Qawmi

Just another WordPress site

 

 

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي … عدد 1 أيار 2015


ويضم هذا العدد:
– عام على صدور “طلقة تنوير”
– كلمة العدد: التجزئة إذ تعيد تجزئة نفسها/ جميل ناجي
– عندما يتحول القوميون إلى دعاة للدولة القُطرية: محمد جابر الأنصاري نموذجاً، هل يتوجب على القوميين أن يتبنوا دولة التجزئة في زمن التفكيك؟ / إبراهيم علوش
عن تاريخية الانتماء العروبي: المغرب الأقصى نموذجا، الجزء الثاني/ إبراهيم حرشاوي
– سلسلة التثقيف القومي: الإخفاق البنيوي للدولة القُطرية في التنمية والأمن/ د. سعدون حمادي
– تعريفات: الدولة المركزية القوية الشرط الأول للنهضة في الوطن العربي
– مشاريع الدول القُطرية ومقومات الأمة/ أسامة الصحراوي
– شخصية العدد: ناصر السعيد… صاحب أول “لا” في وجه آل سعود/ نسرين الصغير
شعر العامّية الملتزم بقضايا الأمة : عبد الرحمن الأبنودي نموذجاً/ طالب جميل
– إذا … IF/ معاوية موسى
– مدينة عربية: قرطاج/ علي بابل
– قصيدة العدد: “في المغرب العربي”/ بدر شاكر السياب
– كاريكاتور العدد

 



العدد رقم 12 – 1 أيار عام 2015 للميلاد

لقراءة المجلة عن طريق فايل الـــ PDF

للمشاركة على الفيسبوك




































































































العدد الثاني عشر من “طلقة تنوير”: الدولة القُطرية في زمن التفكيك

 

ها قدمضى عام منذ بدأناإطلاق طلقاتنا التنويرية،وها هي تزداد توهجاً شهراً بعد شهر،وها هي مجلتنا الفكرية الثقافية تقف على قدميها وتسير لكي تقدح جمرة الوعي القومي الجذري فيعقل المواطن العربي في زمن التفكيك والتكفير والتغريب.  فشكراً لدعم قرائنا الكرام، وجهود كل كتابنا ومحررينا، ونركز في هذا العدد على محور الموقف من الدولة القُطرية في زمن التفكيك إلى جانب باقةٍ من المواضيع المتنوعة والثرية.  ونرحب دوماً بملاحظاتكم ونقدكم البناء.

 

كلمة العدد: التجزئة إذ تعيد تجزئة نفسها

 

جميل ناجي

 

من المعروف ان التجزئة الحديثة جاءت أساساً لضرب أي مشروعوحدوي بعد تجربة محمد علي باشا
(الكبير)، وأن الكيان الصهيوني دعامة أساسية لهذه التجزئة للحفاظ على تبعية الأمة العربية للغرب. ويشير ياسين الحافظ إلى أن التجزئة هي نتاج للتأخر التاريخي العربي الذي مهد للسيطرة الإمبريالية، وأن الحفاظ على صيرورة التجزئة بكافة أشكالها هو من أهم العوامل التي تضمن للإمبريالية ديمومة سيطرتها.  هذا ما يجعل النضال القومي الوحدوي رأس سنام كافة اشكال النضال الأخرى، إضافة إلى أن النضال السياسي في أيامنا إما أن يكون وحدوياً في مواجهة التفكيك، وإما أن يرتمي في أحضان المشروع الإمبريالي لتفسيخ المنطقة العربية إلى كانتونات متصارعة على أساس إثني، طائفي وغيره. وبالتالي فأن أي نضال وحدوي، من مستوى وحدة الأمة إلى مستوى وحدة الفرد، أمام حركة التشظي المستمرة المتربصة بالأمة اليوم، هو نضال ثوري بالضرورة.

 

لم يعد اليوم ثمة مجال أمام عفوية التاريخ كي تدفع باتجاه دولة الوحدة كما كان يشاع سابقاً.  فالواقع العربي يدلل على العكس تماماً.  فالأمة تقاد إلى مزيد من التفكيك والشرذمة بعد أن جُردت من أدوات تقدمها (أي  التنظيمات والأحزاب القومية الفاعلة)، لتغرس الإمبرياليةمخالبها في جسد هذه الأمة دون مقاومة صلبة حقيقية عابرة للأقطار العربية. فالتجزئة هنا لم تطمس الشعور القومي فحسب بل أحلت مكانه نفَس قطري عفن متقاطع مع المصلحة العليا لرأس المال العالمي، ناهيك عن تفريخ الفكر الليبرالي (والتكفيري) المعادي للوجود القومي أصلاً.

 

على أية حال، لقد أختلف في العقود الأخيرة الدور الوظيفي التي وجدت دول التجزئة لتلعبه، في ظل تركيبة المنظومة الرأسمالية الجديدة المعولمة، بحيث أن الاتفاق المضمر السابق على وجود سيادة منقوصة للنظام الحاكم ضمن حدود التجزئة، أصبح اليوم عبئاً على حركة رأس المال الدولي ومشروع العولمة، وبالتالي أصبح من الضروري شطب مبدأ السيادة، السيادة العربية بخاصة، حتى المنقوص منها، وذلك بتفكيك الدول وترك أنظمة قزمية في موضعها، تحافظ على المصالح الرأسمالية وتطبع العلاقات علنا مع الكيان الصهيوني.

 

لقد خيل لهذه الانظمة، بعقلها البراغماتي النفعي قصير النظر، ان البقاء ضمن حدود التجزئة سيحميها من سطوة الإمبريالية وبطشها، لكن واقع الحال يشير إلى أنها أًكلت يوم أًكل الثور الأبيض، مع التزايد المضطرد لمتطلبات الرأسمالية العالمية وشركاتها،لنصل إلى مستوى أصبح المطلوب فيه قلب الأنظمة وتفكيك الدول،حتى التابعة منها، لا التعاقد معها، ليثبت مجدداً ودائماً أن الحل القومي الوحدوي والمواجهة هوالحل الوحيد للدفاع عن النفس في مواجهة الهجمة الشرسة للإمبريالية وأدواتها.

 

لقد أشار العظيم جمال عبد الناصر من وحي تجربته في كتاب فلسفة الثورة، إلى أن حدود مصر لم تكن تقف على خط المواجهة عند حدود مصر وحوض النيل فحسب بل تمتد من العراق شرقا إلى المغرب العربي. وتلك كانت حال مصر في المواجهة إذن عندما كانت تشكل محوراًإستراتيجياً مشرقياً وأهم دولة مركزية عربية، ليُضرب هذا الدور فيما بعد مع قدوم السادات العميل الأمريكي بامتياز.   وإنما نقدم مثال مصر الناصرية نموذجاً على الأنظمة القُطرية التي حاولت أحياناً تجاوز حدود التجزئة قومياً ووحدوياً.

 

نحن لا نستطيع أن نغفل إطلاقاً الدور الرجعي الذي لعبته الأنظمة العربية في وصول الأمة إلى الهاوية، ولقد كان أقرب إلى القلب أن نحاكمها أمام التاريخ على قبولها لحدود سايكس-بيكوفقط، ولو لم ترتكب أي آثام أخرى.  لكن وقع ما يحدث اليوم أشد مضاضة، فالتركة الحقيقية لهذه الدول اليوم تتكشف عن تشظٍ مستشرٍ افقيٍ وعموديٍ للمجتمع وانهيار للدورة الاقتصادية المحلية التابعة. وهي نقطة استطاعت الإمبريالية وحلفاؤها في المنطقة اللعب عليها جيداً لجر الشارع العربي إلى إزاحة النظر عن قصف ليبيا مثلاً على أيدي قوى الناتو، وكأنها دولة في كوكب أخر وكأن الناتو هو المحرر المخلص… والبعض الآخر يطالب بإعادة الكرّة في سورية.

 

لكن في النهاية تبقى مصلحة الأمة المنطلق الحقيقي لأي موقف سياسي سليم. ففي ظل الصراع الطاحن القائم اليوم في مواجهة الإمبريالية، فإن أي موقف في مواجهة الإمبريالية والتفكيك يعبر اليوم عن مصلحة الأمة، سواء حمله فرد أوحمله نظام. وهذه بالطبع إشارة واضحة للنظام السوري الذي يقف اليوم كرأس حربة في مواجهة المشروع الغربي (الشرق أوسطي الجديد) لتفكيك المنطقة. نقطة اخرى:إن أي فكر أوعمل سياسي متجاوز للطوائف والأقاليم هوثوري بالضرورة أمام التفشي المزري للفكر الطائفي والتفتيتي عامة.

 

أما بالنسبة لدعاة الديمقراطية، في ظل تفشي قطاع الطرق المتأسلمينكالدواعش وغيرهم (وكلاء المشروع الغربي لشطب المنطقة حضارياً وتفكيكها طائفياً)، فقد خفت صوتهم اليوم مع عمق تأصل الديمقراطية لدى البديل المتاح (اقصد الدواعش ومن على شاكلتهم)! على أية حال، يجب ان نؤكد على ان وحدة لا ديمقراطية أفضل ألف مرة من تجزئة ديمقراطية، وأن أي شكل من أشكال الوحدة لن يكون إلا من خلال عملية قيصرية ومواجهة عنيفة، أي بالحديد والنار كما يقال، سواء كان الهدف هووحدة قطر مثلاً كسورية والسودان وغيرها، أووحدة الأمة ككل.

 

عندما يتحول القوميون إلى دعاة للدولة القُطرية: محمد جابر الأنصاري نموذجاً

هل يتوجب على القوميين أن يتبنوا دولة التجزئة في زمن التفكيك؟

 

إبراهيم علوش

 

تعيش معظم الأحزاب والقوى القومية اليوم واقع تقوقعٍ وانغلاق، سواء تلك المنخرطة في العمليات السياسية في اقطارها أوالتي تسعى لذلك، أوتلك الموجودة على الهامش أوالتي لها رؤى متفرقة في الشأن القطري مع غياب كلّي لأي مشروع قومي،فيما لا يتسم اهتمامها بالمواضيع والشأن الجاري القومي بالجدّية والمتابعة المتواصلة ولا الاولوية.  فعنوان المرحلة هوغياب مشروع قومي مع كثرة العناوين القومية وتفرقها.

 

عليه نستعمل الانصاري كمدخل للوصول الى هؤلاء المنزلقين عفواً أوقصداً من القومية للقُطرية لكي لا  يحوّلَ أحدٌنقاشنا هنا الى نقدٍ مقتصرٍ على احد مفكّري السلاطين المعادين للمشروع القومي والوحدوي التحرّري أصلا.  إنّ غياب أي مشروع أورؤية قومية من طرف حاملي العنوان القومي هوالسبب الرئيس في انزلاقهم، حيث أنهم، ومن حيث لا يشعرون، استكانوا للواقع الاقليمي وصرفوا نظرهم عن تجاوز الحدود، حدود سايكس-بيكو، فتعوّدوا على الانحسار في الشأن المحلّي وتهميش القضايا القومية. لكي لا يُفهم خطأً أن النقد التالي يتركز على مفكر قومي انحرف عن جادة الصواب فحسب، ومن هذه الخلفية تحديداً نبدأ:

 

يقول د. محمد جابر الأنصاري في كتابه “مراجعات في الفكر القومي”، الصادر عن مجلة “العربي” في 15 تموز 2004، أن الفكر القومي يجب أن يطور نفسه باتجاه: 1) التركيز على تنمية دولة التجزئة، أي الدولة القُطرية التي يسميها “الدولة الوطنية”، والسعي لتأسيس “مجتمع مدني” في كلٍ منها من خلال الانخراط الفعال فيها، بما يناسب كل واحدة منها على حدة، 2) تبني منهج “الوحدة الجغرافية الطبيعية”، أوالوحدة على أساس إقليمي، على نمط “مجلس التعاون الخليجي” أو”الوحدة المغاربية” إلخ… بين الدول القُطرية التي يتألف منها كل إقليم عربي: الجزيرة العربية، الهلال الخصيب، وادي النيل، والمغرب العربي، كمدخل تدريجي بطيء لتحقيق الوحدة العربية الشاملة دون استفزاز القوى الدولية والإقليمية المعادية للوحدة العربية، 3) تلقيح الفكر القومي بالمفاهيم الليبرالية القائمة على “تقبل الرأي الآخر” و”التعددية” وإلى ما هنالك، ونبذ الأيديولوجيات الشمولية، كما يصفها، و”العسكرة” والنفس الإنقلابي، التي سادت الحركات القومية عامةً بعد احتلال فلسطين!

 

لم يكن ما جاء به الأنصاري في “مراجعاته” للفكر القومي جديداً، في الواقع، لأنه قدم اطروحاته تلك، وأخرى مرتبطة بها، بشكل أكثر عمقاً وشمولاً وتماسكاً في مؤلفات أخرى، إنما جاء عرضها هذه المرة بلغة مبسطة نوعاً ما في كتاب شعبي للجمهور، وزعت منه “العربي” عشرات آلاف النسخ، بأسعار مخفضة (دينار واحد في الأردن)، مما يجعل من “المراجعات” أداة للتواصل الجماهيري، مقارنة بكتب الأنصاري الأخرى الموجهة للمثقفين أساساً.  ومن هنا اخترنا التركيز عليه دون غيره، خاصةً أن موضوعته المركزية، وهي الدفاع عن الدولة القُطرية ومشروعيتها ودورها التاريخي هي نفسها رسالته الرئيسية في أكثر من كتاب للأنصاري، إلى جانب موضوعات أخرى مثل إدانة العمليات الاستشهادية في فلسطين، وإبراز ما يعتبره “دور آل سعود الوحدوي” في الجزيرة العربية، والقضية الفلسطينية كنكبة حالت دون “تشكل المجتمع المدني العربي” (ص 90-93)، والدفاع عن الرفاهية الاستهلاكية التي خلقتها الثروة النفطية في الخليج باعتبارها “مشكلتنا وحدنا” على حد قوله (ص 21)، وغيرها.

 

لكن لواردنا تلخيص الأنصاري بأطروحة واحدة مركزية لقلنا أنها تبرير دولة التجزئة العربية، الدولة القُطرية التي استحدثها الاستعمار، زاعماً أن تنميتها مرحلة من مراحل الوصول للوحدة العربية، وأنها تصهر التعدديات والبنى المجتمعية، وأنها “أول تجربة للعرب في الدولة وفي الوحدة… بمعنى ممارسة العيش في نطاق دولة ثابتة بصفة مستمرة… في نطاق مجتمع مدني ودولة وطنية واحدة.  وهي خطوة تاريخية لا بد منها للوحدة القومية التي لن تكون غير حاصل جمع الوحدات الوطنية” (ص 29).

 

المشكلة أن الأنصاري، مستشار ملك البحرين، يقدم مثل هذا الطرح المتجرثم في قالب خطاب “قومي عربي”، وأنه يوظفه مباشرةً في تكريس مشروعية الدولة القُطرية في الخليج العربي تحديداً، ولولا ذلك لما كان ثمة داعٍ للالتفات إليه، فخطابه السياسي المناهض للمقاومة وللحركات القومية والوطنية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية في الوطن العربي مكشوف ولا يختلف في حيثياته الأيديولوجية عن الخطاب الليبرالي المتغرب الذي يهاجم المقاومة والحركات القومية والوطنية في وسائل الإعلام العربية الممولة من قِبل البترودولار الخليجي، وهوليس موضوعنا هنا.

 

موضوعنا هوانحدار الخطاب القومي إلى تبني الدولة القُطرية، ومسخ البرنامج القومي إلى برنامج لاستنهاض دولة التجزئة العربية، وهوما يجد أفضل تعبير أيديولوجي له (بالمعنى السلبي طبعاً) عند الأنصاري، لكنها تبقى ظاهرة عامة نلمس آثارها بدرجات متفاوتة عند الكثير من قوميينا اليوم.  وكم من مناضل عروبي عبر عن استغرابه وخيبة ظنه من انغماس الفصائل الناصرية في مصر، مثلاً لا حصراً، في الشأن المحلي، وتهميشها للقضايا القومية، وتحول برامجها المعلنة إلى برامج إصلاحية محلية تشبه في بعض جوانبها برامج أحزاب الأممية الاشتراكية الثانية في أوروبا، وتركز على “تطوير” الدولة القُطرية وحل إشكالاتها!  وهوما ينطبق أيضاً على التحول من الشأن القومي إلى الشأن القُطري عند جبهة التحرير الوطني الجزائري بعد بن بلا، والتحول لوهلة من المشروع العربي إلى المشروع الليبي والأفريقي في ليبيا، والانخفاض التدريجي في منسوب التركيز على الشأن القومي عند حزب البعث في العراق قبل الـ2003، وعند حزب البعث في سورية، وعند الكثير من الأحزاب القومية في الوطن العربي، التي صار بعضها يعتبر أن مصداقيتها ترتبط بقدرتها على الانخراط كلاعب سياسي في الشأن المحلي القُطري لا بمدى امتلاكه لرؤيا ولمشروع وبرنامج قومي يتجاوز حدود الاقطار.

 

إذن الأنصاري وأجندته أكثر وضوحاً، وأحد الفروق بينه وبين القوميين الآخرين الذين تحولوا موضوعياً إلى قُطريين هوأن التحول إلى القُطرية كان مشروع الأنصاري منذ البداية، أما هم فمعظمهم لم يشعر أين وكيف ومتى أفلت المشروع القومي من بين أيديهم، وأن الانصاري يدافع بوعي عن أجندة سياسية ترتبط بأنظمة البترودولار تحت يافطة قومية، وأنهم مستهدفون انزلقوا انزلاقاً إلى اللعب بناء على قوانين التجزئة القُطرية التي يناهضونها بكل إخلاص، دون إنكار دخول العديد من الانتهازيين والمخترقين على الخط.  لكن انزلاق الكثير من القوميين للنهج القُطري ليس مصداق طرح الأنصاري بأن “الدولة القُطرية هي الحل”، بل مصداق تراجع المشروع القومي الذي تبقى ضرورته قائمة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى.  كما أن دفاع الأنصاري الأيديولوجي عن منظومة التجزئة القُطرية، الذي يغلفه كدفاع عن “الدولة الوطنية”، لا يمكن فصله عن ارتباطه المباشر بمنظومة سياسية رجعية هي منظومة البترودولار التي يقودها آل سعود اليوم والتي كان همها منذ عقود تصفية الحساب مع أنظمة القوميين وأحزابهم، على عللها الكثيرة، واختلافها، وخلافاتها، وما دور تلك المنظومة في العدوان على العراق عامي 1991 و2003، والعدوان على ليبيا، وفي نشر التكفير الدموي الذي ذاقت الجزائر مرارته في “العشرية السوداء”، وفي تأجيج نيران الفتنة الدموية في سورية ومحاولة تفجيرها من الداخل، وفي العدوان العسكري على اليمن مؤخراً، إلا تصفية حساب تاريخي مع الإرث القومي في الوطن العربي، وكل بقعة عربية لم ترث نظامها السياسي مباشرة من حقبة الاستعمار.

 

ليس من قبيل الصدفة أن قوس “الربيع العربي” تفجر على شكل دماء ونزعات تفكيكية، أكثر ما تفجر، في الدول العربية التي نالت استقلالها عبر حركة تحرر وطني، لا كمنحة مشروطة بالتبعية من الاستعمار، أوفي الدول العربية التي تمت فيها الاطاحة بالنظام الذي خلفه الاستعمار، أوالتي وصل إلى حكمها طرفٌ عروبي التوجه فترك أثره فيها ولوحاد عن النهج العروبي بعدها.  فإذا كان ذلك صحيحاً، كما يدل تسلسل الأحداث، فإن من المؤكد أن الجزائر ستكون مستهدفة بترودولارياً أسوةً بسورية والعراق وليبيا واليمن… ومصر طبعاً.  لكن ذلك لا يعني أن غول التفكيك سيتوقف عند عتبة الدول العربية التي راكمت، بالرغم من كل أخطائها وخطاياها، إرثاً من منجزات النزعة الاستقلالية والتحرر الوطني والنهج العروبي (تأميم النفط في العراق وتأميم قناة السويس وتحرير الجزائر نموذجاً).  إن غول التفكيك الذي تطلب إطلاقه تحطيم مؤسسة الدولة، لا اسقاط نظامها فحسب، في الدول العربية الوطنية ذات النزعة الاستقلالية، بات يطرق اليوم أبواب كل الدول العربية، حتى الرجعية والتابعة منها، ومنها مملكة آل سعود نفسها.  أما النظام الإسلاموي في السودان، فقد أثبت أنه مستعدٌ وقادرٌ على تفكيك نفسه بنفسه.

 

إن النقطة المركزية التي يتجاوز عنها الأنصاري في طروحاته، عندما يقارن دولة التجزئة العربية بالإمارات الإقطاعية الأوروبية واليابانية، معتبراً أنها ستقوم بعملية بناء وتنمية ستقود موضوعياً لقيام الوحدة، هوأن الكيانات الإقطاعية الأوروبية واليابانية نشأت نشأة طبيعية نتيجةً لعوامل داخلية أوروبية أويابانية، أما دولة التجزئة العربية فهي من صنع الاستعمار، فهوالذي رسم حدودها وقرر شكل نظام حكمها، إلا حيث تمت الإطاحة بالنظام الذي خلفه الاستعمار.  فالدولة القُطرية تفتقد للمشروعية لأنها قامت ضمن حدود التجزئة التي وضعها الاستعمار، ولم تأتِ نتيجة توحيد وحدات أصغر في وحدات أكبر كما حدث مع الدويلات والإمارات الألمانية التي بدأت أكثر من 500 دويلة وإمارة عام 1806، وانتهت تدريجياً ثم بالقوة العسكرية الغاشمة للوحدة عام 1870.  فالدولة القُطرية العربية ليست مخلوقاً طبيعياً، ولا جاءت نتاج دمج لإقطاعيات وإمارات أصغر، بل جاءت لتفرض قيوداً متعددة على حركة المواطن والسلعة والفكرة بين المغرب والبحرين لم تعرف الأمة مثلها حتى في أسوأ حالاتها.  إذن جاءت تلك الدولة لتجزأ موحداً، لا لتوحد مجزأً، وجاءت لتبقي الأمة العربية ضعيفة، لا لتكون محركاً لنهضتها.  وجاءت لكي تؤكد ذاتها مقابل دول التجزئة الأخرى، ولكي تكرس هويةً مصطنعة لا تاريخ لها بمعزل عن التاريخ العربي إلا في عصور الانحطاط.

 

النقطة الأخرى أن الاستعمار لم يؤسس دولة التجزئة هذه ليتركها لشأنها لتفعل ما تريده أوتخرج عن طوعه، بل خلّف فيها قبل الرحيل شرائح تابعة له لتحكمها بالنيابة عنه فتجعلها دولة تابعة، وهذا يعني أنها دولٌ مفتقدة للإرادة المستقلة، ناهيك عن إرادة تحقيق الوحدة.  كما أن صيرورة تحقق الوحدة القومية من رحم الاقطاعيات الأوروبية القائمة على رافعة برجوازية صناعية قومية غير متوفرة عندنا.  ولهذا فإن إقطاعية التجزئة العربية لا تتوفر بذاتها على نوازع داخلية تدفع تلقائياً باتجاه تجاوز ذاتها في الوحدة القومية، على العكس تماماً، تتوفر دولة التجزئة العربية على نوازع لتأكيد ذاتها في مقابل اقطاعيات التجزئة العربية الأخرى التي ترك الاستعمار فيما بينها مشاكل حدودية وعوامل تفجير كامنة لا تنتهي عندما رسم حدودها، كالمشاكل الحدودية التي تركها الاستعمار الفرنسي بين الجزائر والمغرب مثلاً، وعلى عوامل تفكك، لأن تفكيك الهوية القومية العربية هو أساس تفكك الهوية القُطرية.

 

لا بل أننا نذهب إلى أبعد من ذلك للقول أن دولة التجزئة العربية تظل عاجزة عن تحقيق المشروع التنموي أوحماية أمنها الوطني نفسه استراتيجياً ولوحكمها قوميون جذريون، أوقارئ هذه السطور، بأخلص النوايا، لأن قوانين التجزئة نفسها تمنع تحقيق التنمية والأمن في قطر عربي واحد، وبالتالي تمنع حل مشاكل الدولة القُطرية ما دامت أدواتها قُطرية، وما دامت لم تتجاوز قُطرها.  لهذا رفضنا في لائحة القومي العربي تبني برنامج “وطني ديموقراطي” قُطري، نرى أنه غير منطقي تاريخياً وغير ثوري، في كل دولة عربية على حدة، فالتنمية والتحرر من الاستعمار، والحفاظ على الأمن القومي، هومشروع قومي عربي بالضرورة، وهومشروع واحد، أوأنه مشروع فاشل مسبقاً، إلا بمقدار ما يستطيع المشروع القومي تجاوز حدود أي قُطر يجد نفسه في موضع قوة فيه.

 

لهذا رفضنا أيضاً فكرة “الإقليم-القاعدة” الذي يسهُل على الاستعمار ضربه، كما رأينا في العراق ومصر محمد علي باشا ومصر عبد الناصر، إلا إذا كان الإقليم قاعدة سياسية-تنظيمية للمشروع القومي، لا قاعدة صناعية وعسكرية قُطرية بالمعنى التقليدي، مع قناعتنا أنه ليس بالمستحيل على الدولة القُطرية التي تحكمها قوى قومية حقيقية أن تتحلّل تدريجيا من الروابط القُطرية والالتزامات الدولية لتفعّل الجانب الثوري فيها إذا كانت قيادتها ثورية على غرار ما كان يفعل تشافيز، كما بإمكانها صياغة تحالفات تمكّنها من بعض العصيان وتصدير الثورة .. كما تفعل في الاتجاه المعاكس دول الثورة المضادة حين تخرق القوانين الدولية .. طبعا يتطلّب ذلك من الدولة القُطرية، لكي تكون لها تلك الصفة الوحدوية، أن تكون ممتدّة باتجاه التنظيمات القومية والجماهير العربية، وان لا تحاول إخضاع أحد لمتطلّبات التزاماتها القُطرية والدولية بل أن تحاول هي ما أمكن الخضوع لمتطلّبات المشروع القومي الذي تدعمه.  فدولة الوحدة-النواة، لكي تكون كذلك (أي نواة)، لا بدّ لها أن تشرع، ولوتدريجيّا وفق سلّم أولويات، في تفكيك البنى المحلية المعادية والمتعارضة مع ديناميكية الوحدة.  وللمزيد حول هذه النقطة الرجاء مراجعة الفصل الثاني من كتاب “مشروعنا: نحوحركة جديدة للنهوض القومي”، ومراجعة مادة د. سعدون حمادي في هذا العدد من طلقة تنوير حول إخفاق التجزئة القُطرية العربية.

 

نلاحظ أيضاً أن الاستعمار حيثما أنشأ دولة تجزئة عربية لم يكتفِ برسم حدودها، وبالتالي بتحديد حجمها ووزنها ونوعية تناقضاتها الجغرافية-السياسية مع الدول العربية الأخرى، ولم يكتفِ بتحديد الشريحة التي ستحكمها، بل أنه سعى لإقامتها على أساس توازنات داخلية غير مستقرة، لا على أسس وطنية، ومن ذلك مثلاً المحاصصة الطائفية، كما فعل الفرنسيون في لبنان عام 1943، وفي سورية تحت الانتداب عندما قسموها إلى أقاليم طائفية يعكسها علم الانتداب/ “الثورة السورية”، وعندما قسم الاستعمار الإيطالي ليبيا على أسس جهوية إلى أقاليم فزان وطرابلس وبرقة التي أعيد أحياؤها بعد “الربيع العربي”،وإصرار بريطانيا على فصل السودان عن مصر وجنوبه عن شماله تحت عنوان عربي-زنجي، وسياسة الظهير البربري التي اطلقها الفرنسيون في المغرب العربي عام 1930، وصولاًلـ”مجلس الحكم الانتقالي” الذي أسسه الأمريكيون على أسس طائفية في العراق عام 2003، وما برح الاستعمار يعبث بالتناقضات الطائفية والعرقية والقبلية والجهوية في كل البلدان العربية، وما الدولة القُطرية إلا نتاج تلك التوازنات الداخلية والإقليمية الهشة، فقد كانت منذ البداية تجلس على برميل من البارود.

 

الاستثناء هنا هوفقط الحالات التي وصلت فيها قوىً قومية أووطنية، رغماً عن الاستعمار وأدواته، إلى سدة الحكم، فسعت، ونجحت أوفشلت، في إقامة دولة وطنية، فتلك كانت الحالة الوحيدة التي وُجد فيها مشروع انصهار اجتماعي-سياسي على اساس وطني أوقومي.  فمثل ذلك المشروع كان في أوروبا مشروع البرجوازية الصناعية الصاعدة، وقد ارتبط مباشرة بالمشروع القومي.  ففكرة المواطنة مشروع قومي بالأساس لا تنفصل عن الوحدة والتحرير والنهضة، ولا تسقط كالمن والسلوى من السماء خارج سياق التاريخ وقوانينه.  أما الدولة القُطرية العربية، فقد صُنعت لكي تكون مرتعاً للتناقضات الداخلية، ولأنها بعجزها البنيوي عن تحقيق التنمية والأمن الاستراتيجي، ولوحكمها وطنيون شرفاء، تخلق بيئة مثلى لتفجر التناقضات الداخلية، فما بالك إذا عمل البترودولار على إذكائها؟!  بالمقابل، من لا يرى أن شرط الوحدة الوطنية في كل قُطر عربي على حدة، بين السنة والشيعة والمسيحيين، وبين القبائل والمناطق المختلفة، وبين البادية والحاضرة التي يتحدث الأنصاري عن تناقضهما كثيراً، لا بل بين الأقطار العربية المتصارعة نفسها، هوالانتماء القومي، لا يمتلك حتى مشروعاً وطنياً قُطرياً.

 

إن التجزئة ليست حالة ستاتيكية جامدة كلوحة زيتية للحياة الساكنة.   التجزئة حالة تفاعلية تعكس ذاتها بقوانين، يمكن أن نسميها قوانين التجزئة، تماماً كالوحدة التي تعكس ذاتها بقوانين وحدوية.  فثمة ديناميكية وحدوية، وثمة ديناميكية تجزئوية، والحالة الوحدوية تعيد إنتاج ذاتها في كل مرحلة تاريخية عند مستوى أعلى، باتجاه المزيد من الوحدة، والحالة التجزئوية تعيد أنتاج ذاتها موضوعياً عند مستوى أدنى، باتجاه المزيد من التفكيك.  فالنزعة الوحدوية عند عبد الناصر مثلاً لا تنتج نزوعاً وحدوياً على مستوى الشارع العربي فحسب، بل تنتج تعميقاً للعلاقات العربية مع حركات التحرر في أفريقيا ودول عدم الانحياز، أما نزعة الانفصال عن العروبة من أجل التركيز على الذات القُطرية فهي التي تنتج الأساس الموضوعي لتفكك الأقطار نفسها عندما يصبح القُطر فريسة الصراعات بين الهويات الفرعية المتناحرة للسيطرة عليه بعد تهميش القاسم المشترك العروبي الأوسع.

 

التجزئة، إذن، ليست فقط أساس ضعف الأمة والعائق الرئيسي أمام تحقيق تنميتها الاقتصادية وأمنها الاستراتيجي ومشروعها الديموقراطي، وحتى مشروع المواطنة نفسه، بل هي حاضنة مشروع التفكيك الراهن نفسه، وقاعدته الطبيعية.  فليس قومياً من يتحول إلى داعية للدولة القُطرية، والأساس في القومي العربي أن تتكون لديه حساسية عقائدية من تطبيع علاقاته مع الدولة القُطرية، إلا بمقدار تجاوزها لذاتها باتجاه مشروع قومي، وحتى عندها، دون الخلط بين تأييد مواقفها وسياساتها النابعة من أي نزوع استقلالي أووحدوي لديها، وبين تأييد مواقفها وسياساتها النابعة من قوانين التجزئة القُطرية نفسها.   وبعد أخذ ذلك بعين الاعتبار، وفقط بعد أخذه بعين الاعتبار، لا يجوز ولا يمكن وضع كل دول التجزئة في سلة واحدة، فبعضها يحاول تبني نهج مستقل عن الإمبريالية، وبعضها تابع للإمبريالية، وبعضها مُطبِع مع العدوالصهيوني، وبعضها يدعم المقاومة ضد العدوالصهيوني، والأساس في القومي العربي أن يدعم النهج الاستقلالي الوطني، ومقاومة العدوالصهيوني، فتلك مساحة تقاطع مع تلك الدول تكبر بمقدار ما تسعى للاستقلال وتناهض الإمبريالية والصهيونية.

 

لكن ذلك لا ينسينا أن أي دولة قُطرية لها اعتباراتها القُطرية النابعة من قوانين التجزئة التي لا تتقاطع بالضرورة مع مصلحة الأمة، وهنا لا يجوز أن نؤيد أوندعم كل السياسات بالمجان بدون أي تدقيق لكي لا نكون كمن يبيع المستقبل من أجل الحاضر، أويخسر ذاته ومشروعه القومي من أجل لحظة سياسية زائلة، بل علينا أن نؤكد على ضرورة إبقاء مسافة مريحة، وعلى حقنا في ممارسة النقد المستند لمصلحة الأمة، حتى إزاء الدولة القُطرية التي تتخذ موقفاً وطنياً استقلالياً عندما تنزلق لما نعتبره مواقف أوسياسات غير قومية، دون تجاهل فرق التوقيت بين لحظات المواجهة الضارية مع أعداء الأمة، عندما يكون نقدنا قابلاً للتأجيل،  ولحظات الاستقرار النسبي، مع اختيار المكان والزمان والطريقة المناسبة للنقد بما يخدم المصلحة القومية لا مصلحة أعداء الأمة.

 

ماذا إذن عن الدول الرجعية أوالتابعة أوالمطبِعة عندما تتعرض لمشروع تفكيك؟  هل نكتفي بإلقاء محاضرة عليها بأنها مسؤولة عما آلت الأوضاع العربية إليه، ونتشمت بها بالتالي، أونعتبر أن تفكيكها عقوبة لحكامها على سياساتهم؟

 

ثمة فرق بين إسقاط حدود التجزئة من أجل الوحدة، وبين إقامة المزيد من الحدود ضمن حدود التجزئة… ومن المؤكد أن أي قومي لا يرضى بتفكيك أي قُطر عربي، حتى عندما يكون حكامه من عتاة الرجعيين أوالتابعين للإمبريالية، لأن القُطر ليس ملك حكامه، بل ملك الأمة العربية، ولأن التفكيك لا يبقى في حدود قُطر عربي واحد، ولأن المواطنين العرب في ذلك القُطر هم الذين سيدفعون الثمن، مع كل الأمة، عندما يتفكك.  فالموقف المبدئي هورفض التفكيك ومقاومته ومواجهة من يسعى إليه في الداخل أوالخارج.  فإذا كان النظام الرجعي أوالمطبِع أوالتابع خاضعاً أوخانعاً لمشروع التفكيك، كما فعل نظام البشير في السودان، فإن الموقف منه، كما جاء أعلاه، لا يتغير، وإذا كان بصدد مقاومة مشروع التفكيك الذي يتعرض له البلد الذي يحكمه فعلياً، كما يفترض به، ولودفاعاً عن نفسه فقط، فإن ذلك يخلق مساحة تقاطع ما بالضرورة معه يجب أن نتعامل معها بحذر شديد، فلا يجوز أن نستمر باتخاذ موقف منه كالسابق، دون أن يصبح ذلك ذريعة للوقوع في احضان ذلك النظام، أوأي نظام، أوللسقوط في براثنه، كما أن التقاطع في مساحة ما مع أي نظام قطري لا يجوز أن يصبح ذريعة للوقوع في أحضانه أوالسقوط في براثنه.  ويجب علينا أن نميز بشدة بين الدفاع عن مؤسسات الدولة التي تواجه مشروع التفكيك، أي المؤسسات المدنية والعسكرية التي لا بد من وجودها في أي بلد، والتي يتطلب تفكيك البلد تفكيكها، والتي لا بد من دعمها في مواجهة مشروع التفكيك، وبين الدفاع عن نظام الحكم الرجعي أوالتابع أوالمطبِع نفسه الذي لا يجوز الدفاع عنه مطلقاً.

 

وهي على كل حال خطوط عريضة لا يمكن اخذها بمعزل عن التشخيص السليم لمصلحة الأمة في كل لحظة سياسية، وعن السياسات والمواقف القومية التي يتوجب اتخاذها في تلك اللحظة، والبراغماتية والدوغمائية صنوان في تضييع مصلحة الأمة في النهاية.  ونظل نقول أننا يجب أن نكون جنود المشروع القومي الذي تحدد ثوابته وضروراته أين يتوجب أن نقف في كل لحظة وكيف، وليست هناك وصفات جاهزة تعفينا من التفكير، فلوفكك اليمين الصهيوني السلطة الفلسطينية مثلاً، فإن ذلك لا يجوز أن يدفعنا للدفاع عن وجودها.

 

 

عن تاريخية الانتماء العروبي: المغرب الأقصى نموذجا

الجزء الثاني: السياسة البربرية الفرنسية في مواجهة عروبة الأمازيغ 

 

إبراهيم حرشاوي

 

انتقلت مسألة الانتماء العروبي في المغرب الأقصى إلى مرحلة جديدة مع قدوم الاحتلال الفرنسي والسياسة الهوياتية والثقافية التي مارسها في خدمة مصالحه الإستراتيجية. من ناحية أخرى شهدتالتركيبة الهوياتية المغربية بشكل عام، وفي بعدها السياسي بشكل خاص، بعض التغيرات الملموسة كونها تتطور بحد ذاتها داخل  إطارها الحضاري، وكذلك من خلال الوعي والاحتكاك بالآخر. ظهرت في هذا السياق عوامل مختلفة ساعدت في تطوير الهوية القومية العربية كهوية سياسية للمغاربة في العصر الحديث، أولها العدد الكبير للطلبة الملتحقين بالمشرق العربي بهدف الدراسة، الذين يُلاحَظ فيما بعد أن أغلبيتهم ستكون لهم أدوارا مهمة في النضال الوطني المغربي. كما لعب المفكر اللبناني الملقب بأمير البيان شكيب أرسلان في المغرب دورا مهما في نقل مبادئ الفكر القومي العربي لرواد الحركة الوطنية المغربية عبر التواصل بشكل كثيف ومستمر بهدف تنشيط العلاقات بين المشرق والمغرب العربي في إطار مكافحة الاستعمار الغربي، وكانت مراسلاته مع الوطنيين المغاربة أمثال علال الفاسي وعبد سلام بنونة مهمة جدا بالنسبة لبلورة مفهوم القومية العربية داخل صفوف النخبة الوطنية المغربية.

 

كما ساهم تواجد نسبة كبيرة من الوطنيين المهجّرين والطلاب من كافة أقطار المغرب العربي في القاهرة في تمتين البعد القومي العربي لدى المغاربة وقتها، حيث تمكنوا هناك من تكوين منظمات سياسية بطابع قومي عربي مثل لجنة تحرير المغرب العربي التي تزعّمها عبد الكريم الخطابي بنهاية الأربعينيات. كما ساهم احتلال فلسطين في تلك الفترة في تلقح الوعي القومي العربي بفكرة تحرير فلسطين من خلال الإرادة والمجهود العربي المشترك. أخيرا، وليس آخرا، يمكن اعتبار السياسة البربرية للاستعمار الفرنسي في المغرب، التي بلغت ذروتها بإصدار الظهير البربري يوم 16 ماي/ أيار سنة 1930م -الذي قاومه الشعب المغربي برمته- أهم حدث وتحدي واجهه الانتماء القومي العربي للمغرب. بهذا الظهير زرعت فرنسا نواة لسياسية استعمارية تخدم مصالحها بعد انسحابها من المغرب الأقصى، وبالتالي ستأخذ هذه المسالة في بعدها التاريخي-الهوياتي الحيز الأكبر في هذه المادة بسبب صعود الخطاب الفرنكو-البربري الذي تسوّقه نخبة تابعة فكريا وسياسيا للمدرسةالاستعمارية الفرنسية، محاولةً إعادة إنتاج هذا الخطاب الفتنوي الذي أكل الدهر عليه وشرب.

 

بداية، روجت جحافل من المؤرخين وعلماء علم الاجتماع الفرنسيين أطروحات لتبرير سياسة فرق تسد “علميا”، وكانت المواضيع المفضلة لدى هؤلاء هي تلك المرتبطة بمرحلة ما قبل التاريخ الإسلامي، خاصة الفترة الرومانية، بغرض إعادة إحياء هذا التاريخ لإظهار الاستعمار كاستمرار للحضارة الرومانية في المغرب الأقصى. من جهة أخرى،اعتبر هؤلاء المجتمع المغربي “فسيفساء من القبائل” يحتل قلبه “التناقض التناحري بين البربر والعرب”، وتنبع هذه القراءة من المبدأ الذي تبنّته المدرسة الاستعمارية الفرنسية بأنّ الشعب المغربي ليس عربيا لاعتبار الناطقين باللغة العربية في المغرب الأقصى غزاة وهويتهم هوية أجنبية غير مرغوب فيها. كما تمّ التأكيد على أكذوبة انتماء البربر للجنس الآري لسلخهم تماما من أي فكرة أوصلة تثبت أن أصلهم من الجزيرة العربية. ومن الواضح أن هذا الخطاب الاستعماري كان مفاده تقسيم هذا المجتمع المغربي إلى كتلتين متصارعتين، وعدم السماح بنموأي شعور وحدوي عربي قد يؤدي إلى تشكيل قوة عربية موحدة ترجِع المستعمر ومخططاته من حيث أتوا.

 

أما فيما يتعلق بأصل المغاربة الناطقين باللهجات الأمازيغية، فقد أثبت أكثر من مختصّ في علوم اللسانيات عروبة اللهجات الأمازيغية في المغرب العربي، ونذكر على سبيل المثال المؤرخ والمفكر الجزائري د. عثمان سعدي، والمفكر الليبي د.علي فهمي خشيم، والباحث العُماني سعيد بن عبدالله الدارودي. ورغم تواجد قواسم مشتركة عديدة على مستوى المعمار والموسيقى والطبخ، يبقى الجانب اللغوي هوالأقوى في إثبات عروبة المغاربة القدامى بحيث أن دراسات علمية عديدة جعلت أكذوبة عدم عروبة اللهجات الأمازيغية تسقط كبناء من ورق.  وقد استنتج الدارودي،الذي افنى أكثر من 17 عاما من عمره في البحث عن الصلة بين اللهجات الظفارية واللهجات الأمازيغية، أن هناك تطابقا  قويا بين العربية ولهجاتها واللهجات الأمازيغية. أما بخصوص التطابق بين ألفاظ العربية والبربرية، يقول الدارودي بأن من الصعب إرجاع مثل هذا التطابق إلى المصادفة، وقد يُقبل هذا الأمر إذا تعلّق الأمر ببضع كلمات، وليس بآلاف الكلمات. وعندما يشمل التطابق والتقارب جوانب الحياة جميعها يصبح من الصعب أن يتم تفسيرها كأنها كلمات مقترضة من العربية. ونفس الشيء ينطبق بخصوص التشابه القوي في قواعد النحووأساليب الصرف والأصوات اللغوية. أما الأبجدية الأمازيغية التي يطلق عليها اسم التيفيناغ (الفينيقي)، فما هي إلا أبجدية عربية قديمة، ويتجلى ذلك بالتطابق التام ما بين الحروف الظفارية وحروف التيفيناغ. ويستنتج صاحب هذا البحث القيّم أن اللهجات البربرية في المعجم أقرب إلى اللغة العربية، وفي النحووالصرف أقرب إلى اللهجات الظفارية ولغات جنوب الجزيرة بصفة عامة.

 

من ناحية تاريخية يقول المؤرخ التونسي عثمان الكعاك: “إن البربر قدموا من الجزيرة العربية في زمن لا يقل عن 30 قرنا قبل الميلاد، وإن الفينيقيين اختلطوا بالبربر على طول السواحل الإفريقية المغربية في القرن 12 قبل الميلاد، ولما كان البونيقيون (الفينيقيون) عربا من بني كنعان، فقد اختلطوا بالبربر، الذين هم من العرب العاربة القحطانية”.  نضيف إلى ذلك قول المؤرخ المالي محمد كاتي في كتابه (طارق الفتاش) أن القبائل المستقرة على ضفاف نهر النيجر حتى المحيط الأطلسي جاؤوا من اليمن، بينما يرى بعض المؤرخين مثل أحمد سوسة العراقي وبيير روسية الفرنسي أنّ الموجات القادمة من الجزيرة العربية هي التي عمرت شمال إفريقيا وحوض الأبيض المتوسط.

 

من نافل الذكر أن هذه الاستنتاجات العلمية لها صلة قوية بما قاله قبل قرون ابن بطوطة الأمازيغي، أشهر رحّالة في التاريخ العربي، أن من الأرجح أن تكون ظفار الموطن الأصلي للناطقين باللهجات البربرية، فقد شاهد ابن بطوطة هناك جواري إحداهن اسمها بخيت، والأخرى زاد المال، ويقول أنه لم يسمع بمثل هذه الأسماء في بلدٍ سوى المغرب.  كذلك يشبه أهل ظفار بأهل المغرب في وجود سجادة من الخوص مغلقة في كل دار كما يتشابهون في أكلهم للذرة. وهذه القواسم المشتركة، في نظر ابن بطوطة،تدفعه للقول بأن صناهجة وقبائل أخرى من المغرب أصلهم من حمير.  في حين توجد أسماء مدن وقرى على الطريق التي تربط بين جنوب الجزيرة العربية والمغرب العربي ذات صيغ صرفية ودلالات أمازيغية مثل أسيوط في مصر، تيماريين في شمال السودان، اكسوم في اريتريا، وانتوفاش في اليمن. وإذا دلت هذه الأسماء على شيء فهي تدل على قرابة لغوية وهجرة قديمة تركت آثارها في الطريق الذي مرّت بها.

 

من ناحية أدبية، نلاحظ بأن الشعر العربي لما ظهر في المغرب الأقصى في أواخر القرن الثاني الهجري تدخّل في الحوادث السياسية والصراعات العقدية، وهذا يعني أن القبائل الأمازيغية والدول المتصارعة في المغرب الأقصى قبل فترة المرابطين استعملت سلاح الشعر كما كان يُستعمل تماما في الجزيرة العربية في الجاهلية وبعدها، وهذا ما يفسر الانتماء الفطري للعروبة من قبل أمازيغ المغرب الأقصى.   ونجد في هذه الفترة أبياتا لسعيد بن هشام المصمودي، وهوينتمي إلى قبيلة مصمودة الأمازيغية، منددا بالبرغواطيين وما نالهم بموقعة بهت:

قفي قبل التفرق فاخبرينا***وقولي واخبري خبرا يقينا

هموم برابر خسروا وضلوا***وخابوا لا سقوا ماء معينا

يقولون النبي ابوغفير***فاخزى الله ام الكاذبينا

كما ينبغي الوقوف عندأبوعباس الجراويالتادلي الأمازيغي المعروف بمؤلفه الحماسة المغربية، يمدح عرب بنوهلال في إحدى انتصاراتهم علىالإفرنجة في الأندلس:

بعراب خيل فوقهن اعراب**من كل مقتحم على الأخطار
أكرم بهن قبائلا إقلالُها** في الحرب يغنيها عن الإكثار

وأكثر مما سبق، لقد اعتزّ الأمازيغ بأصلهم الحميري، فقال الشاعر الأمازيغي الحسن بن رشيق المسيلي للأمير الأمازيغي ابن باديس الصنهاجي:

يا ابنَ الأعزة من أكابر حِميـــر ** وسلالةَ الأملاك من قحطان

ويفتخر شاعر أمازيغي في البيتين ادناه بانتساب قبائل الطوارق الأمازيغ إلى حمير فيقول:

قوم لهم شرف العلى من حميــر ** وإذا دُعوا لمتونهِ فهمُ همُ

لِما حوَوا علياء كل فضيلــــة ** غلب الحياء عليهم فتلثموا

أما إذا قاربنا المسألةمن منظور اجتماعي فسنرى علاقة ترابطية اجتماعية قوية بالزواج والتجارة وغيرهما من الروابط الاجتماعية بين الناطقين باللهجات الامازيغية والناطقين بالعربية،بل هي علاقة اقوى بكثير من علاقة اصناف الناطقين باللهجات الامازيغية مع بعضهم البعض وهذا يرجع الى تبعثرهم الجغرافي وإلى عدم امكانية التواصل فيما بينهم لغويا بسبب الفرق الشاسع بين اللهجات الامازيغية الثلاث الموجودة في المغرب الاقصى مما يجعل اللهجة العربية للمغرب (الدارجة)هي لغة التواصل بين جميع المغاربة.  وهذا يعني، كما قال الدكتور محمد عابد الجابري، ان ثنائية بربري-عربيفي المغرب تقوم على  الاندماج والانصهار وليس على الانفصال كما تدعي فرنسا وتلامذتها في الحركة الأمازيغية.  ويتجلى ذلك الاتصال والانسجام انه لم يحدث في تاريخ المغرب الاقصى اطلاقا ان شريحة من سكانه شعرت بأنها اقلية.

 

لعل مما له دلالة  في هذا الصدد هوان حضور الثقافة العربية-الاسلامية يكاد ان يكون متوازنا في كافة انحاء المغرب. ويتضح هذا القول بوجود مدارس ومراكز علمية داخل جميع المناطق الناطقة بإحدى اللهجات الامازيغية. فمثلا في منطقة سوس في الجنوب كان هناك في القرن 19، وإلى حدود الاربعينات من القرن 20، ما لا يقل عن 50 مدرسة و157 أسرة علمية و911 مؤلفا في مختلف العلوم العربية والإسلامية من انتاج علماء هذه المنطقة.   وفي سياق متصل ينبغي الاشارة الى المنظومة التعليمية الذي انشأها المناضل الوطني الأمازيغي عبد الكريم الخطابي في جمهورية الريف التي كانت تشمل تقريبا كل المنطقة الناطقة باللهجة الريفية الامازيغية  في شمال المغرب. فهذا المشروع التربوي كان تعريبيا حتى النخاع وتؤكد ذلك المادة 22 لنظام الاساسي للمنظومة التعليمية في جمهورية الريف: “لا يجوز للأستاذ إلقاء الدروس بالبربرية ولا مخاطبة التلاميذ بغير العربية إلا عند الاضطرار لتنتقش العربية في أذهانهم بتكرارها على مسامعهم. وليكلفوا أيضا بعضها بالاضطرار كما لا يسمح لهم بالتكلم فيما بينهم بالبربرية داخل المدرسة لتكون العربية فيهم ملكة، وبذلك يقع النفع سريعا إن شاء الله وتظهر الفائدة ويتم المقصود”.

 

وفي سنة 1958م شهدت هذه المنطقة انتفاضة ثورية دعمها عبد الكريم الخطابي من مصر جمال عبد الناصر  ضد السياسة التابعة للغرب التي مارستها الحكومة المغربية بعد الاستقلال.  وكانت إحدى المطالب التي تقدمت بها قيادة هذه الانتفاضة التي تزعمها محمد سلام الحاج أمزيان هي تسريع تعريب التربية في كل المغرب.  وقد وصف عبد الكريم الخطابي هذه الانتفاضة في رسالة وجهها الى جمال عبد الناصر في يناير/ كانون الثاني 1959 بأن احد اهدافها هو إعادة المغرب الى دائرة قوميته العربية الحرة بأسرع ما يمكن.

 

بناءا على ما سبق يمكن القول بان  السياسة البربرية لفرنسا ادت الى نقيض ما كانت تهدف اليه، بالأخص في فترة ما بعد استقلال المغرب الأقصى، سواء كان ذلك من ناحية اثبات عدم عروبة الأمازيغ أومن ناحية تقسيم المغرب سياسيا واجتماعيا عبر الظهير البربري السالف الذكر الذي سعت من خلاله فرنساإلى تطبيقالعرف المحلي في المناطق الامازيغية بدل الشريعة الاسلامية.  كما فشلت في تنصير المغاربة عبر تأسيس الكنائس ومراكز التبشير. خلاصة القول ان عملية الأسلمة والتعرُب كانت طيلة فترة التاريخ العربي-الاسلامي في المغرب الاقصى خيارا أمازيغيا بامتياز كما كان الحال خلال حكم  الموحدين والمرينيين مثلا. وينطبق نفس الامر على التاريخ المعاصر ويكفينا ان نذكر دور الزعيم عبد الكريم الخطابي والعلامة المختار السوسي في بث الروح العروبية في الجسم المغربي ابان مرحلة التحرر والاستقلال.

المراجع:

– عبد الإله بلقزيز، العربي مفضال، أمينة البقالي: الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية 1947-1986 محاولة في التأريخ،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت 1992.

-د.زكي مبارك: محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي واشكالية الاستقلال،منشوراتفيديبرانت،الرباط،2003.

-عبد الرحمان الطيبي ولحسين الادريسي،التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد الكريم الخطابي تقديم وتحليل مخطوط،دار ابي رقراق،الرباط،2014.

-سعيد بن عبد الله الدارودي،حول عروبة البربر:مدخل الى الامازيغيين من خلال اللسان،مطبعة النجاح الجديدة،منشورات فكر،دار البيضاء،2012.

-د..إبراهيمعلوش،اسس العروبة القديمة،فضاءات للنشر والتوزيع،عمان،2012.

-عبد الله ابن المليح:التاريخ السياسي للمغرب ابان الاستعمار-البنيات السياسية-،افريقيا الشرق،الدار البيضاء،2014.

-محمد بن تاويت،الوافي بالادب العربي في المغرب الاقصى-الجزء الاول-،دار الثقافة للنشر والتوزيع،الدار البيضاء،1998

-د.محمد عابد الجابري، يقظة الوعي العروبي في المغرب:مساهمة في نقد السوسيولوجيا الاستعمارية،مجلة المستقبل العربي،العدد87،بيروت،1986.

مقالة بقلم د.عثمان سعدي موجودة على هذا الرابط :http://ichidou.net/index.php?option=com_content&view=article&id=490%3A-3&catid=103%3A2012-02-22-15-30-32&Itemid=149

-Ibn Battoeta,De reis,Bulaaq,Amsterdam,2008.

-Mohammed Chafik,Imazighen:De Berbers en hun geschiedenis,Bulaaq,Amsterdam,2004.

 

 

سلسلة التثقيف القومي:

الإخفاق البنيوي للدولة القُطرية في التنمية والأمن*

 

د. سعدون حمادي

 

ان بعض القطريين ( إن صح التعبير) يرى في الزمن الذي مر دليلا لصالح التجزئة، باعتبار أن وضع التجزئة قد صمد خلال كل تلك المرحلة ولم تستطع حركة الوحدة العربية أن تغيره.  ولكني أستطيع أن أقول من جانب آخر إن الزمن الذي مر قد كشف مواضع الضعف في التجزئة وبذلك يكون الوقت قد وفر الدليل على العكس مما يقول القطريون.  وهنا يصبح السؤال: أين مواضع الضعف؟  وما الأمور التي تدلل على اخفاق وضع التجزئة؟وأقول: إن وضع الأمة العربية الحالي وضع مختلف من جميع الوجوه، ولا يستطيع أحد بمن فيهم القانعون بالتجزئة أن يقولوا عن تأكد وقناعة أنه وضع جيد أومقبول، ولا أظنني أحتاج إلى أن أسرد  الدلائل المادية والمعنوية على تردي الأوضاع في الوطن العربي اليوم وفي جميع الوجوه وفي المجالات كافة.  ومن أجل التلخيص والتحديد أود أن أقول: إن الدولة القطرية قد أخفقت في المجالات كافة، إلا أن الإخفاق كان واضحا وأكيدا في مجالين أساسيين هما: التنمية والأمن.  وهل هناك ما هوأهم من التنمية والأمن؟!  لكن هنا يبرز سؤالٌ آخر: وكيف كان ذلك في التنمية والحديث عن الثروة النفطية العربية يملأ الآفاق في كل مكان؟ وأقول: إن الجواب عن ذلك لا بد من يتضمن بعض الشرح. وقد سبقت الإشارة ان القضية المركزية في علاقة الوحدة بالتنمية هي توسيع السوق أمام التنمية؟  إن توسيع السوق عبارة تقال، إلا أنها تنطوي على أمور كثيرة تحتاج إلى الإيضاح، فموضوع السوق موضوع قائم بذاته في الدراسات الاقتصادية من حيث علاقته الوثيقة بالتنمية.

 

اضيف:إن الذي يبحث في مسألة التنمية الاقتصادية يعرف ان العوامل المهمة في التنمية هي توفر رأس المال وسعة السوق، وبما أن رأس المال يعد متوفرا إذا ما أخذت البلدان العربية كمجموعة اقتصادية، لذلك تبقى مسألة سعة السوق هي الخانق المركزي.

 

إن مسألة اتساع السوق تكتسب أهمية خاصة لكل بلد عربي لديه خطط طموحة إلى تنمية قطاع الزراعة، في الوقت الذي يطمح فيه إلى تنمية الصناعة المدنية والعسكرية.  وكمدخل إلى الموضوع لا بد من إعطاء تعريف بسيط للتنمية.  بالرغم من تعدد التعاريف هناك مفهوم بسيط نستطيع بموجبه أن نقول إن التنمية تتحقق عندما يستطيع البلد إنتاج السلع الإنتاجية، بالإضافة إلى السلع الاستهلاكية.  والمقصود بالسلع الإنتاجية هي السلع التي تستعمل في إنتاج سلع جديدة، استهلاكية كانت أم إنتاجية، والمثال على ذلك هوالآلات والتجهيزات التي تتكون منها المصانع المنتجة لسلع أخرى.  ومن هذا التعريف يتضح أن هناك فرقا بين التقدم الاقتصادي والتنمية الاقتصادية.  فالأول عموما يعني الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى منها، بغض النظر عن مكان تلك المرحلة في سلم التنمية الاجتماعية.  فمثلا: العراق يستورد السكر للاستهلاك المحلي، فإذا ما شيد مصنعا لتكرير السكر الخام المستورد فإنه يحقق تقدما اقتصاديا، وإذا ما استطاع بعد ذلك أن يبني مصنعا لصناعة السكر من القصب أومن البنجر، ابتداء من المادة الخام المنتجة محليا وإنتهاءً بالسكر الجاهز للاستهلاك، فإنه بذلك قد حقق خطوة أخرى في مجال التقدم الاقتصادي، ولكنه لم يدخل مرحلة التنمية الاقتصادية الحقيقية. وعندما يصبح قادراً على أن يؤسس صناعة لإنتاج الآلات التي تستخدم في إنشاء المصانع لصناعة السكر يكون قد دخل مرحلة التنمية الحقيقية.

 

بناء على هذا الفهم للتنمية الاقتصادية يبقى ضيق السوق في العراق عاملاً مهماً في الحد من إمكانية الوصول إلى التنمية الحقيقة.  إن ضيق السوق الداخلي الذي تحتاج إليه صناعة السلع الإنتاجية يجعل هذه الصناعة غير اقتصادية، وبالتالي يكون المستورد منها أرخص من المصنوع محليا. إن صناعة السلع الإنتاجية لا يمكن أن تكون اقتصادية إلا إذا توفر سوق يستطيع أن يستوعب الحد الأدنى من الإنتاج اللازم لجعل الصناعة اقتصادية، والحد الأدنى هذا هوقطعا أكبر مما يستطيع السوق المحلي للعراق أن يستوعبه.  إن صناعة ما قد يكون ممكناً أن تنشأ في البداية على أساس غير اقتصادي فتقوم الدولة بتحمل خسائرها بهدف أمني أواجتماعي، إلا أن ذلك لا يصح إلا إذا كانت تلك الخسارة مؤقتة، إذ إن الدولة لا يمكن أن تتحمل خسارة صناعة ما من دون حدود زمنية، وهوحتى لوصح على صناعة ما فإنه لا يمكن أن يصح على مجموع الصناعة في البلاد، إذ لا يمكن أن نتصور قطراً كالعراق مثلاً يقوم بإنشاء جميع صناعاته على أساس غير اقتصادي وتسديد الخسائر الناجمة عن ذلك من ميزانية الدولة لأمد غير محدود. إنه إن فعل ذلك، فلن يحقق تنمية اقتصادية حقيقية مهما كانت موارده النفطية، إذ إن هذه الموارد نفسها غير دائمة، كما أن صناعة من هذا النوع لا يمكن أن تشكل قاعدة لتنمية حقيقية، لسبب بسيط هوأنها لا تنتج فائضا يمكن أن يستخدم لتمويل الاستثمارات الجديدة التي من دونها لا تستمر التنمية.

 

ومما زاد الطين بلة دخول عامل جديد هوالتطور التقني، وذلك بتأثيره في حجم الوحدة الاقتصادية. المعروف أن الصناعة الحديثة تقوم على أساس الوحدات الإنتاجية، ولكل وحدة طاقة إنتاجية محدودة، ولأجل أن يكون استخدام هذه الوحدة الإنتاجية اقتصادياً يجب تشغيلها بالطاقة المحدودة لها.  أما إذا شغلت بأقل من طاقتها القصوى فيكون استخدامها غير اقتصادي وترتفع بذلك كلفة الإنتاج. لنفرض على سبيل المثال، أن صناعة من الصناعات مكونة من وحدات إنتاجية، والوحدة الإنتاجية ذات طاقة اقتصادية هي (50) ألف وحدة من سلعة ما.  إن هدف الوحدة من أجل أن تشغل اقتصاديا يجب ألا ينخفض إنتاجها عن (50) ألف وحدة من تلك السلعة.  لنفرض أن سوق العراق يستطيع أن يستوعب هذه الخمسين ألف وحدة من هذه السلعة، فتقوم الدولة بتأسيس معمل بطاقة إنتاجية مقدارها (50) ألفاً وتمنع الاستيراد، فتقوم هذه الوحدة بسد حاجة السوق المحلي. وبعدة مدة من الزمن يكون قد حصل تطور تقني غير من طريقة الإنتاج فضاعفها، فأصبحت الوحدة الجديدة من هذا المصنع بإمكانها أن تنتج (100) ألف من تلك السلعة بالكلفة نفسها، أي أن الحد الاقتصادي للوحدة الجديدة أصبح (100) ألف وحدة من تلك السلعة.  إن الذي يحصل نتيجة ذلك هوأن كلفة إنتاج هذه السلعة في الخارج تنخفض الى النصف بالنسبة إلى كلفة الإنتاج من المصنع في العراق. وعندها إما أن تقوم الدولة بتحمل الخسارة وتستمر في الإنتاج، وهوأمر لا يمكن أن يستمر في الأمد الطويل، أوأن تقوم بتجديد المصنع بإحلال الوحدة المتطورة مكان الوحدة القديمة. ولكن الوحدة الجديدة المتطورة، من أجل أن تكون اقتصادية يجب أن تشغل بطاقة قصوى، وهي (100) ألف وحدة من السلعة، في حين ان السوق لا يستوعب أكثر من (50) ألفاً.  فماذا نصنع بفائض الإنتاج؟ وقد يكون الجواب هوالتصدير.  ولكن هل عملية التصدير سهلة لبلد مبتدئ بالصناعة يدخل سوق المنافسة في العالم ويزاحم الدول الصناعية المتقدمة ذات الإنتاجية العالمية التي قطعت أشواطاً بعيدة في زيادة الكفاءة وتخفيض الكلفة والقدرة على التطور التقني الذي يساعد كثيرا على تخفيض كلفة الإنتاج؟  تلك هي الحلقة المفرغة والمعضلة التي تواجه عملية التنمية عندنا وفي عموم بلدان العالم الثالث الصغيرة الحجم.

 

إن الارتفاع المستمر بالإنتاجية وتخفيض الكلفة والتطور التقني أمور تحققت للدول الصناعية بفعل تاريخ طويل من التطورالصناعي، ابتداءً بمرحلة الاستعمار والسيطرة على أسواق المستعمرات، وصولاً إلى الوقت الحاضر، حيث التقدم التقني على أشده لزيادة الإنتاجية وتخفيض الكلفة.

 

إن حرق جميع هذه المراحل بالنسبة إلينا أمر صعب من دون شك.  هذا هوالحال بالنسبة إلى السلع الاستهلاكية أومعظمها في الأقل، والحال أكثر صعوبة بالنسبة إلى السلع الإنتاجية.  ومن ذلك نستطيع أن نستنتج ما يأتي:

إن التقدم الاقتصادي ( وفي النهاية التنمية الاقتصادية ) تحتاج إلى توسيع السوق المحلي في العراق سواء في قطاع الزراعة أم في قطاع الصناعة المدنية والعسكرية.  هذا هوالسبب الذي يجعل الصناعة الكبيرة ذات الإنتاج الواسع التي يتوفر لها سوق يستوعب الإنتاج بطاقتها القصوى أكثر اقتصادية، لأن سعة الإنتاج تؤدي إلى انخفاض الكلفة.

 

إن الصناعة الواسعة تتمتع بما يعرف بوفورات الإنتاج الكبير التي أهمها المقدرة على استخدام نتائج التقدم التقني.  إن سعة السوق هي المفتاح لذلك، وسعة السوق لا يحققها بأفضل وجه غير الوحدة.

 

والآن لا بد من أن أقول بعض الشيء عن موضوع الأمن، وهوالشق الثاني من حديث الإخفاق الذي حققته دولة التجزئة.  في هذا المجال، الأمور واضحة على ما أظن، فالصهيونية قد احتلت حتى الآن كامل فلسطين، حيث توسعت من حدود قرار التقسيم إلى حدود 1948 ثم إلى حدود 1967، وهي تحتل بالإضافة إلى كامل التراب الفلسطيني أرض الجولان في سوريا والشريط الحدودي من الأراضي اللبنانية وتبسط نفوذها على جزء مهم من جنوب لبنان، والمسلسل مستمر.  وهي تقوم الآن بعملية استيعاب اليهود السوفيات وتهجر اليهود أينما وجدوا في العالم إلى الكيان الصهيوني. وقد بنت “إسرائيل” قوة عسكرية تفوق قوة جميع البلدان العربية مجتمعة، وهي مسلحة ذرياً، الأمر الذي أصبح معروفاً للقاصي والداني، والقوة العسكرية الصهيونية مصممة ومهيأة ومعبأة خصيصاً للعدوان على البلدان العربية، والمطامع الصهيونية في البلدان العربية لا يحدها حد، فهي تمتد حيثما تستطيع أن تمتد.  كما أن الأمن العربي مهدد في مواضع أخرى، فالحركة الانفصالية في شمال العراق ترعاها الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني وتشكل مصدر استنزاف وخطر داهم للعراق.  وجنوب السودان فيه حركة انفصالية على الشاكلة نفسها تقريباً.  والحدود الموريتانية مع السنغال مهددة أيضا بتمرد انفصالي ترعاه السنغال.  كما يشار إلى تطلع ايران إلى مناطق نفوذ في الخليج العربي، وتطلعها أيضا إلى بسط نفوذها على المناطق المتاخمة في العراق، حيث توجد العتبات المقدسة.  كما لا يخفى ما لتركيا من مطامع في المياه والموارد العربية وفي النفوذ في السوق العربي اقتصادياً. إن جميع هذه الأخطار ما كانت لتكون ابتداء، وما كانت لتنمووتستمر لولم يكن الوطن العربي مجزأً ضعيفاً متناحراً يضرب بعضه بعضاً، مما شجع ميول الطمع ورغبات النفوذ والهيمنة عند المستعمرين والطامعين على المضي في خططهم.

 

إن حالة الضعف والفرقة ما كان لها أن توجد أصلاً وأن تتفاقم لوكان الوطن العربي موحداً في دولة واحدة. إن الضعف عامل مشجع على العدوان والأطماع، في حين ان القوة من شأنها كبح تلك الميول وقتلها قبل أن تولد. فهل بعد كل ذلك تحتاج إلى مزيد من الأدلة والبراهين على الإخفاق في حماية الأمن القومي العربي؟ إن إخفاق الوضع القطري في حماية الأمن القومي أمر معروف، وقد كتب عنه الكثير. إن لجوء بعض الحكومات العربية إلى توثيق علاقاتها بالدول الاستعمارية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية هوبحد ذاته دليل على ذلك لا العكس، فالعلاقة مع هذه الدولة الاستعمارية العدوة المتحالفة استراتيجياً مع العدوالصهيوني تعني في الحقيقة تعرض الأمن القومي للخطر، لأن هذه الدولة عدوللأمة وذات مطامع في ثرواتها ومتحالفة مع العدواللدود الذي يعمل على احتلال أراضيها وإبادة شعبها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. إن هذا النوع من العلاقة لا يمكن النظر إليه على أنه تقوية للأمن القومي العربي إطلاقاً، إذ كيف يكون التحالف مع العدوأمناً؟ إنه في الحقيقة ارتماء في الهاوية واستسلام للعدووتسهيل لعملية التعرض للخطر المهدد للأمن العربي.

 

* مقتطفات من كتاب د. سعدون حمادي “عن القومية والوحدة العربية” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1994، ص: 139-147.  أما الدكتور سعدون حمادي، فأشهر من أن يعرف بالطبع، وقد ولد في كربلاء في العراق عام 1930، وكان بعثياً عريقاً، وحاز على شهادة الماجستير في الاقتصاد من الجامعة الأمريكية في بيروت وشهادة الدكتوراة من جامعة ويسكنسن-ماديسن في الولايات المتحدة.  وقد تسلم عدة منصب وزارية في العراق وكان رئيس المجلس الوطني العراقي (البرلمان) عندما جاء الاحتلال عام 2003، وقد توفي عام 2007 بسبب مرض اللوكيميا.

 

تعريفات:

الدولة المركزية القوية الشرط الأول للنهضة في الوطن العربي*

 

يثبت تاريخ الوطن العربي أن تاريخ المناطق والعشائر والطوائف هوتاريخ التخلف، بينما كانت تقوم النهضة العربية دوماً على أكتاف الدولة المركزية والحكم المركزي المعبر عن مصلحة الأمة.  وقد كان مصير أمتنا محكوماً دوماً بين خيارين: إما الأمة الموحدة في ظل دولة مركزية قوية، سواء كانت دولة نبوخذ نصر أودولة الخلافة التي يحكمها العرب، أوالفقر والضعف والتأخر في ظل الخراب المحلي.

لقد كانت هزيمة الدولة المركزية أمام قوى الهيمنة الخارجية، وتفككها، دوماً مقدمة لهيمنة الخاص على العام، العشيرة على الوطن، الطائفة على الانتماء، والجهة أوالمحلة على الأمة، مما أدى تاريخياً لشيوع ثلاث ظواهر متلازمة بالضرورة تغذي كل منها الأخرى منذ الأزل العربي، هي: 1) التجزئة،  2) الاحتلال الأجنبي المباشر أوغير المباشر (التبعية)،  3)والتخلف.

بالمقابل، كان المشروع الوحدوي، وأهم مثال عليه في تاريخنا هوالدعوة النبوية، هونفسه مشروع التخلص من الهيمنة الأجنبية، وهونفسه مشروع بناء الدولة المركزية، الوحيدة القادرة أن تؤمن إطاراً من الاستقرار الداخلي والخارجي، ومن عناصر القوة، لتحقيق تنمية اقتصادية وقفزات حضارية حقيقية…

وما برح هذا القانون يحكم الحياة العربية المعاصرة.  إذ أن المشروع النهضوي العربي لا يمكن أن يتحقق بدون دولة مركزية قوية توفر له عناصر القوة وتحميه، دولة قوية قادرة أن تعبر عن مصلحة العام على حساب الخاص.  فالأمة العربية الممتدة عبر الصحارى الشاسعة، والمكشوفة على أطول شواطئ في العالم، بالمطلق وبالنسبة لمساحتها البرية، والمتناثرة مراكزها الحضارية عبر عدة مناطق زمنية، والواقعة في عقدة طرق التجارة العالمية البرية والبحرية والجوية، والمستهدفة منذ هنيبعل وزنوبيا إلى محمد علي باشا وعبد الناصر وصدام حسين، لا يمكن أن تنهض بدون دولة مركزية قوية.

 

*مقتطف من الفصل الثالث من كتاب “مشروعنا: نحوحركة جديدة للنهوض القومي”.

 

مشاريع الدول القُطرية ومقوّمات الأمة

 

أسامة الصحراوي

 

أودّ أن ألاحظ بداية أنّالحديث في المواضيع الدقيقة يتطلب تقديم شروحات تفصيلية حول مفاهيم وأطروحات عميقة يطول شرحها والمجال لا يسمح إلّا بتناولها لماما للمرور إلى الموضوع الرئيسي.

 

إن الحديث عن الدول القطرية ومشاريعها هوحديث عن مقوّمات الأمة بالدرجة الأولى. وإن عدم الحسم في مقوّمات الأمم وتشكّلها هوأصل الاختلاف حول إمكانية قيام مشروع وطني ديمقراطي أومشروع شعوبي أومشروع قومي. وهذا التصنيف متعمّد ومُفرز ويُعنى به الحاملون لمشروع تحرري حقيقي وليس دعاة الانهزامية والقبول بالأمر الواقع أودعاة الفهم الرّجعي لحركة التاريخ.  كما أن حسم هذا الموضوع يعني إمكانية الالتقاء حول مشروع سياسي بعينه. ثم إن هذا النص لا يخلص إلى تقديم فهم كاثوليكي لمقومات الأمة، بل يخلص فقط إلى ضرورة حسم الموقف كخطوة أولى لعملية بناء المشروع السياسي من خلال النقاش الجاد والهادئ.

 

تقليدياً، كان أول المشاريع المطروحة، هونظام يكرّس المسألة الوطنية ببعديها، التحرر الوطني والإنعتاقالإجتماعي، ليكون نظاما ديمقراطيا يحرر الأرض والإنسان، كلام جميل ولكن.. وفي هذه “لكن” قدّم عديد المفكرين سيلا جارفا من الحجج لن نزيد فيها الشيء الكثير.  تنطلق هذه الحجج أساسا من الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي. فالعلاقات بين الدول لا تحددها لا الرغبة ولا العاطفة، إنما موازين القوى، وأوّل عامل في ميزان القوى هوحجم الدولة “ثلاثي الأبعاد”: الجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد. ولا يمكن للدول القطرية المنفردة -على أحجامها المختلفة- إلا أن تكون دُوَلا تابعة حتى لولم ترد ذلك، وحتى لوأرادت القوى الكبرى أن تجعل منها شريكا. ثم إن خطوط التقسيم بين الدول العربية لم تكن أبدا اعتباطية، فقد حرص الاستعمار على منع أي دولة من إحداث اختلال في ميزان القوى من خلال تثبيت حواجز بين الأقاليم-المفاتيح بعضها ببعض (الكيان الصهيوني بين مصر وسورية، تأجيج الخلاف البعثي-البعثي بين سورية والعراق وغيرها) أوبين الأقاليم-المفاتيح وبقية الأقطار (الأردن بين سورية وجزيرة العرب). لكن ما علاقة هذا بمقوّمات الأمة؟؟

 

ينطلق البعض من شعار “المرّة الأولى” في التنظير لمشروع “الدولة الوطنية” في كل قُطر عربي على حدة، مؤكّدين أن قدر بعض الأقطار الكبرى في الوطن العربي ليس أبدا في أن تبقى تابعة، وأن الفشل السابق لا يعني بالضرورة عدم وجود فرصة تمثّل أوّل مشروع تحرّري وطني من منطلق الدولة غير الأمة. ويقولون أن الطيران يقتضي التّخلص من الأوزان الزائدة، وأن التغيير في السياسة ممكن، وأن الثمن الذي سيُدفع أقل بكثير منه في مشروع قومي لأن حدة الاشتباك مع الغرب ستكون أقل، خصوصا إذا كنا نتحدث عن الأقطار المفاتيح كمصر وسورية والعراق والجزائر، بل وقد تذهب إلى ذلك أيضا دول خليجية بعد زيادة قد تقدّر ب 50 مليون ساكن في السنوات العشر القادمة، وأن بعض الأقطار العربية أكبر أرضا وشعبا من أمم متقدمة، وأن عوامل التاريخ تؤيّد هذه الاستنتاجات.

 

يمكن مناقشة هكذا تحليل اعتمادا على قواعد الجغرافيا السياسية وخصوصية الحضارة العربية التي مثّلتالمنافس الوحيد للحضارة الغربية وتفوقت عليها في محطّات كثيرة، مما يفرض نمطا منفرداً في التعاطي بين الحضارتينفي التاريخ البشري. لكن إذا عدنا إلى مقوّمات الوجود القومي واعتبرنا وحدة المصير كأحد المقوّمات الأساسية التي لا يستقيم وجود الأمّة دونها، فعندها يسهل علينا حسم هذا الجدال حول المشروع السياسي.

 

ثاني المشاريع المطروحة هوالمشروع الشعوبي، القائم على تشبيك علاقات بين تجربة الدولة القطرية وتجربة الدولة-الأمة. ومن أبرز هذه المشاريع هوالمشروع المطروح من الجمهورية العربية السورية حول ربط البحار الخمسة (قزوين والأسود والأحمر والمتوسط والخليج العربي) في شبكة تعاون إقليمي. ونحن إذ نقيّم هذا المشروع لا نقيّمه من باب تناقضه مع المشروع الإمبريالي لأن هذا بديهي لكن من باب مدى استجابته لتناقضات الداخل السوري والتناقضات السورية في محيطها.

يهدف هذا المشروع أساسا إلى تكوين روابط اقتصادية وسياسية متينة بين الدول المطلّة على البحار الخمسة، والتصدي لمحاولات المسّ بسيادة هذه الدول، ويمكن القول أنه البديل السوري لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الأمريكي. يقدّم هذا المشروع سورية التاريخية كملتقى لكل التيارات المتثقافة من أقصى آسيا نحوأوروبا مرورا بشرق المتوسط، مما يجعلها بيضة القبّان الإقليمية، ويعطيها دورا يتجاوز حدودها مبشّرا بمشروع نهضوي ممكن. ويرجّح كثيرون أن الخطوات الحثيثة التي خطتها سورية والتحركات المكوكية للرئيس الأسد لإنجاح المشروع قد سرّعت في التدخل الأمريكي في سورية عبر استهداف النسيج المجتمعي السوري.

 

لكن مثل هذا المشروع يصطدم بعقابيل شتى: أوّلها الحديث عن مقوّمات الأمة كشرط يسبق تأسيس المشاريع السياسية، فهذا المشروع الذي يفترض وحدة تاريخ المنطقة يطرح نقطتين هما شرط وحدة التاريخ كأساس للمشروع السياسي، ومدى استجابة مشروع البحار الخمسة لهذا الشرط. ويمكن القول دون تردد أن وحدة التاريخ شرط أساسي في بناء المشاريع السياسية وهي وحدة لا تتوفر في المنطقة المطلّة على البحار الخمسة. وتأكيدا على الاختلاف في تقييم المشروع نطرح صورة أخرى توضّح من أي زاوية ننظر للمشروع ولماذا نختلف في تقييمه.

 

لتبيان انفلاج تاريخ المنطقة نعتمد على أسس الصراع فيها من وجهة نظر جغراسياسية دون أن نناقش بديهيات اختلاف الأجناس والثقافات، ويمكن تقسيم وحدات الصراع في جغرافيا البر إلى ثلاثة ثنائيات تتداخل أحيانا، هي صراع السهب-الغابة، وصراع الرمل-الطين، وصراع الجبل-السهل، ثم إن كل ما سبق يمثل طرفا في صراع البر-البحر.

 

لقد مثّل صراع السّهب – الغابة أحد أهم محرّكات التكوين البشري لأوراسيا، وكان السهب الآسيوي على رأسمحرّكات التكوين البشري من الصين إلى بريطانيا، من خلال هجرات قادها رعاة السهب  ضد فلاّحي الغابة عبر غزوات بجحافل بشرية، ممّا أحدث تغييرات زلزالية وأنتج واقعا جديدا استحالت العودة بعده إلى ماكان.  لكن تفاعل غزوات السهبيين اختلف باختلاف البيئة من خلال الأبواب الثلاثة التالية:

 

– الباب الأول في اتجاه الصين، والتي فشل جدارها العظيم في حمايتها من موجات السهبيين الكاسحة التي حكمت الصين لقرون بعد جنكيز خان، وكوبولاي خان إلى حدود القرن العشرين، وفي اتجاه الهند التي حماها إلى حدٍ ما جدار الهمالايا العظيم قبل أن تستطيع موجة تيمورلانك أن تجتاح أجزاء كبيرة منها ليؤسس محمد أكبر حفيد تيمورلانك فيما بعد لدولة حكمها المغول إلى حدود القرن الثامن عشر.

– أما الباب الثاني فيربط بين المنطقة الفاصلة بين منغوليا وإيران من ناحية ومنطقة الهلال الخصيب من ناحية أخرى، وهذا الباب هوالذي فتح غزوات الهكسوس التي وصلت شمال مصر القديمة. ومنها تتالت الموجات التترية والمغولية ثم التركية على الهلال الخصيب ثم باتجاه مصر. ويمكن هنا أن نقف لنتأمل حركة السهبين في علاقتهم بالدولة العربية الإسلامية لنجد أنهم كانوا برابرة الدولة العربية في حين كان الوندال والجرمان برابرة الدولة الرومانية، التي سعت لحثّهم على الاستقرار وتكوين دويلات على تخوم الإمبراطورية قبل أن تحاول دمجهم في الدين المسيحي كما فعلت الدولة العربية في محاولاتها لحث المغول والتتاروالأتراك للاستقرار تمهيدا لدمجهم في الدين الإسلامي.

– أما الباب السهبي الثالث فهو الذي يفتح من آسيا الوسطى إلى المجر على قلب أوروبا وهوممر سهبي قاري تتجاوب أجزاؤه وفق نظرية الأواني المستطرقة مما جعله حجر الأساس في التكوين البشري لأوروبا الحديثة، حيث ساهمت الموجات السهبية المتلاحقة على غرب أوروبا في دفع المجموعات البشرية من قلب أوروبا إلى غربها، فقفز السكسون والإنغلز إلى بريطانيا، وتكتّل الرومان والقوط والفرانك ضد موجة السهبين الهون مشكّلين بوادر الوعي القومي الفرنسي الجنيني. وهكذا ساهم الإستبس الآسيوي في إنضاج الوعي القومي في غرب أوروبا ممهّدين بذلك للتطور الأوروبي في حين بقي الشرق مترهّلا عرقيا وقوميا إلى يومنا الحالي نتيجة للطرق السهبي المتواصل مع الأفاروالبلغار والأتراك…

 

أمّا تاريخ الشرق القديم فيخضع لمقاربة أخرى يلخّصها جيمس هنري في صراع الرمل والطين، ويفسّر الهجرات المتتالية من الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب وبلاد النيل من الآراميين والكنعانيين إلى الفينيقيين. وبذلك، لا يمكن الحديث بالمطلق عن وحدة التاريخ بين الوحدات البشرية المكوّنة لسكان البلدان المطلّة على البحارالخمسة. ثم إن الدول إذ تتشكل لا تفلت من إرث الجغرافيا إذ يقول ابن خلدون: “إن التاريخ يدور حول نفسه، وأن الدول التي تتداول الحكم، والتي لا تتعدى فيه حكم كل منها عمرالإنسان. أنها تنطلق الواحدة منها من الأساس الذي انطلقت منه الدولة السابقة”.  فلم يعرف التاريخ أبدا وحدة حضارية تربط ما بين سكان آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية والمشرق العربي نتيجة “تناسل” الأدوار والصراعات بين الدول.

 

ثاني العقابيل هووحدة المصير،ويمكن مناقشة هذا البعد كما يلي: أن مشروع البحارالخمسة يقول بوحدة مصير تلك المنطقة كشرط من شروط بناء المشروع السياسي وهذا الشرط لا يتوفّرلمشروع البحار الخمسة.وحدة المصير أساسا هي نتيجة مباشرة لكيفية تشكّل الأمم، مما يعيد الحوار لمربّعه الأول حول مقوّمات الأمة. ويمكن أن ننطلق من الثابت السياسي لدى كل الشعوب وهوالجغرافيا في تحديد كيفية تشكل الأمم في الحديث عن أمتنا التي تستوعب حدودها جغرافيتها المحددة بجبال طوروس وزاغروس والصحراء الكبرى إضافة إلى البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، لكننا لن نقدم هنا تصوّرا كاملا فالهدف هوطرح موضوع مقومات الأمة كمرحلة تسبق طرح المشروع السياسي. ويمكن تلخيص مشكلة هذا المشروع بأنه يفكّر في المصالح أكثر مما يجب ويفكّر في التاريخ والجغرافيا أقل مما ينبغي.

 

ثم لمزيد من التأكيد لنتمعّن في واقع المشروع الآن، فسورية التي سعت جاهدة لتمريره لم تجني منه غير الويلات فلاهي تجنّبت الصدام المحتوم مع الغرب ولاهي وجدت السند من دول المشروع، وأرجوأن لا نغترّ بالدعم الروسي أوالإيراني لأنه دعم غير مرتبط أصلا بطرح المشروع وسابق له ومستمر حتى بعد التخلّي عنه وما حلف المقاومة الممتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية إلا صورة الممكن (الأمر الواقع) من مشروع البحار الخمسة. فهل نحن ضد المشروع في المطلق؟

 

بالتأكيد لا، فالمشروع واعد لا جدال، وينطلق من أسس متينة أيضا، لكن ينقصها مُعامل واحد فقط وهوالبعد القومي. فحين تمثّل سورية المشروع  القومي داخل محور المقاومة يشتد عود المحور، ويستفيد الجميع وحينها تمثّل قطب الرّحى الذي قد يدور حوله مشروع البحار الخمسة،وحينها أيضا يمكن حسم حالة التردد التركي بين مشرقية تركيا وأوروبيتها مرة وإلى الأبد. ويمكن أن نذهب بعيدا بالقول أن من مصلحة الجميع أن تمثّل سورية المشروع القومي. لذا فإن كل محاولات ضرب إسفين بين الدولة السورية والمشروع القومي يهدد المنطقة بأسرها ويضر بمصالح الجميع. فمن كان يعتقد أن أمريكا ستترك الحبل على غارب لإيران فهوواهم، ومن كان يعتقد أن تركيا بعيدة عن النار التي أشعلتها فهوواهم، ومن كان يعتقد أن إمكانية اللقاء مستحيلة بعد كل هذا فهوأيضا واهم. لكن على أي أسس نلتقي؟؟؟

 

للقارئ أن يلاحظ التركيز في النهاية على ثلاثة قوميات مختلفة في مشروع البحار الخمسة وهم العرب والأتراك والفرس وذلك لأنها تمثّل مثلث القوة الإقليمي في المشروع ككل. فإذا أضفنا لهذا تقسيم ماكيندر حول مناطق الارتطام بين القوى البرية والقوى البحرية نجد أن مشروع البحار الخمسة في قلب منطقة الارتطام، وأن هذه المنطقة بالذات شهدت أهم الانقلابات الجيوسياسية حين توحّدت الأمة العربية بقيادة العرب المسلمين فقهرت كل قوى البر والبحر حينها. فلتحديد الأساس الذي يمكن للمشروع القومي العربي أن يلتقي عليه مع كل من تركيا وإيران لا بدّ بداية من تحديد طبيعة كل أمة.

 

فأما إيران فقد مثّلت بحكم موقعها نقطة تنافس حيوي بين القوى البرية (روسيا) والبحرية (بريطانيا ثم أمريكا إلى حد ما) للسيطرة على آسيا الصغرى جعل منها تعتمد سياسة المضاربة -فرضا لا طوعا- بين القوى الكبرى وذلك منذ اتفاق تقاسم النفود عليها في مطلع القرن العشرين بين روسيا وبريطانيا. أما تركيا التي أضاعت المشية بين المشيتين وهي المقبولة ناتويا والمرفوضة أوروبيا والمترددة في انتمائها، هي نفسها التي حارب الغرب تمددها ومنع الغرب سقوطها المدوّي عديد المرّات. كل هذا يعني أن الساحة ملأى بمتغيرّات لا متعيّنة تحمل المعنى ونقيضه، ويعني أيضا أنّ ما يساعد على تعيين كل المتغيرات في الساحة هوبروز مشروع قومي عربي يتعاطى مع بقية القوى على أساس الجيواستراتيجيا. ويعني أيضا أن القوى الإقليمية حين تتعاطى مع القوى القومية الموجودة في الساحة لا تتعاطى مع مجموعات وتنظيمات بقدر ما تتعاطى مع قوة الجغرافيا من ورائهم ما يجعل الحديث بينهم حديث الند للند.

 

 

ناصر السعيد … صاحب أول “لا” في وجه آل سعود

 

نسرين الصغير

 

ولد ناصر السعيد في مدينة حائل شمال وسط الجزيرة العربية عام 1923.  بدأ حياته العملية في الظهران التي تقع في الجزء الشرقي من بلاد الحجاز بالقرب من ساحل الخليج، والتي تبعد مسافة قليلة عن جنوب الدمام. عام 1947 بدأ العمل في شركة آرامكولاستخراج النفط، وعاش حينها فترة مع العمال السعوديين وتعرف الى ظروفهم الصعبة، وكان متمرداً على الإستبداد، فنظّم سلسلة من الإضرابات للمطالبة بتحسين ظروف العيش للعمال.  وفي عام 1953، أي بعد احتلال فلسطين بخمسة أعوام، بدأ حراك ناصر السياسي،مطلقاً انتفاضة عمال لدعم فلسطين، فتم اعتقاله على إثرها وقامت السلطات بترحيله من الظهران إلى العديد.  بعد الإفراج عنه ألقى ناصر السعيد خطاباً وكان ذلك بحضور الملك سعود وفي منتصف الخطاب صرخ الملك سعود:(كفى كفى أنتم مجرمين أنتم مجرمين أنتم مفسدين) ولم يدعه يكمل خطابه، وتلا الآية القرآنية كإيذان بقتله: (إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أويصلبوا أوتقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أوينفوا من الأرض)، لكن لم يكترث ناصر السعيد لمقاطعة الملك واستمر في قراءة كلمته وبقي يرفع صوته متجاهلاً قول الملك، وقد تضمن خطابه حينها مقطعاً عن شركة آرامكوالتي وصفها بالإستعماريةحين قال:

 

”ولهذا فقد شردنا وعذبنا وسرحنا من العمل، حتى أن العمال قد سجنوا سجنا جماعيا خلف الأسوار الشائكة في وهج الشمس المحرقة وقطع عنهم الماء ومنع الطعام، ثم سمح لهم أخيرا بالطعام، ولكنه طعام سم يا سعود. هل تصدق؟ لقد وضع لهم السم في طعام هذا المطعم المسمي بمطعم أبوربع ريال ومات سبعة عشر من العمال، وقد أسعف الباقون بغسيل بطونهم،وادعت الشركة الاستعمارية أرامكو أنه حدث لهم تسمم غير مقصود لأن قدور الطعام غير نظيفة، ولكنه تأكد من أقوال أحد الأطباء الفلسطينيين الذين يعملون في الشركة نفسها وكشفوا ضمن الأطباء على حالة العمال المصابين أن التسمم حادث عن طريق سم حقيقي عثروا علي بقيته، وقد ثبت هذا، وأنا على أتم الاستعداد أن أثبت لكم ما أقول“.

 

كانت تربط ناصر السعيد علاقة قوية بالضابط محمد الذيب، رئيس حرس الملك الخاص الذي اغتاله آل فهد عام 1959 في ألمانيا الغربية، وكانت لهما عدة لقاءات في الظهران وفي الرياض وقد تم بعضها في بيت الشهيد عبد الرحمن الشمراني، وقد صدر قرار بقتل ناصر السعيد ليلة 11\06\1956 وأخبر الذيب صديقه ناصر السعيد بضرورة الإختفاء عن العيون وأخذ الحيطة واضطر إلى الإختفاء حتى يوم 18\06\1956.

 

في 18\06\1956 بدأت معارضة ناصر السعيد لآل سعود من أرض مصر العروبة التي سارت على خطى التحرربقيادة الرئيس القومي العربي جمال عبد الناصر. أشرف ناصر السعيد على البرامج الإذاعية المعارضة لآل سعود والتي كانت تبث على إذاعة صوت العرب التي يسمعها وينتظرها معظم العرب في شتى الأقطار وبقي في مصر بحماية الرئيس جمال عبد الناصر.  انتقل ناصر السعيد من القطر المصري إلى اليمن وأنشأ مكتباً للمعارضة، والتقى هناك مع المعارض السعودي عبد الكريم القحطانيوقد اشتركا لاحقا في تأسيس تنظيم اتحاد شعب الجزيرة من القاهرة منتصف الستينيات.

 

تنقل ناصر السعيد بين العواصم العربية مثل دمشق والقاهرة وصنعاء إلى أن توفي الرئيس جمال عبد الناصر، وهنا غادرالقاهرة لبيروت،وفي 17 كانون الأول 1979 نال آل السعود ما كانوا يطمحونإليه وخلال سير ناصر السعيد في شوارع بيروت في منطقة الجامعة العربية بين مكتبين لأحد قيادات حركة فتحاختفى ناصر السعيد وأصبح مصيره مجهولا للجميع: هل مازال على قيد الحياة أم تمت تصفيته أم تسليمه لآل سعود؟!!.

 

كان ناصر السعيد قومياً عربياً يسعى لإسقاط حكم آل سعود في الجزيرة العربية لكنهيطرح أيضاً برنامجاً يتضمن عدة مطالب من ضمنها:

  • الإصلاح التشريعي، وإصلاح اقتصادي وعمالي وتعميري.
  • الإصلاح المادي في الصناعة والزراعة والبنية الأساسية التحتية، التنمية البشرية، والنهوض بالمواطن السعودي، والتركيز على تعليم المرأة ووجوب التجنيد وتحضير البادية والريف.
  • لم يكتف ناصر السعيد بالإصلاح الداخلي، وإنما التفت الى إصلاح السياسة الخارجية للمملكة، فطالب ليس فقط بالابتعاد عن التبعية لأمريكا، بل بالتمسك بسياسة الحياد الايجابي والسير في قافلة التحرر العربي (بقيادة جمال عبد الناصر، وتجنب مبدأ ايزنهاور اللعين، وعدم التدخل في شؤون البلاد الاخرىوالتواصل معها اقتصاديا وسياسيا بما فيها الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية وبقية الدول الشرقية الاخرى).

 

لناصر عدة مؤلفات أدبية من ضمنها:

تاريخ آل سعود

 

وإليكم مقتطفاً من ذلك الكتاب:

فيصل وفتوحات.  1:استولى فيصل على أراضي (شبرا) في مكة، وتمتاز بموقعها وارتفاع أثمانها، فقسمها وباعها لحسابه وأصدر قبل بيعها أمرا يحذر فيه اصحاب الاراضي في مكة من بيع أراضيهم قبل أن يبيع الفيصل أراضيه المغتصبة…

:2 سبق لفيصل أن أصدر أوامره بأن لا يدخل أحد الى منطقة (سجا) وهي مساحة برية تزيد على المائتي كم، ليجعل منها (حمى) له يحميه من كل عابر سبيل وليوفر فيه العشب لإبله وأغنامه وليخرج بين حين وآخر ليصطاد الغزلان البرية وطيور الحبارى.

-يتشدق آل سعود بالصلة النبوية المحمدية، وبأنهم من قبيلة عنزة العربيّة، وذلك لتغطية مؤامرتهم على الأمّة، وعلى أصلهم اليهودي المنحدر من بنى قينقاع، ذلك البطن من اليهود الذين ساهموا بدهائهم وأموالهم ورجالهم الأجراء في هزيمة الرّسول، وإصابته بجروح في معركة أحد، هذا إلى جانب حصار الماء الشّهير حيث كانت الرأسمالية اليهودية تسيطر على كل آبار المدينة عندما منعوا النبي وقومه من الشّرب، مما جعله صلى الله عليه وسلّم يطلب من عثمان بن عفان أن يشتري منهم نصف البئر لتشرب العرب ولينهي حصارهم …!! وما طرق اليهود الخبيثة الأولى والحالية إلا نفس الطرق الخبيثة التي يسلكها سليلوبني قينقاع عائلة آل سعود …!!

ومن كتبه الأخرى:

  • حقائق عن القهر السعودي
  • نهاية طاغية
  • عالم الملوك
  • كنت في مملكة الحريم
  • قتل الشيعة في أقذر شريعة

 

كان ناصر السعيد بعيد النظر وقالها: لا، ولم يهَب سيف الملك، ولم يكترث لتهديداته، وذهب ملك وجاء آخر وبقي تاريخ آل سعود كما عرفه ناصر السعيد، لا بل وأكثر.

ماذا كان سيفعل ناصر لو أنه مازال بين ظهرانينا حيث الربيع الذي تفتح على خراب وعاصفة تُدعى الحزم ودور المملكة العربية في تدمير الوطن العربي ؟؟

 

ستبقى روح ناصر السعيد تلعن من اغتالها.

 

 

شعر العامّية الملتزم بقضايا الأمة : عبد الرحمن الأبنودي نموذجاً

طالب جميل

 

يعتبر الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي أحد أهم شعراء العامّية في الوطن العربي عموماُ وفي مصر بشكل خاص وصاحب مدرسة متميزة في هذا المجال.  فقد استطاع بكلماته البسيطة الولوج إلى قلوب الناس من خلال قدرته الفذة على صناعة ونحت كلمات جميلة ومعبّرة كانت لها القدرة على البقاء لسنوات طويلة في ذاكرة المصريين والعرب.  فهوالذي أبدع أجمل الكلمات لكبار المطربين مثل عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة ومحمد رشدي ووردة الجزائرية وشادية ومحمد حمام ومحمد منير وعلي الحجار وصباح، وهوالشاعر الذي يتمتع بمواصفات خاصة وله شعبية كبيرة في كافة أنحاء الوطن العربي، وهوالعازف البارع على ناي الشعر الجميل، والصعيدي الذي ما ملّ يوماً من عشق الوطن والأرض والتغني بالريف والفلاح البسيط، ويقترن اسمه دائماُ بأهم شعراء العامية في مصر ويتم ذكره مع أسماء كبيرة مثل صلاح جاهين وفؤاد حداد ومجدي نجيب وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وغيرهم من شعراء العامّية في مصر، وتلقى تجربة الأبنودي الشعرية كثير من الإشادة والاحترام في مصر وفي أنحاء الوطن العربي.

 

الخال عبد الرحمن الأبنودي – كما كان يحب أن يناديه كثير من أصدقائه في مصر – ولد في عام 1938 في قرية (أبنود) بمحافظة (قنا) في صعيد مصر، وقد تربى تربية تراثية خالصة وتعامل مع التراث الشعبي الذي استمده من أمهات الكتب القديمة عبر مشايخ المساجد والمتخصصين برواية الأدب الشعبي الشفهي الذين تتلمذ على أيديهم.

 

عاش الأبنودي حياة قاسية في طفولته وكان يرعى الغنم مما أتاح له تأمل صفاء الدنيا كلها ومراقبة الطبيعة والفصول، وفي مراحل التعليم الدراسي قرأ الكثير من الشعر وازدادت معرفته بالكثير من الشعراء العظّام مثل المتنبي وأبوالعلاء المعري، ثم انتقل الأبنودي مع والده إلى مدينة (قنا) وأكمل تعليمه حتى وصل إلى إتمام المرحلة الثانوية وبعدها بحث له عن عمل وكان في ذلك الوقت قد تعرّف بالشاعر أمل دنقل والقاص يحيى الطاهر عبد الله حيث بدؤوا يتبارون بالكتابة والقراءة على نحويثير الدهشة.

 

بعد ذلك عيّن الأبنودي كاتبا في محكمة (إسنا) وهي إحدى مراكز محافظة (قنا) وكان الأبنودي مشاكساً باعتباره مثقفاً من نوع خاص ونتيجة لذلك نقله (الباشكاتب)، أي رئيسه في العمل، إلى مدينة (قوص) كعقاب له وكتب الأبنودي يهجو(الباشكاتب): بقى حتة باشكاتبمفعوص ينقلني من إسنالقوص…

 

نتيجة لهذه الحادثة قرر الأبنودي منذ ذلك اليوم أن يهجر الوظائف الحكومية ويتفرغ للشعر.

 

وللأبنودي موقف سياسي صلب وحاد في كثير من الأحيان، فهويعتبر نفسه من الجيل الذي أدرك معنى المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثي في بور سعيد، وتحسس ألم الهزيمة في حزيران 1967، حيث غنى لبيوت السويس وشارك بفرح وفخر في ملحمة استرجاع النهار في حرب تشرين، وكان من الذين حاولوا رسم معنى جديداً للأمل والإيمان بالمستقبل في تلك الفترة.

 

كان لموقف الأبنودي السياسي وكلماته الصادقة المعبرة عن هذا الموقف تأثيرٌ كبيرٌ على الجماهير في بعض المراحل السياسية الحساسة التي مرت بها الأمة حيث لم يبلغ شاعر تلك القمة التي اعتلاها الأبنودي في تلك الأهزوجة الحزينة المغسولة بدموع  القهر ورفض الركوع أهزوجة (موال النهار) التي يقول في أحد مقاطعها:

وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها

جاها النهار ما قدرش يدفع مهرها ..

 

إلى آخر الأبيات التي لخصت أحزان أمة بأسرها ترثي أحلامها ولكنها تعلن أنها قادرة على تجاوز المحنة وقد كتبها الأبنودي وغناها عبد الحليم حافظ أعقاب هزيمة 1967، كما يتجلى موقفه السياسي ايضاً في ديوانه الشهير (الموت على الإسفلت) الذي كتبه الأبنودي في رثاء رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهيد ناجي العلي وحاول من خلاله التأكيد على موقفه المبدئي الرافض للوجود الصهيوني وتمجيد القدس والتغني بفلسطين (الأمة والأرض)، الشهداء وأطفال الحجارة.

 

لقد عمل الأبنودي على التنويع في مجالات الإبداع التي تناولها ليشمل عدة أجناس أدبية كالقصيدة والأغنية والسرد الدرامي والسيرة الشعبية بالإضافة إلى كتابة اليوميات والمقالات الصحفية، وهذا يؤكد أن الأبنودي شاعر فذ وخلطة فريدة اجتمعت فيها الوطنية والانتماء مع الثقافة وحب البشر وطين الأرض وعشق الحرية والجمال والكرامة والصعيدية المقاومة والهام الشعراء وبراعة الكلمة والصورة.

 

وهناك شبه إجماع لدى كثير من النقّاد على قيمة الأبنودي الشعرية والفنية والقومية لذلك يعتبره البعض عازفاً أساسياً في الأوركسترا الشعرية التي نقلت الكتابة بالعامية من طور الزجّل إلى طور الشعر الحديث، وهوالذي ساهم بانتقال الأغنية الشعبية إلى طور أكثر بساطة واكبر التصاقا بحياة الناس وكفاحهم اليومي من اجل العيش الكريم.

 

عموماً فإن خطاب الأبنودي الشعري الذي يعبر عنه باللهجة العامية لم يكن في يوم من الأيام حاجزا يمنع وصول كلماته إلى كل الناس، حيث أصبحت عاميته ولهجته المحلية تعبر الحدود القطرية ويستجيب إليها الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، لا لشيء إلا لأنها أخلصت لنشأتها المحلية وغاصت في تراب ميراثها النوعي إلى أن عثرت على الجذر المشترك بين العرب جمعياً.

 

لقد ساهم الأبنودي مع معاصريه من الشعراء المصريين في تأسيس حركة أدبية متميزة برزت فيها اللهجة العامية والتاريخ الشفهي حيث له عدد من الدراسات الأدبية في هذا المجال، ويعمل منذ أكثر من ثلاثين عام على جمع سيرة بني هلال الملحمة العربية التي تعتبر من أهم مشاريعه الأدبية والتي يعتبرها إلياذة الشعب العربي.

 

توفي الأبنودي قبل عدة أيام بعد معاناة مع المرض تاركاً خلفه إرثاُ شعرياً كبيراً منشور في عدة دواوين شعرية أبرزها ديوان (الأرض والعيال) سنة 1964، و(الزحمة) سنة 1967، و(عماليات) سنة 1968، و(الفصول) سنة 1970، و(جوابات حراجى القط) سنة 1972، و(أنا والناس) سنة 1973، و(المشروع والممنوع) سنة 1979، و(الموت على الإسفلت) سنة 1988،  و(الأحزان العادية) سنة 1999 بالإضافة إلى تجميع سيرة بني هلال في خمسة أجزاء بين عامي 1988-1991 وكتابته عن تجربته وسيرته الذاتية (أيامي الحلوة) سنة 2002.

 

إذا..IF

معاوية موسى

أجمل ما في بعض القصائد أوالأعمال الفنية هوقدرتها على أن تجعلنا نقرأ ذواتنا، أوتلك التي تستطيع ان تُلحق بك الدهشة، أوالتي تسيطر عليك فتتحول إلى جزء من حياتك أولنقل تغّير حياتك.

هذا هوحال قصيدة “إذا” للشاعر والروائي الإنجليزي روديارد كبلينغ كواحدة من القصائد الملهمة والخالدة التي لا تموت.

 

روديارد كبلينغ هوكاتب وشاعر وقاص بريطاني ولد في “الهند البريطانية” سنة 1865 وتوفي سنة 1936 في لندن .  ألّف عديد القصائد والقصص حصل من خلالها على عدّة جوائز عالمية ومن أهمّ مؤلّفاته “كتاب الأدغال”، كما ألف العديد من القصص القصيرة، منها “الرجل الذي أصبح ملكا” 1888، وله العديد من القصائد، مثل: “قصيدة مندالي” 1890 و”قصيدة چانجا دين” 1890 وقصيدة “إذا”.

على الرغم من غزارة إنتاجه كمّا وتميزه نوعا، وشهرة الكثير من الأعمال الأدبية والقصائد التي قدّمها كقصيدته التي يقول فيها: “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”، وقصيدة “فظي- وظي” Fuzzy- Wazzy”، وهوالاسم الذي أطلقه على محاربي إحدى القبائل في شرق السودان نسبة لكثافة شعرهم، ووصفهم فيها بأنهم أشجع المحاربين، إلا أن قصيدته “إذا” تعتبر من عيون شعره وهي الأشهر على الإطلاق، لا بل هي من كلاسيكيات وروائع الأدب العالمي، كفاوست لجوته الألماني والأرض اليباب لمواطنهِ ت.س.إليوت.

لم تكن قصيدة كبلينغ ذائعة الصيت لتقدم بعدا جماليا أوغامضا، إلا أنها علقت في الذاكرة الإنسانية لسلاسة أسلوبها وجمال نظمها، لاسيما وهي تدعوإلى عدم اليأس والركون إلى الانهزامية، وتحث على النهوض من جديد، وتختصر قيم الرجولة والشجاعة الموجودة لدى كل شعوب الأرض وفي كل العصور.

يتحدث كبلينغ في قصيدته عن الاختيار ولا يتحدث عن القدر، بمعنى أن نتمكن من فرض قدرنا على أنفسنا، وأن نعيش باختيارنا كما نشاء وكما نريد، فلا نتحجج بالقدر أوسوء الطالع أوعثرات الحظ.

يختلق الشاعر حوارا بينه وبين ابنه بصيغة الناصح الأب المترفّق بالنصح على نحويمكن القول أن “إذا” “رابط الشرطية” تندرج في إطار الشعر التعليمي والرسالة الموجهة والمباشرة. كبلينغ في قصيدته يريد للخيارات ألا تنتهي وأن تكون خيارات المعتدل المتوسط الباحث عن الحقيقة لا الذهب.

يعتبر كبلينغ واحداً من أكثرالشعراء إثارة للجدل والتباين في التقييم حتى الوقت الحاضر؛ ففي الوقت الذي عدّه البعض ممثلاً للنزعة الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية و”نبياً للإمبريالية البريطانية”، كما أسماه جورج أورويل (الذي لم يخفِ لاحقا احترامه البالغ لكبلينغ ولأعماله)، وضعه نقاد وكتاب آخرون في طليعة أبناء جيله، فوصفه هنري جيمس (على سبيل المثال) بأنه “واحد من أكثر العبقريات كمالاً”، طبقا لموسوعة ويكيبيديا.

لم يكن أورويل على ما يبدويرى في كبلينغ حالة متقدمة، بل ربما نظر إليه على أنه يتعامل إلى حد كبير بالنمطية والأفكار العادية، وحيث أننا نعيش في عالم من الأفكار العادية، فإن قسماً كبيراً مما قاله علِق في أذهان الناس. والواقع أن أورويل مصيب ومخطئ معاً، فصحيح أن القصيدة يمكن أن تحتوي على بعض الأفكار العادية في عدد من المواقع، إلا أن من المثمر دائماً أن نلقي عليها نظرة أخرى.

وبعيدا عن طرح سؤال “هل ينبغي إحراق كبلينغ؟”، تجدر الإشارة إلى أن جورج اورويل نفسه، والذي بدأ حياته تروتسكياً، كان قد شارك بالحرب الإسبانية ضد الفاشية إلى جانب كثر من المثقفين الثوريين اليساريين والاشتراكيين، وأصيب برقبته في تلك الحرب التي كتب عنها مذكرات شهيرة، ليصبح لاحقا عميلا للمخابرات البريطانية، وتعتبر مواده، في مرحلة الحرب الباردة وما قبلها بقليل، مثل قصة “مزرعة الحيوانات”، من الأدبيات الأساسية التي تمّ تدريسها للطلبة في العالم للتحريض على دول المنظومة الاشتراكية، فالأخ الكبير مثلا هوستالين.  كذلك هناك رواية1984 وهي من أشهر رواياته الخيالية، وتعتبر أيضا أطروحة ضد الدولة الاشتراكية.

إن قصيدة “إذا” لا يمكن فصلها بأي حال عن المدرسة الرواقية، على الرغم من أن كبلينغ نفسه لم يكن رواقيا، ولا أظن أنه كان بهذا الوعي الفلسفي، وقد كان روائياً أكثر منه شاعراً، ولكن القصيدة بموضعها التاريخي، الحقبة التاريخية الاستعمارية الإنكليزية، كانت بحاجة لتلك الروح، الروح “الذكورية” أومفردات الرجولة، الشجاعة، رباطة الجأش، عدم الركوع، إلخ… خصوصا مع بداية توتر الأجواء في اوروبا والعالم، ومع إهتراء النظام العالمي آنذاك (أول عشرين سنة من القرن العشرين).  لهذا فإن القصيدة تصرّ على استفزاز المكامن الفردية – الذكورية (داخل الذكر والأنثى على حد سواء) وعبر استعارات “عالمية” أو”إنسانية” غير وطنية أوقومية.. بل تستحضر هوية الإنسان البحت، أي بطريقة الفرد “النزعة الفردية”،: كل شخص لوحده وبمفرده يثبت وجوده، تماما مثل القائد العسكري المقصود بالقصيدة الذي من المفترض أنه قاد معركة فحقق نصرا مؤزرا .

يقول كبلينغ:
إذا (IF)(1)

 

 

إذا استطعت ان تحتفظ برباطة

جأشك بعدما يفقد من هم حولك

عقولهم وينحون عليك باللائمة

إذا وثقت من نفسك حين يشك فيك

الجميع ومع ذلك بقيت مدركاً لشكهم دون أن ينال منك…

 

 

إذا كنت تستطيع الانتظار دون أن تتعب

وإذا رفضت تداول الأكاذيب ولوتقوّل الناس عليك

وإذا تعرضت للكراهية ولم تفسح لها مجالاً في نفسك

وإذا استطعت، مع ذلك، أن لا تتغطرس أوتتشدق بالحكمة

إذا استطعت أن تحلم دون ان تجعل من الأحلام سيدك

وإذا استطعت أن تفكر دون أن تجعل من الأفكار هدفك

إذا استطعت أن تقابل النصر والكارثة

وأن تعامل هذين الدجالين سواسية

إذا كنت تحتمل سماع الحقيقة التي تفوهت بها

يلوي عنقها محتالون لينصبوا فخاً للمغفلين

أوأن ترى الأشياء التي وهبتها حياتك محطمة

وأن تنحني لتعيد بناءها بأدوات مهترئة

 

 

إذا استطعت أن تجعل من كل مكاسبك كومةً واحدة

لتخاطر بها بضربة واحدة 

وأن تفقدها لتبدأ مجدداً عند بداياتك

دون أن تنبس ببنت شفة عن خسارتك

إذا استطعت أن تجبر قلبك وأعصابك وأوتارك

أن تخدم هدفك بعد أمدٍ من ذهابها

وأن تتماسك بعد أن لا يبقى فيك شيء

إلا الإرادة التي تقول لأجزائك المتداعية: “تماسكي”!

 

 

إذا استطعت أن تخاطب الحشود دون التخلي عن استقامتك

وأن تسير مع الملوك فلا تضيع صلتك بالناس

وإذا لم يستطع أعداؤك ولا أصدقاؤك المحبون أن يؤذوك

وإذا كان كل الناس مقدرون عندك، دون أن تمنح أياً منهم أكثر مما يجب

وإذا استطعت أن تملأ الدقيقة التي لا ترحم

مقدار ستين ثانية من الزخم

فإن الأرض وكل ما فيها سيكونان لك

والأهم، أنك ستكون رجلاً يا بني!

(1) علوش،إبراهيم/ “الشعر البديل،قراءة في المسكوت عنه”: ترجمة القصيدة للدكتور إبراهيم علوش.

(2) رابط للاستماع الى القصيدة:
http://www.youtube.com/watch?v=tK4HDCIr_E8

 

مدينة عربية: قرطاج

علي بابل

كثيرة هي المدن التي خلدت اسمها في التاريخ، لكن “قرت حدشت” أصبحت المدينة الأسطورة التي انتصرت على أعدائها بإنسانها العربي الفينيقي الذي أبحر عبر بحار الظلمات، ناشراً الحضارة أينما حطّت سفنه.
قرطاجة المدينة الإنسان التي تقع الآن في تونس الخضراء، أسستها الملكة الفينيقية “أليسار” أو”عليسة” بعد أن قدمت من مدينة صور الفينيقية عازمة على نشر حضارة أجدادها على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط في سنة 814 ق.م لتصبح مركز شمال أفريقية وملتقى شرق الوطن العربي وغربه. قرطاجة إحدى أهم المدن في عصرها تجارياً وعسكرياً، لم تكن مغامرة أوقصة أسطورية، بل هي الحقيقة والتمدن الذي سطّر كل الأساطير.

تميزت مدينة قرطاجة عن غيرها من المدن الساحلية بمينائها الدائري الضخم السابق لعصره، هندسة الميناء كانت عبقرية في ذلك العصر بحيث كان الميناء يحوي ميناء داخل ميناء محمي بمنارة داخلية مشرفة على الميناء بشكل كامل رغم وجود أكثر من 200 سفينة حربية في الميناء، كان الدخول والخروج من الميناء سهل وسريع بسبب هندسة الميناء الذكية والمتطورة. شكّل الميناء قاعدة بحرية عسكرية وتجارية للمدينة، ليكون أحد أهم العوامل التي سمحت للمدينة بالسيطرة على كامل البحر الأبيض المتوسط لعدة قرون.

مدينة الأمل المكتظة بالسكان كيّفت نفسها هندسياً لكي تستطيع استيعاب عدد السكان الضخم في المدينة، من خلال اللجوء إلى بناء البيوت من عدة طبقات متماسكة وصلت في بعض الأبنية السكانية لأربعة أوخمسة طوابق!!!!

من الواضح لكل دارس للآثار والتاريخ القديم أن قرطاجة كانت تعتمد نظام تصريف متطور جداً للمياه بحيث احتوى كل منزل قرطاجي حمام خاص به أواثنين، وممرات مائية حديثة بعضها حُفر بالصخر داخل أحياء المدينة بحيث تصل المياه لكل المنازل بشكل سلس وتخرج منه إلى شبكة التصريف الرئيسية في المدينة.

كما أشتهر أهل قرطاجة بحبهم للبحر واحترافهم مهنة التجارة عبر البحار كما كان أسلافهم الفينيقيون، ومن أشهر بحارتها الأدميرال “هانو”، الذي فرض سيطرة قرطاج على كل البحر الأبيض، والذي استطاع أن يفرض قوة قرطاج عن طريق بناء المستعمرات الإستراتيجية في البحر الأبيض في جزر صقلية، سردينيا، وجزر البليار وصولاً إلى شبه الجزيرة الإيبرية والمستعمرة الفينيقية الأقدم في الغرب “قادش”، ورفدها بالسكان الجدد.
اتفق أغلب علماء الآثار، والتاريخ والجغرافيا، على أن هانوالقرطاجي سبق “فاسكوديغاما” و”كولومبوس” في الوصول إلى المحيط الهادي والقارة الجديدة، والكثير من الأراضي في القارة الأفريقية، لقد كان بحقّ أدميرال البحار.
نقل القرطاجيون معهم من وطنهم الأم “صور” لغتهم الأم وأحرفها، وتاريخهم الشرقي، ومعتقداتهم الدينية من آلهة وطقوس، وكان الإله “بعل” كبير المدينة لعدة قرون، و”تانيت” آلهة الخصب، و”عشتارت” وغيرهم من الآلهة الكنعانية التي منحت المدينة الحماية والخصب والأمل.
هملقار بن برقة، حنبعل بن هملقار، ماجو، صدر بعل، ماهر بعل، من هؤلاء القادة أخذت قرطاج شهرتها العسكرية التي وصلت إلى قمم جبال الألب التي عبرها جيش حنبعل لإخضاع روما وحصارها وكسر جبروتها وإعطاب هذه “الماكنة” المنتجة للعبيد لا الحضارة.

 

خاضت قرطاج ثلاث حروب رئيسية في تاريخها الطويل سُميت بالحروب القرطاجية أوكما تُلفظ باللاتينية: “البونية”، وهي حروب اشتعلت بين روما من جهة وقرطاجة من جهة أخرى، شارك فيها حلفاء المدينتين من أفارقة وعرب ويونانيين، إلخ….

حزينة هي قرطاجة فمن حرب إلى حرب، ومن خيانة إلى خيانة كان حلفاؤها وبعضٌ من أبنائها يحفرون قبر قرطاج من حيث يعلمون أولا يعلمون. أليسار أوالملكة “ديدون” لم تكن هناك في قرطاج عند دمارهاعلى يد الرومان بقيادة “سكيبو”.  في العام 146 ق.م، ضاعت قرطاج بعد حصار دام ثلاث سنوات، سطّر فيها أهل المدينة صموداً أسطورياً لم ينتهي إلا برحيلهم جميعاً واقفين أمام جبروت روما البربرية.

حنبعل بن برقة أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخ صاحب معارك “ترازامين” و”وتريبيا” ومعركته الأشهر عبر التاريخ، معركة “كاناي”، أومجزرة الرومان الأشهر والأكثر دموية في التاريخ القديم، سطّر فيهاالقرطاجيون برفقة الخيالة النوميدين أجمل صورة للعسكري الذكي والشجاع في آنٍ معاً. لقد كتب حنبعل تاريخه وتاريخ قرطاجة بالدم، لم يركع كما بقيت قرطاجة صامدة حتى الرحيل الأخير.

من هضبة “بيرصا” في قرطاج إلى سهل كاناي قرب روما صنعالقرطاجيون تاريخهم بكل فخر وحضارة، بقوة الإنسان العربي، إنسان الحضارة الذي يحاول الغربيون محوتاريخه المجيد وتحويله إلى تاريخ معزول عن الحضارة مفكك، حتى سفن المدينة الحديثة التي شكلت ثورة في عالم الإبحار نسبوها لغيرهم، أدبهم، مدنهم، حتى الإنسان حرق في ليلة ظلماء لم يرى فيها ضوء ألهة القمر “سين”. قرطاج دُمرت بعد دمار وطنهم الأم في الشرق على يد الفرس واليونانيين، فلم يكن أمام قرطاج سوى الصمود أوالموت. إنها الحرب لا مجال فيها إلا للإنتصار أوالموت.

 

قصيدة العدد: “في المغرب العربي”/ بدر شاكر السياب

 

 


Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *