Qawmi

Just another WordPress site

 

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 آذار 2015

ويضم هذا العدد:
– كلمة العدد
– على خطى الجمهورية العربية المتحدة/ بشار شخاترة
محمود درويش والتوراة: تنظير لتقاسم فلسطين مع اليهود (1-2)/ أحمد أشقر
– سنة التطور في القصيدة العربية/ إبراهيم علوش
– قول شاعر/ نور شبيطة
– الشعر والهوية القومية/ جميل ناجي
– العروبة في القصيدة الوطنية المغربية/ إبراهيم حرشاوي
– انتحار الشعراء العرب…. “حفرة” خليل حاوي و”أحزان” تيسير السبول / طالب جميل
– الشعر في موريتانيا، مع قراءة في ديوان “ترانيم لوطن واحد” لـمباركة بنت البراء/ معاوية موسى
– شخصية العدد: الشاعر المتمرد على القيود… مظفر النواب… “يقتله نصف الدفء”/ نسرين الصغير
– مدينة عربية: بابل/  علي بابل
– قصيدة العدد 1: “من كتاب الشآم”، قصيدة غير منشورة من قبل، للشاعر خالد أبو خالد
– سيرة الشاعر خالد أبو خالد في سطور
– قصيدة العدد 2: قآبيل شاميّة (غير منشورة من قبل)/ الشاعر خالد أبو حمدية
– كاريكاتور العدد

العدد رقم 10 – 1 آذار عام 2015 للميلاد

لقراءة المجلة عن طريق فايل الـ PDF




للمشاركة على الفيسبوك








































































كلمة العدد:

 

في القصيدة العربية هو محور العدد العاشر من طلقة تنوير، وهو ما تتناوله معظم مواد هذا العدد، من التوراتيات في شعر محمود درويش، إلى قصيدة التفعيلة، إلى القصيدة العمودية، إلى الصراع بينهما، إلى العروبة في الشعر المغربي، إلى المرحومين خليل حاوي وتيسير السبول، إلى الشاعرة مباركة بنت البراء من موريتانيا، إلى مظفر النواب، إلى قصيدة تنشر لأول مرة للشاعر العربي الفلسطيني الملتزم خالد أبو خالد عنوانها “كتاب الشآم”، وقصيدة أخرى عمودية عن بعنوان “قآبيل شامية” للشاعر الشاب خالد أبو حمدية.

 

غير أننا لسنا من الذين يؤمنون بنظرية الفن للفن، حتى لو أعلينا من شأن المقاييس الجمالية للأعمال الملتزمة، لذلك قررنا، كمجلة ثقافية فكرية تعبر عن لسان حال لائحة القومي القومي العربي، أن نخصص افتتاحية هذا العدد لإحياء ذكرى الوحدة المصرية-السورية السابعة والخمسين.

 

 

على خطى الجمهورية العربية المتحدة

 

بشار شخاترة

 

 

شهد القرن العشرون نهضة للمشروع القومي العربي حينما كان مشروع الأمة الأول هو مشروع الوحدة القومية للأمة العربية، وتجلت ذروة هذا المشروع بتوحيد كل من مصر وسورية بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، حيث كانت الجمهورية العربية المتحدة هي ثمرة نضال مرير مع القوى الإمبريالية وأذيالها الرجعية العربية.

 

مرّت سنوات طويلة على انهيار التجربة الوحدوية العربية، وانهيار التجربة لا يعني البتة انهيار المشروع، ولا انهيار الأمل والحلم بدولة عربية واحدة على كامل التراب القومي، لا بل تزداد الحاجة، لتصبح حاجة ملحة للخلاص القومي في زمن الردة.

 

في زمن “الربيع العربي”، كل أنواع المشاريع يتم طرحها على الشعب العربي، ويتم الترويج لها عبر إعلام البترودولار وغيره من وسائل إعلام “وازنة” أيضا، والغائب الوحيد عنها جميعا المشروع القومي العربي، مشروع الأمة الحقيقي المعبّر عن واقعها، وأنه برغم ما شاب التجربة القومية من شوائب إلا أنه أثبت أنه مشروع نضالي صِدامي وأنه لم يبخل في تقديم الشهداء وعلى رأسهم قادة المشروع أنفسهم من عبد الناصر إلى صدام حسين إلى معمر القذافي والشهيد الحي الرئيس بشار الأسد أيده الله ونصر به سورية والعروبة.

 

لقد كانت الجمهورية العربية المتحدة أداة الأمة لتحقيق الوحدة الشاملة، ولم يكن التفاف الجماهير حولها مصادفة، وليس غريبا أيضا أن تبقى ذكراها في عقول العرب وفي وجدانهم إلى يومنا هذا لما تمثله من أمل لتغيير الواقع العربي البائس، هذا الواقع الذي ظنّ كثيرٌ من العرب أنه بدأ يتحقق بما سُمي “الربيع العربي” ليستحيل الربيع إلى مأساة وربيع للصهاينة، ولتتصدر المشهد قوى وتيارات سياسية انكشفت عمالتها، حيث كان بعضها فيما سبق يتغطى بالدين، وبعضها بالديموقراطية وحقوق الانسان.

 

ليس من باب التشفي، ولكن لا بد من التذكير أن التيار القومي العربي كان السبّاق في كشف الرجعيتين الدينية والليبرالية عبر صراعه معهما في الحين الذي اتُهم فيه التيار القومي أنه قمعي وغير ديموقراطي، ليتضح أن القومية العربية كانت تواجه الإمبريالية بضربها للأدوات الإسلاموية التكفيرية والقوى الليبرالية ولم تكن المسألة قمع للحريات.  ويثبت الواقع الراهن ان هذه التيارات، عندما تصدرت المشهد عقب ثورات “الربيع”، لم تكن إلا أدوات صهيو- أمريكية بذرت بذور التفكيك والطائفية وحرفت بوصلة الأمة عن عدوها الحقيقي العدو الصهيو- أمريكي.

 

الجمهورية العربية المتحدة خلطت الحسابات الدولية ووضعت العدو الصهيوني بين فكيّ كماشة، وشعر العرب لأول مرة، منذ ما قبل الغزو العثماني، أن عصر العروبة قد أقبل، وليس غريباً أن تسمع شعارات مثل “ارفع رأسك يا أخي فأنت عربي”، و”عهد الاستعمار قد ولى”.  وليس غريبا أيضا أن يدبّ الرعب في قلوب أسياد العالم من ميلاد هذه الدولة التي كانت نواة الدولة العربية الواحدة، هذه الدولة المارد العملاق، حيث كانت رسالتها ببساطة تقول: “أفسحوا المجال فعصر العروبة أقبل، وإن أمة كأمتنا العربية تريد أن تحتل موقعها في المضمار الدولي”. حتى أقرب الحلفاء للعرب كان يبدي تخوفا من بروز العملاق العربي، مع أن المشروع القومي العربي لم يكن يوما شوفينّيا أو ذا نزعات استعمارية أو توسعية، إنما كان عنوانه الوحدة واسترداد الأراضي السليبة وتحقيق العدل الاجتماعي والعدالة في توزيع الثروة بالاشتراكية.

 

كانت دمشق على موعد مع قائدها الذي لم تطأ قدمه أرضها من قبل: عبد الناصر الذي استقبلته الجماهير العربية في سورية وبلاد الشام عموما بحمل سيارته في مشهد تاريخي لا تقوى كل فبركات السينما اليوم أن تصنع مشهدا مهيبا صادقا مثله، إنما ليعكس ذلك شوقا للوحدة العربية غاب عن الأمة قرونا طويلة من ظلام مشاريع الخداع الديني تحت عنوان الخلافة.

 

باستثناء حالة تشافيز في فنزويلا، يغيب عن المشهد الدولي اليوم مشروع الخلاص الإنساني من ربقة الإمبريالية، ودون مبالغة في هذا القول فإن مشروع الدولة العربية الواحدة ليس مشروع رفعة الأمة العربية وحدها ولكنه المشروع-الرسالة للإنسانية لتحرير شعوب الدنيا من الاستغلال والهيمنة وإعادة التوازن للسياسة الدولية وتحقيق العدالة بالتشارك مع القوى التحررية في العالم، لا لشيء إلا لأننا أمة لا يمكن إلا أن تكون رافعة للعدل ودون نزعات استعمارية، فتكوين الأمة العربية التاريخي والنفسي يؤهلها لهذا الدور، فليس غريبا أن ترى مصر عبد الناصر القومية العروبية رأس حربة في تحرير إفريقيا ومحيطها الطبيعي من الاستعمار فضلا عن توجهاتها نحو أمريكا الجنوبية وغيرها، ودورها في تشكيل كتلة عدم الانحياز.

 

المشروع القومي العربي هو المشروع المنتظر.  وما يجري على أرض الوطن العربي ليس إلا مخاضا عسيرا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن المولود عملاق، وبقدر الألم بقدر ما سيعتري هذا المولود من تجاذب يحمل أملا واعدا، فالمشاريع الكبرى لا تولد إلا بآلام أكبر كما المعادن النفيسة تختبرها النار لتجعل منها جواهرَ، والأمة العربية تخوض مخاضا عسيرا لولادة مشروع العروبة، مشروع الوحدة الشاملة، فلا أقل من وصل الليل بالنهار كواجب علينا نحن القوميين لتهيئة الظروف لنهضة الأمة ومشروعها القومي.

 

 

 

محمود درويش والتوراة: تنظير لتقاسم فلسطين مع اليهود (1-2)

 

أحمد أشقر

 

الرموز والإشارات

 

تعتبر الرموز والإشارات المُشفرّة التي يستخدمها الفرد والجماعة مفاتيح للبحث في المستويات الواعية واللاواعية في الهوية الفرديّة والجمعية على حدّ سواء.  لذا باتت دراسة مكنونات هذه الرموز والإشارات حقلاً معرفيّاً هاماً جدا وبالغ الأهميّة لمعرفة الواعي واللاواعي في مركبات ومستويات هذه الهوية، ابتداءً من السياسة مرورا بعلم الإنسان إلى علم النفس، من أجل التكيل بها أو استنهاضها أو التكيّف معها على حدّ سواء.

 

تزخر النصوص الأدبية، النثرية والشعرية، بهذه الرموز والإشارات، لأن الأدب شأنه شأن بقية الحقول المعرفية والجمالية الأخرى يبني تراكميّا على ما سبقه ويؤسس لما سيخلفه.  وبما أن الأدب ليس السياسة الممارسة المكشوفة، وإن عبّر عنها، فإنه يستخدم هذه الرموز للإعلان عن موقف سياسي واجتماعي، مثله مثل الفكري والجمالي والفلسفي، بطريقة غير مكشوفة ومباشرة.  وعليه فإن الإدعاء إن استحضار الأدب لهذه الرموز والإشارات تقع في مجال التناص الأدبي فقط، محض تضليل.

 

درويش، الاحتلال والتوراة

 

سأقتبس هنا من أول حديث صحفي لمحمود درويش أجراه الصحفي يوسف الغازي ونشره في “زو هديرخ”، صحيفة الحزب الشيوعي “الإسرائيلي”، في عددها الصادر في 19. 11. 1969.  وقد قامت مجلة الجديد بترجمته ونشرته في العدد 11، تشرين الثاني عام 1969. في هذا الحديث الذي تمت عنوته فيما بعد “وثيقة- حديث صحفي مع محمود درويش، يونيو 1969″، يتحدث درويش عن موقفه من اليهود والتوراة، أي يتحدث بكلمات أخرى عن احتلال الجزء الأول من فلسطين الذي كان قد مضى عليه واحد وعشرون عاماً، وسنتان على الاحتلال الجديد، قائلاً:

“لقد خلق لي شِعري المتاعب منذ البداية. ودفعني إلى الصدام مع الحكم العسكري. وإذا أردت مثالاً على ذلك: كنت طالباً في الصف الثامن عندما احتفلوا بمناسبة إقامة دولة إسرائيل. وقد نظموا مهرجانات كبيرة في القرى العربية باشتراك تلامذة المدارس في هذه المناسبة. طلب مني مدير المدرسة أن أشترك في مهرجان عقد في قرية دير الأسد. وعندها، ولأول مرة في حياتي، وقفت أمام الميكرفون وبالبنطلون القصير، وقرأت قصيدة كانت صرخة من طفل عربي إلى طفل يهودي. لا أذكر القصيدة ولكني أذكر فكرتها: يا صديقي! بوسعك أن تلعب تحت الشمس كما تشاء. بوسعك أن تصنع ألعاباً. ولكني لا أستطيع. أنا لا أملك ما تملكه. لك بيت، وليس لي بيت، فأنا لاجئ. لك أعياد وأفراح، وأنا بلا عيد وفرح. ولماذا لا نلعب معاً؟!

 

وفي اليوم التالي استدعيت إلى مكتب الحاكم العسكري في قرية مجد الكروم. هددني وشتمني، فاحترت. لم أعرف كيف أرد عليه. وعندما خرجت من مكتبه بكيت بمرارة لأنه أنهى تهديده بقوله: إذا استمررت في كتابة مثل هذه الأشعار فلن نسمح لأبيك بالعمل في المحجر!. يؤلمني أن أذكر الآن أن تهديدات ذلك الحاكم العسكري أثرت عليّ تأثيراً سلبياً. وبمنطق الصبي قلت لنفسي: سأحصل على القصاص. ولن أكتب. وبالمنطق ذاته عجزت عن فهم السبب الذي يجعل مثل تلك القصيدة تثير حاكماً عسكرياً. وأسجل الآن أن ذلك الحاكم العسكري كان أول يهودي أقابله وأتحدث إليه! لقد ضايقني سلوكه: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أتحدث إلى الطفل اليهودي؟ لقد تحول الحاكم العسكري إلى رمز الشر الذي يؤذي العلاقات بين الشعبين. ومن الواضح، الآن فقط أستطيع الإجابة على الأسئلة التي ضايقتني آنئذ”.

 

لاحظوا: فتى عربي فلسطيني لم يمض على طرده من وطنه عقدٌ ونصف من الزمن يكتب رسالة “صرخة” من طفل عربي إلى طفل يهودي ينتمي إلى المجموعة التي هجّرت درويش وأهله وشعبه واحتلت وطنه! ثم يحمل الحاكم العسكري مسؤولية تدهور العلاقات بين الشعبين! كيف يمكن أن يحدث هذا؟  الفتى محمود درويش يُلقي بالمسئولية على الحاكم العسكري وليس على الاحتلال الذي احتل أرضه ومنحها للطفل اليهودي وأهله!

 

ثم يضيف متحدثا عن علاقته بالتوراة قائلا:

 

“ومن حسن حظي ظهرت في حياتي صورة أخرى مناقضة للحاكم العسكري. بعد ذلك الحادث ببضعة شهور، انتقلت إلى الدراسة في مدرسة كفرياسيف الثانوية. هناك التقيت بشخصية يهودية أخرى تختلف تمام الاختلاف، هي المعلمة شوشنة (وردة) التي لا أمل الحديث عنها. لم تكن معلمة. كانت أُمَّا. لقد أنقذتني من جحيم الكراهية. كانت– بالنسبة لي– رمزاً للخدمة المخلصة التي يقدمها يهودي طيب لشعبه. [لا أفهم ما يقصده، هل يحبها كأمه لأنه أحبته فعلا، أم لأنها رمزٌ للخدمة المخلصة التي يقدمها يهودي طيب لشعبه!؟] لقد علمتني شوشنة أن أفهم التوراة كعمل أدبي، [لم تُطرح أصلا إلا نصّا أدبيا فقط] وعلمتني دراسة بياليك بعيداً عن التحمس لانتمائه السياسي، وإنما لحرارته الشعرية [هل يمكن قراءة بياليك (1973- 1934)، أكبر الشعراء الصهاينة في العصر الحديث، قراءة أدبية فقط؟]. لم تحاول أن تعبئنا بسموم البرامج الدراسية الرسمية التي ترمي إلى دفعنا للتنكر لتراثنا. لقد أنقذتني شوشنة من الحقد الذي ملأني به الحاكم العسكري. لقد حطمت الجدران التي أقامها ذلك الحاكم [نفهم من هذا أن وعيه تشكل بين اليهودييّن شوشنه التي كانت مثل أمه والحاكم العسكري].

 

يجب الإشارة هنا إلى أن كاتب هذه السطور تعرض للغة العبرية أكثر بكثير من درويش من المدرسة إلى الجامعة إلى العمل والكتابة بها وعنها، ولم يرها مرة واحدة إلا مشروعا سياسيا استعماريا.

 

التوراتيات عند درويش: “إلا لينسجم السياسي مع الأدبي”

 

كان درويش عندما غادر البلاد عام 1971 عضوا في الحزب الشيوعي “الإسرائيلي”، الذي لا يزال يدعو إلى تقاسم فلسطين مع المُستعمر اليهو-صهيوني. في المنفى الاختياري، كان درويش محسوباً على التيار التسووي في (م. ت. ف).  وبعد هزيمة دولة الفاكهاني في لبنان عام 1982 عيّنه أبو عمّار عضوا في لجنتها التنفيذية، أي أعلى هيئة اتخاذ القرارات. وطوال حياته كان لدرويش صوتٌ بارزٌ في السياسة.  لذا سأتعامل معه بصفته الشاعر- السياسي، لأنه قدم نفسه كذلك.  وسأشير إلى ثلاث عشرة إشارة من عنده يؤكد فيها موقفه من الرموز التوراتية وعلاقاتها بموقفه السياسي.

 

الإشارة الأولى- يمكن اعتبار كلمته في جنازة إميل حبيبي (1921- 1996) بالناصرة مخاطبا إياه “معلمي” وما قاله فيه عبارة عن جوهر شعره- موقفه السياسي حين قال:

“لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين […] وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة، أحد المنابر المتحركة الأقوى والأعلى، الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب. السلام القائم على العدل والمساواة ونفي احتكار الله والأرض، للوصول إلى المصالحة التاريخية بين الشعبين، مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس […] إذا كنا نلعب، فتلك هي شروط اللعبة، لسانًا بلسان، لا طائرة ضد طائر. وفي هذه المنطقة أيضا يتبطن المعنى ثانيًا، ويلجأ إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخفّ الحمل الثقيل من أجل الانتقال إلى حمل أثقل، في صحراء الإيقاع الذي لا يتوتر إلا لينسجم السياسي مع الأدبي”. وبما أن “هذه الأرض المقدسة بلدا للشعبين”.

 

وفقا لهذا فإنه بحاجة للإشارات والرموز المقدسة كي تسهم “في المصاحة التاريخية بين الشعبين”. وبما أن التوراتيات مشتركة “للشعبين” توجب استخدامها كي يقنعهما بتقاسم الأرض والركون “إلى المصالحة التاريخية” بينهما. أليس توظيف هذه الرموز توظيفا سياسيا!؟

 

وعندما نأتي على ذكر إميل حبيبي، لا بدّ من التأكيد على: كان إميل حبيبي ضمن وفد الحزب الشيوعي “الإسرائيلي”، الذي ضمّ، بالإضافة له، موشي سنيه (1909- 1972) وشموئيل ميكونيس (1903- 1982)، إلى تشيكوسلوفيا قبل قيام الكيان الصهيوني في العام 1948 للتباحث مع قيادتها التي أقنعوها بأن تكون أول دولة ترسل السلاح للعصابات الصهيونية! لذا كرّمته دولة “إسرائيل” بأن منحته “جائزة إسرائيل للأدب” عام 1996. وأطلقت بلدية حيفا الصهيونية اسمه على زقاق في وادي النسناس.

 

الإشارة الثانية- كان درويش قد أجاب على سؤال، في حوار أجرته معه مجلة الكرمل عام 1995، عن كثرة استخدامه الرموز التوراتية، بالقول:

“ليس استعمال مثل هذه الإشارات [الرموز التوراتية] لدواع جرسية وتغريبية فقط. إنها موظفة- إذا جاز التعبير- لإخراج الراهن ووضعه في أيقونة أو دراما تاريخية. أي لجعل النصّ يعمل في التاريخ أو الماضي. يعمل في اللحظة نفسها على مستويين زمنيين مختلفين”.

 

الإشارة الثالثة- في العام 2002، شارك درويش في مهرجان الشعر العالمي في برلين. وفي مقابلة مع “إلداد بيك”، مراسل صحيفة “يديعوت أحرونوت” الـ”إسرائيلية”، قال ما يلي:

“[…] ولكن موضوع القصيدة- مقاومة أو احتجاجًا- لا يهمّني، وما يهمّني هو الجوانب الجمالية”.

 

أما في الأمسية الشعرية، “جامعيون من أجل فلسطين”، التي نظمتها الجامعة الأمريكية في القاهرة في شهر كانون الأول من العام 2003، فقد قال درويش قولاً مختلفا للغاية:

 

“الشاعر في مرحلة الطوارئ سياسي بالضرورة لأنه جزء من مقاومة الاحتلال وهو مطالب بالوفاء للصورة التي يرسمها له القارئ ومطالب أيضا بالتمرد على ما هو متوقع منه”.

 

بناء على الإشارتين الأولى والثانية نريد أن نصدق ما قاله درويش في الجامعة الأمريكية في القاهرة، أي أنه شاعر سياسي بامتياز، وما استخدامه الرموز التوراتية إلا بغرض سياسي.

 

الإشارة الرابعة- بعد عدة أشهر من احتلال العراق عام 2003 عقد رأسماليو العالم منتداهم الدوري، “دافوس الاقتصادي”، في أحد منتجعات الجانب الأردني من البحر الميت.  حضر المنتدى “بول بريمر” القائد العسكري للعراق المحتل في حينه، والصهيوني “شمعون بيرس”،   إضافة إلى 140 شخصية سياسية- اقتصادية أخرى، وكذلك الشاعر- السياسي محمود درويش. في المؤتمر، ألقى درويش قصائد لمدة ثماني دقائق! “بريمر” و”بيرس” وغيرهم ليسوا مثقفين أمضى درويش معهم أمسية ثقافية، إنهم سلاطين المال وإفقار الشعوب.  ودرويش قبل على نفسه ليس فقط تجنيد الثقافة في خدمة أهداف مؤتمر “دافوس”، بل إنه ولمكانته الرفيعة في حقل الثقافة، أضفى مشروعية أخلاقية على مخططات مؤتمر “دافوس” واحتلال العراق. ولو بقي على التوراتيات فقط لحمدنا ربّنا وشكرناه!

 

الإشارة الخامسة- إضافة للتوراتيات، استخدم درويش الرموز والإشارات الكنعانية.  في قصيدته “على حجر كنعاني في البحر الميت”، يقول مخاطبا العدو الذي أصبح “الـ”غريب” قائلا:

“علّق سلاحك فوق نخلتنا يا غريب، لأزرع حنطتي

في حقل كنعان المقدس.. خذ نبيذًا من جراري

… وقسطًا من طعامي

… خذ

صلوات كنعانية في عيد كرمتها…”

ويضيف: “فيا غريب…

أوقف حصانك تحت نخلتنا! على طريق الشام

يتبادل الغرباء في ما بينهم سينبت فوقها

حبق يوزعه على الدنيا حمام قد يهبّ من البيوت”.

 

ويضيف في ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيدا؟”، مخاطبا العدو الذي أصبح “غريب” قائلا:

“سّلِّم على بيتنا يا غريب.

فناجين

قهوتنا لا تزال على حالها. هل تَشُمُّ

أصابعنا فوقها؟ هل تقول لبنتك ذات الجديلة والحاجبين الكثيفين إنَّ لها

صاحبًا غائبًا، (لماذا تركت الحصان وحيدا).

و:

“… لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض

فينا تدور على نفسها!

فلنكن طيبين إذاً. كان يسألنا

أن نكون طيبينَ. ويقرأ شعرًا

لطيار “ييتْس”: أنا لا أحب الذين

أدافع عنهم، كما أني لا أعادي الذين أحاربهم…”.

و كي يقنع الفلسطيني بأن لا طائل أو فائدة من نضاله يقول:

“[…]: وهل كان ذاك الشقي

أبي، كي يحمّلني عبءَ تاريخه؟”.

و:

“الشعر سلّمنا إلى قمر تعلقه أنات [عنات]

على حديقتها، كإمرأة لعشاق بلا أمل،

[…]

وأنات تقتل نفسها

في نفسها

ولنفسها”.

 

المثير حقّا عند درويش أن عنات جدتنا الكنعانية هي التي تقتل نفسها/ في نفسها/ ولنفسها، أما أبطال التوراة فقد بقوا أبطالا أحياء عنده، لذا علينا تقاسم وطننا مع أحفادهم المستعمرين!

 

(الجزء الثاني في العدد المقبل من طلقة تنوير)

 

 

 

سنة التطور في القصيدة العربية

 

إبراهيم علوش

 

 

كانت القصيدة الجاهلية تعكس بساطة الحياة البدوية وفطرتها، وحياة الترحال بحثاً عن الكلأ والمرعى، وقد جاء البكاء على الأطلال في مطلع تلك القصيدة تعبيراً عن القلق الوجودي المصاحب للترحال.  وكانت بنية القصيدة تعتمد على وحدة البيت، أي قدرته على الوقوف وحده كبيت شَعرٍ في مضارب القبيلة، أكثر مما كانت تعتمد على وحدة القصيدة، بمعنى تكامل أبياتها.  وقد تخللت القصيدة الجاهلية عامة نفحات من الوصف والحكمة، زهير بن أبي سلمى نموذجاً، وكان الغزل عنصراً رئيسياً في بنية القصيدة، ولعل أفضل معبر عن تلك المرحلة الشعرية أمرؤ القيس.

 

أما موضوعات الشعر الجاهلي، فلم تخرج عامةً عن المديح والفخر والهجاء والرثاء.  كان الشاعر الجاهلي القناة الفضائية للقبيلة الذي ينقل خطابها عبر ترددات القبائل الأخرى، وكان الشعر غير القبلي يقع على طرفي نقيض: شعر القصور بغرض التكسب، وشعر الصعاليك للاحتجاج الاجتماعي.  لكن حتى في تينك الحالتين، كان الشاعر الجاهلي ينطلق من خلفية انتمائه القبلي، سواء بالتعزيز أو بالنقد.  ونسوق النابغة الذبياني نموذجاً على مديح الغساسنة والمناذرة في قصورهم، المنطلق دوماً من مصلحة عشيرته: بني ذبيان.  ونسوق طرفة بن العبد وعنترة بن شداد مثالين على النوع الثاني الذي ينتقد الظلم في القبيلة دون أن يقطع انتماءه العضوي لها، وصولاً للشعراء الصعاليك البارزين مثل الشنفري وعروة بن الورد، مع الإشارة أن التصعلك كان يحتمل معنيين ضدين: إما الابتذال والتهتك الأخلاقي، أو التسامي والتمرد على الظلم الاجتماعي والعادات الجاهلية القبلية.

 

ونقتطف من الشعر الجاهلي هذين البيتين من لامية الشنفري:

أُديـمُ مِطَـالَ الجُـوعِ حتّـى أُمِيتَـهُ            وأضْرِبُ عَنْهُ الذِّكْرَ  صَفْحاً  فأُذْهَـلُ

وَأَسْتَـفُّ تُرْبَ الأرْضِ كَيْلا يُرَى لَـهُ           عَلَـيَّ مِنَ الطَّـوْلِ امْـرُؤٌ مُتَطَـوِّلُ

 

أي أصبر على الجوع حتى يموت، فأنسى أمره، واكل من تراب الأرض حتى لا يتطاول عليّ أحدٌ لو مددت إليه يدي…

 

مع صدر الإسلام، وتحول العرب إلى دولة مركزية، طرأت تحولات على القصيدة العربية ميزتها عن القصيدة الجاهلية في الشكل والمعنى، وأن بقيت بنية القصيدة العمودية.  فالقصيدة في صدر الإسلام أصبحت أندر وأقصر، وأكثر مباشرة في تحديد هدفها، وبدأ التخلي عن تقليد البكاء على الأطلال والتغزل في مطلع القصيدة، دون أن يتوقف، لكن الشعر بات يتضمن معانٍ بدوية وحضرية، وبات سياسياً يمثل شعر دولة أو شعر معارضة، وتدريجياً، لم تعد القبيلة محوره الأول، ولا حياة الصحراء مادته الخام، ومن ذلك شعر حسان بن ثابت الأنصاري، شاعر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وشعر الخوارج لاحقاً ومنه قصائد قطري بن الفجاءة.

 

في صدر الإسلام لم يعد الشعر وحده ديوان العرب، إذ بدأ النص النثري يحفر لنفسه مكانةً راحت تزداد أهمية مع تزايد أهمية التدوين المرتبط بالاستقرار والتمدن والصراعات السياسية الناتجة عن انقسامات اجتماعية تتجاوز القبيلة.  كما بدأت تتزايد أهمية الخطابة وتدوينها، وهو ما بدأ قبل الإسلام.  وإن من البيان لسحرا.  ولا شك أن القرآن الكريم، كنص، يمثل علامة فارقة في تدشين انتقال مركز الثقل في الحياة الثقافية العربية من القصيدة إلى النثر الحافل بالنفحات الشاعرية، وقد كرس القرآن تبعية الشعر للنص المنثور لكي تتم تبرئته من تهمة الغواية، كما جاء في سورة الشعراء: “والشعراء يتبعهم الغاوون (224) ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا…” إلى بقية الآية الكريمة.   ويقول بعض المفسرين أن “انتصروا من بعد ما ظلموا” تحمل معنى الرد على شعراء المشركين، أي ضرورة دخول شعراء المسلمين المعترك الإعلامي دفاعاً عن المشروع السياسي الذي يتجاوز القبيلة، لكن المعنى الواضح يبقى أن التزام الشاعر بالرسالة النبوية، وبالتالي بمشروعها السياسي، المتمحور حول النص القرآني، هو شرط إبرائه من تهمة الغواية والضلالة في كل وادٍ.

 

بدأ الشعر إذن يفسح مجالاً أكبر لفنونٍ أخرى مع صدر الإسلام، حتى في عز مراحل ازدهاره اللاحقة في العصر العباسي، قياساً بما كان عليه في الجاهلية.   كما أنه، كانعكاس حي لشروط الحياة العربية في كل مرحلة، وكتعبيرٍ عن بنيتها الفوقية، لم يفلت من التغيير الذي لحق بكافة مناحي الحياة العربية، ومنها شكل القصيدة.   وما كان من الممكن للقصيدة الجاهلية، بشكلها التقليدي، أن تبقى خير تعبيرٍ عن الحياة العربية في صدر الإسلام، فما بالك بما تلاه؟!

 

أضف إلى ذلك التراث الثقافي الغني للعروبة القديمة في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا، مما لا يمكن أن لا تنتقل مناهجه إلى العروبة الصريحة اللاحقة للإسلام، كما أظهرنا في كتاب “أسس العروبة القديمة”، ناهيك عن هيمنة الحياة الحضرية في السياسة والاقتصاد والثقافة، مما لا يترك مجالاً لفرض النمط الجاهلي للقصيدة العربية قالباً حديدياً لا يحل الخروج عنه.

 

تقعيد الشعر في بحور حسب موسيقاه النمطية المتكررة، منذ نشأ، كان بالضبط ما “فَعَلَ”ـه الخليل بن أحمد الفراهيدي في البصرة بين نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي.  وقد كانت تلك ألحان الروح العربية التي عزفها تمازج الإنسان والأرض العربيين حتى ذلك التاريخ: خمسة عشر بحراً، أضاف إليها الأخفش الأوسط بحراً آخر (المتدارك المحدث)، ولم يُرمَ الأخفش بعدها بالزندقة الشعرية لأنه اكتشف بعد الفراهيدي بحراً جديداً!  ولم يُتهم أنه جاء بشيءٍ دخيل…  ولم يأتِ تقعيد الشعر في أوزانٍ، ما برحت تجترحها السليقة العربية منذ قرونٍ (على الأقل) قبل الفراهيدي، ليضع خاتمة للتطور الشعري العربي بالضرورة.

 

عموماً عرف العصر الأموي، بالإضافة للشعر السياسي، المتوزع ما بين الأمويين وبني هاشم والزبيريين والخوارج، عودةً جزئية لبنية القصيدة الجاهلية، خاصة في الحجاز، وذلك مع عودة الانقسامات بين القبائل التي أذكى نارها بنو أمية.  لكن حياة الترف واللهو، والصراعات السياسية في الدولة الأموية، كانت قد طبعت القصيدة العربية بأبعاد أوسع من قصيدة الصحراء.  فحتى لو أخذنا جرير والفرزدق والأخطل ونقائضهم نموذجاً على مرحلة القصيدة الأموية، نظل في مرحلة شعر الدولة لا شعر القبيلة.  فقد تم إحياء التراث الجاهلي في قالب مدح الخلفاء الأمويين وانتشر الشعر السياسي والغزل الماجن استناداً إلى روح العصر، لا إلى الزمن الأول.  فالتكلف في اللفظ والمعنى جاء ليخلق شعراء بلاط وتجار الأعطيات الكبار، وليعبر عن تطورٍ شعريٍ يعكس نشوء طبقة اجتماعية كاملة تعيش في فلكٍ خاصٍ بها، طبقة الخاصة، النخبة الاقتصادية-الاجتماعية، التي جعلت من إنتاج أدب لا يستطيع أن يفهمه العامة، عامة الشعب، جزءاً من تميزها المفتعل.

 

لكن الانفجار الحقيقي في التطور الشعري العربي جاء في العصر العباسي، إذ تحولت القصيدة إلى موسوعة تضم الفلسفة والحكمة والعلوم والفقه والتأملات المعمقة، بالإضافة لمواضيعها التقليدية التي بات تطرق بشكل غير تقليدي.  وقد بلغت القصيدة العربية رأس سنامها في العصر العباسي، وربما في تاريخ العرب برمته، عند أبي الطيب المتنبي.  كما أنها كانت مرحلة أبي تمام والبحتري وأبي العلاء المعري.  وقد شهد العصر العباسي الصراع المرير بين الشعراء التقليديين من جهة والشعراء المحدثين أو المولدين من جهة أخرى، ومنهم بشار بن برد وأبي النواس، وكلاهما ذو نزعات شعوبية، غير أن أبا تمام نفسه اتهم بالخروج على عمود الشعر المألوف عند العرب، لكنه التطور الطبيعي للغة الذي يفرضه إيقاع الحياة ولا يمكن أن يقيده أحد، والذي لا يلغيه وجود نزعات لتفكيك الثقافة العربية عند أعداء الأمة العربية، سواء كانوا شعوبيين أم متغربين.

 

كان الشعراء العباسيون قد حافظوا عامةً على وحدة الوزن والقافية في قصائدهم، لكن الميل نحو البحور القصيرة، والابتعاد عن النموذج الجاهلي في التعبير، وابتكار أشكال جديدة للتعبير الشعري، جاء ليعكس تطور الحضارة العربية التي وصلت أوجها في العصر العباسي، ومن ذلك مثلاً مقامات بديع الزمان الهمذاني، الذي يفتخر بأصله العربي بالمناسبة، والتي مزجت ما بين النثر والشعر، ليتحول الشعر إلى عنصرٍ في رواية، بدلاً من أن يكون الشعر هو الرواية.   أما في الأندلس فقد دخلت أوزان جديدة، وبدأ التخلي عن وحدة الوزن والقافية، كما نرى في الموشحات، وهو ما يعكس تجدد بنية القصيدة العربية بشكل طبيعي نتيجة امتصاص التطور الحضاري الأندلسي الذي بلغ قمماً في الرقي والتقدم في ذلك العصر.

 

باختصار، ما دام التطور الشعري طبيعياً، ويأتي في سياق تطور طبيعي للحياة والمجتمع والثقافة، فإن وضع القيود الصارمة على شكل وبنية القصيدة، باعتبار أن ثمة زمن ذهبي للقصيدة لا بد لكل زمن آخر أن يُقاس عليها، يعكس فقط عجز الأمة العربية عن تحقيق مشروعها النهضوي، ويعكس وقوعها أسيرة المستنقعات الآسنة على ضفاف التاريخ.  فلا الأوزان المستحدثة انتهاكٌ للمقدس الشعري، ولا النظم على أوزان غير مألوفة مثل مجزوء الطويل أو تام الرجز بجريمة، والعبرة تبقى في ما إذا كان التجديد الشعري يعبر عن تجاوب مع حاجة طبيعية للتطور الحضاري، المتناسب مع روح العصر، والاختبار الحقيقي لهذا هو قدرة ذلك الشكل الفني الجديد على مقاومة الاندثار مع الزمن، وما إذا كان يعبر عن روح الأمة في تلك اللحظة التاريخية، وهو الأمر الذي لا تحدده شعبية الشكل الفني هنا والآن بالضرورة، بل قدرته على الاستمرار ليطبع مرحلة برمتها، كالفرق بين أم كلثوم من جهة وأي مغنية عابرة في النصف الثاني من القرن العشرين مثلاً.

 

الجريمة، بالمقابل، هي استخدام ذريعة التطور الطبيعي لتغطية مشروع التفكيك، تفكيك الثقافة العربية، سواء بالدعوة لاحلال العامية محل الفصحى، أو بضرب فكرة التفعيلة تماماً لمصلحة “قصيدة” النثر في الوقت الذي تواجه فيه الهوية القومية هجوماً ضارياً عليها.   فبدر شاكر السياب مثلاً جاء ثمرة طبيعية لتطور القصيدة العربية، لاحتكاك الثقافة بمتطلبات التأقلم مع الزمن، أما أكوام الهراء العشوائي الذي يسوق كـ”قصائد” اليوم، وتمويل وكالة المخابرات الأمريكية للحداثة الشعرية التفكيكية، كما فعلت مع مجلة “حوار”، فلا يعتبر تطوراً شعرياً طبيعياً، بل تقويضاً لكل تطور، لأنه يستهدف روح الأمة.

 

أما قصيدة التفعيلة فجاءت نتاج تطور طبيعي حفزته بدايات النهضة العربية منذ محمد علي باشا وصولاً لمرحلة التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية.  فهذا اللون من الشعر لم ينشأ من فراغ، بل هو وليد دوافع وأسباب تضافرت معاً وهيأت لولادته كغيره من الأنماط الفنية الأخرى، كتطور الغناء وألوانه مثلاً.  وقد بزغت قصيدة التفعيلة في العراق عند نازك الملائكة والبياتي وبدر شاكر السياب، لكنها اخذت زخما وتوسعت في مصر (احمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور) وفي لبنان (خليل حاوي) وصولاً لمظفر النواب ونزار قباني وأمل دنقل وغيرهم، وقد كانت هناك عدة مساهمات من اقطار عربية مختلفة في ارساء حركة وقواعد شعر التفعيلة يثبت نشوؤها وتفاعلها معاً أننا نتعامل مع ظاهرة طبيعية لا مفتعلة، خاصة أنها حملت، مما حملته،  قصيدة المقاومة الفلسطينية بعد انطلاقها.

 

ليس من المعقول إذن أن نصر على البكاء على الأطلال بعدما توقفنا عن الترحال في الصحراء منذ زمنٍ بعيد، ولا من الممكن أن نقيد الألحان التي تعزفها الروح العربية على أوتار الزمن، ولا يملك أحد أن يمنع نشوء وارتقاء أشكال شعرية جديدة تناسب المرحلة التاريخية؛ أما استبدال الموسيقى بالنشاز، فيخنق الروح بالرداءة، وينحط بالذائقة العامة، ويصب في خانة شطب الهوية الثقافية للأمة.  ورب نفسٍ شاعري في “قصيدة حرة” لن يعدو أن يضيع تحت طبقات اللامبنى.  فالتفعيلة المتناسبة مع العصر ليست ضمانة للجودة الشعرية، لكنها شرطٌ ضروريٌ غيرُ كافٍ لها…  وربما تجترح الشاعرية العربية يوماً ما ألحاناً وأدواتٍ موسيقية لم نسمع بها بعد،عندما تأتي مرحلتها، وربما تعود للنمط الجاهلي، كما نشأت ردةٌ جاهلية مقولبة في العصر الأموي، أما اليوم، فإن قصيدة التفعيلة تبقى قصيدتنا التاريخية.

 

 

 

 

قول شاعر

 

نور شبيطة

 

 

إن سطرا فكاهيا في مسرحية هزلية (مدرسة المشاغبين)، قيل لأستاذ اللغة العربية المتقعِّر، الذي خلد في ذاكرة جيل كامل كنمط للنحاة وأساتذة اللغة الجامدين، كفيلٌ بأن يلخِّص كيف تعامل الطرف الذي يدِّعي الحداثة مع من يتقعَّر في تقليديَّته السفسطائية الفارغة، أقصد بالسطر تلك الجملة العامية المصرية “كلما تتزنق اقلع”!

 

فهم يجعلون “التخلِّي” حلًّا وحيدًا، لنواجه الواقع، واقعنا المرتهن للغرب دون أي صلة لنا بتراثنا، بدعوى “التحرر من القيود”.  والعجيب أنهم يستغنون عن الجزء الذي يجعلنا أقوى، ولا يأبهون بتغيير ما يشدنا للأرض (من نمط التفكير الخطي، والعيب في النظرية)، وكما نرى في السياسة والدين طرفين مستلبين للغرب، يحتكران الصراع، فميدان اللغة ما زال محتلا بصراع بين طرفين، كلاهما توضع فيه العربة أمام الحصان، وتفرض النتائج فيه فرضا على البحث قبل أن يتم، وهنا أحب كشاعر أن أتقدم بهذا المقال، الذي يحوي توضيحات حول الشعر العربي، علها تساعد في نشأة نظرية شعرية حداثية حقيقية، ومع أنني أعتقد أن هذا لن يكون قبل تحقيق حداثة عربية حقيقية فيما يخصُّ الواقع المَعيش، إلا أنني أبتغي أن يُفهم أنَّ الشعر كان قد توسَّع في أطوار الزمن ولم ينتقل انتقالا، وأن منبع الشعر الذي هو عَموده وأصله إذا رُدِمَ، فسرعان ما سيجفُّ ماء نهره، وأن صعوبة الشرط الفني يجب على الإبداع أن يصعد فوقها ويظهر عليها لا أن يكسرها ويخرقها.

 

سأتناول الشعر من حيث الإيقاع والوزن، ولعل الحديث سيفضي إلى جوانب أخرى مرتبطة بشكل وثيق، وإنما أحاول كشاعر أن أقدم نموذجا يتحاشى ثنائية الصراع بين التقليدي المتقعر والحداثوي المستلب، ليبتعد عن بدعة التجنيس الأدبي المهجنة عن نسختين سابقتين عليها، نسخة قديمة قاصرة، تقسم الكلام العربي لشعر ونثر وقرآن فقط، ونسخة أجنبية مستوردة تفرض فرضا على نصوص من لغة أخرى، غير التي نشأت فيها، لعل الكون يتسع لفهم أن الشعر العربي مجموعة جزئية من الفنون الشعرية العربية، وأنه كأصل لا يلغيه نشوء فروع عنه، ولا تحلُّ هي مكانه، ولا عافيةَ لها في زمن يعتلَّ فيه أصلُها.

 

يردُّ كثيرٌ من النقاد والمؤرخين العَروضَ العربي (الميزان الإيقاعي للشعر) للبيئة العربية، وهذا دقيق وغير دقيق في آن معا، فالعلاقة بين الأوزان العروضية والواقع ليست مباشرة، لكنها موجودة، إذ بينهما الوسيط اللغوي، أي بنية اللغة ذاتها، فاللغة متأثرة بالبيئة والتاريخ، ومؤثرة في الشعر لاسيما عروضه وإيقاعه، والعلاقة أيضا عكسية ومن خلال وسيط اللغة أيضا.

 

أي أن الإيقاعات المحتملة رياضيا للجملة العربية المكونة من كلمات، لها موازين صرفية موقَّعة، كامنة في اللغة أصلا، فالكلمات لها لحن في الأذن وعلى اللسان، والجمل الممكنة من حيث البنية الصرفية للجملة العربية، والنحو الذي نحاه العرب في كلامهم، لها ألحان بإمكانيات أكبر واحتمالات لحنية أكثر، وبهذا فالدوائر العروضية التي استقرأها الخليل بن أحمد الفراهيدي رياضيا، بالمرور على ما عرف من شعر العرب، تغطي الأوزان الممكنة في الشعر العربي ومن ضمنها البحور التي سمَّاها ووضع مفاتيحها الخليل، وكذلك البحر الذي استدركه عليه الأخفش أيضا، بل وبحور أخرى كثيرة لم يقل عليها شعراء العرب شعرا، أو لعلهم قالوا بعضه ونُسي أو أُهمل من خلال سلوك لغوي سلكته الجماعة العربية في حينه، ومنه ما بقي وأُدخل في ضروب أخرى من القول كسجع الكهان، أو اختلف النقاد على البحر الذي يرجع له كمعلقة مطلعها (أقفر من أهله ملحوب)، أو تأخر اكتشافه ولم يدخل في تسمية الشعر كبعض بحور الموشحات، أو الدوبيت وغيرها من ضروب القول المتأخرة.

 

أما عن سبب الجمود فلنلاحظ أن الجمود ابتدأ مع الجمود الديني المتمثل بالوثيقة القادرية، والجمود السياسي المرافق له المتمثل بالانتقال من مرحلة الهجوم والفتوح لمرحلة الدفاع والثغور، ولأن الأدب وخاصة الشعر يتمتع بزخم خاص به مرتبط باللغة فقد تأخر التأثر العام بهذه الحالة شعريا، تأخر قليلا، لكنه مرتبط به، وما شذّ عن القاعدة فقد صحبه شذوذ سياسي عن القاعدة أيضا، وفي الفترة السابقة على القادر بالله (أحمد بن إسحق)، كانت اللغة كائنا متطورا حيا، لكن فكرة عصور الاحتجاج (القرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة) التي شاعت بعد انقضاء عصور الاحتجاج بالضرورة، جمَّدت اللغة كلَّها، والشعرُ وإن بقي متمردا قليلا إلا أنه جُمِّد لاسيما من حيث التنظير، ولما عادت الحياة للاجتماع العربي في الأندلس ظهرت مخلوقات شعرية، لم يسمِّها أحدٌ شعرا كالموشح، وكانوا يسمون مبدعها وشَّاحا، لا شاعرا، ولم يضر ذلك الوشاحين ولا الموشحات،وعرفوا أنهم اكتشفوا أرضا لغوية شعورية جديدة تستحق اسما خاصا بها، ورغم انعجانها بالشعر بقيت مستقلة عنه من حيث التسمية.

 

ثم وفي العصر الحديث، وبعد زمن كاف لتأثر الواقع اللغوي بالواقع الاجتماعي، من لحظة ثورة محمد علي باشا، وما اقترب من أن يكون نهضة عربية حديثة، دبت الحياة في الواقع اللغوي، وظهرت مخلوقات شعرية جديدة، احتدم الخلاف حول تسميتها شعرا أو اجتراح اسم خاص بها زمنا طويلا، لأن هذه النهضة لم تتم، فلم يتسنَّ للتنظير تناول هذا المخلوق الشعري الجديد بالبحث، إلا في عصر تقوقعٍ جديد وانكفاءٍ على الذات، كان يعاصره تغريب واضح، وفي ظل هذين التيارين أي التقليدي والمتغرب، استعصى الحل واستفحل العقم النظري، فالتقليدي يريد الصورة التي يألفها، والمتغرب يريد تجيير هذا المخلوق الشعري الجديد لتلاقح الثقافات ولما يقيسه على المسيرة الثقافية الغربية، لأنه _في عيونه_ فكل نهضة تقاس على نهضة الغرب، وهذا يشمل المتغربين صراحة والذين تغرب وعيُهم، فنظروا نظرة استشراقية لذاتهم العربية، دون أن يقبلوا التغريب، وبقي هذا المخلوق الشعري طويلا ضحيةً لتجاذبٍ ولَّدت نظرياتُه أشكالا هجينة أخرى غيره، فصار كل شاعر يريد أن يكون مفصلا في تاريخ الأدب ويجترح شكلا شعريا جديدا، فأتوا بتنويعات التفعيلة في قصيدة تفعيلة واحدة، وظهر (القصيد المرسل) المكون من أشطر لا تتقيد بقواعد القافية الثابتة، وغيرها من الأفكار التي لم يواكبها واقع لغوي يبقيها لفترة طويلة، وظهر إسقاط الإيقاع العربي تماما من “القصيدة” والذي صحبه تدمير واضح لبنية الجملة العربية، وهي كما أسلفنا تولد الوزن الكامن فيها توليدا، ولأن اللغة وعاء الفكر، فقد انسكب الفكر وساخت الروح العربية في لغة ما يسمى “قصيدة نثر”، ولم ينقذ هذا الجنس من النصوص الاستنجادُ بالشذرات الصوفية وأي جذر تاريخي ممكن للتقعيد له، لاسيما وأن أدعياءه يرفضون أي شرط فني كما يدَّعون.

 

هنا لابد أن نقول إن بعض المخلوقات الشعرية (ما كانت ذات أصل مردُّه الشعر) ساهمت بإعفاء الشعر العربي من التطور وبالتالي تجميده، مع أن تطوره لأوزان كثيرة ممكن من جهة الموسيقا الشعرية، والدوائر العروضية، وبنية الجملة العربية. وسَبْقُ التنظير على الإبداع، أخرج بِدَعا مشوَّهة، من حيث البنية الموسيقية، شوهت اللغة والوعي بدورها بأثر عكسي، أو استفادت من تشوُّهه الحاصل لأسباب اجتماعية وسياسية ودينية، كان آخرها المسابقات الشعرية التي تضاعف فيها تأثير النقد على الشعر، مستخدمة أقذر الأدوات الرأسمالية، من مال، أو هيمنة إعلامية، وتصويت، ساهمت بتكريس الوعي القطري والإقليمي، وكسَّرت المضمون الشعري الذي بات يصاغ بما يعجب النقَّاد، ويلقى حظوة عند الصحافة المشبوهة، لا بما يحسه الكاتب، مما زاد غربة ما يسمى شعرا عن الواقع، وبات لا يفهمه سوى طغمة ثقافية تمارس دوراً رجعيا تبعيا وإن ادَّعت التقدمية، أما سائر الجماهير العربية فراحت بشوقها للأصول ضحية لرجعية من نوع آخر، وبدأت الحركات الإسلامية العميلة السيطرةَ عليه ومصادرةَ فنونه، لتتبنى الدفاع بطريقة ماضويَّة فجَّة عن عمود الشعر (عمود الشعر أي أصله وليس عامود وهذا خطأ شائع)، وفي هذا النزاع غاب صوت الشعر، وأظن كل عربي لا يعدم بين أقربائه أن يجد شاعرا مبدعا اعتزل هذا النقاش وعفَّ عن النشر بعد محاولة أو محاولتين اصطدم خلالهما بالواقع النقدي السيء، والبيئة “الثقافية” المنحطة خلقيا!

 

الآن وقبل أن نُجمل القول، ولأن ضفيرة المعنى والمبنى ضفيرة واحدة، فإن قصة العروض العربي التي روينا بعضا منها، تكاد تنطبق على قصة المضمون الشعري، فهي تتشابه في منحناها وإن كانت لا تنطبق من حيث التزامن، فهذه المسيرة تتعدى موسيقا الفنون الشعرية إلى مضامينها، والذي نطلبه من النقد أن يغطي مهمته الوصفية بكفاءة قبل الانتقال للتنظير لأن من لا يدرك الواقع يستعصي عليه أن يعالجه، وعدم إدراكهم الواقع يتجلى في الانحطاط النظري في تناول قضايا الاجتماع والسياسة والدين، والأدب ليس شذوذا.

 

إن كل شكل إبداعي يلامس الروح على عمق ما، وله أغراضه وتاريخه وقواعده وتقاليده، أو هذا الذي تفترضه فكرة الأجناس نقديا، وما يسمَّى “عقدة كولومبوس” (اجترح هذا المصطلح الناقد د.نارت قاخون)، تُعمي من اكتشفوا أرضا لغوية شعرية جديدة وفنا مستقِلًّا بهويته عن الشعر، وإن كان يجتزئ بعض شعر العرب ويترك بعضه، ظلُّوا مثل كولومبوس مصرِّين على أن ما اكتشفوه هو (جزر الهند الشرقية في حالة كولومبوس/ تحديثٌّ للشعر العربي في حالتهم) بينما هو مخلوق شعري جديد، لا يمنع أن يحافظ الشعر العربي على تطوره بشكله الأصيل، وهو قد تطور من حيث المعنى كثيرا، لكن بما لا ينفصل عن واقع الأمة، واليوم تستغل الثورة المعرفية والرقمية لاكتشاف أسرار إيقاع اللغة العربية الكامن فيها (راجع ما يقوم به المهندس خشان خشان وفكرته عن العروض الرقمي)، واستقراء بحور أخرى فقد يولد الواقع العربي الجديد بحوراً أخرى لم يستخدمها العرب، لا تشوِّه بنية الجملة العربية، بل وتواكب تطورها إن نمت دون تورُّم سرطاني.

 

يبقى أن نقول إن جلَّ الدارسين وقعوا في إهمال خط سير الشعر العربي في اللهجات العامية، فقد تحوَّل لأهازيج وأصوات بقي وزنها الذي يفسِّر تطابق الإيقاعات في كافة الأقطار العربية على اختلاف اللهجات، وأُفرغ من محتواه “الفصيح” ليُملأ بمحتوى عاميٍّ، ثم تطوُّرِ موسيقاه بما يناسب المجتمعات العربية غيرَ الجزيريِّة، إذ كان يؤسس للمرسل والتفعيلة من حيث القالب الموسيقي، ثم يعود بعد تفصيحه، لينتج مخلوقا شعريا جديدا يستحق اسما خاصا به، ومعاييرَ نقدية خاصة به، وشرطا فنيا خاصا، بل وله أغراض شعرية مختلفة، فجاء فن التفعيلة والمرسل، لكن العوار النظري، وعجز النقاد هو ما مهَّد الأرض لخلطات مسبقة الصنع، ليصل الأمر حتى فكرة (قصيدة النثر) والتي ما زال أصحابها ينازعون الشعراء لقبهم، ويتنكبون منابرهم، بعد أن اعتدى من قبلهم _ولو بحسن نية _ بخلط التسميات، ليخلطوا هم بدورهم كل الأوراق، وليدمروا اللغة أيَّما تدمير، مسنودين بمن سبقهم من المصابين بعقدة كولومبوس ومتوارين بين شقوق الصراع المفتعل بين التقليدي والثوري، ثم نقلوا العدوى للجميع، فرأينا انهيار المعنى وانهيار الجملة العربية حتى في ما يلتزم بشروط بنية القصيدة العربية الأصيلة، من شعر تجوز تسميته عامودي بدل عمودي، فليس فيه من عمود الشعر إلا الشطرين والبحر والقافية، ولو كان هذا يكفي ليكون القول شعرا لكانت منظومات العلماء شعرا! وما هي بالشعر.

 

وفي الختام، فإنه وفي مرحلة التردي السياسي فلا يتوقف التطور شعبيا، لكنه يأخذ شكلا هامشيا، ليكتسب خصائص تجعله يكسب المعركة إذا عاد للمركز، واليوم فلعل المشتغلين بالفنون “الشعرية” يلاحظون أن أكثر هذه الفنون شيوعا بين العرب، هي الشعر العامي لاسيما الأقرب منه للشعر العربي الأصيل (النبطي، المحكي، والشعبي، كأمثلة)، وما كان أقرب للشعر الشعبي والشعر العربي من التفعيلة الفصيحة أي تلك الخالية من الفذلكات المابعد-حداثية، والجمل غير المفهومة (مظفر النواب، أمل دنقل، نزار قباني، كأمثلة)، وأكثرها انتشارا وقبولا كفن شعري، مع كل الحرب الإعلامية التي تشنُّ عليه هو الشعر العربي الأصيل، الذي تطوَّر ووجد من يدافع عنه ويُنظِّر له، وهذا تراه متمثلا بحبِّ العرب لتراثهم الشعري وترديدهم له، وأنه ورغم أنف الجميع ما زال العربي اليوم يفهم حوليات ابن أبي سلمى، وشعر مجنون بني عامر، والحلاج، والمتنبي وغيرهم من كل العصور، وقد يلاحظ المشتغل بالشعر أن أمسيات من التزموا عمود الشعر العربي معنى ومبنى (دون أسلمة وماضوية ولا تفكيك للجملة العربية) ما زالت هي الأعرض جمهورا، متى ما ابتعدنا عن تأثير الآلة الإعلامية وما صنعته من أصنام.

 

 

 

الشعر والهوية القومية

 

جميل ناجي

 

لقد لعب الشعر في بواكير طلعته دورا اجتماعيا وثقافيا شكّل خلالها حجرَ زاويةٍ مهمٍ في حياة عرب الجاهلية، وقد اكتسب الشعر أهميته من خلال هذا الدور الاجتماعي الذي لعبه ضمن إطار الواقع القبلي السائد.  وقد شكّل الشعر الوسيلة الأساسية آنذاك للمعرفة، إضافة إلى كونه آداة لانتقال التراث الحضاري وتاريخ الجماعات القبلية، إلى جانب دوره في وصف كافة العمليات الاجتماعية داخل المجتمعات القبلية أو فيما بينها.  وقد فقد الشعر فيما بعد الكثير من وظائفه مع قيام الدولة المركزية ليلعب أدواراً أخرى تتعلق بالجانب السياسي والثقافي مع التعقيد الذي أصاب الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

 

بالتالي تحوّل الخطاب الذي يحمله الشعر من الإطار القبلي الاجتماعي الضيق إلى خطاب عام مرتبط باتساع رقعة الدولة العربية جغرافيا ومعبرا عنها، إضافة إلى دخول العديد من آداب وثقافات الشعوب الأخرى (النشاط الذي أصاب حركه الترجمة، علوم المنطق واللسان والفلسفة عامة) التي ألقت بظلها عليه، وساهمت في إثراء مضامينه وآلياته اللغوية.  لقد مثّل الشعر الشكل الأدبي الأول بامتياز عبر التاريخ العربي، وهذا ما جعله أيضا يصلح كأداة دعائية وسياسية مهمة، فكتبُ التاريخ تذكر العديد من شعراء البلاط، وعلى النقيض الشعر أو الشعراء الحاملين للمشاريع السياسية وغيره.

 

مع دخول الأمة عصر النهضة القومية والبحث عن الهوية العربية الضائعة في نظام ملل الاحتلال التركي (العثماني)، بعد مئات السنوات من القحط الأدبي والثقافي، وجد الرواد الأوائل في الشعر حافظا ووعاء لغويا وأدبيا وفيا للهوية العربية والعقل الجمعي للأمة.  ومع تنامي الشعور القومي، وفي خضم صراع الحفاظ على الهوية (الذات) في مواجهة الآخر العدائي الاستعماري، نشطت حركة الشعر إلى جانب أشكال أدبية أخرى.  المثير في الشعر هنا أنه صمد حاملا الروح العربية ولم يتأثر مع تفكك الدولة المركزية.

 

ارتبط الشعر عامة في بداية اليقظة القومية مع الخطاب التحرري في مواجهة الآخر، وبالتالي تمحورت مواضيعه بشكل عام على الجانب السياسي، في خدمة المشروع القومي بالتحديد، سواء في مواجهة الأتراك أو الاستعمار الغربي.  فهو مستوعب للإرث اللغوي والثقافي الحضاري، وأداة لبلورة الروح العربية الجمعية وللتحريض السياسي عند ناطقي اللغة.  وهذا ما يجعله شكلاً أدبياً ممثلاً ومدافعاً عن الهوية وعن اللغة بالدرجة الأولى، إضافة إلى طابعه الجمعي الجماهيري، قبل أن يتعرضَ لعمليات التفكيك المرتبطة بالهجمة الثقافية على الأمة.

 

لقد تعرّض الشعر كما غيره من الأدوات الثقافية إلى محاولات التفكيك والإفراغ من المضمون الهادف ليُلصقَ بجسمه تراكيب لغوية مبهمة بدون محتوى حقيقي أو فكرة هادفة، إضافة إلى ضرب الشكل العام للقصيدة المنضبط بميزان موسيقي (نقصد بالتحديد بنيه القصيدة وسياقها المترابط) إلى أشكال نثرية مسجوعة تارة تسمى على غير هدى شعرا لا يفهمه أصحابه، كان ذلك تحت مسمى الحداثة والتحديث اللغوي والشعري.

 

على أي حال، صحيحٌ أن الشعر تعرض لعمليات مسخ حقيقي تحت تأثير تيارات التغريب المتعددة، لكن هل كل تحديثٍ شعري يوضع في ميزان التفكيك؟؟  تبقى الإجابة متعلقة بالإثراء والتحديث الذي تقدمه الأشكال الشعرية للثقافة العربية عامة وبالتالي تدعيم الهوية العربية.  أما إذا أخذت هذه الأشكال بُعدا لضرب الهوية فهي مرفوضة تماما.  لقد أخذ الصراع بين المدافعين عن بنية القصيدة التقليدية والمحدثين أصحاب شعر التفعيلة (لم يحل إلى الآن) جهدا ووقتا كان من باب أولى لو صُرف على التطوير الثقافي واللغوي من أجل تدعيم الهوية القومية في مواجهة الهجمات المتكررة عليها.

 

لا معنى للشعر إذا إنْ لم يحوِ في طياته دعما ما للحفاظ على ثقافة الأمة وهويتها، وإن كنا نعتقد بأنّ الشعر يصلح عربيا كأداة لغوية في نشر الخطاب السياسي والتحريض إضافة إلى دوره السابق، فنحن لا نتحدث هنا عن رافعة للمشروع القومي أو أداة تحرير، بل عن رافعة ثانوية صغيرة ضمن الإطار اللغوي والثقافي أصبحت تحمل من المفاهيم الليبرالية أكثر بكثير مما تحمله من إرث ومفاهيم نضالية بسبب العجز الذي أصاب المشروع القومي. وبالتالي فالدفاع عن الشعر هنا يأخذ البعد السياسي أولا وقبل كل شيء دفاعا عن الأمة ومكتسباتها الحضارية وهويتها.

 

لقد حمل الشعر تاريخيا همّا جماعيا واحتراما عاليا للجمهور حتى في غزله العذري، قبل أن يتحول اليوم إلى الضحالة والعدمية المبهمة التي تلازمه بعيدا عن كل ما هو ثقافي.  كنت أتمنى لو أن الشعر اليوم رافعة ثقافية كما كان عند الآباء الأوائل عندما حمل المعاني الفلسفية والأدبية للحضارات الأخرى وتمثلها، أو حتى عندما صاحب المشاريع النضالية جنبا إلى جنب.  كلمة أخيرة، إنّ أمة لم تحقق ثورتها الديمقراطية الحقّة لا تحتاج إلى وجدانيات وأشعار خارج السياسي والثقافي.  وإن التلاوين الشعرية خارج هذا السياق تصبح ملهاة عن الانخراط في المشاريع التي تحفظ الأمة وتحفظ للشعر وزنه وقافيته.

 

 

 

 

 

العروبة في القصيدة الوطنية المغربية

 

إبراهيم حرشاوي

 

لا شك أن الأدب لعب دورا مركزيا في بث الروح الوطنية والقومية العربية طيلة فترة الاستعمار الاوروبي للمغرب الأقصى وعموم الوطن العربي الكبير، ولعب إلى جانب أشكال المقاومة الأخرى دورا مركزيا في مقاومة المحتل ثقافيا من خلال تعبئة وتوعية الجماهير.  وينبغي التأكيد هنا على القاسم المشترك الذي يجمع بين الأدب المقاوم من جهة والعروبة من جهة أخرى، حيث أن الأدب مثّل في هذا السياق وسيلة التعبير عن المشاعر المتعلقة بإدراك الانتماء الوطني والقومي والحضاري.

 

وإذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها الشعب المغربي قد أنتجت أسماء من طراز محمد الشريف أمزيان وشيخ ماء العينين ومُحا احمو الزياني وعبد الكريم الخطابي، فإن الأدب المقاوم قد أنتج أسماء من نفس الطراز مثل المناضل الوطني علال الفاسي، ومحمد المكي الناصري، ومختار السوسي، وعبد الله كنون، فهؤلاء رموز القصيدة الوطنية المغربية واستطاعوا بإسلوبهم الأدبي الراقي أن يعبّروا عن روح المغرب العربي برمته الذي كان يواجه وقتها حملة ثقافية شرسة من المستعمر عنوانها الفرنسة والتنصير.

 

علينا أن نوضح بخصوص الجانب العروبي في الأدب المقاوم المغربي أن الحس الديني كان طاغيا إلى حد ما مقارنة مع الحس الوطني أو القومي في القصيدة الوطنية في الأقطار المغاربية الأخرى، وهذا يرجع إلى طبيعة سياسة الاستعمار الفرنسي الذي عمل جاهداً على تفتيت لحمة الشعب المغربي من خلال دعم التنصير، ولاسيما في المناطق الناطقة باللهجات الأمازيغية من جهة، كما أن الهوية السياسية الإسلامية للدولة المغربية أثرت على الانتماء الديني للمغاربة وانعكس هذا الواقع بالتالي على أدبهم وشعرائهم من جهة أخرى.

 

اتّسم الشعر الوطني في المغرب باستخدام شعراء المقاومة القصيدة العمودية إلى جانب استخدام الموشح والنشيد والمسرحية في نظم أشعارهم. كما ظهرت العرشيات وهي قصائد عالجت دور الملك المغربي الراحل محمد الخامس في النضال الوطني وبالأخص تحالفه مع الحركة الوطنية.  ولقد ظهر الشعر المقاوم في المغرب الأقصى قبل قدوم الاستعمار الفرنسي عام 1912م، فمثلا نقرأ في شعر محمد بن محمد ادريس العمروي الفاسي المتوفي سنة 1847م  نموذجاً مبكراً للشعر الوطني المقاوم. ففي الأبيات أدناه يدعو إلى الجهاد ضد المستعمر الفرنسي دفاعا عن الجزائر:

يا أهل مغربنا حق النفير لكم***إلى الجهاد فما في الحق من غلط

فالشرك من جنبات الشرق جاوركم***من بعد ما سام أهل الدين بالشطط

أما في الجزائر فنرى أن البعد القومي العربي يظهر على نحو أكثر وضوحا من أي قطر آخر من أقطار المغرب العربي. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى منع قوات الاحتلال الفرنسي الجزائريين من ممارسة انتمائهم العربي، فالجزائر كانت بالنسبة للاحتلال الفرنسي جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الفرنسية، وبالتالي كان الجزائري يُعتبر فرنسياً واللغة العربية كانت تعامل كلغة أجنبية طيلة فترة هذا الاستعمار الاستيطاني. وفي هذا الصدد ينبغي المرور على زعيم الحركة الإصلاحية في الجزائر الشيخ عبد الحميد ابن باديس (الأمازيغي) الذي حدد في أحد قصائده الشهيرة هوية شعب الجزائر بأنها عربية ومسلمة، ويقول في ذات القصيدة للمستعمر الفرنسي أنّ من يريد من الجزائري أن يخرج عن إطاره العربي-إلاسلامي الحضاري فهو يطلب أمراً مستحيلاً:

شعب الجزائر مسلم*** وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله***أو قال مات فقد كذب

 

ومع احتلال المغرب الأقصى سنة 1912م، تمّ فرض نظام الحماية عليه واقتسمته فرنسا وإسبانيا.  أما جنوبه فقد أُعطيت موريتانيا لفرنسا والساقية الحمراء لإسبانيا من خلال اتفاقية سرية أُبرمت بين الدولتين سنة 1900م.  إثر ذلك، اندلعت مقاومة شعبية في كل مناطق المغرب الأقصى عصفت بأركان الاحتلال الفرنسي.  ونذكر على سبيل المثال اصطدام المخطط الفرنسي بمقاومة قبائل زيان الباسلة التي قاومت مع قائدها الشهيد محا اوحمو الزياني الغزاة الفرنسيين موقعةً فيهم خسائر فادحة.  وقد جرت معارك أخرى في مناطق الأطلس المتوسط طيلة فترة الحرب العالمية الأولى ونذكر بهذا الخصوص مدن وقرى مثل بني مطير وخنيفرة وازرو وميدلت وتافيلالت. وفي صحراء المغرب اندلعت ثورة مسلحة قادها الشاعر والثائر بن شيخ ماء العينين الصحراوي الذي تولى زعامة الصحراء المغربية  وتمكن من تحريرها هي ومدينة مراكش. إلى جانب هذا الحراك المقاوم في الوسط و الجنوب، شهد الشمال هو الآخر ثورة مسلحة عظيمة قادها المقاوم القومي العربي محمد بن عبد الكريم الخطابي حيث أوقع أكبر خسارة  بقوة احتلالية اوروبية (إسبانيا) في الوطن العربي والعالم الثالث إبان القرن العشرين.  ولم تتمكن إسبانيا من التغلب على هذه الثورة إلا بعد الاستعانة بالفرنسيين، وبعد خمس سنوات من عدوان همجي استعملت فيه الأسلحة الكيماوية من طرف التحالف الاستعماري .

 

على المستوى الأدبي شهدت هذه الفترة ظهور الشعر المقاوم، والذي – كما أسلفنا الذكر- اتّسم بالروح الإسلامية، ويعكس ذلك طبيعة تكوين الشعب العربي المغربي، من ناطقين باللغة العربية واللهجات الأمازيغية ( لهجات عربية قديمة مثل اللهجات الشحرية في إقليم الظفاربالجزيرة العربية)، الذين وحدهم الإسلام سياسيا واجتماعيا عبر قرون.  ومع الأسف فإن ثورة موحا احمو الزياني الذي استشهد بسنة 1920م بعد معارك مسلحة شرسة ضد الاحتلال الفرنسي في جبال الأطلس ليس لها أي صدى في الشعر المقاوم المغربي، إلا أن ثورة عبد الكريم الخطابي خُلدت في الأشعار الشعبية وغير الشعبية في المشرق والمغرب العربي.  فمشرقيا، تأسست سنة 1924م تحت إشراف الشاعر العربي اللبناني إلياس فرحات في كوريتيبا، عاصمة إقليم بارنا في جنوب البرازيل، لجنة لمساندة المقاومة المغربية بمنطقة الريف سميت بلجنة تحرير العرب.  ويذكر فرحات في أحد كتبه أنه كتب قصيدة لتحية الأمير عبد الكريم الخطابي بمناسبة الانتصار التاريخي في معركة أنوال وبعثها بالبريد إلى المجاهد الخطابي معتقدا أن بإمكان مكتب البريد في مدينة طنجة  أن يسلمها إلى ممثل الخطابي في المدينة، ولكن البريد أرجع الرسالة إلى صاحبها، فاحتفظ الياس فرحات بها أكثر من ثلاثين سنة حتى سلمها بنفسه إلى الخطابي بالعاصمة المصرية القاهرة.  وفيما يلي مقتطف من  القصيدة الموجودة في كتاب ” إسلاميات أدباء المهجر” :

 

صفاتك يا عبد الكريم وانها***صفات همام ثائب الراي حازم

شفيت غليل الشرق يا خير ولده***وأحييت اموات الرجا والعزائم

 

أما مغاربيا فقد رُوجت أخبار انتصارات محمد عبد الكريم الخطابي، سواء في تونس أو في الجزائر، في الإعلام المحلي بغرض نشر الروح الوطنية في صفوف الجماهير وإثبات الطابع القومي للمعركة التي تدور في شمال المغرب.  ففي تونس مثلا تميزت صحف مثل “افريقيا” و”الليبرال” و”لسان الشعب” بمقالاتها وتقاريرها الداعمة للمقاومة المغربية تحت قيادة الخطابي.  ومن بين الأدبيات التي نُشرت بتاريخ (6 ايار 1925م) في الصحيفة الوطنية التونسية “لسان الشعب” قصيدة تحتوي 65 بيتا استخدم صاحبها اسما مستعارا، ابن سليمان، يقول فيها:

أجبريل هلل بآي الظفر***وكبر وخط جليل الخبر

ورف بأجنحة النصر فو***ق بني الريف حول القنا المشتجر

 

دفع نبأ لجوء عبد الكريم الخطابي الشاعر والثائر الجزائري عبد الكريم عقون الذي أعدمته السلطة الاستعمارية في 13 أيار سنة 1959م  لنظم قصيدة بعنوان ” تحية عبد الكريم الخطابي” يعبر من خلالها فرحة الشعب المصري باستضافة هذا المقاوم المغربي، واعتبر أن الاستضافة جسّدت وحدة الأمة العربية، كما عبر عن صحة سلوك نهج المقاومة المسلحة.  وقد نشر الشاعر قصيدته في جريدة “البصائر” الجزائرية بسنة 1947م، يقول :

قد انفلت الضرغام من عنت الاسر***وحن إلى أسد هنالك في مصر

كذا العرب جسم واحد ان يذق اذى***تداعت له الأعضاء بالسهر والضر

 

و لما  أعلنت فرنسا على  صدورالظهير البربري يوم 16 ايار 1930م، الرامي إلى تقسيم المغرب عن طريق التفريق بين الناطقين باللغة العربية واللهجات الأمازيغية على المستوى العرقي واللغوي والتشريعي والتعليمي، تمهيدا لإنشاء “قومية أمازيغية” منفصلة ومنسلخة من حضارتها العربية-الإسلامية، فجّر هذا الإعلان حراكا جماهيريا في كل أنحاء المغرب الأقصى، وتعددت وسائل مقاومة السياسة البربرية للمستعمر الفرنسي، وتوسعت رقعة المقاومة كونها شملت مرة أُخرى المناطق الناطقة باللهجات الأمازيغية، حيث تحرك أبناء تلك المناطق التحرك الذي أوجبته عليهم عقيدتهم وانتمائهم الوطني. ونذكر هنا المقتطف المترجم إلى اللغة العربية الفصحى من نشيد وطني كُتب بأحد اللهجات الأمازيغية تنديدا للظهير البربري :

-أيها القابضون على أزمة أمورنا، الحاكمون في قضاينا ما هذا الحكم بالعرف المصادم للدين ؟

-أترضون كل ما يحدث إلى أن رميتم عزتكم، ورفضتم شرفكم فذهبا مع دينكم، كما ذهبت معها ثروتكم ؟

-لا نعرف من قديم الزمان، إلا أننا والعرب اخوان ، متحدثون متصلون، أليس إسلام الأمازيغ أبوه عربي؟

-يريد الأعادي أن يفرقونا، ويذكوا نار العداوة بيننا، لتتم سيادتهم علينا.

 

سطع وقتها نجم المفكر والمناضل الوطني علال الفاسي الذي واجه سياسة التقسيم التي اتبعها الاستعمار الفرنسي من خلال طرح وحدوي عروبي مضاد. وأوضح علال الفاسي مراراً و تكراراً في خطاباته وأشعاره أن الشعب المغربي له نسب مشترك، وبأن المغاربة يكوّنون عنصرا واحدا ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه عربي خالص أو أمازيغي خالص.  ويقول علال الفاسي في هذا المضمار :

صوت ينادي المغربي***من مازغ ويعرب

يحدو الشباب المغربي***للموت من دون الوطنِ

لا نرتضي بالتفرقة***ولو علونا المشنقة

ولو غدت ممزقة***اشلاؤنا فدى الوطن

 

تبخرت أوهام الاستعمار عندما وجد أن الذين ساهموا المساهمة الفعالة في إفشال المخطط التقسيمي هم من الناطقين باللهجات الأمازيغية، وقد أثبت هؤلاء الوطنيون أن الناطق باللهجة الأمازيغية فخور بتراثه القديم والحديث، ويذود عنه ويحميه ويعتبر القرآن ولغة القرآن القاسم المشترك المقدس بين جميع شرائح الشعب المغربي.  واتسم مسار النضال التحرري المغربي بتطور نوعي لما تحالفت المؤسسة الملكية المغربية مع الحركة الوطنية. وانعكس هذا التحالف كما أشرنا بظهور قصائد اصطلح على تسميتها بالعرشيات. وفي ذكرى عيد العرش سنة 1947م  اتخذ الملك محمد الخامس موقفاً حاسماً في خطابه الشهير ضد الاحتلال الفرنسي وتمسك بالوحدة العربية خلافا لرغبة فرنسا بفرنسة المغرب.  ويقول الفقيه والمفكر المغربي عبد الله كنون في هذا الاطار :

رفعت لواء للعروبة خافقا***بفصل خطاب في المواقف يحمد

ووليت وجها يستضاء بنوره***الى الشرق ان العرب بالشرق اقعد

ويشكر نفس الشاعر الأمة العربية التي هبّت لنصرة النضال المغربي بعدما تصاعدت المواجهة بين القصر الملكي والاستعمار الفرنسي بسنة 1951م، حيث وصل الأمر سنة 1953م إلى نفي محمد الخامس إلى مدغشقر ونصّب محمد بن عرفة سلطانا مزيفا، وقال:

ايه بني العرب جوزيتم بموقفكم***منا كافضل ما يجزى ذوو القرب

ولا عد منا نصيرا من اخوتكم***فنحن في الدين والفصحى بنو نسب

 

هكذا نستدل، من خلال القراءة السياقية لهذه النصوص الموجزة من القصيدة المغربية ذات البعد الوطني،  الهوية القومية العربية للأدب المغربي المعاصر.  ويبدو واضحا أن المغرب الأقصى كان يدافع في تلك الفترة عن القومية العربية بصيغة المحافظة على الثقافة العربية أمام سياسة الفرنسة، وبالأخص من خلال دعم اللغة العربية الفصحى عبر توظيفها في الإنتاج الأدبي وتعليمها للأجيال الصاعدة في المدارس الابتدائية المعرّبة التي حاربتها فرنسا بكل ثقلها.  ولقد ساهمت في هذا النضال نخبة من الشيوخ والفقهاء والشعراء والطلاب والتراثيين المتنورين المغاربة حفاظا على الحضارة العربية – الإسلامية للجناح الغربي للوطن العربي، ويبقى إنجازهم  التاريخي العظيم أنهم أفشلوا وقتها بالمقاومة المسلحة والثقافية مخطط تقسيم الهوية والجغرافيا الذي سعى لإنجازه الاستعمار الفرنسي.  ومع إماطة اللثام عن هذا الجانب من تراثنا الأدبي نكتشف أيضا أن مقاومي الاستعمار الغربي في المغرب  الأقصى قدموا للأدب العربي إضافةً نوعيةً واثبتوا للمغرب ما قاله الشيخ البشير الإبراهيمي عن الجزائر، أن اللغة العربية في هذا القطر العربي ليست غريبة ولا دخيلة بل هي في دارها، وبين حماتها وأنصارها وهي ممتدة الجذور مع الماضي مشتدة الأواخي مع الحاضر .

 

المراجع:

– د.محمد شقير، النص الغنائي بالمغرب بين بناء الدولة و تمجيد السلطة، دارالبيضاء،افريقيا الشرق،2012م.

– مجموعة من الباحثين، المغرب العربي في فكر محمد بن عبد الكريم الخطابي ورؤاه التحريرية و الوحدوية، القنيطرة،مؤسسة سيدي مشيش العلمي،2012م.

-مجموعة من الباحثين،دور الادب في الوعي القومي العربي، بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،1984م.

-عميرة علية الصغير، اليوسفيون و تحرر المغرب العربي،تونس،المغاربية للطباعة و النشر و الاشهار،2011م.

-ابوبكر القادري،مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية من 1930 الى 1940-الجزء الاول-،الدار ابيضاء،مطبعة النجاح الجديدية،1993م.

-امحند البخلاخي، مفخرة الريف: المجاهد المغربي محمد عبد الكريم الخطابي ،مطابع الشمال،2005م.

-اسيم القرقري،علال الفاسي:استراتيجية مقاومة الاستعمار،الدار البيضاء،افريقيا الشرق،2010م.

 

 

 

انتحار الشعراء العرب…. “حفرة” خليل حاوي و”أحزان” تيسير السبول

 

طالب جميل

 

 

قد لا يخفى على الكثير بأن الشعراء والمبدعين هم من أكثر الناس حساسية لأنهم يتميزون بالحس المرهف والخيالات الواسعة والإيمان بالمثاليات والقيم العليا، وقد تداهمهم خيبات الأمل الشخصية والوطنية والقومية قبل غيرهم من الناس، لذلك فهم معرضون، نتيجة التناقض الذي يحدث أحياناً بين الواقع والطموحات والآمال، إلى الشعور بالإحباط واليأس والكآبة الشديدة، وفي هذه الحالة قد تكون النتيجة الحتمية في كثير من الأحيان هي الإقدام على الانتحار احتجاجاً على واقع البؤس والهزيمة والتخلف.

 

لعل ظاهرة انتحار الشعراء يكتنفها كثير من الاسئلة والغموض، فقد عرف التاريخ العديد من حوادث الانتحار التي أقدم عليها بعض الشعراء والتي عادة ما تفتح القريحة لتساؤلات عديدة عن موت الشاعر، فقد يقول البعض أن انتحار الشاعر هو اختفاء طوعي أو قد يكون حيلة فيما يرى آخرون بأن انتحار الشاعر ليس أكثر من حالة استعراضية مفعمة بالنرجسية وحب الذات لأن الشاعر قد يهدف من انتحاره إلى لفت الأنظار إليه حتى بعد موته، فهو يعلم أنه سيكون مادة دسمة للنقاد لتمحيص نصوصه واكتشاف أهميته معتقداً بأن أكاليل المجد ستتهادى فوق نعشه، وقد يكون الانتحار تنازلاً أو استسلاماً، أو ربما هجوماً إلى الأمام.

 

من أشهر حوادث الانتحار التي حدثت لشعراء عرب هما حادثتا انتحار الشاعر اللبناني خليل حاوي والأردني تيسير السبول، حيث يتشابهان في طريقة الانتحار إلى حد ما، وفي فترة واحدة كانت في الثلث الأخير من القرن الماضي وخلال مرحلة مليئة بمخاضات سياسية لا تخلو من حروب ولا تنبئ بمستقبل أفضل لوطننا العربي.

 

ولد خليل حاوي في الأول من شهر كانون أول عام 1919 في قرية من قرى جبل لبنان تدعى (الشوير)، ثم التحق بالمدرسة حتى سن الثانية عشرة حين اضطر إلى تركها نتيجة إصابة والده بمرض عصبي موجع لكي يشتغل عامل بناء كونه أكبر إخوته.  وقد تركت هذه المرحلة في نفسه أوجع الذكريات، فدخل في صراع مع الفقر وكافح في سبيل لقمة العيش، لكنه لم يستسلم لتلك الظروف وعاد إلى المدرسة، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت ودرس الأدب العربي حيث نال شهادة الماجستير، فحصل بعدها على منحة من الجامعة للدراسة في أكبر الجامعات الإنجليزية حيث نال شهادة الدكتوراة عام 1959 وعاد بعدها إلى لبنان أستاذاً للنقد الأدبي في الجامعة الأمريكية في بيروت.

 

نشط خليل حاوي في الحزب السوري القومي الإجتماعي ما بين عامي 1933 و1955، وعاش قصة حب كبيرة مع القاصة العراقية (ديزي الأمير) لكن علاقتهما لم تنجح. كان من مجددي دماء الشعر العربي إذ طعَم قصائده بنفس فلسفي ورمزي واضح وابتعد عن التيمات والصور التقليدية المستهلكة.

 

حين اجتاح الجيش الصهيوني لبنان وحاصر بيروت عام 1982 أصابه حزن عميق فأقدم على الانتحار بإطلاق النار على رأسه من بندقية صيد في شرفة بيته في السادس من حزيران من ذلك العام، حيث كان يمكن تفسير انتحاره في ذلك الحين أنه احتجاجٌ على الصمت العربي إزاء العدوان، وعلى ردة الفعل العربية التي لم تكن بمستوى الحدث. من أشهر دواوينه الشعرية (نهر الرماد)، (الناي والريح)، (بيادر الجوع)، (الرعد الجريح)، (من جحيم الكوميديا)، ومن أشهر قصائدة (حفرة بلا قاع) التي يقول فيها:

 

عمَق الحفرة يا حفَار،

عمَقها لقاع لا قرارْ

يرتمي خلف مدار الشمس

ليلاً من رماد

وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار

لا صدى يرشح من دوامة الحمَى

ومن دولاب نار

آه لا تلق على جسمي

تراباً أحمراً طري

رحماً يمخره الشرش ويلتف

على الميت بعنف بربري

ما ترى لو مدَ صوبي

رأسه المحموم

لو غرق في لحمي نيوبه

من وريدي راح يمتص حليبه

لفَ جسمي، لفَه، حنطه، واطمره

بكلس مالح صخر من الكبريت

فحم حجري.

 

أما الشاعر الأردني تيسير السبول فقد ولد في مدينة الطفيلة في جنوب الأردن في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1939، وأنهى دراسته الثانوية بتفوق ونال منحة دراسية في الجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الفلسفة لكنه سرعان ما تركها وانتقل إلى دمشق لدراسة الحقوق.

انتحر تيسير السبول بإطلاق النار على نفسه يوم 15 تشرين الثاني عام 1973 بعدما كتب :(سأسقط، لا بد أن أسقط، يملأ جوفي الظلام).  حاول البعض تفسير انتحاره بأنه احتجاج على الهزائم والخيبات السياسية العربية وخصوصاً هزيمة عام 1967، بينما عزا آخرون انتحاره إلى مشكلات عاطفية.

 

كان شعره يخزن نبوءة موته بما يحتويه من تعبيرات يأس وقنوط وتشاؤم شديدة حتى أن بعض النقاد وصفوه بأنه رثاء الشاعر المسبق لنفسه، ويعتمد السبول في لغته الشعرية على الترميز والإيحاء والتصوير والعناية بالموسيقى، له رواية مشهورة (أنت منذ اليوم) وله مجموعة شعرية وحيدة بعنوان (أحزان صحراوية) صدرت عام 1967، ومن أبرز قصائده قصيدة (بورتريه) التي يقول فيها:

 

أنا يا صديقي أسير مع الوهم

أعرف أن الرحيل يهيئني لعبور الطريق إلى ذاته

أنا يا صديقي أسير مع الريح

خفاقة في مهب البدايات روحي

بلا جثة تنهدم كل مساء

أهدهد ذئب الغياب كقافية

يهجع الوقت بين يديها

وأنسى كأهزوجة تتناسى جفاف النهاية

أنا يا صديقي أسير على حافة الليل

يعرفني العتم أكثر مما تظن مصابيح أمي

ويعرفني الموت أكثر مما تظن الحياة

أنا يا صديقي

أسير لأسقط في آخر السطر قافلة من صراخ

وخاطرة خذلت كنهها الكلمات.

 

 

المراجع:

  • جمانة حداد: سيجيء الموت وستكون له عيناك، الدار العربية للعلوم-ناشرون، دار النهار، بيروت 2007.
  • ريتا عوض: خليل حاوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1984.
  • سليمان القوابعة: تيسير السبول وأيام مضت، مجلة أوراق، العدد 36، 2011.

 

 

 

 

الشعر في موريتانيا

مع قراءة في ديوان “ترانيم لوطن واحد” لـمباركة بنت البراء

معاوية موسى

أشهر ما يمكن أن توصف به موريتانيا أو بلاد شنقيط * كما يسميها أو يطلق عليها البعض هو أنها بلد المليون شاعر.

وبغض النظر عن مدى دقة التعبير، وإن لم يكن هناك مليوناً بالمعنى العددي الصارم، فإن ظاهرة كثرة الشعراء التي نشأت وترعرعت في أعماق الصحراء ما تزال مستمرة رغم تغير الأحوال، وإذا كانت البداوة والصحراء قادرتين دائما على إنتاج شعراء، فإن القضية هي في استمرار هذا العطاء الإبداعي، في وقت شحّت فيه العواطف، وفي عالم لم يعد يتحدث إلا عن آخر الابتكارات العلمية والتكنولوجية.
ففي أذهان الموريتانيين أن تقول كلمة مثل أن تقاتل ببندقية، ويحظى الشعر باهتمام واسع وكبير بين الشباب والشيوخ والنساء على السواء وفي سائر البلاد.

يقول الأديب اللبناني “متىّ خليل” واصفا العلاقة الحميمة بين الموريتانيين والشعر: “الشعر خبز جوهري لأبناء شنقيط، يأكلون منه ولا يشبعون، وينهلون من نبعه ولا يرتوون، فهم والشاعرية توأم وجود، تحدرت معهم من أصلاب جدودهم، وعايشتهم في طفولتهم وشبابهم ورجولتهم واكتهالهم، فأنى لهم أن يتقبلوا الحياة دون قافية تدندن، الشعر هو كيمياء السعادة لدى كل فرد موريتاني وفاعل المعجزات في نفسه . (1)

وفي موريتانيا، كما هو الحال في غيرها، ما زال يظن كثيرون أن الشعر ذكوري بحت وأنه أنثوي نادر!

لكن الحقيقة تتجلى في الساحة الشعرية الموريتانية، التي أنجبت شاعرات كان لهنّ التأثير الكبير في حركة الشعر العربية في الساحتين الموريتانية والعربية .

الساحة الشعرية الموريتانية حبلى بالكثيرات من الشاعرات.  فمع موجة المد الإبداعي الذي زحف من الشرق العربي، وجدت المرأة الموريتانية نفسها وجها لوجه مع الواقع الجديد، فانخرطت مثلها مثل الرجل الموريتاني في الموجة الجديدة، وبدأت تكتب القصة والمقال والرواية وتنظم الشعر .

نجد فيما تكتب المرأة الموريتانية أحياناً إبداعا أكثر من الرجل، لكن العزلة وعدم وجود دور نشر قادرة على طباعة ونشر وتسويق هذه الإبداعات يحول دون الحصول على نصيبها من النقد، الذي ما يزال للأسف غائباً عن مواكبة ما يحصل في الساحة الثقافية، رغم توفر البلد على نقاد لهم تجربة معترف بها ومشهود لأصحابها في المشرق العربي، مثل سيد أحمد ولد الدي والناقد أحمد حبيب الله .
وقد جمع بعض الكاتبات الموريتانيات بين النثر والشعر وأثبتن جدارتهن فيهما معا، مثل مباركة بنت البراء الأديبة والشاعرة المميزة وصاحبة الحضور الفاعل في الساحة الأدبية من خلال مجموعة مؤلفات من البحث والقصة، والرواية، وقصص الأطفال ومنها دراساتها الموسومة “المرأة في المجتمع الموريتاني” و”البناء المسرحي عند توفيق الحكيم”، وفي الرواية: “العبور إلى الجسر الأخير” و”الرقيب”، ثم قصصها القصيرة: “الأظفار الحمراء” و”حكايات الجدة” التي تقع في ثلاثة أجزاء، وهي عبارة عن قصص للأطفال .

ولدت الشاعرة د. مباركة بنت البراء الأمين، والملقبة ب:بات بنت البراء، في المذرذرة – اترارزة بجنوب موريتانيا.  تلقت دروسها الأولى في المحظرة* ثم التحقت بسلك التعليم النظامي وحصلت على شهادة بكالوريا التعليم الثانوي بإمتياز سنة 1979 م، ثم شهادة المتريز في الآداب من المدرسة العليا للأساتذة سنة 1983م بميزة حسن بالرباط /المغرب، ثم شهادة البحث المعمق من جامعة محمد الخامس سنة 1987م بالرباط.
حصلت الشاعرة على جائزة وزارة الثقافة الموريتانية لأحسن قصيدة سنة 1988م وعلى تقدير عن أجود قصيدة في مهرجان الأغنية البديلة سنة 1989م، وقد كتب النقاد عددا من الدراسات حول شعرها وكتاباتها القصصية، كما كان شعرها موضوع دراسات في العديد من الأطروحات الجامعية، منها دراسة ينصرها بنت محمد محمود، ومحمد الحافظ بن محمد . (2)
يعد ديوانها “ترانيم لوطن واحد”، الصادر عن المطبعة الوطنية بنواكشط سنة 1991م، من أشهر دواوين الشاعرة ومنجزاتها الأدبية على الإطلاق، فقد أكسبها شهرة عالية عند صدوره، وكان له الأثر الواضح في رسم طريق الشاعرة وانطلاقتها .

يشتمل الديوان على عشرين قصيدة مختلفة التكوين والتوقيت، منها ما نظم ببضعة سطور، ومنها ما جاء بمجموعة صفحات أنجزت على مراحل زمنية متفاوتة، إلا أنها بمجملها تناولت الهم القومي وعالجت قضايا الإنسان والأرض بشفافية عالية ورقة عبّرت عن مدى رهافة مشاعرها ونبل أحاسيسها .

قدم لديوانها الأديب الناقد “سيد أحمد ولد الداي”، وكتب له قراءة أولى الدكتور “أحمد بن السيد”.

تعرف الشاعرة مباركة قصائدها بقولها:

” قد تكون اختراقا لما ألفوه من خصوصية الشعر في مجتمع رجولي، ولكن ليسمحوا، لو عرفوا مدى حبي هذه الأرض لعذروا، ولو دروا فرط حساسيتي لتقبلوا”. (3)
تستطرد لتصف قصائدها قائلة:
” فيها من زحف الرمال الهوج، وهوس الرياح العاتية، وخربشة الأوراق الذاوية في ليل البادية، ودموع الحزن العربي.  فيها رغوة اللبن ساطعا من الحلاب، هي كلمات رحبة لطفلة يتيمة الأصابع، ظلت تهيم على تلال قريتها الصغيرة، تخبز الرمل جمالا، ثم ترنو إلى السماء مفتونة بالأزرق الغامض كلما حاصرها الزوال. (4)

إنها حكاية ولادة “ترانيم لوطن واحد”، إنها البشارة التي ينتظرها الجميع، والمجبولة منذ البدء بمعاناة مريرة وحالة “انتظار”مبكرة، إنه انتظار الفرج الآتي من البحر محفوفا بمخاطر الغرق.
وقد وثقت الشاعرة عبر قصائد هذا الديوان لعلاقة حب وعشق تفوق التصور والخيال للوطن في بعده القومي لا القطري المجتزأ، مجسدة لحالة تناغم وانصهار قّل مثيلها مع هذا الحب لهذا الوطن، خاصة ما يدور حول القضايا العربية الساخنة والقضية الفلسطينية والصورة الإنسانية العميقة للحضارة العربية منطلقة من خصوصيتها الموريتانية كجزء مهم وأساسي من هذه الحضارة الضاربة جذورها في التاريخ، لتقدم لنا قصائد رائعة تناجي الوطن والقضية الكبرى تظهر فيها حرارة التجربة ونضجها مستفيدة من خبرتها الروائية والإبداعية في صناعة هذه القصائد .
تقول في قصيدة “من مذكرات مسافر” :
حبيبتي الأرض إني لم أزل دنفا

رغم البعاد وحبي فيك مرتهن

كل الطعام بحلقي علقم نزق

كل الشراب بحلقي آجن أجن

إن الجراح بجسمي غير غالية

لكن جسمك لن يذوي به غصن (5)

وفي قصيدة أخرى هي “إلى خيمة عربية” تقول:
لبلادي حبي وورد خدودي لبلادي أنشودتي وقصيدي

كل شبر به سجدت زمانا وتلظيت في صلاة الخلود)6 )

تنطلق الشاعرة في ديوانها إلى إعلان صرختها واحتجاجها، فيصهرها الألم حتى الاختناق، تعلن نزف “القلب الجريح” ويدور بها “مدار” إلى سمرة العشق . . . إلى نداء الأرض . . . إلى صرخة الانتظار . . إلى وطن الرجال:
تحديت يا للتحدي

تغلغلت في كل فكر جوابا يحير السؤال

لأنك وحدك تعرف كيف الرجال

وأين الرجال

لأن لشعبك طاقة حب تفوق الخيال . ( 7)

تستيقظ على “أنشودة الحجر”، تغني “لعينيك يا أسمر عربي”، ترسم القدر الآتي “ملامح الوجه” يعلن الرفض . . . ترتعش شرايينها لمعات.
نلاحظ مما سبق أن في شعر بات بنت البراء ميل شديد نحو موضوعة الإسقاط التاريخي وإلى التعامل مع الرمز كتكثيف مطلق لعوالم رحبة عصية على مفردات الشعر الهزيل.
ومن الرموز التي استخدمتها بات بنت البراء: الكوخ، الصحراء، الخيمة، الرمل، على نحو يتضح فيه أو من خلاله البيئة والثقافة الصحراوية التي فرضت نفسها وتأثيرها على حركة الشعر في موريتانيا .
تنتمي قصائد الشاعرة إلى الاتجاه الحداثي في الشعر الموريتاني، فمنذ منتصف الستينات بدأت القصيدة الموريتانية تعرف محاولات حقيقية للتجديد في الشكل والمضمون، فأقلع الشعراء المجددون عن الوقوف على الأطلال، وهجروا الغزل والبكاء على فراق الأحبة بعين لا تجف، وعملوا على أن يكون شعرهم في لغته وبنائه الفني ودلالاته انعكاسا لأحاسيسهم الذاتية وما استجد في مجتمعهم، والعالم من حولهم. (8)
منذ مطلع الثمانينيات بدأت كتابة القصيدة الحديثة التي توظف جو الحلم والرمز والأسطورة وغيرها، وتركز على التجريب في التعبير والأشكال، ويرجع الفضل في انتشارها إلى شعراء الجيل الثاني من أمثال ولد عبد الله، ومحمد ولد عبدي، وببها ولد بديوه، والشيخ احمد ولد سيدي، ومحمد ولد الطالب، وعبدوتي ولد عاله، وخديجة بنت عبد الحي، وبات بنت البراء وغيرهم. (9)
امتاز هؤلاء بالبعد بالنص الشعري عن المباشرة وتعميق التجربة وتجريدها من خلال أقنعة دلالية بالغة التكثيف تتوسل باختراق شديد لأفق الانتظار، وكسر الجسر الأوتوماتيكي الذي كان يصل المتلقي بالنص، وتثوير الأخير ليصبح قارئا متوثبا لا يكتفي بمجرد التطلع إلى النص من بعيد ولكن ينفذ إلى أغواره ويغوص من اجل كشف العلاقات الداخلية وجوهر الرؤيا المدفونة خلف “المتاريس” الأسلوبية المتشابكة. (10)

 

الحق أن الشعر الحديث في موريتانيا، ومن ضمنه الشعر النسوي، جزء مهم من الحركة الشعرية العربية في الوطن العربي، يتفاعل معها في نفس الهموم، ويسير معها في الإبداع الفني حيثما سارت دون أن يفقد أصالته وخصوصيته النابعة من البيئة والمجتمع، وتعدد المؤثرات وأنماط الاحتكاك مع ثقافات الشعوب الأخرى.
أخيرا يجب أن نعترف بمرارة بأن موريتانيا رغم كثرة دواوين شعرائها القدامى والمحدثون ما زالت متخلفة في مجال النشر، فأن تجد شاعرة أو شاعر موريتاني فحل هذا أمر متوقع، بل ربما موجود، لكن أن نعرفه نحن في المشرق العربي فالأمر صعب إلى حد كبير، وهنا نصبح أمام مشكلة أخرى تتصل بالعلاقات البينية بين المشرق والمغرب العربيين والتي هي ضعيفة على مستوى الثقافة بل على مستوى تبادل الشعر أيضاً، وغير الشعر…

الهوامش :

* شنقيط ، موريتانيا تعرف أيضا بشنقيط واشتهرت البلاد بهذه التسمية منذ أربع قرون . وتعرف موريتانيا كذلك ب ” بلاد الملثمينوللحق أن سبب اختلاف أسماء هذه البلاد يرجع إلى أنها لم تعرف وحدة مركزية في تاريخها المعروف .

ينظر . الشنقيطي , أحمد ولد الأمين: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط , القاهرة , ص 4 .

1ولد عال، عبدوتي، من مقال “موريتانيابلد المليون شاعر”بتاريخ 18/4/2001.


*
المحظرة، هي مكان لتلقي الدراسة وهي أشبه بالكتاتيب ولكنها أكبر وأكثر أتساعا، وتمثل المحظرة رافدا معرفيا خصبا، ومن ابرز الكتب التي تستخدم كمناهج في المحاظر 1- تعليم الحروف الأبجدية، 2 – القرآن الكريم، 3- ألفية ابن مالك، 4- علوم الفقه.

2نفس المصدر السابق

3 البراء، بات بنت: ترانيم لوطن واحد ( ديوان )، المطبعة الوطنية :

نواكشط، 1991 م .

4المصدر نفسه، ص 3.

5المصدر نفسه، ص (38-39).

6-المصدر نفسه، ص 43.

7العريضي، وديع ملحم. مجلة الموقف الأدبي، العدد 268، آب 1993 .

8ينظر . المصطفى، محمد الحسن ولد محمد، الشعر العربي في موريتانيا، دراسة في تطور البناء الفني والدلالي ( 1960-1995)، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام ،حكومة الشارقة 2004م .

9المصطفى، محمد الحسن ولد محمد، الشعر العربي في موريتانيا، دراسة في تطور البناء الفني والدلالي ( 1960-1995 )، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة 2004م.


10المصدر نفسه، ص(94-95).

 

 

 

شخصية العدد:

 

الشاعر المتمرد على القيود… مظفر النواب… “يقتله نصف الدفء”

 

 

نسرين الصغير

 

 

مظفر عبد المجيد النواب، شاعر عربي عراقي الجنسية، ولد في العراق عام 1934، كان موهوباً بالشعر، واكتشفت موهبته في بداية تعليمه أي في الصفوف الإبتدائية، كان ينتمي لعائلة تهتم في الشعر والأدب، وبرز النواب في شعره باللغة الفصحى. عاش مظفر حياة مليئة بالمصاعب والآلام فتعرض في العراق للسجن، لا بل وحكم عليه بالإعدام في بداية الستينيات، وبعد تدخل العشائر العراقية تمّ تخفيف الحكم للمؤبد، لكن مظفر تمرّد على قيد السجن، وخلال سجنه في الصحراء قام بالهروب إلى الجنوب وعاش مشرداً، إلى أن صدر إعفاء عام، وعاد مظفر للعمل في التعليم إلا أنه في نهاية الستينيات، بدأ صراعه السياسي من جديد وتمّ القبض عليه وبعد خروجه صدر له إعفاء وسمح له بمغادرة بغداد.  بدأت رحلته بين العواصم، فانطلق إلى بيروت وبعدها إلى دمشق، وعاش هناك سنوات إلى أن رحل لعواصم أوروبية ليكتب ما يشعر به ويعبر عما بداخله.  وخلال رحلاته كتب قصيدته المشهورة “الرحلات القصية”:

 

آه من العمر بين الفنادق

لا يستريح

أريحني قليلاً

فإني بدهري جريح

كان لمظفر أسلوب خاص بالشعر، فلم تكن له قيود عندما كان يصف الحالة التي يعيشها في شعره، فكان الشعراء يختارون الكلمات التي تمزج العشق في الوطن وكانوا يختارون كلام الحب إلا مظفر فكانت له خصوصيته في شعره وفلسطين بوصلته وقصيدته القدس عروس عروبتكم حالة شعرية لم ولن تتكرر، فكل من تحدث عن فلسطين ذكر قصيدة مظفر في وصفه الأنظمة العربية وهي تسلم فلسطين للمغتصبين عندما قال:

القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل الى حجرتها
وسحبتم كل خناجركم
وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها ان تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم أولاد القحبة
هل تسكت مغتصبة
أولاد الفعلة لست خجولاً
حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى

أما أنتم لا تهتز لكم قصبة

بدأ حياته منتمياً للفكر الشيوعي فكان شيوعياً، ولكن ترحاله من عاصمة لأخرى، ومن مكان لآخر، جعل مظفر ينحل من قيوده الحزبية، لكن وطنيته لم تجعله يبتعد عن القضايا السياسية والعربية، فكان مظفر يكتب لدمشق وبيروت كما يكتب لبغداد … هو مظفر القومي العربي الذي مهما ابتعد ورحل وسافر من لندن لباريس لغيرها إلا أن قلبه وعقله بقي اًمربوط في الوطن العربي، الذي لا وطن له سواه، وبعد احتلال العراق كتب قصيدته المشهورة “فعل مبني للمجهول”، وكان يصف فيها حال أموال الخليج التي تسيل في الوطن العربي لخدمة المستعمر فقال:

فعل مبني للمجهول
في الوطنِ العربيِّ..
ترى أنهارَ النّفطِ تسيـــــــــلْ
لا تسألْ عن سعرِ البرميلْ
والدّمُ أيضاً…
مثلَ الأنهارِ تراهُ يسيلْ
لا تسألْ عن سعرِ البرميلْ
والدّمعُ..
وأشياءٌ أخرى

 

اعتاد الشاعر على الترحال ليُّغني تجربته الشعرية فكانت رحلاته طويلة، وتأقلم في حياته التي لم تستقر في بلد، لا بل زار دولاً وعاش في دول.  تنقل بين اليونان والصين وفنزويلا، وعاش في ليبيا والسودان، فقصيدته “رحيل” تشكل معنى صريحا لخلاصة تجربته، إذ يقول فيها: “مضت السنين بدون معنى/ يا ضياعي/ تعصف الصحرا وقد ضل الدليل/ لم يبق لي من صحب قافلتي سوى ظلي/ وأخشى أن يفارقني/ وإن بقي القليل/ هل كان عدلا أن يطول بي السُّرى/ وتظلُّ تنأى أيها الوطن الرحيل/ كأن قصدي المستحيل”.
لكن مهما حاول أن يشعر نفسه أنه تأقلم في حياة الترحال إلا أن حنينه لمسقط رأسه كان يجذبه دائما حيث كتب قصيدته “في الحانة القديمة”:

سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل

وإن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان

وقنعت يكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير

لكن سبحانك حتى الطير لها أوطان

وتعود إليها وأنا ما زلت أطير

فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر

سجونٌ متلاصقة

سجان يمسك سجان

 

وكتب لدمشق التي كانت محطته لأكثر من مرة وكانت ملهمته إنها دمشق:

شقيقة بغداد اللدودة، ومصيدة بيروت، حسد القاهرة، وحلم عمان، ضمير مكة،

غيرة قرطبة، مقلة القدس، مغناج المدن وعكاز تاريخ لخليفة هرم.‏‏‏‏‏

إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشرة ألقاب، مثوى ألف ولي

ومدرسة عشرين نبي، وفكرة خمسة عشر إله خرافي لحضارات شنقت نفسها على

أبوابها.‏‏‏‏‏

 

تميز مظفر في تمرده وفي صلابته فكان صوت الجماهير وكان صوت المستضعفين والأقوياء، لكن رغم صعوبة حياته التي عاشها بقي شامخاً كنخل البصرة لم يكسره الجلاد أو المحتل، حيث كان يقول: “إنني مع الناس ليس في لحمي شيء من مرض الغرور، شموخي من شموخ الناس، أسمع أصوات انكسارات كثيرة في داخلي حينما أرى إنساناً يذل، وأشعر أن التاريخ -كله- يرتفع حين أرى إنساناً يتحدى وإن قليلاً وجوه الجلادين”.

في النهاية كان مظفر لمن أحبه وديعاً رقيقاً، وكان عنيفاً قاسياً لمن لم يفهم ما يقول.

 

من أشهر أعماله الشعرية:

  • بنفسج الضباب
  • عبدالله الإرهابي
  • تل الزعتر
  • ثلاثة أمنيات على بوابة السنة الجديدة
  • دوامة النورس الحزين
  • طلقة ثم الحدث
  • البقاع … البقاع
  • قصيدة من بيروت
  • بكائية على صدر وطن
  • قمم قمم

 

مدينة عربية: بابــــل

علي بابل

في العام 1755 ق.م ، توحدت بلاد الرافدين “الهلال الخصيب” تحت حكم بابل وحاكمها العظيم حمورابي، أي قبل وفاته بخمسة أعوام.  وقد عُرفت دولة حمورابي آنذاك بالدولة البابلية نسبةً إلى مدينة بابل التاريخية، عاصمة الدولة الموحدة الثانية.  وكانت الوحدة الأولى دولة “سرجون” الأكدي، التي كانت عاصمتها مدينة آوروك التاريخية.

 

يختلف علماء الآثار حول هوية مؤسس مدينة بابل، والأرجح أن سرجون الأكدي نفسه هو الذي أسسها على نهر الفرات، ولكن المؤكد تاريخياً أن بابل أزدهرت تحت حكم حمورابي العموري، هذا القائد القوي الحكيم الذي أعاد أمجاد دولة سرجون الموحدة وأعاد توحيد المدن في سورية الكبرى تارةً بالقوة، وتارة بغيرها، كما تنقل لنا المراسلات الملكية في بلاد الرافدين.

أرتبط إسم مدينة بابل بملكها حمورابي، لما له من تأثير ليس على المدينة فحسب بل على التاريخ الإنساني أجمع.
استطاع حمورابي أن يرسخ أسس الدولة المدنية التي بدأها سرجون الأكدي من خلال نقل السلطة الدينية، التي كان قد تركها سرجون الأكدي في مدينة “نيبور” بعيداً عن العاصمة السياسية آنذاك، ووضعها في بابل وبنى لها المعابد ووحد حمورابي “الرب” ليستنجد بالإله “مردوخ” الفلاح سيد للجميع هذا السيد العادل المعطاء.

استطاع حمورابي أن يجعل من بلاد الرافدين دولة مدنية عبر خلق شريعة مدنية لكل البلاد ملغياً  المحاكم الدينية ليحل محلها المحاكم المدنية التي كان القضاء يأخذ مجراه من خلالها بشكل عادل محق. وأقام حمورابي شبكات الري المتطورة، عصب الحياة آنذاك، وطور شبكة “البريد” بين المدن لتثبيت مركزية الدولة، وربط جميع أنحاء الدولة ببابل بشكل مركزي بحت.  أهتم حمورابي بكل تفاصيل الدولة العسكرية والمدنية والإجتماعية والثقافية.   لقد قام حمورابي بثورة دينية على المركز الديني “نيبور” ورجال الإله “إنليل” وأستبدله “بمردوك” في بابل ليرسخ مفهوم الوحدة دينياً كما كانت على الأرض سياسياً، وهذا إستدراك للخطأ الذي أرتكبه سرجون عندما جعل نيبور مركزاً دينياً يحظى بنوع من الإستقلالية أو اللامركزية.
بابل مدينة التشريع الأشهر والأقدم في التاريخ، جنة الأرض وحلم كل إنسان في زمانها، حدائقها المعلقة التي ذكرها المؤرخون اليونانيون أمثال كوينتس و ديودورس تشهد على عظمة المدينة التي كانت محصنة بأسوارها الشهيرة التي ذكرت في التاريخ القديم بأنها الأسوار الوحيدة التي كانت العربات العسكرية تسير فوقها، مما يدلل على ضخامة حجمها.
نبوخذ نصر الثاني، هذا القائد العربي، كان من شيد برج بابل والحدائق المعلقة ونكل باليهود الهمج شر تنكيل بعد أن عاثوا خراباً في غرب البلاد “كنعان”، رغم تأديبهم من قبل “الأشوريين” قبل ذلك على يد القائد الأشوري “سنحاريب”.  كان قد أعاد المجد للدولة البابلية ووحدها من جديد بعد أن عصفت بها قلاقل داخلية وخروج عدة مدن على الحكم المركزي إضافة للصراع مع إحدى القبائل الكنعانية التي سميت زوراً “بالحثيين” والتي أنتهت بفوضى أدت إلى ضعف بابل لفترة من الزمن. ورغم كل الحروب الداخلية التي نشأت بين أبناء المنطقة العربية من صراع بابلي آشوري ومصري بقيت بابل وعادت لكي تتربع على عرشها الحضاري المزدهر كما الربيع المزهر.

“باب الرب” بابل هذا هو معنى إسمها الأنيق… بابل الأن لا تبعد سوى تسعين كيلو متراً عن بغداد الرشيد ولا تزال تحتفظ تحت ترابها بتاريخنا نحن العرب، وهو تاريخ لن يزول وسيبقى رغم كل الآلام التي ضربت هذه المدينة والتي كان آخرها الغزو الأمريكي للعراق وتحويل تلك المدينة العربية لمركز القيادة الأمريكية، فلن تنام عيون نبوخذ نصر إلا بالثأر لأهل المدينة ولتاريخها العريق الذي كتب بدماء وعرق شعبنا العربي الذي شوه تاريخه من قبل مؤرخين مرتزقة صهاينة لا يعلمون سوى ما كتبه الراهب عزرا الذي سرق إرث بابل الأدبي وحوله لقصة أسطورية لشعب لم يكن له وجود ولا أصل، هذه القصة التي سميت في ما بعد  “توراة” !!!

لم يصلنا الكثير عن هذه المدينة لعدة أسباب، أهمها هو إرتفاع منسوب نهر الفرات والغزو المغولي الذي أغرق تاريخنا في نهري دجلة والفرات.  ولعل الإمبراطورية الإخمينية ” الفرس” كان لها دور في طمس تاريخ المدينة التي دخلها الفرس غدراً في العام 539 قبل الميلاد عبر تعاونهم مع يهود بابل الذين تم سبيهم على يد العظيم نبوخذ نصر ليتخذوها عاصمة للإمبراطورية الفارسية الأخمينية، كما أنها كانت عاصمة الدولة الهيلنية بقيادة الإسكندر المقدوني الذي دخلها عام 332 قبل الميلاد.

كانت بابل محج الإنسانية في العالم القديم، لقد كان ربيعها حضارياً للبشرية ينشر التمدن والإنسانية للجميع بلا أي تمييز، لذلك نرى أن بابل قد أثرت في كل التراث الإنساني المادي واللامادي من تراث مروي ومكتوب.

* بابلُ

يا صخرةَ الإلهِ، يا متَّكأَ العرشِ

يا لهفةَ الطينِ إلى السماءِ

يا هسْهَسْةَ الجذورِ في التّرابِ

يا أصابعَ الخلودِ..

يا صرخةَ الرّيحِ

يا شهقةَ المعابدِ

يا كلَّ الجهاتِ

يا مُختصرَ العصورِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أبيات من قصيدة قيامة بابل للشاعر سعد ياسين يوسف

 

 

 

قصيدة العدد 1:

 

من كتاب الشام*

 

خالد أبو خالد

 

يا حمام الشآم الذي لا ينام ..

يا حمام البيوت التي لا تموت ..

شفق ٌ … أو غسَقّْ ..

سوف تأتي الغيوم بأمطارها حين

تأتي مواعيدها .. سوسناً .. أو حبق ..

لا تبوح المسافات قبل نهاياتها …

والينابيع قبل بداياتها .. بدموع القلق ..

لا تبوح بأسرارها

فالمناجم حين تكابد جوهرها في الغموض ..

يكون الأرق

 

في البلاد التي هيأتها سماواتها للمخاض ..

شتاء يعشِّقنا بالزجاج ..

ليأخذنا للمصير النبيل

على سفن .. لا تميل …

عائدون على هودج البرتقال ..

مرافئنا حلمنا بالشآم ..

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

  • القصيدة الأولى من كتاب الشآم

 

وحلم الشآم .. دروب معتقة .. وشجر ..

أرى .. ما رأيت .. وما لايرى ..

فالقصائد مسجونة .. في الورق ..

لا أحب المنافي ..

يحبون غربتهم في الفنادق ..

يخترعون لهم في الهواء المرافي على

شاشة في الهواء

يحبون … ماذا يحبون..؟

لا لا يحب الذي خان أو سيخون

أحب الشآم التي أيقظتني مآذنها ..

أرجحتني أجراسها ..

شكلتني في ضوئها ..

من غفوت على حضنها كالقطا ..

فاشترتني بأحلامها .. وصحوت على

موطني .. موطني .. موطني ..

يا نشيد فلسطين تحت قباب الشآم .

حماة الديار .. عليكم سلام ..

على عاشقين حبيبين – في القدس ..

ظلاَّ معاً صاعدين ..

كما يصعد الابتهال ..

 

واحة .. أو قلاعاً .. أحب الشآم

هنا حيث كنا .. نكون غداً .. كالفراش

يطير من الشرنقة ..

وينشق عنا الجبان .. إلى جهة في التعب ..

 

لنخيل البلاد .. وزيتونها بهجةٌ ..

ونعيش على الإرث .. جيش يتامى .

يسلح فرسانه بالرسائل ..

محتفيا ً بالأرامل ..

تحت سقوف السلام ..

وتحت ظلال الأمل ..

 

 

لنا مالنا .. من غناء العصافير ..

في أرضنا لا نموت .. وفي أرضنا موتهم ..

نحن نحيا على نبضها ..

صوتها .. صوتنا ..

صمتها .. صمتنا ..

نصرها .. نصرنا ..

في مواسم محروسة بالقبلْ ..

بساتينها الياسمين ..

وتفاحة الفقراء البلاد .. إذ شفَّنا القحط

أنهارها في خرير دمي ..

فدمي لا يكون سوى دمها .. للشآم ..

للشوارع مفروشة بحرير اللغات ..

على بردى .. والفرات ..

 

يا لوجهك حيت تجلى كأيقونة في الشوارع

أو في الكنائس

أو في الجوامع ..

وجهك أيقونتي .. حيثما صار وجهي ..

من برهة الانفجار .. هنا .. وهناك ..

وحتى حلب ..

وأجثو لمخطوطة تتشظى على دمنا ..

وهي عامرة بالغضب ..

 

من هنا يا بلادي مرَّ الغزاة .

وراحوا ..

ولم يبق منهم أحد ..

في براري الشآم الوسيعة تحضر ..أجناد حطين ..

والقدس بوصلة الذاهبين إلى مجدها ..كبيارقهم ..

والسيوف مطعَّمة بالذهب ..

يجيء الفرنجة .. نبقى .. وتبقى البلاد ..

يجيء التتار .. ويبقى من الغزو

بعض الغبار ..

وبعض العطب ..

وقلب حبيبتي الآن مختصر في طبق ..

فالعدو القديم يواصل أكل لحوم البشر ..

 

لأطفالنا الطائرين على الشرفات السلام..

الملاءات أجنحة في الحرائق ..

بين حبال الغسيل ..

التنانير . والتنتنات .. الفساتين ..

بين تخوم الزحام ..

وتحت الركام ..

الدفاتر في النار .. في القبعات ..

المراييل

أقلامهم في اللهب

 

ها أنا شاهد يتنقل بين الخراب ..

وبين القصيدة ..

وكلُّ المرايا تحاصرني بالصور

 

في المكان شهود يدورون

بين الدوار .. وبين المرار ..

جثوت على ركبتيَّ .. بقايا لأجسادهم وغبار حجرْ..

 

لا دمي .. في دمي .. والفضاء غريب

ظلام .. يساكن أحبابنا ..

لا تقل لي وداعاً ..

ولوح لشمسك تأتي إليك ..

نقاتل كي يلتقي البسطاء بأحلامهم ..

سوف نُشتّل أيامنا بالنسور

فَشتّل مناديلها في الجراح الفسيحة  ..

زنبقة .. زنبقة ..

 

يا حماما هو الآن .. يلهم طير الرماد ..

لينهض .. فلتنهض اليوم كل فلسطين .

سفر من الدم .. للدم ِّ .. للمحرقة ..

وما بين جغرافيات الشتات ..

وغزو تغذى على لحمنا .. سغبٌ

في الذهاب إلى المستحيل ..

نطير معاً .. او نسير ..

على كتب في دروب ..مصممةٍ .. سنصل ..

 

يا جسور الزغاريد .. تبدأ من قاسيون

ولا تنتهي بالجليل .. الرفات يهيىء أكفانه ليصل ..

 

قدر أن أحبك .. كن يا حبيبي .. نكون ..

انتظرني على مفرق الشهداء القريب ..

مواعيدنا .. زمن ليلكي ..

كخضرتنا في الصحارى القصية

نكتبها كالسماء النقية .. كالشعر ..

أسرارنا في الحجارة ..

أسماؤنا زينة في كتاب العرب ..

 

الذين إلى دمهم يسكنون ..

يصبونه في الروافد .. كي يصلوا للسهول ..

نؤدي لهم ما تيسر من حبنا …

لنشتقَّ منهم شجاعتهم كي نوزعها

صرَّةً  … صرَّة في الكنيسة .. والجامع الأموي

نقطرّها .. قطرةً .. قطرًةً ..

للصبايا الجميلات..

للصبية الحاملين حدائقهم .. في الحقائب .

قل لن يُصيب النساء .. البكاء على طلل .. أو على عشبة الهندباء ..

 

لنا مالنا .. الطَّل .. والظَّلّ..

من اول الغوطتين .. إلى أول القبلتين ..

مروراً بقلب صبيٍ..

وصولا لقلب نبيٍ ..

 

ههنا .. أو هناك .. نكون معاً ..

مثلما البحرُ .. والرمل ..

في أرض كنعان .. نبقى كأشرعة ..

السنديان على جبل في في الأبد ..

 

 

يا ثغور الميادين ..

سوراً .. فسوراً ..

نمدَّ النعوش كسجادة للحجل ..

 

لا أقول أحبك تعويذة ..

بل أحبك رمانة في يدي كي نبدد هذا الزبد ..

 

هل يجر المغني ربابته ليصيح العتابا ..

أم الأغنيات تجيء مبكرة في الأمل ..

يجيئان كالمعجزات على سفر في القصب ..

 

للبريد سيأتي سحاباً مع القبَّرات

بريئاَ .. كخبز البنات ..

نعاساً يسابقني لسباتٍ

شبيه بأحلام عاشقة لملمت وردها في الشآم ..

تصلي الشقائق يوم تعود مرفرفة ..

في حضور جليل على ذكريات الخيام ..

 

البلاد التي أطلعتنا على صدرها كالنبات

تناويحها لا تنام ..

البلاد أناشيدها .. حملتنا ..

قصائدها جملتنا ..

تظل لنا .. ونكون البلاد ..

 

تحت شمس رمادية .. يا بلادي ..

رجال من القشِّ

لا وجههم وجهنا ..

أولهم وطنُ .. أو جذور ٌ ..

نقول لريح تجيء بما يشتهي القتل ُ .. لا ..

للوجوه التي تشبه الموت .. لا …

للصوص الأوابد .. والقمح .. لا

للصوص البيوت ..

المصارف .. والنفط .

لا للصوص الطريق ..

ولا لصوص المصانع

لتجارها العابرين .. الحثالات .. لا ..

لا للغراب … ولا للصوص الكتاب ..

 

البلاد التي هيأتنا لميلادها ..

في سماء مجرحةٍ بالتجارب ..

” أخرجت الأرض اثقالها ” والصباح ..

تأخر في الوطن المستباح ..

فكل الحصاد الذي كان .. كل الحصاد بدد..

وليس لنا مانحارب عنه سواها ..

الشآم .. الشآم .. الشآم ..

يقول الحمام ..

 

دمشق 19/3/2013

 

سيرة الشاعر خالد أبو خالد في سطور

 

ولد الشاعر خالد أبو خالد ابن الشهيد القسامي سنة 1937 في قرية “سِيلَةِ الظَّهْر” الفلسطينية في قَضاء جِنين، ودرس في مدرسة القرية وتتلمذ على يد الشَّهيد محمّد صالح الحمد، أحد القَسَّاميّين الخَمْسَة الأوائل، ثم تابع دراسته الابتدائِيَّةَ في نابلس حيث كان يدرِّس رفيق أبيه الشهيد عبد الرَّحيم محمود الذي كان له بمثابة الأب الثَّاني بعد وفاة جدّه لأمه. وبعد أن أنهى الشاعر دراسته الابتدائية سافر إلى عمّان ثم ما لَبِثَ أن غادر إلى سوريّة ثم الكويت، حيث فاز بالمرتبة الأولى  في مسابقة للمذيعين في إذاعة الكويْت، كما عمل محرِّرا في مجلة الإذاعة ومساعدَ رسَّام فيها، وأصبح مَسْؤولاً عن البرامج الثقافية في التلفزيون بالإضافَةِ إلى قيامه بإعداد وتقديم عدد من البرامج الثقافية.

 

اتَّصل خالد ابو خالد بالسِّياسة منتصف الخمسينيات، وشارك بتأسيس حركَة طلائع الثورة العربية سنة 1960، وتعرّض للاعتقال في الكويْت سنة1966 ، ثم غادر الى سورية والتحق بمؤسسة الإذاعة والتلفزيون بدمشق، وتولىَّ مسؤولِيّة عدة أقسام حتى استقالته بعد عدوان حُزَيْران عام  1967. التحق بصفوف حركة فتح فدائيا مقاتلا وارتقى الى خطة قائد عام ميليشيات الثَّورة الفلسطينية في شمالِ الأَرْدن. وفي العام 1972 انتخب عضواً في الأمانَةِ العامَّة للاتِّحادِ العامِّ للكّتاب والصَّحَفِيِّين الفلسطينيين في المؤْتمر التَّأْسيسي، وانتخب أَميناً لسرِ الاتِّحاد  “فرْع سورية” سنة 1980.

 

يسهم الشاعر حاليا في الصَّفَحاتِ الثقافية والدّوريات العربية الفلسطينية، وهو عضو هَيْئَة تحرير مَجَلَّةِ “الكاتِب” الفلسطيني وعضو لجنة العمل النّقابية، وانتخب أخيرا في مؤتمرٍ لإِعادَة بناء الاتِّحاد كعضو في الأَمانة العامّة من جديد.

 

أعماله الشعرية:

* مجموعة على الصليب “1971”

*مجموعة وسام على صدر الميليشيا “1971”

*قصائد منقوشة على مسلة الأشرفية “1971”

*تغريبة خالد أبو خالد”1972″

*أغنية حب عربية إلى هانوي “1973”

*الجدل في منتصف الليل “1974”

*وشاهراً سلاسلي أجيء “1974”

*بيسان في الرماد “1978”

*أسميك بحراً.. أسمي يدي الرمل “1991”

*دمي نخيل للنخيل “1994”

كما صدر له مجموعة “رمح لغرناطة 1999 ” ثم مجموعة معلقة على جدار مخيم جنين والأعمال الكاملة بعنوان (العوديسا)، بالإضافة لبعض الأعمال الأخرى والتي نشرت في العديد من المجلات العربية.

 

 

 

قصيدة العدد 2:

قآبيل شاميّة ….

خالد أبو حمدية
ــــــــــــــــــــــ

برى عمرَ الغريبة ما براكا
وذوّبه التصبّر واصطلاكَا

(وكلّ يدّعي وصلاً بليلى)
فزادوها خراباً وانتهاكا

بكت أطلالُها الخضراء فيهم
ولـيس لـمدّعٍ جـفـنٌ تـباكـى

ومدّت حبلَها المسقيّ دمــّـاً
وسحر حبالِهم أضحى شِراكا

فيا وطنا تَيَسْمَنَ ليس منّا
من اختلَسَ التبَرّج من شذاكا

ومن خلّى بياضَكَ محضَ حزنٍ
وأكفاناُ تًلَـوّحً، وارتباكا

فلـ”الحريّة” العرجاءِ نابٌ
ولا قلبٌ ولا عينٌ تراكا

فعينُ القلبِ قلبُ العينِ كانت
تغازل فجرها من مبتداكا

فكيف بــرَفّةٍ جُنّت وصارت
تـَـخَيّلُ أنْ ستبلُغُ منتهاكا

أؤنّثُ أو أذَكّرُ لا أبالي
فوصفك معجِزٌ يأبى امتلاكا

صرختُ بكفّ من أدماك تـبّاً
ونزفك هامسٌ، سلمتْ يداكا

فكيف تعقّ أمّك وهي ثكلى
وتذبَحُها، ولمْ تُعتِق أباكا

أحبّ سماءَها لو أنكرتني
وطينَ دروبِها والسفحَ ذاكا

وأعدِل دمعها بنجيع قلبي
وأنقشُ فوقَهُ، عزّت دِماكا

أقولُ الشام في سريّ لأبكي
وأنصفَ من شكا ممن تشاكى

وأصفع وجه قابيل أبينا
فكم دهرا قتلت بنا أخاكا؟!

وهل أنبيكَ كيف اليوم صرنا
قآبيلاً نسير على خطاكا

وأنّا لم نجد غربان رُشدٍ
لندفنَ أهلنا القتلى هناكا

فلُكناهم بالسنةٍ المراثي
وذئبُ القلبِ في الأرواح لاكا

تعبّدنا لشيطان الأماني
ولم نلمح برؤيانا ملاكا

فسبحان الذي للشام أسرى
بهيبة قاسيونَ، وقال هاكَا

حَسَدْنا خطونا فَرَحاً فدخنا
وغيم العطرِ يهطل في سماكا

وهِمْنا في الصخور تلينُ حـبّا
وتحجب شوقها عمّا سواكا

فيا ربّ القلوبِ أكانَ إثماً
بأنْ قــبّـلتُ شيئاً ما عصاكا ؟

وعانقت السماء على ذراهُ
وقلتُ لصَخْرِهِ كلّي فداكا؟

نسينا يا إلهي كلّ شيئ
وخاب بنا الرجاءُ ومبتغاكا

بلاد العرب ما عادت بلاداً
ووهم ربيعها أضحى هلاكا

شكا لي نصفي الشاميّ ناراً
فقلت كوى ضلوعي ما كواكا

وأجهش فاختنقت به وروحي
تـَرّجى خفقها، أوقف رحاكا

فكم نفسا ستخلق يا شبيهي
تنوب بذي المواجع عن أناكا

وكم كفّاً تُعلّق في المواني
تشدّ الراحلين ومن جفاكا

رسمتَ حبيبة كالشام طهرا
فخانت، والشآم وَفَت هواكا

فأسمى الحبّ أوفاه انتظارا
وأصدقـُه أنـيـنـا وارتـبـاكا

وحبّ الوهم يرسم وهمَ حبّ
لقيطٍ لا يَرِفّ لـه حشاكـا

لئن يا ياسمينُ ضويتُ شوقاً
فحرفي عاقرٌ، لا .. ماكفاكَ

أيشفعُ أنّ لي قلبا صغيرا
مع الخفقات يسجدُ إنْ تلاكا

فحزنك مثل حسنك يوسفيّ
بك اكتملا وما احتملا فكاكا

وشوقك مثل شوكك كم رهيفٌ
تأبط جرحَه ..ما قطّ شاكا

فأنت الشام حين تهبّ ريحٌ
حملت الكونَ ما انفصمت عُراكا

لوجه الشامِ نبضُ حَياءِ بِكرٍ
إذا أقبَلتَ بالدفء احتواكا

حجارتها العتيقة لينُ ثـغرٍ
تُــقَبِّله فـتُـنكِرُ فـيهِ فاكَ

وتقسم رغم أنف الشهدِ سُكرا
بهِ وتَتيهُ.. زدني من لماكَا

سقتك الشام عفتها صبيا
فهل تقصيكَ والشيب اعتراكا

بها ابيَضّت سُويدا العينِ فاذكرْ
بياضَ قميصِها، يُبصِرْ عماكا

فيا للشامِ قُدّت من شروقٍ
وطرّز شالَها فجرٌ وحاكَا

ويا للشام حين تظلّ قُدساً
بهاءً حـَفّ عمرك واصطفاكا

فخطّ بمرهفُ الأجفان عنها
فجيعةَ من قسا ومن اجتواكا

عساكَ تُقيلُها إن عِيلَ شَوقٌ
ويُنبِتُك الحنينُ بها عساكا

عنيت بها الخلودَ، فكلّ سرّ
بها يا خالد النجوى عناكا

شلَحتَ ظلالَك البيضاء فاحمل
لياليك الثقال، وذُقْ جناكَا

صلاة العينِ عَينٌ من صلاةٍ
عكوفُ دموعِها عنها نهاكَا

فإنْ سجَدَتْ وأجهشَ ساكنوها
وصارخ كُحلها نـاع نَعـاكَا

يظلّ قوامها الصفصاف عرساً
ويحزن حين تسألُ ما حناكَا

تعرّينا الحروف وليس عيبا
بأن نعرى، ويستُرنا ثراكا .

 

 

 

 

 







Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *