” لكتاب كبار مثل ليو تولستوي وأنطون تشيخوف كان يعود لعداء السويد التقليدي لروسيا.

 

 

وتزداد نسب اليهود بقوة بين الحائزين على جائزة نوبل بكافة فروعها طبعاً، ومنهم مثلاً لا حصراً الكاتب المجري أمري كيرتيز الذي نال “نوبل للآداب” عام 2002 لكتاباته عن اليهود والمخرقة…  أما المسلمون الذين يرشحون للجائزة أو ينالونها، فهم قلة قليلة جداً، وحيث تجد أسماؤهم، تلاحظ أنهم عامة في حالة صدام مع مجتمعاتهم في مفاصل رئيسية، مثل قضية التطبيع مع العدو الصهيوني التي أيدها نجيب محفوظ الفائز بنوبل للآداب عام 1988، ومثل الكاتب الهندي سلمان رشدي واضع “آيات شيطانية” الذي رشح للجائزة ولم ينلها، ومنهم الكاتب التركي أورهان بوموك الذي نال “نوبل للآداب” عام 2006، الذي أثارت تصريحاته عن المجازر الجماعية ضد الأرمن والأكراد حفيظة كثير من الأتراك، بغض النظر عن صحة تلك التصريحات أو عدم صحتها، فليس هذا موضوعنا هنا.

 

 

لعل منح أورهان بوموك “نوبل للآداب” يتساوق مع التوجه الغربي والصهيوني للتركيز على شؤون الأقليات في سياق العولمة ومشروع التفكيك، وقد نالت جائزة نوبل للآداب في تشرين أول 2009 الكاتبة والشاعرة والروائية الألمانية من أصل روماني هيرتا ميولر Herta Muller، وهي كاتبة غير معروفة إلا لقلة قليلة حتى ضمن ألمانيا، موطنها، لكنها تنتمي للأقلية الألمانية في رومانيا تشاوشيسكو، وهي وزوجها معارضان لنظامه، وللشيوعية، ومدافعان عن حقوق الأقلية الألمانية في رومانيا، وينبثق عملها الإبداعي من تجربتها كجزء من تلك الأقلية العرقية، مع العلم أن “نوبل للآداب” تمنح عامةً، وليس دوماً، على مجموع الأعمال الإبداعية للمرشح، لا على عمل إبداعي محدد…  المهم أن الفائزة بنوبل عام 2009 ليست مبدعة معروفة ولا صاحبة مدرسة أدبية أو شعرية جديدة، فلا بد بالضرورة من البحث، لا في الأدب، بل في السياسة، عن سبب اختيارها.  وقد نالها في العام 2010 الروائي البيروفي ماريو فارغس جوسا الذي تحول من اليسار إلى الليبرالية الجديدة، وإلى ما بعد الحداثة بعد أن اشتهر بنقد القومية…

 

 

في النهاية لا بد من الإشارة أن ما يفهمه مانحو “نوبل للآداب” من كلمة “يسار” لا يعني بالضرورة أو دوماً الشيء نفسه الذي قد نفهمه نحن من تجربة فيديل كاسترو أو هو شي منّه أو حركات التحرر الوطني المناهضة للإمبريالية في العالم الثالث، أو الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن مثلاً.  فكثيراً ما يختلط تعبير “يساري” في الغرب بتعبير “ليبرالي”، حيث يعاد تعريف اليسار كليبرالية متطرفة ترفض الانتماء الوطني والقومي وتركز على الإنسان الفرد المجرد من السياق، وتتبنى حقوق الأقليات على حساب الأكثريات ونزعات التمرد الثقافي على كل ما هو سائد حتى ولو كان يسارياً أو اشتراكياً.

 

 

 

 

شخصية روائية عربية: غسان كنفاني

 

غسان كنفاني…الحارس الأمين لحلم جماعي

نسرين الصغيّر

ولد غسان كنفاني في مدينة عكا الفلسطينية المحتلة 8 نيسان عام 1936.  درس غسان في مدرسة الفرير بيافا، وكان الوحيد بين أشقائه الذي ولد في عكا، فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية في يافا، وهي مدينة ملاصقة لمدينة تل الربيع، وهو من أوائل الأحياء التي حدث فيها احتكاك بين العرب و الصهاينة.  انتقلت عائلة غسان بعدها للعيش في عكا، وكان ذلك في أواخر نيسان من عام 1948، وبعد احتلال فلسطين بدأ الصهاينة بتهجير العرب منها، وكان أهل غسان كنفاني ممن هجروا إلى لبنان، فوصلوا إلى صيدا ثم انتقلوا إلى حلب ثم إلى الزبداني إلى أن استقرّ بهم الحال في دمشق.

 

كان والد غسان كنفاني يعمل محامياً، عُرف عنه أنه يترافع في القضايا الوطنية خاصة أثناء ثورات فلسطين، وقد اعتقل مراراً.  عاشت العائلة أياماً صعبة من التهجير والسفر إلى أن استقرت في دمشق فبدأ الوضع بالتحسن ليعاود والد غسان بعدها ممارسة مهنة المحاماة بالإضافة لعمله في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية.

 

تفوق غسان كنفاني في الثانوية في الأدب العربي، وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين ثم التحق في جامعة دمشق لإكمال دراسته الجامعية ليتخصص في الأدب العربي الذي برع فيه.  وقد بدأ غسان حياته السياسية عندما اختار الانخراط في حركة القوميين العرب.

 

حركة القوميين العرب هي حركة نشأت بعد احتلال فلسطين عام 1948 بين أوساط الطلبة الجامعيين في لبنان وكانت تضم عدداً من الشبان العرب من مختلف الأقطار العربية، وكان من أبرز الشخصيات التي شاركت في تأسيسها وديع حداد، جورج حبش، هاني الهندي، وحامد الجبوري.

 

انتقل غسان كنفاني للعمل والتدريس في المعارف الكويتية، وقد كانت تلك مرحلة القراءة المكثفة  لديه، وقد كانت له قدرة عالية على قراءة كتاب أو ما لا يقل عن ستمائة صفحة يوميا، وكانت عنده قدرة مدهشة على الإستيعاب.  بدأ غسان بعدها مرحلة العمل في التحرير في الصحف، وقد عُرف أنه كان يوقع تحت اسم “أبو العز”.  بدأ غسان في كتابة القصص القصيرة ونال الجائزة الأولى على قصة “القميص المسروق”، وانتقل بعدها للعمل في صحيفة “الحرية” اللبنانية في بيروت، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة “المحرر” اللبنانية، وكان يصدِر فيها (ملحق فلسطين)، وفي عام 1967 قام بتأسيس مجلة ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حملت اسم (مجلة الهدف) و ترأس تحريرها و أصبح الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الى أن استشهد.

 

تعرف غسان، خلال مؤتمر طلابي في يوغسلافيا عام 1961 اشتركت فيه عدة دول، من بينها الدنمارك، بفتاة تدعى (آني)، عرّفها على القضية الفلسطينية، وقررت بعدها الذهاب لبيروت مروراً  بدمشق.  قابلت آني غسان كنفاني كمرجع في القضية الفلسطينية، وشرح لها القضية، وأخذها في زيارة للمخيمات الفلسطينية هناك.  تزوج غسان بآني كنفاني لاحقا، بتاريخ 19/10/1961،  ورزقا بفايز في 24/8/1962 وليلي في 12/11/1966.

 

عندما كان غسان كنفاني بالكويت ظهرت عليه بعض أعراض مرض السكري، وظهر معه المرض عندما كان في بيروت وكان يسبب له مضاعفات لأنه لم يكن يهتم بصحته بسبب غيابه عن البيت وعمله لوقت طويل وإرهاق تفكيره إلى أن أُصيب بمرض النقرص، لكن بعد أن تزوج بدأت حياته في الاستقرار، لكن لم يؤثر المرض على نشاطه وطاقته وإصراره على تقديم كل ما يملك للقضية الفلسطينية.

 

يعتبر غسان كنفاني  أحد أشهر الكتاب والروائيين والصحافيين العرب في عصرنا، فقد كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينية وكانت من أهم مؤلفاته:

رواياته:

  • رجال في الشمس – بيروت، 1963
  • ما تبقى لكم- بيروت، 1966
  • أم سعد – بيروت، 1969
  • عائد إلى حيفا – بيروت 1970
  • الشيء الآخر – صدرت بعد استشهاده، في بيروت، 1980
  • العاشق.. الأعمى والأطرش.. برقوق نيسان.. (روايات غير كاملة نشرت في مجلد أعماله الكاملة(

 

المجموعات القصصية:

  • موت سرير رقم 12- بيروت، 1961
  • أرض البرتقال الحزين – بيروت، 1963
  • عن الرجال والبنادق- بيروت، 1968
  • عالم ليس لنا- بيروت، 1970
  • القميص المسروق

الدراسات:

 

  • المقاومة في فلسطين المحتلة 1948- 1966- بيروت،1966
  • الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال- بيروت، 1968
  • في الأدب الصهيوني- بيروت 1967
  • ثورة 36-39 في فلسطين، خلفيات وتفاصيل وتحليل

 

المسرح:

  • الباب
  • القبّعة والنبيّ.. – بيروت، 1964.

 

كانت وفاة غسان بإرادة صهيونية، فقد صدر عليه حكم الإعدام بعد أن حاربهم بقلمه، حيث قام الموساد الصهيوني بوضع عبوة ناسفة في سيارته انفجرت فيه وبابنة شقيقته لميس ذات السبعة عشر عاماً، فاستشهدا وكأن هناك رابطاً وجودياً يجمعهما في الحياة وفي الموت، وكانت الحادثة في 8 تموز 1972.  رحل غسان ولميس، ودفنا في مقبرة الشهداء في بيروت.

 

من أشهر مقولات غسان كنفاني:

 

 

المثقفون العرب والمقاومة اللبنانية

 

من مجلة الآداب اللبنانية في صيف عام 2006

 

 

لماذا قاتل وجرح واستشهد عددٌ كبيرٌ من المثقفين الغربيين، البارزين والمغمورين، في الحرب الأهلية الإسبانية بين عامي 1936 و1939؟  لماذا ذهب إرنست همنغواي مثلاً ليقاتل في إسبانياً؟  حتى جورج أوريل الذي ارتبط اسمه في سنين الحرب الباردة فيما بعد برواياتٍ أيديولوجيةٍ مناهضةٍ للاشتراكية مثل “مزرعة الحيوانات” Animal Farm ورواية 1984، كان قد قاتل في منطقة كاتالونيا في إسبانيا، حيث اخترقت رصاصة رقبته قبل أن يعود إلى بريطانيا ليؤرخ تلك التجربة في رواية Homage to Catalonia أو تقديراً لكاتالونيا.

 

 

 

وقد قرأت مرة أن تحول الشاعر التشيلي بابلو نيرودا من الفردية والتمحور على الذات في أعماله الأولى، إلى الالتزام السياسي حتى النخاع في أعماله اللاحقة، حدث بسبب الحرب الأهلية الإسبانية  وفي خضمها. وثمة عشرات غيره، شعراء وروائيون وكتاب وصحافيون، تركوا كل شيء وذهبوا لحمل السلاح أو للانخراط – بشكل أو بأخر – في صفوف المعسكر المناهض للفاشية في إسبانيا.  وإنك، من دون أن تعرف شيئاً عن سجل الكاتب الشخصي وتاريخه السياسي، لتشعر بالفرق مرة أخرى في أعماق روحك ما بين النص الذي تخطه يد طحلب على هامش الواقع ويد تكتب بدمها؛ بين الخروج من الذات إلى الزمن، وبين التقهقر من الوطن إلى صدفة الذات.  والفرق ليس في الموقف السياسي فحسب، بل في الموقف من الحياة أيضاً، أي في طبيعة علاقة المبدع بالواقع، وبالتالي في بنية النص الأدبي أو الفكري نفسها.

 

 

ولأوضح الفكرة، سآخذ مثالاً آخر عن علاقة المبدع بالواقع، لا علاقة له مطلقاً بالنضال، من رواية جاك لندن المعروفة “نداء البراري” The Call of the Wild.  فقد كان كاتبها قد ذهب يافعاً إلى المناطق القطبية الشمالية وعاش أشهراً قاسية هناك للتنقيب عن الذهب، فلم يجد شيئاً، وعاد بخفي حنين، ولكنه عاد لينتج “نداء البراري” من وحي تلك التجربة المرة.  فباتت تلك الرواية هي الذهب الذي لم يجده جاك لندن يوماً، وواحدة من أكثر الروايات المقروءة والمترجمة في العالم.  فالكتابة العظيمة ليست تجربة كيميائية يمكن إنتاجها في المختبرات المعقمة أو المحميات غير الطبيعية.  صحيح أن رواية “نداء البراري” حكاية عن كلب في الحقيقة يتوق للحرية على أطراف الصحارى الجليدية، ولكنها جاءت مخضبة بمعرفة حميمة بالواقع، والأهم أنها جاءت لتعكس علاقة مع الواقع يلعب فيها الكاتب دوراً فاعلاً إيجابياً، أي لتعكس منظور من يؤمن أنه ندٌ للتحدي ومن يستطيع صناعة التغيير حتى في أقسى الظروف، ولو ضمن أفقٍ فردي.

 

 

فلماذا لا تأتي أعمالنا الإبداعية العربية معجونةً بوحل الواقع على ذلك النحو إلا عندما يكون موضوعها التجارب العاطفية؟!

 

 

لقد انقسم المثقفون العرب في علاقتهم الوجدانية مع المقاومة اللبنانية إلى طرفين نقيضين، وسقط كثيرٌ منهم ما بين بين.  فإما أنهم كانوا قد باعوا أرواحهم للشيطان سلفاً لينعوا “الأعمال المغامرة” [أعمال المقاومة] بأرخص الأثمان في الصحف الصفراء، أو الخضراء، أو في فضائيات البترودولار، أو فضائيات الدولار (بدون البترو)… وإما أنهم صعدوا مع الموجة الجماهيرية بكل حسن نية على كتف إنجازات المقاومة دون أن يكونوا من روافعها.  فبقوا، في أحسن الحالين، وما بينهما، رغم الفروق الجوهرية من الناحية المبدئية، على هامش الواقع، وفي علاقة سلبية به، أي في موقع المتلقي المنفعل… خارج المكان والزمان.

 

 

أين ذهب إرث ناجي العلي وريشته، وإرث غسان كنفاني وإبداعه المقاوم؟  بل قل أين ذهب الشعر الفلسطيني المقاوم قبل أن يهجره ويهشمه أربابه ليتشرنقوا في الذات؟  والسؤال هنا ليس عن الأعمال الإبداعية في الأساس، ولا عن ميل المثقفين السياسي أولاً، مع أنه عن كل ذلك أيضاً، بل عن دور المثقفين العرب العملي.  لم نجدهم كجماعة، كموقف، أو كشريحة، أو كدور،  كما وجدنا المثقفين الغربيين في الحرب الأهلية الإسبانية مثلاً.  كان الوقت وقتهم ولم يكونوا.   والوقت، عندما يأتي ولا يجد من ينتظره، يصبح مقبرة.  والمقبرة تصبح شاهداً على مقبرةٍ أخرى، هي في الواقع صحراء جليدية كبرى قرب خط الاستواء.  وتلك الصحراء تصبح وطننا،  نحن الأحياء سكان تلك المقبرة…

 

 

أين ذهب إرث ونموذج الشاعر العربي الفلسطيني عبد الرحيم محمود الذي استشهد عن خمسٍ وثلاثين عاماً في معركة الشجرة بين العرب والصهاينة؟  حدث ذلك في 13 تموز/يوليو 1948 (ويا له من تموز مقاوم دوماً!).  وكان عبد الرحيم محمود قد جسد في حياته واستشهاده، بعد أن قاتل في فلسطين وفي العراق في ثورة رشيد عالي الكيلاني، جوهر ما قاله في مطلع رائعته:

 

 

“سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياةٌ تسر الصديق/ وإما مماتٌ يغيظ العدى/ ونفس الشريف لها غايتان/ ورود المنايا ونيل المنى/ وما العيش؟ ما عشت إن لم أكن/ مخوف الجناب حرام الحمى/ إذا قلت أصغى لي العالمون/ ودوى مقالي بين الورى/ لعمرك إني أرى مصرعي/ ولكن أغذّ إليه الخطى/ الخ…”

 

…إلى نهاية تلك القصيدة-الموقف التي يتحد فيها الشاعر بجسده وروحه، قبل استشهاده وبعده، بصورةٍ تشرف تراثنا العربي الحديث حتى بالمقارنة مع تراث المثقفين الغربيين في الحرب الأهلية الإسبانية.

 

 

لكنها تبقى حالات فردية عندنا، موجودة، ولكن دون أن تشكل موقفاً لشريحة قررت أن تنبذ استلابها لتلتحم بالواقع مهما كان الثمن، لتنحته بأظافرها وتطليه بدمها، ولينعكس ذلك على جودة إنتاجها، فتلهم الناس بموقفها وبتضحياتها، وليس بموقفها فقط… مع أن هذا أيضاً شحيحٌ، إلا من رحم ربي.  وهو شحيحٌ كذلك على مستوى الإبداع، بالمناسبة، وليس فقط على مستوى الموقف السياسي، كما يلاحظ المرء من أداء المثقفين العرب خلال تجربة المقاومة اللبنانية في صيف عام 2006، وتجربة انتفاضة الأقصى والمقاومة العراقية، باستثناء بعض الأغاني ربما.

 

 

ولا أقول أن الموقف النضالي، وممارسته على أرض الواقع، يكفيان بحد ذاتهما لإنتاج كتابة أو إبداع متميزين، ولكنها شرطٌ ضروريٌ غير كافٍ- شرطٌ لا بد منه للتميز التاريخي، إن لم يكن شرطاً للتميز الفردي.  وأعترف بأني، كقارئ عربي عادي، أبدأ منحازاً دوماً للمثقف الذي: 1) يلتحم بالواقع، 2) يستعد لدفع الثمن- وهو ما يميز كتابةً عن كتابة وإبداعاً عن إبداع في نهاية المطاف.  فالمثقفون الغربيون لم يتطوعوا في إسبانيا لأنهم كانوا مأجورين للدول الغربية مثل بريطانيا أو فرنسا أو للاتحاد السوفياتي، بل لأن الفاشية الإسبانية – برأيي المتواضع-  كانت تستفز التقليد الديموقراطي في أعماق بنيتهم الثقافية، ولأنهم كأفراد وكشريحة كانوا مخلصين لقناعاتهم حتى الموت.

 

 

وهنا بيت القصيد: ثمة دور اجتماعي للمثقف العربي في هذه اللحظة التاريخية، وهو دور نضالي مقاوم.  فإن رفض المثقف دوره، وأصر على الغربة عن المقاومة، فإنه لن يحق له بعدها أن يتأفف وأن يتذمر من النموذج البديل الذي تنتجه أرضنا ألا وهو نموذج العلماء المجاهدين.  فالزمن لا ينتظر من لا ينتظره.

 

 

 

 

 

 

في الذكرى الثالثة لرحيل سي عبد الحميد مهري:

سلام على مدرسة تمشي على قدمين

 

عبد الحفيظ عبد الحي

 

من الصعب أن يتحدث المرء عن قامة كبيرة في المواقف والأخلاق والقيم والأفكار والمواقف النضالية والإنسانية العالية مثل الراحل الكبير سي عبد الحميد مهري رحمه الله ، فقد كان الرجل عملاقا في كل شيء وخصوصا في وطنيته الاستباقية الصادقة منذ أن كان في مقتبل العمر.

 

كان الراحل سي مهري رجلا يخلق الحدث في أي لقاء يحضره.   فلو أنه جلس في آخر صف في أية قاعة حتى دون أن يتكلم فإنه يخلق مع ذلك الحدث حتى بصمته الذي كان يقلق الكثيرين.

 

– مولده ونسبه:

ولد عبد الحميد مهري في اليوم الثالث من أفريل/ نيسان 1926 بمنطقة الخروب القريبة من مدينة قسنطينة، وبعد فترة وجيزة من تاريخ ميلاده اضطر والده الشيخ عمار أحمد العطوي إلى  الانتقال والاستقرار بوادي الزناتي.

 

فهو من عائلة مثقفة عريقة متأصلة التاريخ، متمسكة بالدين والوطنية.  وقد تميزت المنطقة التي نشأ فيها بتجذر مشاعر الرفض للوجود الاستعماري، وبالكثير من النشاط السياسي المؤازر والداعم للقضية الوطنية، وقد كان للنشأة العائلية الأثر الكبير على شخصية عبد الحميد مهري، فوالده كان من العلماء في ذلك الوقت، حيث قال عنه عبد الرحمان العقون أنه كان محققا وشاعرا وكاتبا كانت له عدة كتابات في العديد من الصحف التي كانت تصدر في ذلك الوقت، مثل صحيفة الفاروق الصديق وهي صحف رائدة آنذاك.

 

– دراسته ونشأته التكوينية:

 

بدأ دراسته بمسقط رأسه، فدرس بالكتاتيب في المدرسة الفرنسية، وحفظ القرآن في المكتب الخاص بالقاضي عيسى بن مهيدي – وهو أحد أعمام العربي بن مهيدي.  تلقى بعدها مبادئ الدين واللغة العربية وقواعدها (النحو والصرف) على يد أخيه الشيخ مولود مهري ليخوض بذلك مهنة التعليم وهو لم يتجاوز سن السادسة عشر.

 

إلى جانب دراسته انخرط المهري في صفوف حزب الشعب، وشارك في تأسيس خلية سرية بواد زناتي كانت مهمتها التحضير لمظاهرات 8 ماي/ أيار 1945 حيث كُلف بكتابة اللافتات التي ُرفعت أثناء المظاهرات.

 

 

كان لهذه الأحداث الدور البارز في تحرير مساره، حيث قرر عام 1946 التوجه إلى تونس لمواصلة الدراسة بجامع الزيتونة، وهذا بتشجيع من أخيه مولود مهري الذي تكفل به بعد وفاة  أبيه، وأكد أنه درس لمدة سنتين بصفة نظامية وسنتين بصفة انتساب، وفي الزيتونة احتل المراتب الأولى وهناك مازج بين الدراسة والنضال أيضا، حيث كان منخرطا في حزب الشعب ثم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية وكان عضواً في اللجنة المركزية لهذه الأخيرة في 1953 و1954 ليُعتقلَ بعد الثورة بقليل.   وبعد إطلاق سراحه التحق بالوفد الخارجي ليصبح ممثلا للحركة في سورية ثم عضواً بالمجلس الوطني للثورة وفي لجنة التنسيق والتنفيذ، ووزير شؤون إفريقيا في الحكومة الأولى ووزير الشؤون الاجتماعية والثقافية في الحكومة الثانية وبعد الاستقلال تقلد عدة مناصب عليا في البلاد.

 

– نشاط مهري بين 1962- 1995:

يمكن تقسيم نشاط عبد الحميد مهري من 1962- 1995 إلى مرحلتين:

  • أولا المرحلة الأولى (مرحلة الانكفاء) 1962- 1980 :

في هذه الفترة فضل عبد الحميد مهري النأي بنفسه عن الخلافات التي شهدتها الساحة السياسية ولم يتقلد منصباً سياسياً، وكان الرجل يملك تفسيرا لهذه الحالة.

 

التحق عبد الحميد مهري بالمدرسة العليا للأساتذة “ببوزريعة” بأعالي العاصمة بالرغم أن الرئيس بن بلة حاول أن يعطيه منصباً في حكومته إلا أنه رفض.  وقضى فترة طويلة في المدرسة العليا للأساتذة حتى منتصف السبعينيات.  وقد استدعاه وزير التربية الوطنية عبد الكريم بن محمود بعدها لمساعدته في تسيير شؤون الوزارة بحكم العلاقة التاريخية بين الرجلين، حيث كانا مناضلين في حزب الشعب الجزائري.  قبل مهري المهمة وأصبح أمينا عاما لوزارة التربية الوطنية في فترة (1965-1976)، وهو طبعا منصب غير سياسي، وفي سنة 1971 استقال عبد الحميد مهري من الأمانة العامة لوزارة التربية مباشرة بعد تعيين مصطفى الأشرف، وبعدها عاد لمديرية دار المعلمين ببوزريعة.

 

  • ثانيا المرحلة الثانية (مرحلة العودة) بين 1980- 1995:

 

بعد وفاة الرئيس الهواري بومدين ومجيء الشاذلي بن جديد استدعاه هذا الأخير لتولي منصب وزير الإعلام والثقافة، فقبل عبد الحميد مهري هذا المنصب لفترة قصيرة بين 1979- 1980، ثم عاد إلى نشاطه في حزب جبهة التحرير الوطني وبقي مناضلا إلى أن انعقد المؤتمر الرابع وهو أول مؤتمر بعد وفاة الرئيس هواري بومدين حيث عُيّن عضواً في اللجنة المركزية ورئيساً للجنة التربية والتكوين بين 1981- 1984، وبعدها عينه الرئيس الشاذلي بن جديد سفيرا في الرباط وقبلها بباريس.   في هذه الأخيرة ارتبط بعلاقات وصلات بكثيرٍ من المناضلين العرب الذين كانت تعج بهم باريس في الثمانينيات وعلى رأسهم  صديقه الحميم ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار ومحمد البصري، وكانت هذه اللقاءات تتم بمقر السفارة الجزائرية بباريس، وقد أفضت هذه اللقاءات إلى طرح مشروع فكري هدف إلى النهوض بالأمة العربية، لكن الموت المفاجئ لميشال عفلق في حزيران/جوان 1989 أوقف المشروع.

 

 

– أمين عام جبهة التحرير الوطني  1988 – 1996:

 

على إثر أحداث 5 تشرين أول/ أكتوبر 1988 استنجد الشاذلي بن جديد بعبد الحميد مهري لتسيير شؤون جبهة التحرير الوطني وهي الجهة المعنية قبل غيرها بتحولات المرحلة ومستجدات الظروف.   وافق مهري على طلب الرئيس حيث يقول العديد من كوادر إطارات جبهة التحرير الوطني الذين عايشوا الرجل في مسيرته النضالية أن مهري عمل جاهدا بعد تسلمه الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني سنة 1988 على وضع برنامج هيكلي تنظيمي للجبهة بهدف عصرنتها وتحديد هويتها كحزب له مرجعياته وأهدافه ليجعل منه حزبا حقيقيا وليس كواجهة للسلطة.  كما اجتهد عبد الحميد مهري لجعل الأفلان (الأحرف الأولى من جبهة التحرر الوطني بالفرنسية، والاسم الدارج للجبهة في الجزائر) قوة شعبية تستمد شرعيتها من الشعب وتكون قوة سياسية مراقبة لعمل الحكومة والنظام تطرح البدائل وتملك الاختيارات.

 

لقد تجسدت فلسفة عبد الحميد مهري التنظيمية والهيكلية في جملة من المواقف المشهودة تمحورت حول عنوان عريض وهو علاقة الأفلان بالسلطة:  هل هي علاقة احتواء أم علاقة واقع برغماتي تفرضه المتغيرات السياسية؟  هل يملك الأفلان سلطة قراره أم هي مصادرة من طرف السلطة؟

 

 

لقد كان لهذه المحددات التنظيمية والسياسية صداها العميق في الساحة السياسية، وخلقت هزات ارتدادية في دواليب النظام.

 

لقد أبدى الرجل تمسكه باستقلالية الحزب ودافع عن التعددية الحزبية ودعا لتكريس الإرادة الشعبية.  لقد كان عبد الحميد مهري يهدف من خلال هذه السياسة إلى رد الاعتبار لجبهة التحرير الوطني التي فقدت الكثير من قواعدها في خضم الصراع السياسي الذي وقع في فترة 1990-1991.

 

بعد توقيف المسار الانتخابي كان مهري من أشد المعارضين لهذه العملية واعتبرها انقلاباً على الشرعية ورفض فكرة إخراج الجيش إلى الشارع لمواجهة أزمة هي بالأساس سياسية وليست أمنية.  وحاول إجراء مصالحة حقيقية بين الأطراف وإيجاد مخرج سياسي للأزمة التي تهدد البلاد.  وقد أدت هذه المواقف بالأطراف الرافضة للعملية السياسية للانقلاب على عبد الحميد مهري عن طريق ما يعرف بالمؤامرة العلمية والتي أدت إلى تقديم عبد الحميد مهري لاستقالته سنة 1996.

 

 

– موقف عبد الحميد مهري من القضايا القومية العربية:

 

اشتهر الراحل سي عبد الحميد مهري بانتمائه ومواقفه القومية، ولم يكن متعاطفا تجاه الروابط القومية كالكثيرين بل تجاوز الجميع مكرسا حياته للتفكير في خدمة الصمود والنهوض بالأمة العربية، فكان للمرحوم عبد الحميد مهري موقف ميزه عن كل المساندين والداعمين والمؤيدين للشعب الفلسطيني، إذ انتقل الأستاذ من موقع المساندة إلى موقع القيادة.. من موقع التأييد إلى موقع التفكير.. من موقع الداعم إلى موقع المحرّض على الدعم.. فكان مهموما بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب جميعا.. وكان ضيفا دائما في ملتقيات الفكر العربي مهموما بالبحث في قضايا الوحدة والنهضة والحرية ولم يتخلف عن موعد قط، متدخلا ومحاضرا، محذرا ومنبها ودالّا على سبيل الخروج من المأزق.. كان حضوره يشيع في الحاضرين الأمل والجدية والحيوية.. فكانت العروبة عنده مشروعا للنهضة والحرية والوحدة.. رحم الله فقيد العروبة سي عبد الحميد مهري.

 

ولأن المهري كان علماً من أعلام الخط القومي العربي، نعى المؤتمر القومي العربي أحد كبار مؤسسيه وأمينه العام في فترة 1995 – 2000 المجاهد الكبير الأستاذ عبد الحميد مهري الذي توفي ظهر يوم الاثنين في 30/1/2012، في المستشفى العسكري في الجزائر.

 

 

 

 

 

 

أرض عربية محتلة: لواء الاسكندرون

 

علي بابل

 

هناك في الشمال الغربي على الساحل، فوق جبل الأمانوس وعميقاً في سهل العمق تجد عمق العروبة في فتاةٍ إسكندرونية تلفحها سمرة بحرية متوسطية لم يسرقها السلطان ولم يغربها أتاتورك.
الإسكندرون هذا المصباح الأزرق الذي سرقته منا “عصبة السراق”  في تاريخ 1939-11-29 في ليلة حتى زرقة البحر فيها سودت، ونسيم البحر “تترك” وأنطاكية بكت جبالها المنحوتة، والريحانية ذبل ريحانها، والبرتقال صرخ واااعروبتاه !!!
عنبٌ، وبرتقال شرب من ماء نهريْ عفرين والأسود، ومرت عليه مياه العاصي ليقول له قد جئتك من بعلبك من سورية يا أسكندروني.
لم تخرج المناطق التي تقع جنوب نهر الفرات وجبال طوروس عن الحكم العربي تاريخياً إلا عندما جاء الإحتلال العثماني التركي. أضنة ومرسين ومناطق الفرات الأعلى مثل ديار بكر وملطية جنوباً، أدمان، حران، عنتاب، ماردين، أورفة، الرها وعنتاب وغيرها الكثير هي مناطق عربية تاريخياً لم تكن في يوماً من الأيام لغير العرب.

زكي الأرسوزي لم يكن وحده يكافح ضد الاحتلال التركي وعملية التتريك، فقد هبّ “اللوائيون” معاً للنضال عبر جريدة العروبة التي صدرت في عام 1937 من قبل “عصبة العمل القومي” في اللواء السليب وعدة حركات أخرى نادت بعروبة الأسكندرون وأهلها. لقد كان اللواء منبعاً للعروبة، فقد خرج منه المفكر القومي فائز إسماعيل، الذي قاتل للدفاع عن جمهورية الوحدة في عهد عبد الناصر ضد الانفصاليين، والمناضل القومي وهيب غانم والشاعر العروبي سليمان العيسى والروائي الجميل حنّا مينا.
لا يزال اللوائيون الأحرار يصرّون كما إصرار “إبراهيم محمد علي” على تحرير أرضهم عندما قال “إن حربي مع العثمانيين لن تنتهي حتى آخر مكان ينطق باللغة العربية”.  وفي عام 1977 تم تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير الإسكندرون، للحفاظ على عروبة اللواء وأهله والتصدي لمحاولات التتريك ثقافياً وسياسياً.

 

“تحـــــــــــيا العروبة” كانت التحية الرسمية لأبناء اللواء في محاولة منهم للتصدي للاستعمار التركي، والنادي الرياضي سُمي “نادي العروبة” كما جريدة العروبة. لقد تظاهر أهل الإسكندرون ضد الاستعمار الفرنسي والتركي رفضاً لسلخ اللواء عن وطنه الأم سورية ورفضوا كل معاهداتهم الزائفة وهتفوا للعرب والعروبة. وقال الإسكندروني المهجر في دمشق: “ولسه ناطرين نرجع؟ يا ترى منرجع؟

فرد سليمان العيسى قائلاً:

أأهزّ جرحك يا ترابَ المهدِ ، يا بلدي السليبَا !
أعرفت شاعركَ الصغير، تصوغه أبداً لهيبا !
لولاكَ لم تعرفْ شفاه الشعر قافيةً خضيبا
لم تحترق منها العيون، لتنهل الفجرَ القريبا
فَجَّرْتَ نبعَ الوحدة الكبرى، أترمُقُها غريبا؟
وضّاءَةَ الخُطوات تَزْحَم في انطلاقتِها الغيوبا
وتطلّ كالعملاقِ تحـشُد حيث أومأت القلوبا
سنعود، نعقد في مروجِك عرسها خمراً وطيبا

 

 

 

 

 

 

قصيدة العدد: عيد العروبة

 

إعداد صالح بدروشي

 

عيد العروبة

 

في مارس 1947 نظم الشيخ المناضل النقابي محمد الفاضل بن عاشور في نطاق أنشطة الخلدونية وبالتعاون مع العديد من الإطارات النقابية والشخصيات السياسية مهرجان عيد العروبة الأول الذي انتظم بالملعب البلدي بالبلفيدير (الشاذلي زويتن) يوم 22/03/1947 حيث حيكت أعلام الأقطار العربية وحفظت أناشيدها الوطنية للأطفال من الكشافة وانتظمت حركة المجموعات الممثلة للجمعيات الرياضية والفرق الكشفية والطواقم الموسيقية في الاستعراض الذي تم في ذلك اليوم. وقد ألقى الشيخ المناضل في الجمهور الغفير من المواطنين والنقابيين والشخصيات السياسية الحاضرة خطابا حماسيا تداول على إثره على منبر الخطابة والشعر عديدون من بينهم صالح بن يوسف وعلى البلهوان وأحمد توفيق المدني والطاهر القصار. وقد تحول عيد العروبة خلال السنوات اللاحقة إلى يوم تحتفل به المدن والقرى التونسية وتشارك فيه الشبيبة الدستورية والشبيبة العمالية وفرق الكشافة باستعراضات كبرى تجوب المدن حيث تُقام الاجتماعات العامة يتداول فيها الشعراء والخطباء من القادة السياسيين والنقابيين والأئمة على الكلمة وتزدان فيها الساحات العامة  والمآذن والبنايات والأشجار بأعلام الأقطار العربية.  و في الخطاب الذي ألقاه في مهرجان عيد العروبة الأول بتاريخ 22/03/1947 استعرض الشيخ المناضل أطوار تقدم أمة العرب نحو تحقيق وحدتها وحرض فيه الحاضرين على المساهمة في ذلك النضال لتأكيد انتماء تونس إلى الأمة العربية تاريخا وروحا وثقافة ومصيرا … (×)

 

(×) عن دراسة في الذاكرة النقابية قدّمها المناضل الأستاذ أحمد الكحلاوي بجريدة الشعب التونسية 2009 حول “المضامين العروبية الإسلامية في الحركة النقابية التونسية …” ومداخلة بمؤسسة التميمي بالاستناد إلى مجموعة من المراجع القيّمة.

 

 

ومن الشعراء الذين تغنّوا بعيد العروبة نذكر الشاعر المتميّز بشعره القومي : مصطفى خريّف، والشاعر محمد الفائز القيرواني، اللذين نضم أشعارا لهما بمناسبة عيد العروبة.

 

مصطفى خريّف

 

شاعر وأديب عربي تونسي، هو مصطفى بن إبراهيم خريف، ولد بمدينة نفطة بمنطقة الجريد عام 1909 وتوفي  بتونس العاصمة في 11 آذار/مارس1967.  قضى طفولته في مدينة نفطة بالجنوب التونسي، وفي ربوعها ارتشف أولى قطرات الإبداع في بيئة “تقدّس” الأدب ووسط عائلة يتعاطى جلّ أبنائها الشعر والأدب، حيث كان والده الشيخ المؤرخ إبراهيم خريف شغوفا مهتما بالتاريخ وألف كتاب “المنهج السديد في تاريخ الجريد”.  حفظ مصطفى خريف القرآن الكريم في الكتّاب بمسقط رأسه. ثمّ انتقل مع عائلته إلى العاصمة والتحق بمدرسة قرآنية عصرية، ثم انخرط في التعليم الزيتوني عام 1926.

 

كتب مصطفي خريف في أغراض شعرية مختلفة ولكن أشعاره المميزة كانت الوطنية منها

حيث نما عنده الحسّ الوطني والقومي العربي وشب متأثرا ببيئته الناضجة أدبيا وفكريا وهو ما تجسّد في تخصيصه قصائد لرثاء سبعة مناضلين تونسييّن وعرب وهم ابن خلدون ومحمِد البشروش والمنصف باي ومحمّد محيي الدّين القليبي وأبو القاسم الشّابي وعبد العزيز الثّعالبي وشكيب أرسلان وأخرى لتخليد أحداث نضاليّة وطنيّة و قوميـّــــة منها قصائد “يوم النـّــــصر” و”يوم البعث” و”القيروان” و”عشيرة الحقّ” و”تحيّة تونس إلى محمّد الخامس” و”رثاء فلسطين”….

نقدم لكم فيما يلي إحدى قصائده التي توجّه فيها نحو قومه العرب متغنّيا بعيد العروبة في عيد العروبة التي كانت النخب المثقفة التونسية تحتفل به في أعوام 1947 و1948:

 

عيدَ العُرُوبَةِ عدْ، فَدَتْك دِمانا

 

عيدَ العُرُوبَةِ عدْ، فَدَتْك دِمانا    وَاقْبَلْ تحيَّتَنَا ومَحْضَ هَوانَا

 

عُدْ بالبشائِرِ، ناشِرًا عَلَم المُنى  طَلْقًا طَرُوبًا ضَاحِكًا جَذْلاَنا

 

عُدْ كَالمجَاهِدِ جَاءَ مِنْ ميْدانهِ    ثَمِلاً بخمْرةِ نصْرِهِ نشْوانا

 

عُدْ كالشَّبابِ الغَضّ يمْلأُ وجْهَهُ ماءُ الفُتُوَّةِ رائقًا فتَّانا

 

عُدْ كالربيع إذا تبسَّمَ نوْرُهُ       وكسَا الرُّبوعَ بحُسْنهِ ألُوانا

 

عُدْ كالرياضِ ترنَّمتْ أطْيارُها  وتبادَلتْ في أيْكِهَا الألحَانا

 

عُدْ كالغمامِ الجوْنِ سَحَّ ربابُهُ    فيضًا عميمًا دافقًا هَتَّانا

 

عُدْ… في بلادِ المشرقيْن أمانيًا  عُدْ في بلادِ المغربيْن أمانا

 

إفريقيا الكُبرى جَنَاحُكَ إنْ تطِرْ أطْلِقْ جناحكَ تَسبِقِ العُقْبانا

 

عِيدَ العُروبةِ، عُدْ، فدَتْكَ دِمانَا   واقْبَلْ تحيَّتَنا ومحْض هَوانا

 

ملأتْ بشاشتُكَ القلُوبَ مودَّةً              وتوقَّدتْ بشغافِها إيمانا

 

وتحكَّمتْ في الحِسِّ حتَّى أنَّها   ملكتْ عليه السِّرَّ والإعْلانا

 

ذِكْرى يُحيطُ بها الجلالُ ومنْقبٌ          يُحْيِي النَّفُوسَ ويُوقِظُ الوِجْدانا

 

كان الدليلَ لدَحْضِ إفْكِ مُعانِدٍ   صحبَ الضَّلالَ وحالَفَ الشيْطانا

 

رانتْ عليه غِشاوةٌ ورمتْ بِهِ   في الكون أعْمى لا يرى بُرْهانا

 

«ومِنْ البليَّةِ عذْلُ مَنْ لا يرْعوِي         عنْ غَيِّه» وخِطابُ مَنْ قدْ هانا

 

 

 

 

محمد الفائز القيرواني

 

شاعر وكاتب عربي تونسي، هو محمد بن محمد الفائز الغرياني القيرواني. ولد في مدينة القيروان، وتوفي في مدينة المنستير. أمضى حياته في تونس. حفظ القرآن الكريم، وتلقى تعليمه المبكر في الكتّاب، ثم التحق بالجامعة الزيتونية حتى نال شهادتها العلمية. عمل أستاذاً بالمدرسة القرآنية في مدينة القيروان، ثم محررًا في جريدة القيروان. شاعر نظم في موضوعات اجتماعية وسياسية وقومية، له قصائد في وصف الطبيعة ولمسات طريفة.

 

نقدم لكم فيما يلي قصيدته في عيد العروبة:

 

عيد العروبة لو علمت محرم

فعلام تهجره وأنت المسلم عيد العروبة لو علمت محرم
وحمى حماها في القبائل ضيغم عيد به السمحاء وطد ركنها
والشهب حوله في الدمى والأنجم تنسى هلاله حين لاح مشرقا
عرب تدفق في شرايننا الدم تنسى فخارك ثم تنسى أننا
مس الشمال توجعوا وتألموا ولنا بأرض الشرق أعمام إذا
قامت تمجد عامها وتعظم وأرى الشعوب إذا أهل هلالها
عددت شهرا غاب عنك محرم وأراك مشغوفا بغيره كلما
لا شك أنك في فعالك مجرم أزهدت فيه وأنت من أبنائه
بضياء وجهك في الدجنة مغرم يا ابن السماء أما تحدث شاعرا
ورفيقه الصديق وهو ملثم حدثه عن ركب النبي محمد
وعداة دين الله عنهما أحجموا يتخطيان طريق يثرب في الدجى
وعن الرفيق وقد أصابه أرقم حدثه عن غار يضم محمدا
والخزرج انسابت له تنسم والأوس تستبق الخطى للقائه
وجيوشهم في كل صقع تهجم حدث عن الخلفاء بعد خليلهم
خاضوا البحار وفي الصحارى خيموا جابوا البلاد لشرقها أو غربها
ويمد كفه بالدعا يستلهم والمستجاب هنا يخطط قبلة
وقفت بأمجاد الهدى تترنم ووراءه من أهل بدر عصبة
للمسلمين يكل عنه المرقم حدث عن الملك الذي شاهدته
والصولجان بكفهم والمخذم حدث بربك كيف كان جدودنا
والجهل فوق المسلمين مخيم يا للفضيحة كيف أصبح حالنا
ويقول لا تهنوا فأنتم أنتم أنتم وكتابهم للعلم يدعو أهله
شدت إليه ركائب تستفهم في ذلك المحراب كم من عالم
شدوا الرحال إلى الفنون ويمموا والقيروان محط أنظار الألى
أبكي معاهد للعلى تتهدم كم ليلة يا قوم بت مسهدا
ويد الخراب بساحتيه تحطم أبكي تراث العرب بعد رحيلهم
فتفيض من عيني الدموع وتسجم ذكرى يمر خيالها في خاطري
في أخريات الناس لا يتقدم قل لي بربك يا هلال أحظنا
ويعود يمرح في رباها المسلم قل لي متى الخضراء يشرق بدرها
والكون منتبه وأنتم نوم ويحيى لقد ملا الفضاء عديدكم
جافيتموه وكلكم يتبرم وإذا دعاكم للمكارم مصلح
أوجزت فيه القول وهو مجسم هذي الحقيقة قلتها وكفى بما
وبحبل رب العالمين استعصموا عودوا لما كانت عليه جدودكم

 



Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *