Qawmi

Just another WordPress site





المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 نيسان 2015

ويضم هذا العدد:

– كلمة العدد: التنظيم والعمل السياسي/ جميل ناجي

– نقد “بيان طارق”: نحو فهم ثوري لمشروع الطليعة العربية/ إبراهيم علوش

– دروس الخريف/ نور شبيطة

– النظرية والتنظيم الثوري/ أسامة الصحراوي

– مراجعة فيلم: التجلي الأخير لغيلان الدمشقي/ طالب جميل

– محمود درويش والتوراة: تنظير لتقاسم فلسطين مع اليهود (2-2)/ أحمد أشقر

– شخصية العدد: الشهيد صدام حسين التكريتي/ نسرين الصغير

– مدينة عربية: نينوى/ علي بابل

– قصيدة إنفصال/ الحارث الشميري

– كاريكاتور العدد




العدد رقم 11 – 1 نيسان 2015
لقراءة المجلة عن طريق فايل الــ PDF




للمشاركة على الفيسبوك






















































 

العدد الحادي عشر من مجلة “طلقة تنوير”: التنظيم القومي في القرن الواحد والعشرين

 

كلمة العدد: التنظيم والعمل السياسي

 

جميل ناجي

 

لا يمكن للتغيرات التاريخية على الصعيد المجتمعي أن تحصل عفويا دون التدخل المباشر للإنسان ضمن إطار الصيرورة التاريخية وقوانين تطور التاريخ.  وهذا يتطلب بالضرورة فعل جماهيري عام مدرك وواعي لأهمية المقصد التاريخي والحضاري في حياة الأمم والشعوب.  وإذا افترضنا جدلا أن التاريخ قائم على الصراعات المختلفة، فإن هذه الصراعات كانت تحوي في طياتها دائما سائدا ومسودا، سواء أخذت هذه الأخيرة طابعا طبقيا أو قوميا أو غيرهما.  بالتالي كان لا بد للنفَس الثوري أن يكون حاضرا ليخلّص المقهورين من أغلالهم ويرفعهم لسوية العمل لحسابهم الخاص، بصفتهم أمما أو طبقاتٍ، بدل السخرة للآخرين وصولا إلى دور فاعل في التاريخ.  وإن الجماعات التي لم تستطع أن تفرز روحا ووعيا ثوريا، يجسدها التنظيم الثوري، كان مصيرها الانحطاط إلى الدرك الأسفل للتاريخ.

 

لقد دلّلت التجارب التاريخية أن الغياب التنظيمي عن الحركات الجماهيرية، أو غياب طليعة تحمل على عاتقها مصالح الجماهير وتقودها لتحقيق أهدافها، قد أفقد هذه الحركات حياتها وأنهاها.  وبالتالي فإن البناء التنظيمي هو ضرورة آنية وملحّة دائما في أي فعل سياسي.  وإذ أشار لينين إلى ضرورة وجود النظرية والكادر المتمرس داخل التنظيم، فالحقيقة هي أنه لا معنى لأي عمل سياسي بدون تنظيم سياسي، كما أن التنظيم السياسي يفقد غايته إذا فقد روحه الثورية وقدرته على التعبير عن ضرورات اللحظة التاريخية.  بمعنى أن الضمانة الوحيدة دائما في تقدم تحقيق أهداف العمل السياسي الثوري ومراكمتها والاستفادة منها هو التنظيم.  ولقد أشار ماركس إلى كثير من الجماعات التي زرعت حيتانا لتحصد بعوضا في غياب البُنى التنظيمية، إلى أن جاء لينين فيما بعد من خلال الحزب ليحصد ثورة تركت بصمة تاريخية في مواجهة الإمبريالية عامة وفي تاريخ الشعوب.

 

لكننا إذ نؤكد على أهمية التنظيم، فهو لا يتعدّى كونه أداة لتحقيق الأهداف، وهو خطوة إلزامية أولى لا بد منها.  إنما لا بد من الإشارة إلى أن التنظيم هو علمٌ له قواعده وأسسه وآلياته الخاصة التي تحتاج إلى معرفة وإدراك عميق، بالإضافة إلى التنظير العام المرتبط بالممارسة في التجارب التاريخية أو على المستوى الذاتي. وإذ يُعرّف التنظيم على أنه كيان اجتماعي طُوّرَ من قبل جماعة لتحقيق أهداف لا يمكن تحقيقها بغير ذلك، فإنه يأخذ طابعا هيكليا ومنظما ويعبر عن وحدة متكاملة، مرتبطة بوحدة الهدف، المنهج، الرؤيا والممارسة أو العمل المشترك.  وبالتالي لا يمكن اعتبار الحالات الهلامية من الجموع الغاضبة والمرتبطة بمصالح مؤقتة أو تلك التي يجمعها هدفٌ عابر تنظيما، ولا يكفي الدفاع عن خط سياسي أو تكتيك سليم لكي تتشكل قوة ثورية وتنمو بشكل عجائبي كما يقول لينين.

 

نقول مجددا لا ثورة حقيقية بدون تنظيم حقيقي، فإذا اعتبرنا أننا نريد تحقيق ثورة لكسر الهيمنة الإمبريالية، ولتحقيق الأهداف القومية الكبرى مثل الوحدة والتحرير والنهضة، فإن ذلك مشروط بوجود تنظيم صلب جماهيري قادر على المواجهة وتحقيق الأهداف، وهذا أقرب ما يكون لمعادلة رياضية.  وبالتالي لن تقف الإمبريالية وأدواتها تقف مكتوفة الأيدي للسماح بنشوء مثل هذا التنظيم على مستوى الأمة الذي يتجاوز حدود الأقطار.  والتاريخ شاهد على الشطب الحثيث لمحاولات بناء التنظيمات، أو شطب تنظيمات قائمة فعلا، وصولا إلى تفسيخ تيارات كاملة سواء كانت قومية أو يسارية، لحساب التيار الإسلامي والتيار الليبرالي بما يشمله من جمعيات حقوق إنسان ومؤسسات مجتمع مدني ذات تمويل أجنبي.

 

لقد برعت الإمبريالية وعملاؤها من الأنظمة في تخريب التنظيمات وشطب النفس الثوري، أو في أحسن الأحوال أعادت صياغته بما يتماشى مع مصالحها، أو حولته لرافد لبناء ثورات ملونة من أجل تفسيخ المجتمعات.  يشير مثلا الكاتب وليد فتحي إلى انتشار العديد من الظواهر الليبرالية داخل التنظيمات اليسارية، من عدم التفاعل مع المجتمع والتماس المباشر مع الجماهير (بصفتها أولوية تنظيمية)، إلى الالتفات للمصالح الخاصة المنفصلة عن المصلحة العامة، وصولا إلى ترسيخ فكرة العداء للتنظيم والحزبية، ونضيف أيضا: استهداف الفكر والثوابت عامة، كخطط تخريبية عائدة إلى القوى الليبرالية الممولة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

 

يشير لينين في رده على الطروحات الليبرالية إلى أن انتماء الفرد إلى التنظيم ليس تنازلاً عن حريته أو إلغاء لها، بل يعتبر أن الإرادة الجماعية هي الشرط لتحقيق الحرية الفردية.  ولا مفر من العمل ضمن إرادة واحده ذات سلطة، فمن خلال التنظيم يستطيع الفرد أن يحقق ذاته.  أما بالنسبة للمتشدقين بالفرد والفردية،  فيشرح ماركس أنها ليست سوى حكرا على أصحاب النفوذ فقط، وأنه من خلال العمل مع الآخرين فقط يستطيع الفرد في الأمم والطبقات المضطَهدة أن يثبت ذاته في كل الاتجاهات.

 

لقد استطاعت الأمة في أحلك أيامها أن تفرز تنظيمها الثوري المتمثل بالإسلام، عندما تكالبت عليها كل الأمم، وبنت إطارها السياسي الموحد وحضاراتها الذهبية بأيدٍ عربية، وقارعت التاريخ إلى أن تلاقفها الأغيار فيما بعد عبر اختراق الأداة التنظيمية التاريخية التي أنتجتها.  وهي قادرة مجددا اليوم أن تعيد صياغة التاريخ وأن تبني تنظيمها الثوري وتيارها الواعي المنظم الممتد على التراب العربي، وهو ما نرى في لائحة القومي العربي أنه التيار القومي العربي الجذري، الذي يتمثل في صيغة جبهوية هي حركة شعبية عربية منظمة تقوم على مبدأ التعددية ضمن حدود الثوابت، وهي حركة لا يمكن أن تقوم وتتبلور إلا بوجود شكل تنظيمي ما في قلبها، سماه قوميو الخمسينيات والستينيات “التنظيم الطليعي”، ونهدف في هذا العدد للبحث في التجارب والأفكار التنظيمية المختلفة التي انتجتها الشعوب لعلنا نقترب من بناء تصور لتلك الصيغة التنظيمية التي لن يقوم مشروع قومي بدونها.

 

نقد “بيان طارق”: نحو فهم ثوري لمشروع الطليعة العربية

 

إبراهيم علوش

 

تفتقر الأدبيات القومية العربية عامةً للتأصيل النظري في مجال البناء الحزبي والتنظيمي بخاصةً.  وبعيداً عن أية خلافات سياسية أو أيديولوجية مع الأحزاب الشيوعية العربية، مثلاً حول موضوعة الوحدة العربية وعروبة كل فلسطين والبعد الحضاري للأمة والتبعية للاتحاد السوفييتي السابق بدلاً من مصلحة الأمة، لا بد من الإقرار أننا لا نمتلك في المكتبة القومية كتباً وكراسات تعالج نظرية الحزب الثوري بعمق وتوسع من النمط الذي بلوره لينين، على سبيل المثال، في “بمَ نبدأ؟” أو “ما العمل؟” أو “خطوة إلى الأمام، خطوتان للوراء” أو “رسالة إلى رفيق: حول مهماتنا التنظيمية”.

 

لقد أدى مثل ذلك الفراغ النظري عند القوميين عامةً لانتشار مقادير مختلفة ومتناقضة، بحسب التنظيم القومي، من التجريبية والعشوائية والليبرالية والديكتاتورية والانتهازية والفوضى، إلى جانب الكثير من النوايا الحسنة والنضال الحقيقي، وإلى ضعف عام في الانضباط الطوعي والقدرة على ممارسة العمل الجماعي المنظم بناء على خطة عمل تترجم مشروع العمل القومي إلى أهداف قابلة للتطبيق هنا والآن بحسب شروط الظرف المُعطى، وهو ما أسهم، عندما انحسرت موجة المد القومي في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، في تحول بعض الأحزاب القومية إلى قواقع فارغة تحمل اسمها السابق كإرث تاريخي فحسب، أو إلى أحزاب سلطة قُطرية، بعيدة عن أي تأثير قومي حقيقي عابر لحدود التجزئة، يرتبط وجودها بوجود جهاز الدولة القُطرية* التي حكمتها فحسب.

 

بالعودة لنظرية العمل التنظيمي والحزبي عند القوميين العرب، تظهر أدبيات قليلة منها “بيان طارق” للأستاذ عصمت سيف الدولة الذي عالج كيفية نشوء “الطليعة العربية”، أو الحركة العربية الواحدة، كتنظيم قومي عابر للحدود القُطرية يقود النضال العربي باتجاه تحقيق الأهداف القومية الكبرى التي حددها الاستاذ عصمت بالوحدة والحرية والاشتراكية.  ويستند مناضلون قوميون كثر، من المرجعية الناصرية بخاصة، لـ”بيان طارق” كدليل عمل تنظيمي مع أنه لم يعالج حتى خمسة بالمئة من القضايا النظرية المرتبطة بالبناء التنظيمي مثل الوعي والعفوية، وطبيعة علاقة الحزب بالجماهير، والنضال العلني والسري، والقواعد التنظيمية لبناء الحزب الطليعي كالعلاقة بين الديموقراطية والمركزية في الحزب مثلاً، وطبيعة هيكل الحركة العربية الواحدة الداخلي وكيف يرتبط المركز بالتنظيمات القُطرية إن وجدت، والعمل في ظروف الجزر والانحسار القومي مقابل العمل في ظروف المد والنهوض، والموقف من النضال البرلماني والنقابي والمطلبي من جهة، ومن العمل المسلح من جهة أخرى، الإستراتيجية والتكتيك، والعديد من القضايا الأخرى.

 

لا بل نجد الاستاذ عصمت في “بيان طارق” مستغرقاً في مسألة واحدة هي كيفية إنشاء “طليعة عربية” لا نعرف شكلها بالضبط، ولا من سينشئها، كما أنه لم يقدم إجابة مقنعة وعملية قط على طريقة إنشائها، لا في القرن الفائت ولا الحالي، سوى أنه في معرض سعيه للإجابة على سؤال كيف تنشأ “الطليعة العربية” يقوم بشن هجومٍ ضارٍ يسخّف فيه كل الأحزاب والقوى القومية العربية الأخرى، في سياق التراشق والصراع  المؤسف بين القوى القومية العربية الذي ساد على مدى عقود، والذي دفع كلٌ منها، والحركة القومية العربية عامةً، ثمناً باهظاً له، ولم يستفد منه إلا أعداء الحركة القومية العربية في كل مكان.

 

لسنا هنا بصدد تقييم العلاقات التاريخية بين القوميين على كل حال، إنما بصدد تسليط الضوء على مشروع إنشاء الحركة العربية الواحدة، كما طرحه الاستاذ عصمت سيف الدولة في “بيان طارق”، على طريق بلورة أساس أكثر قابلية للتطبيق لبناء مثل تلك الحركة في القرن الواحد والعشرين.   فالاستاذ عصمت يطرح في “بيان طارق” خمسة طرق محتملة لتأسيس الحركة العربية الواحدة أو التنظيم الطليعي:

 

  • “أن تنشأ ” الطليعة العربية ” بمبادرة من إحدى السلطات التقدمية الحاكمة في الوطن العربي، والجمهورية العربية المتحدة هي المرشحة لهذه المبادرة”، وهو ما يستبعده لأن أجهزة الدولة القُطرية لا تستطيع أن تبني تنظيماً قومياً، كونها محكومة باعتبارات قُطرية، وبحسابات الدولة القُطرية، وباعتبارات السلطة، وكون ذلك غير مرغوب من وجهة نظره لأنه يحول التنظيم إلى “تنظيم القيادة” الذي تحكمه اعتبارات شخصية، بعيداً الجماهير والكادر النضالي.

 

  • “أن يتحول أحد التنظيمات القائمة في الوطن العربي إلى طليعة عربية” من خلال النضال واكتساب ثقة الجماهير العربية وولائها، وهو ما يستبعده لأنها انتهت جميعاً برأيه مع صعود عبد الناصر، مطلقاً سيلاً من الهجمات ضد البعث وحركة القوميين العرب، ومعتبراً، كتحصيل حاصل، أن “ما ينطبق على هذين التنظيمين ينطبق – من باب أولى – على أي تنظيم غيرهما”!!!!

 

 

  • التقاء كافة المنظمات العربية الثورية في وحدة عمل نضالي، بكل ما يتطلب ذلك من تبادل الخبرات الفكرية، والحركية، والتعاون، وتنسيق الجهود، ثم بقبول التعايش معاً، ومؤقتاً”، وهو ما لا يراه ممكناً، لو تجاوزنا مشكلة التمييز بين من هو ثوري وغير ثوري، لأن قانون مثل هذه اللقاءات هو الوحدة والصراع، فلو التقت هذه التنظيمات مؤقتاً، لتحقيق هدف مرحلي ما، فإنها ستحفر لبعضها حفراً خوفاً مما يلي تحقيق الهدف المرحلي، كما أن مثل تلك التجمعات، برأيه، لا يمكن أن تنتهي باندماج، بل بسيطرة التنظيمات التي تدرك قانون الوحدة والصراع على التنظيمات التي تخلص للقضية المشتركة فحسب! كما أن تلك التنظيمات المجتمعة في إطار جبهوي سوف تختلف مع بعضها بحكم اختلافها عقائدياً وانتماء كل منها لقُطر عربي مختلف…

 

  • “أن يتنادى الثوريون العرب إلى مؤتمر ينبثق عنه التنظيم القومي الواحد”، وهو ما يعتبر أنه “غير ممكن. إذ أن الاستعلاء الفردي لا يمكن أن يؤدي إلى تنظيم جماهيري قومي.  الدليل على ذلك أن الذين تراودهم هذه الفكرة غير قادرين على إنجاز تلك الخطوة الأولى، معرفة من هم الذين يمكن أن يتنادوا إلى مؤتمر قومي”.  وهذه الطريقة بالذات يسميها الاستاذ عصمت “أسلوب الصفوة” ويخصص لها فقرة واحدة باعتبارها ليست احتمالاً يستحق النقاش.

 

  • “أن يبدأ تكوين (الطليعة العربية) من القاعدة الجماهيرية العريضة، فتنبثق (الطليعة العربية) من الجماهير ذاتها، وتنمو من القاعدة إلى القمة نمواً طبيعياً، وديموقراطياً”، وهو الخيار الذي يتبناه الاستاذ عصمت، مفرداً له نصف “بيان طارق”. أما كيفية تحقيق ذلك، فعن طريق “قيام تنظيم انتقالي لمدة محدودة تكون مهمته مقصورة على أعداد القاعدة الجماهيرية اللازمة لمولد الطليعة العربية، وليبقى بعد مولد الطليعة العربية قاعدة جماعية منظمة لها، تتولى الترشيح لعضويتها، وتزويدها بالمناضلين، بعد أن تكون قد أعدتهم فكرياً، وتنظيمياً لهذه العضوية”.  

يضيف الاستاذ عصمت أن مهمات ذلك “التنظيم المؤقت” يجب أن تقتصر على التثقيف دون النضال السياسي: “ولما كانت مهمة التنظيم هي الأعداد للطليعة العربية، وكانت تلك المهمة مؤقتة في الوقت ذاته فإن مهمته الأساسية لن تكون القيادة السياسية، والنضالية للجماهير العربية – فتلك مهمة الطليعة العربية عندما توجد – بل ستكون إكمال، وتعميق، ونشر الفكر الطليعي، وتثبيته في أذهان الجماهير على الوجه الذي يحقق قاعدة فكرية واحدة تجمعها، أي أن عدم تحمل التنظيم بحكم مهمته الإعدادية، والمؤقتة، لأعباء النضال السياسي سيجعله تنظيما للوعي الفكري، والتوعية، غايته تحقيق الوحدة  الفكرية في أعرض قاعدة جماهيرية”.   ولهذا من المهم هنا، عند الاستاذ عصمت، عدم انجرار “التنظيم المؤقت” لممارسة العمل السياسي، “وعدم الاستجابة للاستفزاز الذي يأتي من جانب الأفراد، والحوادث” كما يقول.  أما التنظيمات القومية القائمة، فإن “وجود المنظمات المتعددة ذاتها يقدم ميداناً منظماً لغزوها الفكري” من قبل “التنظيم المؤقت” على أساس أنها تعاني خواءً فكرياً ستكون سعيدة بأن يملأه لها “التنظيم المؤقت”.  وبعد أن يتم تأسيس تنظيم “الطليعة العربية” فإنه يبادر لجعل الرئيس جمال عبد الناصر قيادة ومرجعية له، ويبادر الرئيس جمال عبد الناصر، أو قيادة جمهورية مصر العربية، لتبني مثل ذلك التنظيم واستبداله بـ”أدوات النضال المتاحة حالياً (أي أدوات الدولة الناصرية)، مع إعفائها (قيادة ج.م.ع)، مادامت تريد، من الإسهام في مرحلة الإعداد المؤقتة”، أي أن “التنظيم المؤقت” الذي لا يمارس السياسة سوف يبادر لتسليم قيادة التنظيم السياسي (عندما يؤسسه) لمن لم يرغب بتأسيسه!!!

 

أما كون الدولة القُطرية تبقى محكومةً بالاعتبارات القُطرية، لأن قوانين التجزئة تفرض ذلك، بغض النظر عن هوية الحاكم، ولو كان قارئ هذه السطور، فهو ما دفعنا  في “لائحة القومي العربي” للتأكيد على أولوية بناء الإطار القومي الموحد على السعي للوصول للسلطة، وذهبنا أبعد من ذلك في التأكيد أن لا مشروع وطنياً ديموقراطياً في قطر عربي واحد، وأن لا نهوض ولا تحرر ولا تنمية إلا بالمشروع القومي العابر للأقطار (أنظر الفصل الثاني من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي”).  وعليه نتفق مع الاستاذ عصمت في أن أجهزة الدولة القُطرية أعجز من أن تبني تنظيماً قومياً، وأنها أميل لتوظيف كل الأدوات دفاعاً عن سلطتها القُطرية.

 

أما قطع الطريق على إمكانية نشوء أي تنظيم قومي باعتبار أن عبد الناصر موجودٌ، وأن تجربته تجب كل التجارب القومية الأخرى، فإننا نؤكد ابتداءً أننا نعتبر جمال عبد الناصر قائداً قومياً تاريخياً، وشخصية تاريخية فذة، ورمزاً من رموز التحرر العالمي ومناهضة الإمبريالية، ونفتخر في “لائحة القومي العربي” أننا نستقي فكرنا القومي من كل التجارب القومية العربية المعاصرة، وأننا نتعلم من دروسها، ونحن نعتبر تجربة جمال عبد الناصر أحد أهم روافد التجربة القومية التقدمية المعاصرة، لكننا لا نعتبر أن من حقنا أو من حق أي جهة أن تعدم كل التجارب القومية الأخرى، فكلها قدمت إسهامات وإنجازات وكانت فيها نجاحات وإخفاقات، ولذلك نحن ننهل من منابعها جميعاً، بعقل نقدي تحليلي، سواء كانت ناصرية أو بعثية أو حركة قوميين عرب أو كتابات لمفكرين قوميين إسلاميين أو قوميين يساريين. 

 

غير أن ما سبق لا ينفي أنه ليس من السليم منطقياً أو مبدئياً لأي مفكر قومي أن يصادر كل التجارب القومية العربية، السابقة واللاحقة، بجريرة وجود شخص قومي، ولو كان عظيماً مثل جمال عبد الناصر، على رأس الجمهورية العربية المتحدة، مع تأكيد الاستاذ عصمت، في كتابات متعددة، أن جهاز الدولة نفسه لم يكن قومياً بالضرورة أو بالكامل… فالشخص، أي شخص، لا يدوم، وإذا لم يكن هناك حزب حقيقي يقود المشروع النضالي، فإن التجربة تزول معه، وهو ما جرى.    ويظهر كتاب “الطليعة العربية، التنظيم القومي السري لجمال عبد الناصر (1965-1986)”، لعبد الغفار شكر، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، والذي نشرت خلاصة له في دورية “المستقبل العربي”، عدد كانون الأول 2014، أن القائد عبد الناصر كان يدرك تلك الحقيقة جيداً، غير أن التنظيم الذي تأسس بمشاركة قيادية من الاستاذ عصمت سيف الدولة لم يتمكن من أن يتحول إلى طليعة عربية فعلياً، وأنه أصيب بـ”نكسة” على خلفية حرب الـ67، ثم بعد وفاة جمال عبد الناصر، وصولاً لانحلاله في الثمانينيات.  وتظل تلك تجربة عظيمة تستحق الدراسة والتمعن، من أهم معانيها ضرورة عدم ربط التنظيم بشخص، بل بمشروع، دون أن ينفي ذلك ضرورة وجود قيادة، هي بالضرورة قيادة تاريخية في المراحل المفصلية.

 

أما بالنسبة لفكرة التقاء عدة تنظيمات قومية في إطار واحد، وهي الفكرة التي يسقط الاستاذ عصمت احتمالية أن تكون حاضنة لولادة تنظيم قومي، فإن السؤال ببساطة إذا كان اللقاء بغرض الإندماج أم بغرض إقامة تحالف جبهوي عابر أو طويل المدى.  فاحتمالية الاندماج قائمة ولا يجوز استبعادها قطعياً، وفي تلك الحالة يتحول المندمجون إلى إطار تنظيمي واحد، إزاء الجماهير والتنظيمات الأخرى.  أما التحالف الجبهوي، فلا يجوز أن نحكم عليه مسبقاً بالانحلال بسبب نزعة الاستفراد بالقيادة التي تنضح من ثنايا ملاحظات الاستاذ عصمت، ونحن في “لائحة القومي العربي” نعتبر أن التنوع العقائدي والاجتماعي والسياسي في الوطن العربي سوف ينتج تنوعاً حزبياً وغير حزبي، ولذلك فإن تحقيق أهداف المشروع القومي مثل الوحدة والتحرير والنهضة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إطار عريض يقوم على مبدأ التعددية ضمن حدود الثوابت، وأن علينا أن نكف عن فكرة قيام حزب واحد يشطب كل ما عداه ويمتصه أو يسحقه، وأن من الطبيعي أن نرفض ما يخالف الثوابت القومية، وأن لا نعترف بحقه بالوجود، لكن لا يجوز أن نفترض أن هناك من سينمو حزبياً ليلغي كل شيء آخر، مع قناعتنا الراسخة أن الإطار العريض لا يقوم بدون وجود نوايات صلبة داخله يستند إليها كركائز لا بد منها.

 

أما حين ينتقد الاستاذ عصمت “أسلوب الصفوة”، كما يسميه، من خلال تشكيل التنظيم الطليعي في مؤتمر، يرى أنه لن يرى النور أصلاً، فإننا نتساءل بدورنا: كيف سيتشكل “التنظيم المؤقت” الذي سيقوم على تثقيف الجماهير والذي يدعو له الاستاذ عصمت؟  أليس في ذلك “أسلوب صفوة”؟  إن كل محاولة تأسيس لا بد لها أن تبدأ بالضرورة كمحاولة نخبوية، والعبرة تبقى بنجاح تلك المحاولة أو فشلها… ثم، من الذي خول أعضاء “التنظيم المؤقت” أن يوكلوا لأنفسهم مهمة تثقيف الجماهير؟  ألم يوكلوها لأنفسهم بأنفسهم؟  وكيف وجدوا بعضهم بعضاً؟  فليس من الواضح كيف يسقط الاستاذ عصمت ما يسميه “أسلوب الصفوة” وهو يتبناه عملياً!

 

أما فكرة قيام “تنظيم مؤقت” تكون مهمته التثقيف فحسب، دون القيام بنضال سياسي، فمسألة إشكالية خاصة إذا كان التثقيف الذي يقوم به غير مرتبط بأجهزة الدولة كما يطرح الاستاذ عصمت.  فسيكون لدينا حينئذٍ جماعة تطلب من الناس أن يأتوا للتثقف عندها، دون اكتساب مصداقية النضال في الميدان السياسي والعملي، فعلامَ سيكون التثقيف إذن إن لم يكن متمحوراً حول قضايا الثورة العربية، حول نظرية الحزب الثوري، حول استراتيجية وتكتيك النضال، حول مفاهيم الاشتراكية العربية، حول الوحدة والتجزئة، وحول كل القضايا التي لا يستطيع التثقيف فيها إلا حزب يربط النظرية بالممارسة في عروة وثقى Praxis تتيح إغناء النظرية بالممارسة وتتيح إغناء الممارسة بالنظرية بحركة لولبية صاعدة هي وحدها ما يمكن أن تضيف إسهامات حقيقية لا للنضال العربي وحده، بل لكل النضال العالمي؟

 

إن تنظيماً يشتغل بالتثقيف فحسب، ليس تنظيماً على الإطلاق، ولا يمكن له أن ينتج تنظيماً طليعياً يقود الجماهير.  بالمقابل، لا يستطيع سوى التنظيم الذي يمارس دوراً طليعياً في الميدان أن يقنع الجماهير بالتثقف عنده.  فالتثقيف أحد وظائف التنظيم الطليعي، لا مقدمة مدرسية له.  أما ما تفضل به الاستاذ عصمت عن ضرورة توفر وحدة فكرية كأساس للوحدة التنظيمية، فهو صحيح تماماً، وهو ما يجب أن يتوفر في مؤسسي التنظيم، مع الإشارة أن الحزب ليس جمعية ثقافية ولا فكرية، وأن التراث الفكري القومي العربي غنيٌ جداً، وأن ما ينقصنا هو وحدة المنهج والرؤيا والخط التي تعبر عن نفسها في برنامج سياسي، وأن الأحزاب تؤسس على قاعدة الالتزام ببرنامج سياسي واحد وأن العضوية تقوم على الالتزام بنظام داخلي واحد، ولا تقوم الأحزاب على تحويل كل أعضائها إلى منظرين، خاصة من النوعية التي نراها في “بيان طارق”. 

 

إن ما حصل في عقول الشباب “المتّكلين” على رسالة “بيان طارق” هو أنهم أصبحوا يؤمنون أن ما عليهم القيام به هو نشر الفكر وزرعه في كلّ مكان ولمّا ينبت وتنضج الظروف الموضوعية سوف يولد التنظيم القومي تلقائيا وتكون الظروف، عندها فقط، مهيّأة لقيام دولة الـوحدة.  إن مثل هذا الطرح مثلما يناسب أعداء المشروع القومي العربي المندسّين بكلّ أنواعهم، لأنه يمكّنهم من تأجيل أي نشاط ايجابي بنّاء إلى ما لانهاية، فإنه يناسب الانتهازيين الذين يريدون الاشتغال في المشروع القومي دون الالتزام بتحقيق أيّة نتائج أو تقدّم ملموس حيث يسهل عليهم السباحة في المشاريع الفضفاضة الجوفاء …

********************************

 

* (ليسامحني القارئ الكريم على استطراد سريع لإيضاح معنى تعبير “قُطرية” أعلاه.  فقد اختلط أمر ذلك التعبير في الماضي على عدد من القراء الشباب على ما يبدو الذين سألوا عن علاقة “دولة قطر” بالسياق؟!  ففيما كان تعبير “قُطري”، المستقى من “قُطر”، وجمعها أقطار، كنايةً عن دولة التجزئة، بعدما قسم الاستعمار الوطن العربي إلى عدة دول، هو التعبير الشائع، بلا حاجة لوضع ضمة فوق حرف القاف، وكانت قَطر إحدى تلك الدول القُطرية فحسب، فقد باتت دولة قَطر هي ما يقفز للأذهان عندما يُستخدم تعبير “قُطري”، وهو ما يقول الكثير بحد ذاته عن الحالة المؤسفة للوعي القومي في الشارع العربي اليوم…).

 

دروس الخريف

 

نور شبيطة

 

في أكثر التحليلات تفاؤلا لما يسمى “ربيعا عربيا” لا يمكن وصفه دون مغادرة العقلانية بأكثر من أن رياحا ما هبت على أزهار ذلك “الربيع” فلم تعقد ولم تنتج ثمارا، بالتأكيد هذا التوصيف يبدو صبيانيا ولا يثبت عند الفحص، ولا يمكن إهمال الأصوات التي نادت بوضوح بأن هذا تخريب ومشروع تقسيم وهذا ما أثبتته الأيام، لكن الغرض من هذا المقال هو التفكير في سؤال (كيف) لا (ماذا)، أي أننا سنفكر في الآليات لا في الأعمال ذاتها، وهذا سيجرنا لبعض المسائل اللصيقة لهذا الحدث، الإسلام السياسي أهمها في المنطقة، وحركات (احتلوا المكان/ وول ستريت مثلا) أهمها عالميا، وهذا يمكن وصفه على أنه بحث عن دروس الربيع، أي أنه جهد يهدف لخدمة الطليعة من خلال استخلاص بعض الدروس من الخريف الذي يدعى “ربيعا”.

 

تخبرنا الذاكرة أن مصطلح “الديموقراطية” لدى عودته للتداول لم يكن يحمل الشحنة السلبية التي يحملها الآن بالنسبة للحركات التحررية، لكن رأس المال اختطفه ووظفه وأطلقه على عملية التصويت و”تداول السلطة” المزعوم، فالليبرالية الآن تسمي ممارساتها ديموقراطية وهي أبعد ما تكون عن (حكم الشعب)، ولكن تبا للسلفية اللفظية التي تعاند حركة التاريخ، ولن يجرنا أصل المصطلح لدرجة أقل من الكره الذي نحمله لمصداقه اليوم، وهذا ما تفرضه الحال على أي حركة عضوية تريد مخاطبة الجماهير بلغة يفهمونها، وبهذا فتبا للـ “ديموقراطية” أيضا! لكن ما نريده من هذه الفقرة هو ترسيخ فكرة المصطلحات ذاتها إذ تتعرض للاحتلال والاختطاف.

 

أما في النقاشات وأحاديث الشارع فتجد أن العامة تنظر للديموقراطية كقيمة، مع أن مصداقها عندهم هو عدم وجود قيود على الخطاب أو ما قد يسمونه “حرية التعبير”، و”النخبة المتعلمة” تنظر لها في الغالب على أنها عملية التصويت، وتداول السلطة، وكلا المصداقين يقع في خانة الإجراءات لا القيم، لكنهم يقعون في مغالطة (السببية المقلوبة)، فهم ينظرون للتصويت على أنه سبب الرفاه، مع أن ثروة الدول الغربية كانت لأسباب صناعية وحربية واستعمارية، ومظاهر الديموقراطية المزعومة من تصويت وتداول شكلي للسلطة هي نتائج  المؤسسية لا أسبابها.

 

إذن نحن أمام خطاب عامّيٍّ (يسمى بالإنجليزية حاناتية “بوب كالتشر” وقد يسمى “شعبوي”)، تلتبس فيه المصطلحات وتحاط بهالة من القدسية، وهذا الخطاب يتماهى مع بعضه بين الشرق والغرب، إذ تجده هو الطاغي على “الربيعيين” والأتبوريين (نسبة لمنظمة أوتوبور) وعلى حركة (احتلوا وول ستريت)، ويتشاركون الرموز (قناع فانديتا مثالا)، وأساليب الحركة (نشرات تتناول ماذا تلبس للمظاهرة وكيف تقنع الجماهير بسلميتك وكيف تستفز الأمن وكيف تعطل عمل مؤسسات الدولة)، لكن يغلب على التحرريين العرب وإن كانوا استفاقوا على زيف “الربيع”، أنهم يؤيدون حركات مثل احتلوا وول ستريت! فما السر في ذلك!؟

 

يسمي بعض الأكاديميين الغربيين حركات (احتلوا المكان) باسم لافت للانتباه وهو (آناركو- بوبيزم) أي اللاسلطوية الحاناتية، أو “اللاسلطوية الصغيرة”، ويعرفون هذه المنظومة الفكرية على أنها ثقافة من المقولات اللاسلطوية (الأناركية) التي يمكن تداولها على الألسنة بسهولة، وقوتها تكمن في تداوليتها، وهي هشة نظريا لحد بعيد، فهي ترفض النظام بكونه نظاما، لذلك تبقى تواجه النظام بأدوات هشة لا يمكن أن تكسر دولة قوية، ذات مؤسسات راسخة، ولكنها قادرة على إحداث جلبة، وإرباك لمؤسسات الدولة، ويبقى أنه على نظام ما مواجهة النظام الذي يواجهونه، ليكون هجوم اللاسلطوية الصغيرة عليه ذا معنى. ( يذكر أن فكرة احتلال مكان ما، تقوم على دعوى “تعميمه” أي جعله عامًّا، وفكرة التعميم غير فكرة التأميم، فهنا يسقط النظام لصالح عمومية المكان الذي سيكون غير ذي نفع بدون إدارة، أما التأميم فهو سيطرة النظام “الأداة العامة” عليه لصالح الأمة).

 

هنا وباعتبار أننا أمام صراع إرادات، يمكن وصف هذه الحراكات على أنها مثل بعض هرمونات النبات (الجبرلِّين مثلا) الذي يؤدي مفعولين متناقضين حسب مكانه ففي الجذور يعدُّ مثبِّطا وفي المجموع الخضري يعدُّ منشِّطا، فهي في دول المركز قد تكون مفيدة لتحرر الأطراف، إذ يكون تضادها مع الإمبريالية والرأسمالية بشكل مباشر، لكنها في دول الأطراف تزيد سيطرة المركزية الغربية الشمالية، وبهذا فنرى دعاة “الربيع” حلفاء لأمريكا، وكذلك جماعة الإسلام السياسي، وهذا قد يفسر هذا التعاطف بين الحركات التحررية في الأطراف، واللاسلطوية الصغيرة في المركز (فنزويلا مثالا)، بل إنه يفسر أيضا تعاطف المركز المستبد ودعمه وتأييده لهذه الحركات في دول الأطراف! (تبني الولايات المتحدة للأحداث في الوطن العربي مثالا).

 

حسن لندخل الآن للب الفكرة، أي حول السمة العامة لهذه الحراكات، سواء بشكلها الأناركي أو الليبرالي أو حتى الإسلاموي في منطقتنا، والتي مكَّن بعضُها هذه الحراكات من البروز، واحتلال المكانة التي احتلتها بغض النظر عن جدواها، فنحن إذ نصفها نصف الواقع الذي شكل وسطا حاملا لها، وتوصيف الواقع من خلالها يخبرنا شيئا مهما، سنختم به:

  • الخطاب العامي؛ فهذه الحراكات تتكئ على ثقافة المقولات، التي يمكن تداولها في جلسة مقهى أو حانة، وبغض النظر عن المنظومة المعرفية التي تنطلق منها وحجمها، فإنها لا تحمل منها غير المحتوى الممكن تداوله في هكذا جلسات، وهذا مرده في رأيي لنمط الحياة التي فرضتها الرأسمالية، إذ إن كل خطاب لكي ينتشر ويشيع ضمن شروط هذا العصر لابد من أن يحقق شرط قابلية التداول هذه، باعتبار النشاط اليومي للفرد العربي.
  • التركيز على عيوب الخصم؛ وهذا سببه الافتقار للبرنامج الحقيقي، وتنوع المشارب الآيدولوجية للناس في هكذا حراكات، فالتركيز على عيوب الخصم والاكتفاء بها، ينأى بهم عن أي نقاش فكري عميق، أو كما يسمونه هم “عقيم”.
  • معاداة الأحزاب “التقليدية”؛ فحتى يضمنوا إمكانية عدِّهم ممثِّلا عن الشارع العريض، فهم يبتعدون عن نسبة نفسهم لآيدولوجيا أو أي موقف فكري قيمي، عدا عن نزعتهم المضادة للتنظيم والتي تقودهم لمعاداة التقاليد الحزبية أيضا.
  • إحلال الإجراءات مكان القيم؛ إن التوافق بين هذه “القطعان البشرية” غير ممكن، لذلك فهم يلجأون للمطالب التي تتعلق بإجراءات ضد الخصم ويقفون عند ذلك.
  • سهولة الاختراق، وإمكانية قيادتهم من قبل أي مجموعة منظمة؛ إذا حافظت مجموعة ما على سريتها، فإنها تستطيع قيادة هذا القطيع بسهولة، لكن هذه القيادة تكون ضمن إطار التكتيك وتتعذر القيادة على مستوى الاستراتيجية، وإذا كشفت نفسها فستتحول أصواتها الكثيرة لصوت واحد، بدل أن يقال هذا رأي فلان وفلان وفلان، سيقال هذا رأي الحزب الفلاني، وبذلك تخسر إمكانية القيادة.
  • اللا-استدامة؛ هذه الحراكات لا تملك القدرة على الاستدامة، فهي محتاجة لمؤسسات راعية، لاسيما إعلامية، خارجية كانت أو داخلية، وهذا يضعها تلقائيا ضمن أدوات حروب الرعاية.
  • القيادة اللحظية؛ أي أن إمكانية القيادة متاحة لأي كان، وهي تكرس أيضا ثقافة الفرد الخارق.
  • التشدق بالاعتماد على “الطبيعة البشرية”؛ الفقر النظري لهذه الحراكات، مضافا لأصولها الأناركية، يجعلها تعتمد على ما تسميه طبيعة بشرية، متناسية أن الطبيعة البشرية تنتجها البيئة، والثورات غايتها صناعة بيئة أخرى تضمن طبيعة بشرية أفضل.
  • العجز عن إيقاف النزاع، هذه الحراكات عاجزة عن ضبط النزاعات، وترشيدها، وإيقافها، لذلك فإذا نشب نزاع داخلها فإنه لا يتوقف، إلا أن تتدخل سلطة ما، فتفرض السيطرة بالقوة.
  • صناعة الرموز؛ حيث تنحى الفكرة جانبا، ولا يكون ثمة حزب مركزي، فلا يجمع المجاميع البشرية إلا ظاهرة التحلق حول الرمز.
  • الحاجة للنظرة الشاملة؛ تلك الحاجة التي أنتجت فراغا دخلت منه القوى المتقنعة بالإسلام لتقود وعي الجماهير إلى الهاوية.
  • اعتمادها على ما يسمونه “انتخابا طبيعيا للأفكار”، ولامركزية الحراكات، وسلوك الأفكار والمبادرات فيها مسلك (المصدر المفتوح) في عالم البرمجة، فالفكرة ملك للجميع، والكل مخول بتطويرها.

 

إن كل ما سبق يخبرنا عن واقع ذي شقين، شق متعلق بمواصفات الجماهير في هذه الظروف، وشق متعلق بمواصفات الأنظمة، وهذا يتأتى لنا من خلال التفكير في سبب سقوط الأنظمة التي سقطت، وسبب صمود الأنظمة التي صمدت، والعلة الأساسية التي نحن معنيون بها هنا أن الدولة المعتمدة على “هيبة الدولة” كشكل وفقط دون مصداق تكون هشة أمام هذه الحراكات، لكن الدولة الحاضرة في حياة المواطنين وتفاصيلها اليومية فهي أقوى وأجدر بالصمود.

أما عن مواصفات الجمهور، وشروط الواقع الذي نعيش فيه، فإن الحركة الطليعية يجب عليها أن تفهمها جيدا، كي تتمكن من امتلاك فاعلية حقيقية ضمن هذه الظروف، وأعرض هنا لبعض المواصفات التي تفرضها طبيعة الجمهور الحالية، وشروط الواقع الحالي على الطليعة الثورية:

  • امتلاك زمام النظرية التنظيمية وإحكامها، والتثقيف التنظيمي الثوري، لأعضائها، واستحقاق إيمانهم بالتنظيم من خلال الممارسة لا مواضيع الإنشاء.
  • القدرة على تصدير خطاب متعدد المستويات، يشمل خطابا عاميا سهل التداول، وخطابا عميقا “نخبويا”، ومن ضمن ذلك الرد على مقولات الخصوم.
  • المعرفة الحقيقية بالواقع واختبار هذه المعرفة وتطويرها وتنميتها، وعدم الركون للنظرية السابقة وحدها مهما امتلكت من مصداقية، وعداء المغالطات المنطقية بشقيها الكلامي والعملاني، التي يلجأ لها الناس أحيانا من باب انتهاج أسهل الطرق للفكرة، لأنها لن تكرس سوى الوهم، وستخلف فقرا نظريا وإن صح مؤداها، مما يجعل الباب مفتوحا أمام احتمالية دحضدها.
  • أن تكون أكبر مما تبدو عليه، وأكثر تنظيما مما تبدو عليه، وهذا يقلل عدد خصومها وحدة هجومهم عليها، ويتيح لها هامشا كبيرا من المناورة، لا سيما في ظل التقنيات الأمنية الحديثة.
  • أن تتدخل في النشاط اليومي لأعضائها، حيث يفيدها هذا في معرفة الواقع، وفي سرعة التطورالنظري والعملي.
  • أن تكون قادرة على خلق الرموز، وتمتلك قدرات إعلامية بحجم أمة، لا بحجم دولة فقط، وهذا لا يتناقض مع كونها تبدو أصغر مما هي عليه، لأنه يستغل في فضاءات وسيطة لا تصرح بانتمائها للحركة.
  • أن تمتلك برنامجا اقتصاديا، فالاقتصاد هو المحرك الأول للحياة اليوم، وبهذا البرنامج تستطيع استقطاب طبقات المجتمع المختلفة.
  • أن تبتدع مدرسة إدارية ذات فعالية عالية، (المردود مقابل الجهد) فكل دقيقة عمل عند كل عضو منظم، يجب أن تكون ذات مردود، فلا أسوأ من شعور الأعضاء بضياع الجهد، فلا بد من تحقيق مبدأ الاقتصاد في القوة.
  • أن يكون خطابها موجبا، وليس مجرد اعتراضات ولاءات وشجب واستنكار، بل تقدم بديلا بصيغة عامية وصيغة نخبوية.
  • أن يكون هيكلها التنظيمي قادرا على الحشد، وعلى إدارة المجاميع البشرية العشوائية بالمكر، وباختراق جماهير الخصوم.
  • كفاءة الاتصال بين أعضائها، وبينها وبين حلفائها، وحتى خصومها المؤقتين، ومن ذلك قوتها أمنيا ومعلوماتيا.
  • أن تخترق أجهزة الدولة القطرية، على المدى الطويل.
  • أن تعتمد بشكل جزئي على فكرة (المصدر المفتوح)، في تعاملها مع جمهورها، وحلفائها، لتكون قادرة على توظيف حواضنها الشعبية واستغلال طاقاتهم، دون أن تحمل ثقلهم تنظيميا.
  • ألا تكون محصورة في قطر عربي واحد، بل تنتبه للبناء أفقيا وعموديا بشكل عابر للحدود الاستعمارية منذ اللجظة الأولى.
  • أن تتوفر لها منظومة معرفية وفلسفية شاملة، تبدأ من إبستومولوجيا عربية جديدة، إلى قدرة على توظيف الدين، أو تحييده لكي لا يكون ميزة عليها في يد غيرها من خصومها، إلى أدق مناحي الحياة، فالناس تريد خطابا شاملا، لاسيما في هذه البقعة من الأرض، حيث الناس على خصومة مع المجهول.
  • أن تكون تراكمية في الزمان والمكان، أي أن عليها التصالح مع الخلافات الماضية والمستقبلة مما لا يخل بثوابت الأمة اليوم، أي أن من يسود هذه الأمة عليه أن يكون قادرا على احتواء خصومه في المستقبل، حتى لو كان بينه وبينهم ما صنع الحداد.
  • أن تعرف نفسها على أنها ممثلة للجماهير أو تمتلك مفهوما جماعيا شاملا يخولها من ذلك وإن بشكل ضمني.
  • القدرة على بناء تحالفات على المستوى الإقليمي والدولي.

 

كثير مما سبق تعداده على وجه الاقتضاب، يجدر القول أنه لا يتم دفعة واحدة ولا يجب أن ينتظر أن يتم قبل الشروع في العمل، فالواقع سريع ولا ينتظر أحدا، وتغيره المستمر يحول دون تثبيت نظرية ثم العمل عليها، بل يجب أن يحدث معا، لكن الخطأ الذي أحذر منه هو إهمال جزئية ما، لعدم ضرورتها الآنية، مما يعني التخبط الحتمي لحظةَ نشأة الحاجة لها.

 

كثير مما تداولته مدونات دعاة “الربيع العربئ” يحتوي في داخله على حق، يجب أن ننظر له ونفحصه جيدا، فالطليعة الثورية أولى به منهم، فاللامركزية وتقنية المصدر المفتوح لها فائدتها مثلا، إذا وظفت في مكانها، لكن يجب أن يكون العقل الجمعي للتنظيم قادرا على تمييز أين تستخدم وأين تحرَّم، والقدرة على الاستفادة من أي ظرف مهما كان حالكا، أمر ضروري لمن يريد أن ينجح، فرفض الانتهازية شيء، وفهم فكرة المنفعية الجمعانية (براغماتية جمعية) شيء آخر تماما.

 

 

النظرية والتنظيم الثوري

 

أسامة الصحراوي

 

إن الحديث عن التنظيم القومي والنظرية الثورية حديث خاص؛ خاصٌ من حيث المعنيين به، وخاصٌ من حيث مضمونه ودقّته.  فهو خاص يتوجّه أساسا لكل المؤمنين بالعمل المنظّم على امتداد الوطن العربي- كل الوطن- كسبيل أوحد لتحقيق الأهداف الكبرى للمشروع القومي العربي، وهو خاص يتوجّه لكل الساعين لتأمين الضروري والكافي لنجاح التنظيم، والأكيد أننا لا نزعم أنّ ما سنقدمه هو الكافي لكننا نؤمن أنه لا مندوحة عنه للبناء، والأكيد أيضا أنّ كل من حاول المراكمة للتنظيم القومي سواء بالفكر أو بالممارسة قد اصطدم بثنائية النظرية والتنظيم الثوري والتي تختزل في باطنها تمظهرات ثنائيات عديدة: الاستراتيجيا-التكتيك، والنظري-العملي، والممكن-ما يجب أن يكون…..

 

في إطار حديثنا عن مراكمة الضروري وصولا للكافي، الأكيد أن دراسة التجارب التنظيمية وعلاقاتها بالنظريات ضرورة ملحة، ولعل النظرية اللينينية التنظيمية من أثرى التجارب الإنسانية للعمل التنظيمي، فنحن أمام أوّل عملية تنظيمية ظافرة لطبقة مضطَهدة من أجل تغيير واعي ومنهجي في المجتمع، حيث رفع لينين شعاره الشهير“لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية”، وصاغ نظريته في التنظيم ونشرها على مراحل في كّراسات “بما نبدأ؟” و “ما العمل؟” ثم في كتابه “خطوة للأمام خطوتان للوراء” وغيرها، ثم حيّنها في كتابات لاحقة كـ”الدولة والثورة”.  لكن لينين لم يكن يتحدث عن الشأن التنظيمي بقدر ما تحدّث عن النظرية، وما مواقفه واستنتاجاته إلاّ تطبيقا لمنهج المادية الجدلية على التاريخ والمجتمع من خلال فهم قوانينه المحرّكة له والتي سعى من خلالها إلى توجيه المجتمع بشكل واع في الاتجاه المتّسق مع حركة التاريخ النظرية. ولم يكن خلاف لينين مع التريديونيونيين والاقتصاديين والشعبويين حول المسائل التنظيمية بقدر ما كان حول النظرية والمبدأ، وانعكاس تلك الخلافات على العمل التنظيمي كنظرية وممارسة، فقد تمحورت تلك الخلافات إما حول مدى ماركسية مواقفهم وإما حول النظرية من أصلها، وهنا كان رد لينين حادا جدا بقوله “فهؤلاء الناس الذين لا يستطيعون النطق بكلمة “نظري” دون أن يكشروا عن أنيابهم باحتقار، والذين يطلقون على سجودهم أمام نقص الاستعداد لأمور الحياة ونقص التطور اسم “حسّ الحياة” يكشفون في الواقع عن عدم فهم لمهامنا العملية الأكثر إلحاحاً”.

 

يذهب لوكاش إلى “إن التنظيم شكل التوسّط بين النظرية والممارسة”.  فبدونه تستحيل الممارسة وبدون النظرية يستحيل تأسيس التنظيم، فالنظرية اللينينية حول التنظيم هي في الأساس وقبل كل شيء نظرية عن الثورة كما يقول إرنست ماندِل في كتابه “النظرية اللينينة في التنظيم”. هكذا انطلق لينين في التأسيس لنظريته من التناقضات التي تحكم المجتمع من منظور مادّي ديالكتيكي محض وصولا للتمييز الماركسي الشهير بين وعي الطبقة بذاتها ووعي الطبقة لذاتها، أي بين الوجود “الموضوعي” للطبقة والنضال الموضوعي للطبقة، ليخلُصَ إلى أن الثورة البروليتارية، عكس كل الثورات السابقة لها، لا يمكن إلا أن تكون نتاج إرادة فاعلة لا استجابة حتمية وعفوية للتناقضات المادية في نمط الإنتاج الرأسمالي دون تدخّل واعي من بروليتاريا مفرزة القيادة.

 

خاض لينين خلال طرحه نظريته نقاشات فكرية محتدمة حول مفهوم الحتمية والعفوية مع مجموعة من المفكرين الماركسيين منهم روزا  لوكسمبورغ وتروتسكي، ولئن انتهى الجدل بينهم لمراجعة الأخيرين لمواقفهم إلاّ أن النقاش بقي مطروحا. مطروح من الناحية الفكرية وليس العملياتية، فقد أظهرت الممارسة وهي المحكّ الحقيقي للنظريات رجحان كفة وعقل لينين، لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ تحليلاته التزمت بالنهج الماركسي، خصوصا إذا “سلّمنا” بقصور منهج المادية الجدلية في التحليل.  فالإنطلاق من أطروحات مادّية أثبت العلم قصورها، بل ومثاليتها، للوصول إلى نتائج تنظيمية أثبتت الممارسة صحّتها يعني بالضرورة وجود استنتاجات واستدلالات خاطئة في جملة العمليّات المنطقية الرابطة بين المنطلقات والنتائج.  ويبقى السؤال حول مدى ماركسية لينين (التزامه بالمنهج المادي الجدلي) في نظريته التنظيمية مطروحا، وتبقى الإجابة عنه ملحّة لكن في مقام آخر.

 

نصطدم في محاولتنا لدراسة النظرية اللينينة التنظيمية بسؤالين أثيرين: هل نحن في حاجة لنظرية تكون عماد التنظيم القومي؟ وهل يمكن أن نجتزئ الاستنتاجات اللينينية التنظيمية من منهج المادية الجدلية ونطبّق نتائجها في التأسيس لتنظيم قومي؟

 

لإجابة السؤال الأول، لا بد من ربط مستوى البحث بالهدف المنشود منه، إذ لكل مستوى من البحث أغوار تُستكشف وموارد تُستنزف، والبحث في النظريات العامة والكلية هو بحث في المطلق الشامل والكل اللامتناهي واللامتعين، ونتيجة هكذا بحث تُحمّل الواقع أكثر مما يحتمل وتُحيلنا إلى نتائج تتجاوز الأهداف تكون ضربا من اللّزوميات.  المهم الآن أن نحدد بدقة ووضوح مستوى البحث الكفيل بتأسيس تنظيم قومي قادر على تشكيل حركة شعبية عربية منظمة تحمل على عاتقها تحقيق أهداف لمشروع القومي.

 

لكن من أين نبدأ؟ و أين ننتهي؟

 

طرح بعض المفكرين القوميين الانطلاق من الصفر الفكري-السياسي والانتهاء بالكل الشامل للإنسان والطبيعة لتفسير التاريخ، كل التاريخ، واستقراء المستقبل بصياغة نظرية في الكل الشامل لتفسير حركة التطوّر وفهم القوانين المحركة لها، ثم -اعتمادا على تلك القوانين- نتدخّل لصناعة غدنا.  لكن الصفر الفكري أو السياسي أقرب للصفر المطلق في الكيمياء، فكلاهما مستحيل التحقق موضوعيا، فكما لا يمكن تجاوز كل ما أنتجه الفكر القومي والانطلاق من الصفر لأن ذلك يعني بالضرورة الانقطاع والتوقف، لا يمكن تحقيق الصفر المطلق كيميائيا لأن ذلك يعني جمود الحركة المطلق في المادة.

 

ثم إن الانتهاء بالكل المطلق بإرجاع حركة التطور إلى نمط واحد تجسّده أطروحات نظرية مترابطة “متماسكة” قد يحمل دليل فنائه في داخله، فإن كانت قوّة وصلابة النظريات الفكرية الشاملة أنها تبسيط وتفسير لحركة التطور وربطها بقوانين كلية حتمية، فإنها في الآن ذاته كعب أخيل نظري. وذلك أن طبيعة العلوم كما يراها غاستون باشلار ترفض الصيغة النهائية الكاملة والشاملة، لأن بناء الصيغة العلمية في حد ذاته تعترضه عوائق ابستيمولوجية  تكرّس مبدأ القطع الإبستيمولوجي وهو ما يتماشى مع طبيعة التاريخ والعلم بما هو علاقة جدلية بين القطع والعوائق الإبستيمولوجية.  فكما قطع عصمت سيف الدولة ابستيمولوجيا -قطعا تاما وكلّيا- مع المادية الجدلية مردفا قطيعته باستنتاج أن مثل هذا القطع ولوحده كاف لتقويض الماركسية ككل من جذورها معتمدا على الاستثناء في قانون كولومب في مسافة أقل من جزء من ثلاثين مليون جزء من السنتمتر ما يمثل أقل من ثمن أصغر قطر ذرة ليستنتج من ذلك انتفاء التناقض والصراع داخل الذرة والمادة ككل، يمكننا أيضا أن نقطع ابستيمولوجيا مع سيف الدولة استنادا إلى ما نشره جون أرتشيبالد ويلر في مجلة ديسكافر سنة 2002 والذي أثبت أن الإنسان قادر على تغيير مسار جسيم بعد أن يكون قد أكمل سفره.  إبداع هذه الفكرة وعمقها هو تطبيقها على المستوى الكوسمولوجي ما يثبت أن الماضي لم يفلت من إمكانية التغيير، وهو ما يفقد الماضي صفته المادية (حسب سيف الدولة) وهو بالضرورة ما ينفي صراع الماضي-المستقبل في الإنسان، ما يفند جدل الإنسان من الأساس وهو ما سنتناوله في تحليل خاص….

 

هذه الأمثلة للذكر لا للحصر تؤكد مبدأ القطيعة في التاريخ والعلم، وهو ما ينطبق على مناهج التحليل المدّعية لتفسير الكل المطلق، فإذا كانت النظرية محاولة لتطبيق المنهج على واقع ما فإن القطع مع هكذا منهج يعني بالضرورة قطعا مع النظرية، وهو ما يؤكد أننا لسنا في حاجة لمنهج في الكل المطلق يؤسس لنظرية بقدر ما نحن في حاجة لمنهج سياسي يؤسس لمشروع سياسي لا لنظرية. والأكيد أن هذا ليس تهرّبا من مسؤولية البحث بل لربط مستوى البحث بالهدف المنشود (أي تحقيق أهداف المشروع القومي) كما هو دعوة مستمرة للبحث النظري تحقيقا لأهداف أخرى……

 

أما إجابة عن السؤال الثاني، فالاجتزاء من النّظريات مسألة حساسة وتخضع لشروط كثيرة وإلاّ سقطنا في الإبتسار النّظري. فنحن إذ نتعامل مع استنتاجات لينين التنظيمية، لا نتعامل مع رؤى وتصوّرات تنظيمية إنما مع نتائج اختبارات لمنهج المادية الجدلية تماما كما نتعامل مع المادية التاريخية أو الاشتراكية “العلمية” بما هي اختبار لنفس المنهج في مجال التاريخ الإنساني والاقتصاد السياسي. فإذا انطلقنا من الأطروحة القائلة بصحّة الاستنتاجات التنظيمية اللينينية كما أثبتتها التجربة، فعلى المتحدث في النظرية التنظيمية اللينينية أن يجيب عن التساؤل حول علاقة النّظرية بالتنظيم إن كانت تلازمية أم لا؟ فإن كانت الإجابة تأكيدا –على عكس ما نقول- فعليه أن يقرّ بصحة المنهج المادي الجدلي وصولا للاستنتاجات التنظيمية اللينينية، وهو بذلك يتبنى منهجا ماركسيا. أما إن كانت الإجابة نفيا –مثل ما نقول- ينتفي شرط ربط الاستنتاجات التنظيمية بالمنهج المادي ويُمكن الاكتفاء بردّها إلى قواعد وقوانين حركة الواقع.

 

يمكن القول وللأمانة أن لينين التزم منهجا علميا في تأسيس التنظيم سواءا كان ذلك يتفّق مع ما جاء به ماركس في المنهج المادي الجدلي أم لا، ولا يعنينا هنا أن ندخل في الصراع الفكري داخل العائلة الماركسية بين لينين من جهة وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي من جهة أخرى. غير أنه لا مناص من التأكيد على أن الحسم في الجدال لم يكن يوما نظريا بل احتدم الصراع بينهم إلى أن أثبتت التجربة صحّة مقولات لينين في التنظيم، ويبقى أن نميّز بين صحة الحجج التي قدمها لينين –والتي يؤيدها المنطق والتجربة- وصحّة التأصيل النظري المرتبط بالمنهج الماركسي.  فإن كنّا نؤيّد تروتسكي في اتهامه للينين أنه “استبدالي” أي استبدل مبادرة الطبقة العاملة بمبادرة الحزب وحده إلا أننا نؤيّد لينين في استبداليته. ولئن كنّا ننفي المثالية عن عفوية الثورة البروليتارية من منظور ماركسي إلا أننا نثبت مثاليتها واقعا ملموسا، تماما كما استنتج لينين انطلاقا من ثلاثيته عن الطبقة العاملة وطليعة الطبقة -التي تكتسب اعترافا بها عن طريق نضالها- والتنظيم الثوري. ولئن كانت مقولة روزا لوكسمبورغ “أن الجيش الثوري لا يجري تجنيده إلاّ في النضال بالذات، وأنّ مهام المعركة لا تظهر له بوضوح إلاّ خلال النضال” مقولة ماركسية بامتياز، إلّا أن التاريخ أثبت قصورها حين انهزمت الثورة الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى بسبب التعويل على وعي الممارسة الثورية دون طليعة ثورية متمرّسة تكتسب الوعي الثوري السابق للتجربة، وهي نتيجة أيّدها لينين بشدّة حين ركّز على جدلية الوعي الطبقي والنضال الطبقي، وهو ما خرج للعيان ممارسة عملية سنة 1912 كتنظيم ثوري.  لكن الفترة ما بين 1905 و 1912 والتي انحسر فيها المد الثوري استطاع خلالها لينين تأسيس نواة ثورية تعمل على برنامج ثوري لا يستجيب للراهن من خلال ردة الفعل إنما من خلال التفاعل.

 

لم يكن لينين يتحرك أثناء بناء التنظيم ضمن قوالب نظرية جاهزة إنما ضمن منهج ممارسة ثابت يتفاعل مع الواقع ليثريه إضافةً ويستفيد منه ممارسةً، وهو ما كشفت عنه مراجعات لينين لنظريته في التنظيم في ذروة الصراع مع المناشفة ما بين 1905 و1908 والذي اعترف فيه بقيمة الإسهام التاريخي النظري لروزا وتروتسكي حول القطع والدمج بين الطليعة الثورية المتقدمة للجماهير في لحظات الجزر والمنقطعة -بوعيها- عن السائد في لحظات تراجع الوعي الطبقي الثوري.  ثم كان تراجعه عن الاستهزاء بالانتهازية داخل التنظيم و تبنيه لموقف روزا وتروتسكي منها.  ثم كان عام 1914 حاسما حين طعّم نظريته عن التنظيم بجرعة من توظيف “العفوية” المستجيبة مباشرة لضغط التناقضات داخل النظام الرأسمالي.

 

خلاصة القول أن الهدف الحقيقي من إنجاز التنظيم، وهو أن يكون أداة الثورة لا يتحقق أبدا اعتمادا على قوة التنظيم الذاتية دون اعتبار قوة النشاط الأوّلي “العفوي” المستجيب مباشرة لتناقضات الوضع الراهن، والذي لا يمكن أن تؤسسه إلا طليعة ثورية تنتزع الاعتراف بحقها في القيادة من خلال أسبقيتها النضالية وأسبقيتها في فهم الواقع، وليس انطلاقا من نظرية جاهزة -تحد من القدرة على الاستفادة من الممارسة بما هي المحك الحقيقي للنظرية والتي لا يمكن أبدا اعتبارها شرطا في تحقيق الوحدة الفكرية للتنظيم- إنما انطلاقا من قواعد وقوانين حركة الواقع.

 

 

مراجعة فيلم: التجلي الأخير لغيلان الدمشقي

 

طالب جميل

 

في زمن الإرهاب التكفيري وازدهار موجة القتل الأعمى ومعاداة كل ما يمت بصلة للفكر والعقل والمنطق، بات من الإنصاف التذكيرُ والإشارةُ إلى أنّ هذه الموجة ليست بجديدة ولا مستحدثة على تاريخنا الإسلامي، فهي متجذرة منذ القدم، والحرب على التنوير ضاربة في العمق والأمثلة والأدلة على ذلك كثيرة.

 

الفيلم السوري (التجلي الأخير لغيلان الدمشقي) يتناول حكاية من هذه الحكايات، وهي حكاية أحد رواد الفكر التنويري، وواحد من أهم منظري الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي، وأحد رموز المعتزلة وهو غيلان الدمشقي.

 

الفيلم من تأليف وإخراج المخرج السوري هيثم حقي ومن بطولة ممثلين سوريين مثل فارس الحلو وكنده علوش ورامي حنا وغيرهم، حيث يروي الفيلم قصة الشاب (سامي) الخائف والمتردد وصاحب الشخصية الانطوائية الذي لا يجد سوى الحلم منفذاً لرغباته المكبوتة وثورته الضمنية على الواقع، حيث يعمل موظفاً في مديرية الصحة يهوى تربية الطيور والاهتمام بالنباتات.  تسيطر على عقل هذا الشاب شخصية المفكر الإسلامي غيلان الدمشقي، ويرى فيه الحلم الذي يستنجد به كلما ضاقت به الحال لذلك، يقرر أن تكون أطروحة الدكتوراه التي يعدها حول هذه الشخصية.

 

تموت والدة (سامي) إلا أنه لا يعطيها ما تستحق من الحزن فهو يعيش في حالة انفصال عن الواقع ويكتفي باختلاس النظرات إلى جارته في السكن التي تعمل كعاهرة بشكل إجباري لإرضاء زوجها المقامر، فيما يسكن معه في نفس العمارة جيران يحبونه إلا أنه لم يستطع الاستحواذ على قلب ابنتهم التي يطمع أهلها بعريس ثري لها بينما هي متعلقة بشاب آخر يشاركها ميولها الثقافية والسياسية وتكتفي باعتبار (سامي) أخاً لها مما دفعه إلى مساعدتها على الهرب.

 

يعرج الفيلم على حقبة تاريخية من الحكم الأموي هي حقبة الخليفة عمر بن عبد العزيز والخليفة هشام بن عبد الملك حيث يدفع غيلان الدمشقي ثمناً لمعتقداته وآرائه وأفكاره في الفترة التي اشتعل فيها الصراع بين تيار القدرية (الذي يؤكد قدرة الإنسان على الإرادة والاختيار) وتيار الجبرية (الذي ينفي وجود أي دور للإنسان في أقواله وأفعاله)، فقدم نفسه كبش فداء لأمة لم تستوعب كثيراً دعوته للتحرر من الجهل والخرافة، وسيطرة الفكر المناقض للقدرية، حيث تحالفت السلطة السياسية مع السلطة الدينية لتصفيته، فيما يموت سامي نتيجة خوفه من ذلك الانفصال ما بين واقعه الذي يحياه وبين عالمه الذي يحلم به والذي يرتقي لمصاف فكر وفلسفة غيلان الدمشقي.

 

يسعى غيلان إلى إحقاق الحق والوقوف في وجه فساد أقارب الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي استعان به لتطبيق إصلاحاته السياسية والاقتصادية، فباع ممتلكات بني أمية في بيت المال حيث تصدي غيلان لطغيان رأس المال في عهد بني أمية، لكن بعد أن أصبح هشام بن عبد الملك خليفة اتهم غيلان بالشرك وقطع يديه ورجليه ولسانه وعلقه على أحد أبواب دمشق ليكون عبرة لمن تسول له نفسه أن يجتهد ويطلق العنان للأفكار التنويرية.

 

قبل أن يُصلب غيلان يظهر في مشهد من الفيلم وهو يكرر بصوت مرتفع: ألم يقل الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) كتأكيد على موقفه وإيمانه بقدرة الإنسان على الإرادة والاختيار، فيما تتداخل صور قتل غيلان مع حرق كتب ابن رشد وقتل الحلاج ودعوات عبد الرحمن الكواكبي التنويرية.

ورغم الإسقاط العميق على الواقع الحالي إلا أنّ الفيلم لا يخلو من نظرة تشاؤمية تتجلى في بعض المشاهد، خصوصاً المشهد الذي تظهر فيه مجموعة مواطنين عرب في نادي ليلي وهم يتمايلون أمام مسرح تحتله بنات ليل تغني إحداهن الأغاني التقليدية لبلدان عربية عديدة وكأنها إشارة واقعية إلى أن الوحدة العربية لا نراها تتحقق إلا في الكباريه.

 

عموماً الفيلم يحمل مضامين عميقة، ولقطاته تمزج الماضي بالحاضر بشكل سلس ويترك للمشاهد مساحة للمقارنة والاستنتاج واستخلاص الدروس بالتفكر والتأمل دون إغراق في التجريد أو التفلسف مع انتقالات محكمة بين الماضي والحاضر واقتصاد في الحوار وتحريك الكاميرا برشاقة ورقة ورصانة دون إفراط، مع موسيقى تضفي جواً سحرياً على الفيلم، وأجمل من وصف هذا الفيلم أحد النقاد حين قال أن الفيلم يدور في المساحة الواقعة بين الوعي واللاوعي.

 

حاول الفيلم إعادة إنتاج شخصية غيلان وفق رؤية جديدة لا تعبأ بأي ايدولوجيا ودراسة للعلاقة بين غيلان المعاصر وغيلان القديم، لذلك فالتجلي الأخير لغيلان هو ذلك التجلي الذي لم يكنه غيلان في يوم وهو تجلي المثقف الخائف وعبر مشهدية بصرية هي تجليات غيلان الراهن الذي هو ليس أكثر من حلم وغيلان المهزوم المثقف حبيس الرغبة والخوف والانكسار.

 

لا يمكن اعتبار الفيلم إلا إضافة نوعية للسينما السورية، فسيناريو الفيلم كتب بعناية ودون إطالة أو مبالغة في الحوار، والفكرة التي حاول المخرج إيصالها للمتلقي وصلت بشكل سلس ودون تعقيد إضافة إلى أداء الممثلين الذي كان على درجة جيدة من الاحترافية، وكان المخرج موفقاً إلى حد كبير في طرح موضوع الفيلم فظهرت لمساته بشكل واضح، لذلك فأقل ما يمكن أن يقال عن هذا الفيلم أنه يستحق المشاهدة.

 

 

محمود درويش والتوراة: تنظير لتقاسم فلسطين مع اليهود (2-2)

 

أحمد أشقر*

 

في هذه الحلقة سنواصل قراءة سِت إشارات أخريات يؤكد درويش فيها موقفه من الاحتلال والرموز التوراتية وعلاقاتها بموقفه السياسي:

 

الإشارة السادسة- بعد هزيمة دولة الفاكهاني في بيروت عام 1982 عيّنه أبو عمّار عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستمر عضوا فيها حتى العام 1993. خلال هذه الفترة استقر درويش في باريس.  يبدو لي، لم يكن اختيار درويش عضوا في اللجنة التنفيذية لعظمته بالتنظير السياسي، بل تم انتدابه لفتحِ وتوسيع قنوات الحوار مع “إسرائيليين” يؤيدون التسوية.  فأصبح درويش ضمن (مجموعة إيلان هليفي) التي غزت المنظمة ببرنامج “العقلانية والواقعيّة السياسية”.

 

الإشارة السابعة- في الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، الهبّة الشعبيّة التي تم اغتيالها بالمال وأوسلو وجمعيات التمويل الأجنبي، تحمس محمود درويش وكتب قصيدته “أيها المارون بين الكلمات العابرة” التي تصلح لأن تكون مانيفستو الثورة. غضب “الإسرائيليون”، حتى أصدقائه منهم، ليس لأنه يقول: “خذوا أمواتكم وانصرفوا”- كما يشاع، بل لأنه يقول: “رقصة الهدهد الأخيرة”، التي فيها إشارة من إشارات الدمار في التراث اليهودي الديني.  فهاجمه رئيس الحكومة، الإرهابي يتسحاق شامير على منبر “الكنيست”. وفي حديث لدرويش من صحيفة “هآرتس” بتاريخ 10. 3. 2000، ردّ على الذين انتقدوه وهاجموه، وتحديدا “شامير”، فقال:

“الأشعار التي اطّلع عليها رئيس الحكومة السابق يتسحاق شامير وقُرِئت في الكنيست محرّفة، وفُهمت خطأ، وأنا لم أقلها كما أوردها شامير، فأنا لم أدعُ إلى دمار إسرائيل، ولم أكتب ذلك، ولا أؤمن بذلك […]. وما قلته هو: خذوا موتاكم، وهذا شعر احتجاجي في زمن الانتفاضة، وليس عدوانيّا، أو دعوة للقتل، وما هو في الحقيقة سوى وقوف ضدّ احتلال الضفة الغربية والقطاع، والحكومة نفسها تعدُّه احتلالاً، هذا ما حصل […]. أما الادعاء بأنه اعتراض على وجود

إسرائيل، فكلام فارغ، ينأى عن الحقيقة وتكذبه الأحداث”.

 

درويش الذي يعرف معنى رمزية الهدهد في التراث اليهودي تنازل عنه وسارع إلى لغة السياسة المباشرة فقال ما قال لصحيفة “هآرتس”.

 

لم يتوقف درويش عند حدّ التنازل عن موقفه السياسي، بل سار أبعد كثيرا؛ حدثني أثناء عملي الصحفي عضو كنيست- صار اليوم في دار الحقّ ونحن لا نزال في دار الباطل- من أصدقاء درويش، وكان كثير التردد عليه في باريس بالقول، إن درويش كان مرعوبا من أن تغتاله “إسرائيل”.  لذا فكّر بطريقة “يصطلح” فيها مع “إسرائيل”. فاقترحت عليه- والكلام لعضو الكنيست- أن يكتب شيئا.  قال له درويش: سأكتب. وكتاب الرّد- والكلام لا يزال لعضو الكنيست- هو “لماذا تركت الحصان وحيدا؟”، كان ذلك في العام 1995.  هذا الكتاب بتقديري أخطر الكتب التي كتبها درويش، لأنه يحوّل العدو إلى غريب يشرب القهوة ويتقاسم النايات معه ويتنازل عن أربعة أخماس فلسطين له.  لذا سارعت لترجمتها دار النشر “الإسرائيلية”: أندلس، التي كانت صاحبتها اليهودية تدور في فلك الذي كان يسير على خطّ الكنيست الصهيوني الذي أنَتُدِب يوماً إلى قصر المهاجرين في دمشق واليوم ينعم بفتات القصر الأميري في “كتار”- كما يلفظها شمعون بيرس.  نذكر في هذا السياق أن درويش كان من بين 25 مثقفا فلسطينيا وقعوا على بيان 2002، يرجون “المثقفين الإسرائيليين” مساندة الفلسطينيين قائلين: “[…] لقد ارتضينا على أنفسنا العيش في خُمس فلسطين التاريخية وارتضينا لكم دولة في أربعة أخماسها!” (“هآرتس” 15 آذار 2002).

 

الإشارة الثامنة- في مقابلة مع مجلة الدراسات الفلسطينية (خريف 1995) يساوي فيها درويش بين الرواية الاستعمارية اليهو-صهيونية وروايتنا الوطنية قائلا:

“ولأن الحوار بين الروايتين فقط، يمكن أن يشكلّ الخصوبة العميقة للطرفين، وقبل ذلك يحفظ للسيكولوجيا الإسرائيلية القدرة على أن تفتح إناءها على الآخر… الآخر الذي يجب أن يشارك في تشكيل الإناء”.

 

إذن درويش حريص إيضا على “السيكولوجيا الإسرائيلية”! ويضيف:

“إن خطابي الشعري واضح وملتبس لكنه يحمل سيرة داود وكنعان. وفيه مساحة لتاريخ اليهود على هذه الأرض وكل الشعوب التي عاشت أو مرّت من هنا وتركت بصمات ثقافتها وحضارتها.  إذن أنا أعبّر عن حصيلة الثقافات والحضارات والأعراق والأديان التي مرت على فلسطين بما فيها الخطاب اليهودي، فهل عليّ أن أخرج من هذا التكوين، وأن أبدأ تاريخ فلسطين من يوم 13 أيلول (سبتمبر) 1993؟” (مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 6، العدد 24 (خريف 1995)، ص 217).

 

بما معناه يقول درويش أن لا فرق لديه بين داود الغازي وكنعان الذي قاومه! ولا فرق بين “يهوه” و”ءل” والبعل وعنات! وأن أول إبادة في التاريخ مارسها التوراتيون الغزاة ضد أهالي أريحا هي من تاريخنا أيضا! (ترد القصة في سفر يشوع التوراتي). والمثير أنه ينصبّ نفسه متحدثا رسميا باسم الجميع أهالي البلاد والغزاة منذ فجر التاريخ إلى اليوم.  يا لها من عَظَمَةٍ مريضة!

 

الإشارة التاسعة- وفي كتابه النثري الذي أصدر منه عدة طبعات منقحة بدءا من 1973 إلى 1997 يرد ما يأتي:

– “ماذا تعلمت في المدرسه؟

[يجيب] سلام على العصفور العائد من بلاد الشمس الى نافذتي في المنفى، أخبرني أيها العصفور عن حال أهلي وأجدادي. [قصيدة للشاعر الصهيوني حاييم نحمان بيالِك].

– والأغنية السابقه؟

ألغوها.

– ماذا كانت تقول الأغنية التي ألغوها؟

عليك مني السلام

يا أرض أجدادي

ففيك طاب المقام

وطاب إنشادي.

 

[ويضيف] لا فارق كبير بين الأغنيتين، غير الحنين القادم من بعيد والحنين الطالع من قريب، كلتا الأغنيتين تعلن الحب للأرض ذاتها، وكلتاهما تحدد مفهوم الوطن بالانتماء للأجداد، الأولى- لشاعر يهودي عاش في روسيا والثانية- لشاعر عربي عاش في فلسطين وما رأى المنفى وما سمع به، بعد قليل تغلبت الأغنية الأولى على الثانيه وصار الشاعر الثاني يغني الحنين البعيد وصار الفتيان العرب الباقون في بلادهم محرومين من التغني بقصيدة شاعرهم، وصار طريقهم الى المستقبل مرهونا بإتقان الشاعر اليهودي الذي كان يقيم في روسيا، والمعلم العربي الذي يجرؤ على تلقين أغنية حب الوطن مطرود من العمل بتهمة التحريض على دولة اسرائيل وبتهمة اللاسامية، ثم كبرنا قليلا، فعلمونا ملاحم ذلك الشاعر الصعبة، ولم نأخذ من المتنبي إلا؛ فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”.

 

بكلمات أخرى: إن مشاعر الغزاة الصهاينة تجاه أرض فلسطين شبيهة بمشاعرنا نحن الفلسطينيين الذين طرَدنا الصهاينة منها. أي، وبما أن المشاعر شبيهة، يجب علينا أن نتفهمهم، الذي معناه الحلّ بالعيش المشترك بين الغازي والمغزو، أو القبول بالأمر الواقع وقبولنا دولة في خُمس فلسطين فقط (كما جاء في بيان 15 آذار 2002 في صحيفة “هآرتس”)، وكذلك عدم استفزاز مشاعرهم عندما نتحدث عن “المحرقة” كحدث تاريخي (كما رأينا في الإشارة السادسة).

 

الإشارة العاشرة- يضيف أحمد فكري الجزار سببا إضافيا لاستخدام درويش الرموز التوراتية بالقول: “لم يقتصر فهم درويش للتوراة كعمل أدبي، بل إنه فهم تاريخي كذلك، فاستطاع أن ينجو من الربط بين الدين اليهودي والاحتلال الصهيوني، ومن هنا كانت شرعية استخدام درويش للرمز التوراتي في تعبيره عن قضية وطنه، […] إن الرمز التوراتي موظف توظيفا جيّدا من أجل إخراج العقيدة اليهودية من أيديولوجية الاحتلال، من خلال تناقض إنسانية الدين ووحشية الاحتلال”. (كتابي المذكور، ص 46- 47). الجزّار ودرويش يتعاميان ويتغابيان أيضا؛ لذا نسألهم: من أين وكيف ولدت الصهيونية؟ لماذا لا تصدقون ادعاء اليهود القائل بأنهم يعودون إلى أرض الآباء والأجداد الذي وعد بها “يهوه” نسل أبراهيم من إسحق؟ بالمناسبة: كنت عدة مقالات تؤكد على أن الصهيونية ليست إلا الفقه المعاصر لليهودية وسأنشر قريبا كتابا عن الموضوع.

 

الإشارة الحادية عشر-  في الخامس عشر من شهر آذار من العام 2001 وقع درويش ومعه خمسة عشر مثقفا فلسطينيا على بيان وجهوه إلى الحكومة اللبنانية كي تمنع عقد مؤتمر (المراجعة التاريخية) الذي كان يهدف إلى مراجعة الدراسات والأبحاث التي تحوّل الكارثة التي حلّت بيهود أوروبا إلى قضية طابو مقدسة لا يمكن نقدها ومراجعتها.  درويش ومن معه غدروا بقاعدة الحريّة الأساسية التي عليها يتم إنتاج وتطور ثقافة وحرية التعبير وبحث لا تحابي قوى القمع المختلفة. وبما أن غالبية الموقعين لا يزالون في دار الحقّ نريد أن نسألهم: لماذا لا تطالبوا “إسرائيل” واليهود من محو الأسفار التي تمجد إبادة أهالي أريحا؟ لماذا لا تطالبونهم بمحو الأسفار التي تدعو إلى إبادة شعوب بأكملها من التوراة وفتاوى التلمود؟ لماذا!؟ هل مشاعر المجرمين اليهود أغلى من دمنا!؟

 

الإشارة الثانية عشر- بعد صدور كتابي التوراتيات بسنة تقريبا أجرى عبده وازن حوارا مطولا مع درويش ونشره في كتيّب. ورد في الحوار ما يأتي:

 

“ما دمنا نتكلم عن الدين نلاحظ أن في شعرك أثراً توراتياً ولا سيما من “نشيد الأناشيد”، يتمثل في غنائيتك العالية في ديوان “سرير الغريبة” وسواه! ما الذي يجذبك كشاعر في النص التوراتي وكيف أثر فيك؟

 

  • في البداية، درست في الأرض المحتلة، وكانت بعض أسفار التوراة مقررة في البرنامج باللغة العبرية، ودرستها حينذاك. لكنني لا أنظر الى التوراة نظرة دينية، أقرأها كعمل أدبي وليس دينياً ولا تاريخياً. حتى المؤرخون اليهود الجادون لا يقبلون أن تكون التوراة مرجعاً تاريخياً. أو لأقل انني انظر الى الجانب الأدبي في التوراة. وهناك ثلاثة أسفار مملوءة بالشعر، وتعبر عن خبرة إنسانية عالية وهي: سفر أيوب، سفر الجامعة الذي يطرح سؤال الموت، ونشيد الأناشيد.

 

والمزامير؟

 

  • بعض المزامير، فهي أقل أدبية من الأسفار التي ذكرتها. إذاً التوراة هي كتاب أدبي بالنسبة إليّ، وفيها فصول أدبية راقية وشعرية عالية.

 

هل التوراة مصدر من مصادرك؟

 

  • لا شك في أنها أحد مصادري الأدبية.

 

هل أعدت قراءة التوراة بالعربية؟

 

  • أجل، قرأت ترجمات عربية عدة ومنها الحديثة. وأحب فيها بعض الركاكة. فمثل هذه الكتب يجب أن يترجم في طريقة خاصة. و”نشيد الأناشيد” يعتبره كبار الشعراء في العالم من أهم الأناشيد الرعوية في تاريخ الشعر، مع غض النظر عن مصادر هذا النشيد الفرعونية أو الآشورية” (محمود درويش كما يرى نفسه وكما يراه عبده وازن (2006).

 

يمكنني القول أن تنصل درويش من اعتبار التوراة كنصّ تاريخي، كما لاحظنا في العديد من الإشارات السابقة، جاء نتيجة لكشفي وإدانتي للموقف السياسي التسووي الذي اشتقه منها (حدثني الكثير من معارف درويش أنه تضايق جدا من كتابي وكان كثير الحديث عنه، وهذا باب آخر لا ندخله الآن).

 

وبعد؛ من يريد نماذج من توراتيات درويش يمكنه العودة إلى كتابي: التورتيات في شعر محمود درويش (من المقاومة إلى التسوية) على هذا الرابط: (ص 56- 63\ http://nazmi.org/media/darweesh1.doc.pdf). ومقال موسى حوامدة على هذا الرابط: ( http://www.doroob.com/?p=18527)

 

بعد صدور كتابي شنّ غالبية الذين تناولوا الكتاب نقدا عنيفا عليّ بحجّة هدم “رموزنا” دون أن ينتبه هؤلاء بأن التزام الكاتب والمثقف هو تجاه وطنه وأمته وليس الأفراد والرموز المختلفة. وعليه أقول: حاولت قدر الإمكان أن أفتح الصفحات الغامضة لتحوّل درويش شاعرا للتسوية والإضارة عليها لتصويب الشاعر وليس “إدانته” كما اتهمني البعض أيضا.. ويبقى هدفي الأول والأخير القول بأعلى صوتي رغم أصوات الإنتهازيين والتسوويين:

فلسطين عربيّة!

 

*(الكاتب باحث في مقارنة الأديان)

 

شخصية العدد: الشهيد صدام حسين التكريتي

 

نسرين الصغير

 

صدام حسين عبد المجيد التكريتي، ينتمي لقبيلة البيجات من تكريت، ولد في 28 نيسان عام 1937 لأسرة فقيرة كانت تعمل في الزراعة.  توفي والده ووالدته لم تلده بعد، فوضعته في بيت خاله في منطقة صلاح الدين.  كان وحيدا لأمه قبل ان تتزوج من إبراهيم الحسن. أخوته غير الأشقاء هم برزان ووطبان وسبعاوي.  كان صدام يرعى الغنم في طفولته، ولأن إبراهيم الحسن كان شديد القسوة، فقد منع صدام من دخول المدرسة، فتعلم صدام السباحة والرماية وركوب الخيل.  تمرد صدام على قرار زوج امه والتحق بالمدرسة وهنا كانت اولى حالات تمرده بدعم من خاله.  ورغم دخوله المدرسة متأخراً إلا أنه كان طفلاً ذكياً ونجيباً، فأكمل المرحلة الإبتدائية بنجاح، وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1960 إلتحق صدام في المرحلة الإعدادية في مصر، حيث كان يقيم مع مجموعة شباب في منطقة الدقي، وحصل على الشهادة الثانوية هناك، وفي عام 1961 انتسب صدام لكلية الحقوق بالقاهرة، الا انه غادر قبل ان يكمل دراسته بسبب الظروف التي كانت يمر بها العراق في حينه.

 

عام 1959 قام صدام حسين ومجموعة من الشباب البعثيين بمحاولة إغتيال عبد الكريم قاسم الرئيس العراقي لكن العملية لم تنجح، وأصيب صدام حسين في ساقه وتمكن فريق الإغتيال من الهروب إلى أحد مخابئ الحزب و نقل على أثرها عبد الكريم قاسم لمستشفى بغداد للعلاج، أما الجرحى ممن شاركوا في محاولة الاغتيال، فقد عالجهم الطبيب تحسين الملا، أحد كوادر الحزب، في المخبئ الذي تمت مداهمته بعدها من قبل أفراد الشرطة العراقية لكن صدام حسين لاذ بالفرار منتقلا إلى سورية، وحكم عليه بالإعدام غيابيا بتهمة المشاركة في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.

 

بعد انتقاله لسورية اهتم ميشيل عفلق بشكل خاص بصدام وقام بترقيته وأصبح عضوا رسميا في حزب البعث لدوره في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.  وفي عام 1963 عين عضواً في القيادة القومية لحزب البعث، وكان ميشيل عفلق وراء انتخاب صدام حسين عام 1964 لموقع مهم في القيادة العراقية لحزب البعث.

 

في عام 1964 كان صدام واحدا من مجموعة البعثيين الذين أنشأوا جهاز حنين، الجهاز الأمني لحزب البعث، ورغم طلب قيادة الحزب (فرع سورية) من صدام الفرار تكراراً إلا أن صدام رفض وبقي في بغداد، وشكل قوة أمنية سرية، وبعد أن قامت القوات العراقية بمحاصرة صدام حسين وهو في مخبأه، وبعد تبادل إطلاق النار نفذت ذخيرته وتم إلقاء القبض عليه وسجنه.   اثناء اعتقاله كان على إطلاع بكل ما يجري في الخارج، وعندما كانت تزوره زوجته ساجدة كانت تحضر له رسائل من البكر الذي كان قد أُفرِج عنه.

 

تم انتخابه أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث وهو بالسجن عام 1966، وأثناء خروجه لإحدى جلسات المحكمة قام صدام بالفرار بمساعدة رفاقه في 23 تموز 1966، وفي عام 1968 يوم 17 تموز استولت وحدات العسكرية يرافقها نشطاء بعثيون على المؤسسات العسكرية وتحركت بإتجاه القصر الرئاسي وكان صدام في بزته العسكرية في الدبابة الأولى حيث كان عبد السلام عارف نائماً في سريره ونجح الإنقلاب واتجه عبد السلام عارف بعد ساعات من الإنقلاب بطائرة إلى لندن وتم الإعلان عن استيلاء حزب البعث على الحكم.

 

كان صدام بعد مرحلة الإنقلاب نائباً للرئيس أحمد حسن بكر، وفي عام 1970 بنى سمعه جيدة كسياسي فعال ومحنك وقام بتأسيس جهاز مخابرات عراقي كان يُعرف بجهاز حنين وبدأ بمحاكمات لكل من كان متهماً بعلاقات خارجية وقام بتعيين من يثق بهم بمناصب أمنية مهمة.

 

ساهم الشهيد صدام حسين في تصليب اركان الدولة وتطويرها وبناء جيش قوي، والاهتمام بكافة المجالات الحيوية المتعلقة بتعزيز الاستقرار الامني والاقتصادي للدولة العراقية.

 

لقد قام بإدارة حملة وطنية لمحو الأمية وحملة تعليم إلزامي مجاني، وخلال بضع سنوات قامت الحكومة العراقية بتعليم مئات الآلاف، وتقديم برنامج رعاية صحية مجاني للشعب العراقي، ومنح أراضي زراعية للفلاحين مجانا.

 

بعدها بدأ نجم الرئيس صدام حسين يلمع وبدأت شعبيته تزيد بين أبناء شعبه وبين القوميين العرب.  اختلف البعض على شخصية صدام حسين وبعض سياساته بعد مرور العراق بمراحل وحروب مختلفة، كالحرب مع ايران التي استمرت ثماني سنوات التي أتى بعدها قرار إعادة ضم الكويت للعراق، ثم مواجهة عملية الاستهداف المنهجي للنظام الوطني والشرعي العراقي عبر قوى التدخل الخارجي وأدواته وتحالفاته.

 

كان العراق دولة مستقلة في قراراتها لها سيادتها تخضع لنظام حزب البعث الإشتراكي الذي كان نهج الشهيد صدام حسين … استمرت الحرب على العراق ثلاثة عشر عاماً وكانت حرباً شرسة.  كانت العراق بقوة ووحدة شعبه وجيشه وقيادته يحارب أمريكا وبريطانيا وبعض الدول الغربية والعربية.  تآمرت الأنظمة المتخاذلة على العراق، وتم فتح قواعد عسكرية جوية وبحرية لمواجهه العراق بقيادة صدام حسين.  لم تكن الحرب عسكرية فحسب، واستمر الحصار لأكثر من عشر سنوات إلى أن قامت قوافل شعبية بكسر الحصار والسفر جواً وبراً للعراق، وانتصر العراق بإرادته رغم شراسة الهجمة التي حاربت الشعب العراقي في لقمة عيشه.

 

كان صدام من أشد الأعداء للكيان الصهيوني.  ورغم صعوبة وضع العراق الإقتصادي والسياسي، لم يتردد صدام يوماً في دعم المقاومة الفلسطينية سياسياً وعسكرياً وماليا، وقام بقصف تل الربيع “تل أبيب” بصواريخ عراقية الصنع خلال حرب الخليج الأولى، وانزل الرعب على رأس الكيان الصهيوني مما جعل حلفاء الكيان يشرعون في زيادة الحصار والهجمة على العراق وعلى الرئيس صدام حسين.  لكن العراق استمر في أقسى لحظات الحصار بتقديم منح دراسية للطلاب العرب من كل الاقطار العربية، وقدم دعما مستمرا لأسر جرحى وشهداء فلسطين رغم الظروف الصعبة التي مرت بها بلاده.

 

كان العراق في عهد صدام حسين دولة مكتفية ذاتياً تلبس مما تصنع وتأكل مما تزرع، الامر الذي ازعج اعداء الامة، فراحوا يكيدون للعراق ونظامه الوطني فاستمرت المؤامرة في فصول شتى.

 

اكتملت فصول المؤامرة الكونية علي العراق، فتم غزوه براً وجوا من القوات الأمريكية في عام 2003، واحتل العراق.  بدأ صدام في مرحلة جديدة في حياته، ولم يستسلم.  ساهم بقوة بإنشاء حركة مقاومة لمحاربة الإحتلال الأمريكي، عرفت بأنها أسرع مقاومة شعبية عرفها التاريخ، وقد كبدت الاحتلال الأمريكي للعراق خسائر فادحة ماليا وبشريا، و قامت بعض الدول بدعم المقاومة العراقية، ومنها سورية الممثلة بالدكتور بشار الأسد.

في يوم سمي يوم الفجر الأحمر في كانون الأول من عام 2003، أي بعد ثمانية شهور من إحتلال العراق، تم إلقاء القبض على السيد الرئيس صدام حسين، وتمت إحالته إلى محكمة مزيفة يقودها و يديرها الإحتلال، وصدر حكم الإعدام عليه، ونفذ فجر عيد الأضحى يوم 30 كانون الأول 2006، وكانت صدمة للعرب وبالأخص القوميين منهم.  ترجل صدام إلى حبل المشنقة ببسالة  الأسد فهابه الحبل والشناقيين.

 

رحل صدام حسين كرئيس دولة وكقائد للمقاومة وكأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي لكنه بقي خالداً في قلوب الأوفياء من الشعب العربي إلى أن أصبح يوجد جيل كامل يحمل اسمه صدام تيمنناً بالرئيس صدام حسين.  وستبقى التجربة القومية العربية في عهد الرئيس صدام حسين تجربة قومية لها ما لها وعليها ما عليها من حسنات وأخطاء فما علينا اليوم إلا التعلم من أي خطأ في التجارب السابقة والبناء على إنجازاتها.

 

من كلماته:

 

  • نحن متواضعون بدون ضعف وأقوياء بلا غرور
  • إذا خانتك قيم المبادئ فحاول ألا تخونك قيم الرجولة
  • لكي تقود يجب أن يؤمن الناس الذين تقودهم بأنك عادل حتى ولو كنت قاسياً حينما يتطلب الأمر القسوة
  • لا يمكن للغزاة أن يفهموا إلا لغة المدفع والرشاش
  • ما يهمني هو أن تبقى الأمة رافعة رأسها لا تنحني أمام الصهاينة
  • الطريق المجرب ليس هو الأفضل دائما، والحكمة ليست في اهماله دائما
  • إن قوة الحق عندما تجابه الباطل والانحراف تتحول إلى طاقة فعل هائلة

 

 

 

مدينة عربية: نينوى

علي بابل

 

غاب ربيع نينوى هذا العام عن السهل الأشوري، غاب الربيع عن دجلة الحزين وعن “الزاب” المعطاء وبكت الحدباء حزناً على جارتها الحزينة نينوى.
قرية صغيرة كانت نينوى في فترة “الحلف”* الزراعية، لم تكن تلك القرية تعرف أنها ستصبح عاصمة للدولة الأشورية في يومٍ من الأيام وأنها ستكون مدينة الملك سنحاريب الذي صال وجال من جنوب الرافدين إلى مصر القديمة مروراً ببلاد الشام وسواحل الأبيض المتوسط.
يقال أن الملك سرجون الأكدي مر خلال حملاته العسكرية على أرض نينوى. وقد خلد الحدث من خلال تمثال “رأسي” للملك الموحد للرافدين، وقيل أيضاً أن “أشور” كان الحامي لأبواب المدينة والثور المجنح أسطورتها الذي دنسه التكفيريون في متحف الموصل قبل أشهر، لأنه شهد تكسير قبائل اليهود البربرية على يد ملوك نينوى العرب، هؤلاء الملوك الذين شيدوا نينوى على الضفة اليسرى من نهر دجلة وخلدوا تاريخ بلاد الرافدين من خلال مكتبة الملك آشور بانيبال أو “آشور بن بعل”، هذا الملك الذي عمل على جمع تاريخ بلاد الرافدين في وثائق تاريخية وإدارية، وحفظ المراسلات الملكية في مكتبة قصره ليصل تعداد هذه الوثائق و”الكسرات” إلى عشرون ألفاً، لم يترجم منها إلا القليل.
بالرغم من أن نينوى قد دمرت في العام 612 ق.م، ونسيت بعد ذلك المدينة التي أخرجت الملك “سرجون الثاني”* لكن لم ينسى أهلها هويتهم الضاربة في أرض الرافدين رغم الظلم الساساني لهم أثناء الاحتلال الطويل، ولم يخسروا لغتهم العربية ولا كتابتهم المسمارية رغم كل المحاولات البائسة من قبل الفرس واليونان لطمسها.

من يبحث في تاريخ المدينة سيجد الكثير من شواهدها التاريخية، وسيجد أنها كانت ملاذاً للمذهب النسطوري المسيحي، وأنها أحد أهم مراكز المسيحية القديمة التي دافعت عن المسيحية في وجه من حاول أن يسرق هويتها العربية المشرقية.

لقد أنتصر الأشوريون للمسيحية في وجه الرومان وفي وجه الفرس ورغم كل التاريخ المشرف للأشوريين العرب أبناء الأب العربي “آمور” نجد بعضهم الأن يدعو لتفسيخ العراق وتفكيكه بدعوى المظلومية الواقعة عليهم !!!!
أكاد أرى أرض نينوى تهتز حزناً وغضباً على أحفادها المنتشرين في سهلها الخصيب وعلى ضفاف دجلة شرقيها القديم وغربيها في مدينة الموصل التي تصل بين أرض سورية وأرض الرافدين، هؤلاء الأحفاد الذين قبلوا بما لم يقبل به أجدادهم وملوكهم العظام الذين حطموا قبائل اليهود البرابرة وحافظوا على هوية أرضهم وشعبهم رغم كل الغزوات وطمع الأعداء.
أعاد العرب المسلمون الحياة للسهل الأشوري، و نشروا الحياة في مدينة الموصل التي تقع على الضفة الغربية من نهر دجلة، وأصبحت المدينة أحد أهم مراكز الدولة العربية الإسلامية في الفترتين الأموية والعباسية ونستطيع هنا أن نقول بأن الغزو المغولي للوطن العربي أضاع الكثير من تاريخنا عبر حرق الكتب والمراجع التاريخية وإغراقها في النهر، هذا الغزو الذي لم تسلم منه نينوى والموصل كما دمشق وبغداد.

لم يبقى لنينوى سوى الأمل بأن يعود الرافديين لهويتهم العربية الجامعة التي جمعت أبناء العراق فوق أرضها وأعطتهم لغةً واحدة وكتابة موحدة في شمال العراق وجنوبه.
لم يبقى لها سوى “بوابة شمس”* التي كانت مفتاح المدينة وسورها الحصين الذي صمد في وجه كل الغزاة، لم يبقى لها سوى حربها وحبها “عشتار”* التي كانت تزهو أثناء الربيع الأول والربيع الثاني فهي أم الربيعين نينوى الحضارة والحياة، هي “سمورامات”* الطامحة أم الملوك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حلف: فترة زمنية تعود للألف السادسة قبل الميلاد.
سرجون الثاني: الملك الآشوري الذي سبى اليهود البرابرة.
باب الشمس: أحد أبواب مدينة نينوى.

عشتار: إلهة الحب والجمال والتضحية في الحرب.
سمورامات: ملكة آشورية.

 

 

قصيدة العدد: “الانفصال” للشاعر اليمني الحارث بن الفضل




Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *