Qawmi

Just another WordPress site


إبراهيم حرشاوي


الحراك الوطني الذي اعقب الحكم على بعض القيادة الليبية السابقة بالاعدام من طرف محكمة في طرابلس  تسيطر عليها جماعات اسلامية متطرفة لفت انظار المتتبعين للشأن الليبي سواء من حيث انتشاره الجغرافي او من حيث خطابه السياسي.  فعلى المستوى الجغرافي شهدت قرى ومدن مترامية الاطراف وقفات ومسيرات منددة  بالحكم، شملت كل القبائل الليبية ذات الوزن الديموغرافي الثقيل مثل المقارحة وورفلة وترهونة، كما شهدت مدن تسيطر عليها داعش وأخواتها مثل سرت وبنغازي حراكا مماثلا.  أما على المستوى السياسي فقد ظهر العلم الاخضر الذي يرمز للعقيدة السياسية للنظام السابق، بحيث اثبت هذا التيار أنه لا يزال قويا في الداخل وأن له قدرة لا باس بها لتعبئة انصاره برغم عدوان حلف الناتو ومحاولة الحكومات الجديدة اجتثاثه بقانون العزل السياسي والملاحقة الامنية التي يتعرض له محليا ودوليا.

بالنسبة للسياق الليبي الداخلي، فقد جاءت الاحكام في ظروف أزمة متراكمة كنتيجة لانهيار الدولة الوطنية وتفشي الفساد والإرهاب والتهجير (ثلث الشعب الليبي مهجر) والتسيب القانوني.  واغتنم  طيف كبير من الليبيين فرصة الاحتجاج على الاحكام لإبراز ضرورة استرجاع  سيادة واستقرار ليبيا بعد الدعوة التي اطلقها “التيار الأخضر” بمختلف تركيباته السياسية للانتفاضة ضد الدولة الفاشلة.  ونشير هنا إلى تزامن الحراك مع توقيع اتفاقية الصخيرات في المغرب الذي جمع أطرافا سياسية ليبرالية وميليشيات اسلامية متناحرة على كعكة  “ربيع 17 فبراير”، مما يعني أن الحوار الاخير بعيد كل البعد عن أن يكون حواراً وطنياً بكل ما تعنيه كلمة وطني من معنى كونه أقصى مكونات قبلية وسياسية مهمة من الليبيين وبالأخص “التيار الأخضر” الذي وقف في وجه الناتو وثواره سنة 2011.  ولا يُستبعد تدخل حلف الناتو بشكل مباشر او غير مباشر مجددا حال صعود “التيار الأخضر” شعبيا وعسكريا عبر تشكيلات تنشط تحت اسم “جيش القبائل” المتكونة من عناصر تابعة للجيش الوطني السابق ومن ابناء القبائل الرئيسية التي ذكرت أعلاه.

الأهم هنا التذكير بأن استهداف ليبيا سنة 2011 اندرج تحت اطار اجهاض التوجه التحرري في القارة الافريقية والعالم الثالث لهذا التيار السياسي المتجسد في القيادة الليبية السابقة.  أخذ هذا التوجه منحىً خطيرا في العقد الاخير بالنسبة لمصالح الدول الغربية.  وتمثل هذا عربيا ومتوسطيا في معارضة ورفض “مبادرة السلام العربية” تحت اشراف المملكة العربية السعودية ودعم المقاومة الفلسطينية والعراقية سياسيا وعسكريا، كما  لم تغفر فرنسا مقاطعة العقيد الراحل معمر القذافي لـ “الاتحاد من أجل المتوسط” الذي طرحته لتوسيع نفوذها في الضفة الجنوبية للبحر الابيض المتوسط.  أما في القارة الافريقية فقد أخذت سياسة ليبيا طابعا مناهضا للمصالح الغربية من خلال استثمار عائدات النفط تنموياً – عكس البترودولار الخارج عن القرار الوطني المستقل كما هو الحال في دول الخليج العربي-  في مشاريع استراتيجية وبعيدة المدى مثل تأسيس شبكة اتصالات بالأقمار الصناعية كان يمكن أن تحرر افريقيا من التبعية للأقمار الصناعية الغربية، بالاضافة الى الاسهامات الليبية الضخمة  في البنك الافريقي للتنمية وصندوق النقد الافريقي مما كان بمثابة اعلان حرب على المؤسسات الراعية للمنظومة الرأسمالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.


من جهة اخرى زاد الاحتدام  بين هذا الطرح العالم الثالثي والغرب عسكريا. وتجلى ذلك في الدور الليبي في معارضة المشروع العسكري الامريكي بأفريقيا الذي تمثله “القيادة العسكرية الامريكية لقارة افريقيا” وإطلاق ليبيا مبادرة “الساتو” بسنة 2009 مع دولة فنزويلا، التي تتبنى مشاريع مماثلة في امريكا اللاتينية، ليكون مناهضا لحلف الناتو بجنوب الاطلسي وذراعا حاميا للدول العالم الثالث الساعية للالتحاق بقطار الحداثة والتنمية الاقتصادية بشكل لا يخضع الى منطق التبعية للغرب.


يمكن اذن اعتبار عدوان سنة 2011 على ليبيا انتقاما مباشرا من السياسة الخارجية الليبية لاخضاع هذا القُطر العربي الغني من حيث الموارد الطبيعية للنفوذ الغربي بشكل كامل.  فعلى المستوى الجغرافي تُعتبر ليبيا بصفتها دولة متوسطية، تتمتع بمساحة تزيد عن مليون و نصف كم مربع، من أهم البوابات لعمق القارة السمراء.  كما تُشكل ليبيا همزة وصل جغرافية بين المغرب العربي والمشرق العربي وقد عززت هذا الرابط سياسيا بشكل قوي بالطرح العروبي للنظام السابق.  ومن نافلة القول أن موقع  ليبيا الجغرافي محوري بالنسبة لمشروع “الشرق الاوسط الجديد” التفكيكي وفوضاه الخلاقة، وبالتالي يسعى الغرب ومن يدور في فلكه الى تحويل هذه البقعة الهائلة الى مرتع آمن للحركات الاسلاموية المسلحة التي عادت الى لعب الدور نفسه الذي لعبته ابان الحرب الباردة.  فليبيا اصبحت منذ سقوط الدولة قاعدة خلفية “لجهاديي” سورية (لواء الامة مثلا) وغير سورية المتوافدين من كل حدب وصوب خصوصاً من الدول المغاربية ودول الساحل وجنوب الصحراء، كما أن الارهاب الإسلاموي الذي يستهدف تونس ومصر والجزائر كثيرا ما يترك خلفه بصمات الانفلات في ليبيا.  لقد  تمخض عن ذلك محور ارهابي متواز مع محاور نفطية ومعدنية استراتيجية، يمتدد من تنظيم “بوكو حرام” في نيجيريا الى تنظيم داعش المتمركز في منطقة خليج سرت بشمال ليبيا.  ولا تنفصل وظيفة هذا المحور عن وظيفة ميليشيات تحركها فرنسا والولايات المتحدة الامريكية في تشاد والكونغو ودول افريقية عديدة بغرض ردع السياسة الصينية في افريقيا وزعزعة الدول الافريقية التي تفتح أبوابها للشركات النفطية الصينية أو تستفيد من القروض الصينية المناسبة للدول النامية بدلا من القروض الغربية التي تمرغ هذه الدول في وحل التبعية.

في سياق متصل تجب الاشارة الى وجود أقليات لغوية واثنية (التبو والأمازيغ والطوارق) تم تسليحها اثناء عدوان الناتو سنة 2011 من طرف جهات غربية وصهيونية بغرض توظيفها في مرحلة لاحقة كونها تتمتع بامتدادات ديموغرافية وازنة  في كل من الجزائر والمغرب ودول الساحل.  فتواجد حركة طوارقية مسلحة ومحاولتها انشاء دولة للطوارق سنة 2012 في اقليم أزواد شمال مالي يستهدف الوحدة الترابية الجزائرية مباشرة.  كما يمثل تواجد جناح عسكري للحركة الامازيغية في منطقة الجبل الغربي بطرابلس الغرب تهديدا لتونس والجزائر والمغرب، خصوصا اذا اخذنا وجود تيار انفصالي بعين الاعتبار يسعى الى عسكرة ما يسمى بالقضية الامازيغية.  وقد حجز الامن الجزائري مؤخرا اسلحة مهربة من ليبيا في غرداية بوسط الجزائر التي تشهد منذ فترة فتنة أمازيغية – عربية متصاعدة .

هذه هي خلفية الصراع في ليبيا الذي ينبغي على الراي العام العربي ان يفهم اطاره بكل حيثياته الداخلية والعربية والدولية كونه لا يختلف في جوهره عن خلفية الصراع  الدائر في سورية و كل الدول العربية التي لها طرح وطني أو قومي مستقل رغم وجود اختلافات ثانوية بين الصراعين هنا وهناك.  لا ريب ان الحراك الذي تشهده ليبيا في هذه الاثناء سيتم تطويقه من جديد اذا لم يتنازل “التيار الأخضر” عن بعده الاستقلالي وخطابه التحرري.  وهذا ما يُفسر عدم توفير دعم للمناطق المنتفضة من طرف قوات خليفة حفتر التابعة لحكومة طبرق “المعترف بها دوليا” التي تزعم محاربة الارهاب في ليبيا.  أما على الصعيد العربي فنرى تجاهلا واضحا على الصعيد الرسمي، بالأخص من الدول العربية المجاورة مثل مصر والجزائر، التي يبدو انّها متخوفة من استفزاز حلف الناتو في حال القيام بخطوات جدية لتعزيز الاستقرار في ليبيا.  من جهة اخرى نرى تجاهلاً للقضية الليبية من قبل محور الممانعة الذي تقوده إيران رغم الاشتراك في مقارعة الخصم نفسه (رغم بعض الإشارات المشجعة وغير الكافية للشأن الليبي في الفضائيات السورية).  وينبع هذا التجاهل من اولويات المصلحة الجيوسياسية الإيرانية واعتبارات ايديولوجية تتعلق بالميل لدعم الإسلام السياسي في المنطقة (مرسي والغنوشي نموذجاً) تتم تغطيتها بملف موسى الصدر.  دوليا حان الوقت لقادة دول البريكس، خصوصاً الصين وروسيا، ان يراجعا موقفهما في تمرير قرار1973 في مجلس الامن الذي شرعن تدمير الدولة الليبية، كون تراجع تلك الدول عن دعم ليبيا وقتها لم يخدم مصالحها المتعارضة مع مصالح الغرب في العالم الثالث، ولحد الآن لم نر مقاربة جديدة للقطبين لمعالجة الملف الليبي. وخلف كل هذا يبقى الشارع العربي مع الاسف مكبلا بالخطاب الاعلام الخليجي المغرض والخطاب “الانسانوي”  للمنظمات غير الحكومية التي يتخذها الغرب غلافا اخلاقيا لتدخلاته، متناسيا ان القضية الليبية مترابطة بكل قضايا الامة المصيرية، وأن اهمية استرجاعها لا تقل عن استرجاع سورية او العراق.


للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/Qawmi

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *