Qawmi

Just another WordPress site




المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 تشرين أول 2015

ويضم هذا العدد:

– كلمة العدد: مدخل إلى الديموقراطية/ جميل ناجي

– قراءة قومية في الديموقراطية/ بشار شخاترة

– مسألة الديموقراطية في البرنامج القومي الجذري/ إبراهيم علوش

– الديموقراطية: مشروع تاريخي أم أداة للتدخل الأجنبي/ صالح بدروشي

– عن ضرورة وجود طرح ديموقراطي عربي/ إبراهيم حرشاوي

– الصفحة الثقافية: عبد الرحيم محمود، من الشعر إلى الثورة/ معاوية موسى

– الصفحة الثقافية 2: العروبة والمقاومة في أغاني فيروز/ طالب جميل

– سلسلة قواعد المسلكية الثورية: في مفهوم الرابط التنظيمي/ عبد الناصر بدروشي

– شخصية العدد: جوزيف ستالين – الرجل الحديدي/ نسرين الصغير

– قصيدة العدد: أرى ما أريد/ صقر قريش

– كاريكاتور العدد


العدد رقم 17 – 1 تشرين أول 2015
لقراءة المجلة عن طريق فايل الــ PDF

طلقة تنوير العدد 17



للمشاركة على الفيسبوك

https://www.facebook.com/Qawmi




مدخل إلى الديمقراطية

جميل ناجي

لا يمكن أن تمرّ الديمقراطية إلا من خلال مشروع سياسي يحمل على عاتقه تحقيق الأهداف القومية الكبرى، الوحدة والتحرير والنهضة.  بهذا المعنى تصبح الديمقراطية الحقّة تعبيراً عن ثورةً على واقع قائم، ومواجهةً للقوى الإمبريالية في سبيل تحقيق نقلة باتجاه دخول الأمة في ميزان الدول الحديثة.  إذن ديموقراطيتنا هي ديمقراطية ثورية بالضرورة لا تُمنح إطلاقا من خلال صندوق الاقتراع، ولا تُمسخ في المفهوم الليبرالي لـ”حكم الشعب لنفسه”، بل لها مضمون أعمق سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً، لا يعيش إلا في طيات دولة قوية  ذات  إرادة قومية، تشربت الفكر العقلاني والحداثي، نتيجة تطور اقتصادي وعلمي وإرادة سياسية حقيقية بهذا الاتجاه.

إن الديمقراطية الحديثة ترتكز على وترتهن لمفهوم المواطنة التي تحققت بالوحدة القومية نتيجة تكسير التفريعات (الما قبل رأسمالية) الطائفية والقبلية وغيرها أمام سلطة الدولة التي ارتفع الناس العاديين فيها لمستوى التفكير العقلاني، حول إدراك أهمية الدولة والاندماج القومي واحترام الحقوق العامة وغيرها. وبالتالي فإن المشروع (الديمقراطي الغربي) في فرْض ديمقراطية وحريات شكلية مسطحة على نظم ما قبل رأسمالية هي أداة تفكيك مجتمعية بامتياز باتجاه تعميق التفسّخ في التفريعات الثانوية، ناهيك عن الحفاظ على هذه البُنى كسبيل لإعادة إنتاج بُناها الفوقية وبالتالي إعادة إنتاج التخلّف.  وعلى العكس، تدفع الديمقراطية الثورية باتجاه الدخول إلى الميدان التاريخي من خلال تحقيق نتائج رسْملة المجتمع، والأهم من ذلك الوحدة المجتمعية والقومية.

إنّ الدفع باتجاه مجتمع ديمقراطي ليست مسألة رغبات أو برنامج سياسي، بل هي كيان يفترض تغيرات تاريخية جذرية، وصراع ضروس مع العقلية التقليدية التي تحكم المجتمع العربي.  إن إدراك الديمقراطية يتطلب فهم الآليات والتفاعلات التاريخية، السياسية، الاقتصادية والفكرية التي ارتبطت بها ودفعت إلى تكوينها.  لقد بُنيت الديمقراطية بداية كأداة لمواجهة المنظومة الإقطاعية والبُنية الفوقية الناتجة عنها، في سبيل تحقيق مصلحة البرجوازية الصاعدة. هذا الصراع فرض ثورات إصلاحية ونقلات على مدى قرون في شتى مجالات الحياة باتجاه ولادة مجتمع ديمقراطي.

إنّ المدافعين عن الديمقراطية اليوم يجب أن يدركوا تماما أن الديمقراطية هي مسألة تحقيق سيادة قومية بالدرجة الأولى، وأن الخيار الديمقراطي يمر بالضرورة من خلال الانغماس بالنضال القومي في سبيل تحقيق مصلحة الأمة.  والإشارة إلى القومي هنا يأتي كنقيض للطبقي، فالخيار الديمقراطي هنا يقوم على كافة قوى الشعب، ويدفع باتجاه تحقيق مكتسبات التطور الرأسمالي، فهو ليس اشتراكياً بالمعنى التقليدي إذا، لكنه يضمن السيطرة السياسية على الاقتصاد، وهذا لا يضعه في صفٍ واحدٍ مع العالم الرأسمالي بل على العكس تماما، بخاصة أن مشروع التنمية المستقلة لا يتم دون أن تلعب فيه الدولة القومية المستقلة دوراً ريادياً، فالخيار الديمقراطي كخيار قومي ضمن هذا السياق هو خيار مواجهة مع قوى الإمبريالية المختلفة، لأن القانون العام حول هذه المسألة يذهب باتجاه أن الإمبريالية لم ولن تسمح بقيام دولة وحدة عربية-ديمقراطية، فالخيار الديمقراطي مرة أخرى هو خيار مقاوم بالضرورة، تحكمه حرية من نوع حق الأمة في سيادتها، وحدتها ونهضتها أيضا.

إن ضعف البرجوازية العربية عامة (الطريق الاقتصادية للوحدة العربية) إضافة إلى السيطرة الاستعمارية كتداعيات للهيمنة العثمانية لم يتِحْ الفرصة لدمقرطة عموم المجتمع العربي، مما يحمّل الحركات الثورية مهمات تاريخية بهذا الاتجاه، لأنها مضطرة أن تلعب الدور المناط بالبرجوازية تاريخيا في تحديث بُنى المجتمع.  لقد دللت التجارب الثورية التاريخية على أهمية الوعي والتعديل العميق للبنية الايديولوجية الفوقية في سبيل التدخل والتأثير فعليا في حركة تطور المجتمع باتجاه ديمقراطي، كرد فعل على غياب الثورة الصناعية والتطور البرجوازي، وهي مهمة تقع على كاهل حركات التحرر الوطني.

إن عزوف المواطن العربي عن المشاركة السياسية والعمل السياسي نتيجة عوامل تاريخية واستبدادية، أضعَفَ بشكل عام عملية البناء الديمقراطية.  إن الديمقراطية تبدأ عندما ينزل الناس البسطاء للساحات للإمساك بمصيرها انطلاقاً من حس قومي ثوري، وامتلاك هذه الجماهير لوعي عميق، من هذا النوع بالذات،  ناضج وعقلاني هو الضمانة الحقيقية لتشييد صرح ديمقراطي ثابت لا يوظَف في تثبيت المجتمع التقليدي، وفي إعادة إحياء الانقسامات الطائفية والإثنية وغيرها.  إنّ وجود جماهير قومية التوجه، مسيّسة ومنظمة، هو أولى مهمات الثورة الديمقراطية العربية باتجاه تكريس الفعل الديمقراطي، فلا ديمقراطية بدون حياة سياسية ووعي سياسي ذي بعدٍ قومي عروبي.

 

قراءة قومية في الديموقراطية

بشار شخاترة

لطالما كان سؤال الديموقراطية ومكانته في المشروع القومي مثارا للجدل بين آباء الفكر القومي وخصوصا أنّ هذا المشروع دخل حقل الممارسة في عدة تجارب، منها البعثية في العراق وسورية، والناصرية في مصر، بالإضافة إلى التجربة الجماهيرية في ليبيا، وقد كانت الديموقراطية سؤالا يتأرجح بين الممارسة والفكر القومي من جهة، وبين النقل الحرفي للتجارب الديموقراطية بنسختها الليبرالية الغربية من جهةٍ أخرى.

لعلّ المعضلة الأهم في باب “الديموقراطية” تكمن في سؤال: أي أشكال الديموقراطية يجب أن نتبنى؟ وهل الشكل القائم على الانتخاب والذي سوّقه الغرب هو أفضل الحلول، وبالتالي إما أن نأخذ الديموقراطية بهذا الشكل أو أننا لا نستطيع أن نصِفَ أي نظام أنه ديموقراطي بغير ذلك؟  نقطة البداية في المشروع القومي الجذري تقرر أنه مشروع قومي جذري، ولكن أين الديموقراطية منه؟ وهل فعلا الديموقراطية ليست من ضمن بنود هذا المشروع؟  أم أنها موجودة لكن بصيغة تختلف عن الديموقراطية بصيغتها الليبرالية؟

بالعودة إلى جذور الديموقراطية الغربية يُلاحظ أنها نتاج عملية تطور اقتصادي اجتماعي رافَقَ الثورة الصناعية، وانقلاب على التحالف الإقطاعي-الكنَسي بحيث حلّت البرجوازية مكان هذا التحالف الذي حكَم أوروبا قرونا عدة، وبالتالي فإن الديموقراطية هي إيديولوجيا القادمين الجدد، التي كانت مضطرة أن تمالئ الطبقات الفقيرة للقضاء على التحالف الحاكم، كما أن ضرورات الثورة الصناعية كتوحيد السوق القومية افرزت الحالة التي تشكلت عليها طبقة الحكم الجديد.  فهي إذن ضرورة ومبرِر لاستمرار حكم البرجوازية، فهل الحالة القومية العربية الراهنة وصلت للمرحلة التاريخية التطورية الأوروبية عشية الثورة الصناعية؟ الجواب بالقطع لا!  فالراهن العربي حالة من الانقسام العمودي والافقي، واستشراء الطائفية والمذهبية واستنهاض لهويات فرعية على حساب الهوية القومية، ناهيك عن أنّ حالة الاقتصاد العربي هي حالة تابعة مستهلِكة أبعد ما تكون عن الاقتصاد العملاق المنتج باستثناء بعض الصناعات التعدينية كالنفط والغاز، وهذه تقوم عليها شركات غير عربية أساسا، وإذا أخذنا بالاعتبار انتشار التخلف والأمية، وبعبارة أدق اللاعقلانية وغياب المنهجية في التفكير والعمل والحياة بالمجمل، فإن التشخيص للحالة العربية اليوم يقول أن الأمة في حالة واقعية وتاريخية فريدة خاصة بها، وليس بالضرورة أن نبحث عن مرادف لها في التجارب التاريخية للأمم حتى نتبنى الحل الذي تبنته تلك الأمم للنهوض.

للاقتراب أكثر من تحديد مفهوم قومي للديموقراطية، لا بدّ من تحديد الأولويات القومية.  فالأولويات القومية تتمثل بالوحدة، والنهضة الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على التخلف، وتحرير أجزاء الوطن السليبة، فضمن هذه الأولويات الأساسية، أو لنقل الأهداف القومية الكبرى، أين تقع الديموقراطية؟  في ظل مثل هذا الواقع القومي البائس والمحزن لا تشكّل الديموقراطية إجابة على أي تساؤل جوهري حوله، ولا تشكّل حلا لأي تناقض تعاني منه الأمة العربية، وبالتالي لا تشكّل فكرة الديموقراطية بناء تحتيا في المشروع القومي الجذري العربي، ولم تكن كذلك في أي مشروع نهضوي آخر أوروبيا أو أمريكيا، بل حالة فوقية مكمّلة لأدوات النظام القائم في المجتمع.

فالديموقراطية الليبرالية المنسوخة في دول العالم الثالث ليست إلا تعبيرا عن قوى الهيمنة في ذلك المجتمع أو ذاك، ولا تعدو عن أن تكون مسرحية أو ديكورا أو غطاء للمساعدات لا أكثر.  فجوهر الديموقراطية بمفهومنا القومي الجذري أساسه حرية الاختيار ضمن أهداف المشروع القومي السابق ذكرها، وهذا ليس فيه تسلّط أو مصادرة لحرية الرأي أو حقوق أحد، لأنه في جوهر الحرية أن تقوم على أساس متين، ولا يتّسق القول أن الديموقراطية حالة عابرة للمجتمعات أو أنها إيديولوجيا يمكن تسويقها لأي مجتمع قومي أو إقليمي أو طائفي أو عشائري أو أيا كان وصفه، فلا حرية في الاختيار بين بقاء الدولة أو الانفصال، فهذا مشروع تفكيك وليس حرية اختيار أو ديموقراطية، وحكومة الولايات المتحدة التي تزعم أن لديها فائضاً ديموقراطياً تصدره للعالم، لم تتورع عن خوض حرب أهلية راح فيها 600 ألف قتيل منعاً لانفصال ولاياتها الجنوبية التي صوتت عليه “ديموقراطياً”، ولأن مشروعنا يؤمن أن الحرية هي أساس الديموقراطية، فلا يمكن أن نفهم معنى الديموقراطية ومغزاها إلا في إطار حرية الوطن العربي والأمة العربية وقرارها المستقل، وبذات الوقت لا يمكن أن نفهم الحرية وأجزاء الوطن مغتصَبة، فالمسألة أولويات، أو بالأحرى هناك أركان للمشروع القومي لا تستقيم الأمور بدونها، وهي الثوابت السابق ذكرها.

لكن هل معنى هذا أنّ الديموقراطية يجب أن تُركَن على الرف لحين تحقيق الأهداف القومية الشاملة؟ هذا سؤال محقّ ويندرج تحته تبرير للظلم والفساد وتعسّف السلطة، بل يبرر الوضع الإقليمي العربي المتردّي،  لأن كثيرا من الأنظمة العربية القائمة استخدمته مطولا في تغييب الديموقراطية من الواقع العملي في أقطارها.  ولكن للآن لم يتحدد مفهوم الديموقراطية العربية في إطارها القومي، وما مرّ كان توصيفا لواقع قائم وآملا لواقع منشود، إذ يفترض بالمشروع القومي أن يتصدى لوضع صيغة لديموقراطية عربية، والادّعاء أنّ الصيغة القائمة على الانتخاب والتنافس بالشكل القائم في المنظومة الغربية هي الصيغة المثالية فيه مبالغة، وفيه مجافاة لخصوصيات الأمم ومنها الأمة العربية، هذا إن كانت الصيغة الانتخابية كما هي في الغرب تمثل حكما للأغلبية فعلاً، فهي تمثل في أفضل الأحوال أغلبية الذين ذهبوا للاقتراع، فإذا اخذنا بعين الاعتبار الذين لم يقترعوا سنجد أن الفائز هم أقلية بالقياس للهيئة الناخبة (التي يحق لها الانتخاب)، ومع ذلك، ومع عدم التسليم بالفرَض القائل بأن هذه أفضل صيغة عرفتها البشرية لليوم لتطبيق الديموقراطية، فإنها والأمر كذلك تحتاج إلى ناخبين لديهم حرية الاختيار لا سلطة للقمة خبز أو صاحب عمل أو مال سياسي عليهم، وفوق كل ذلك تحتاج إلى مجتمع بلغ حدا من العقلانية لا يقدم ابن العشيرة أو الطائفة أو المنطقة على المرشح الأجدر.   واستكمالا للفكرة، فإن الديموقراطية بصبغتها الليبرالية الحديثة هي تداولٌ للسلطة بمعنى أن من ينال أعلى الأصوات هو الذي يحكم، وبالرجوع للثوابت القومية هل يتفق معها أن يتنافس الوحدويون مع دعاة الإقليمية أو الطائفية مثلا؟ وهل يمكن القبول بدعاة الليبرالية من أذناب الإمبريالية ضمن معادلة الديموقراطية؟ أو قبول الرجعيين والقوى الدينية ضمن هذا الإطار؟ بالممارسة دلّت التجارب المشوّهة للديموقراطية في البلدان العربية أن هذه القوى عوامل شد عكسي بالقياس على الأنظمة العربية القائمة، فماذا عسانا نقول عن دولة قومية.

أعقد المشاكل التي ستواجه المشروع القومي الجذري بعد تحقيق الوحدة هي التخلّف، وغياب المنهج العقلي وقد يكون من معاول الهدم إذا لم يتصدّى له المشروع القومي، ومناسبة هذا القول أن فكرة تداول السلطة والحرية في المجتمع القومي يجب أن يسبقها بناء تحتي في إعادة بناء العقل العربي وعقلنة المجتمع، وهذا من ضروريات تحصين الدولة القومية بعيدا عن الديموقراطية، لأنها تغلق الباب في وجه القوى الهدّامة التي لن تتوانى عن محاولات التغلغل في نسيجها، فالتجارب العربية القومية الحديثة كتجربة محمد علي باشا أو عبد الناصر أو صدام حسين أو القذافي أو التجربة السورية الراهنة، وبكل ما يمكن أن يُبدى بشأنها من نقد، إلا أنها واجهت معركة متشابهة ومن ضمنها تخلّف الوعي القومي، والذي أدّى إلى نتائج كارثية.  لم يكن بمقدور أي ديموقراطية، ولو كانت نقية مئة بالمئة، أن تواجه أعداءها.  وبالتالي لا يمكن أن يقوم الأساس على تصالح مع قوى أثبتت التجربة العربية أنها معادية، بل يمكن القول دون مبالغة أن من أبجديات المشروع القومي سَحْق القوى المعادية، ليس من باب الاستحواذ على السلطة، ولكن من باب حماية الأمة والدولة القومية.

في سياق ما سبق لا يجوز ولا يصحّ القول بترك الأمور لمحض المحاولة والخطأ في هذا المجال.. لأنه وتحت النوايا الطيبة والحرص على المشروع والدولة وأمنها القومي سيتسلل الفساد والمحسوبية، والأخطر من ذلك، التعسف في استعمال السلطة، وسنجترّ التجربة القُطرية بظلمها وفسادها ونعود نزرع بذور الهدم من جديد.  لهذا لا بدّ من أن نحصّن المشروع القومي – من لحظة ميلاد التنظيم القومي الحامل للمشروع الوحدوي وصولا إلى بناء الدولة القومية – بقواعد قانونية صارمة تبدأ بالنقد والنقد الذاتي والمحاسبة الصارمة عن أي تجاوز مهما قلّ، وبناء منطومة قيم تقوم على فكرة أساسية وهي المركزية الديموقراطية، وعلى مستوى الدولة القومية يكفي ابتداء أن يُركَز على إشاعة تطبيق القانون.  فسيادة القانون مقياس هامّ لإشاعة العدل، وهذا ليس حلا فيه احتيال على الديموقراطية، فالعدل وشعور الناس أن القانون يطبق على الجميع سيترك الأثر الحاسم في علاقة المجتمع بالدولة، والقانون هنا بالمفهوم الواسع والشامل لكل جوانب الحياة، وهذا لا يندرج تحت نظرة حقوقية ضيقة أو نزعة ليبرالية في مجال حقوق الانسان، بل هي تعميق لمفهوم العدالة في سنّ القوانين وفي تطبيقها، وهذا ضمن الإطار القومي وضمن سياج المصلحة القومية التي هي حكما تحقق مصلحة الأغلبية الساحقة من المواطنين.

فمن حقنا أن نقدّم مشروعا قوميا ديموقراطيا عربيا، وليس بالضرورة أن نجترّ تجربة الآخرين، ولا يمنع أيضا من الاستفادة من تجاربهم . قد يكون للتجربة الحيّة أثر في اجتراح الحلول بناء على الواقع القومي في حينه، لكنّ هذا في إطار ضابط قانوني سبق ذكره، لا يترك فرصة لخلل دون محاسبة.

مسألة الديموقراطية في البرنامج القومي الجذري

 

إبراهيم علوش

تروج الإمبريالية بضاعة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان” ومشتقاتها في طول الكرة الأرضية وعرضها بكثافة، بالأخص منذ انهيار دول الكتلة الاشتراكية في بداية التسعينيات.  وقد كان هذان الشعاران مطيتها المفضلة لاختراق الحصون المنيعة لدول المنظومة الاشتراكية أيديولوجياً.  فخاضت “الحرب الباردة” ضد الاتحاد السوفييتي وحلفائه وهي تصرخ على مدى عقود: “حرية، حرية، حرية”!  فقد صادرت شعار “الحرية” ودمغته على كل شيء يخصها، ومن ذلك مثلاً “مؤتمر الحرية الثقافية” الذي أسسته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في برلين الغربية عام 1950، وكانت له نشاطات في 35 دولة، كواجهة للنشاط الأيديولوجي المناهض للاشتراكية وحركات التحرر الوطني كما نظهر في هذه المادة:

http://www.qawmi.com/?p=934

كما أطلقت الحركة الصهيونية العالمية حملة شعواء خلال الثمانينيات ضد الاتحاد السوفييتي تحت عنوان “حرية الهجرة” من أجل إجباره على السماح لمئات آلاف اليهود السوفييت بالانتقال إلى الكيان الصهيوني، وبعد انتهاء “الحرب الباردة”، بلورت الإمبريالية استراتيجيات وأدوات اجتماعية-سياسية أكثر تعقيداً وفعالية توظف شعارات “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان” و”الحرية” من أجل زعزعة استقرار الدول المستقلة وتفكيكها، وقد تركزت تلك الجهود في بداية القرن والواحد والعشرين على إنتاج ما يُعرف باسم “الثورات الملونة” في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وعلى رأسها “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا عام 2004، و”ثورة الأرز” في لبنان عام 2005، وغيرها، وقد دشنت الإمبريالية ذلك المشروع الكبير، الذي بات نموذجاً كلاسيكياً لاستخدام أساليب “القوة الناعمة”، في زعزعة استقرار يوغوسلافيا السابقة وتفكيكها في إطار برنامج “ديموقراطي” وضعته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عام 1998 لتمويل منظمات المجتمع المدني وتحريكها، كما تظهر هذه الوثيقة السرية التي كشفت عنها مجلة “الصوت العربي الحر” في 19 نيسان 1999:

 http://www.freearabvoice.org/CiaReportOnTheDestabilizationOfYugoslovia.htm

ثم جاء “الربيع العربي” في عام 2011 لتظهر تعابير تصف 25 يناير في مصر بـ”ثورة اللوتس”، وقبلها “ثورة الياسمين” في تونس، بالترافق مع ما ظهر لاحقاً أنه أبعد ما يكون عن ثورة شعبية عربية كان المناضلون العرب في كل الأقطار يتوقون إليها حتى “هرموا” وهم ينتظرونها!  وظهر ذلك بجلاء مبين مع دخول حلف الناتو والأنظمة الرجعية والقروسطية العربية وهنري برنار ليفي، ومن خلفه الحركة الصهيونية العالمية، على خط “الثورات الديموقراطية” العربية ومنها “ثورة فبراير” في ليبيا و”ثورة 17 آذار” في سورية!  وكان الكتاب الروس والصينيون قد حذروا تكراراً، منذ بداية “الربيع العربي”، قبل انكشاف الأوراق في ليبيا وسورية، أنه حراكٌ مخترقٌ إمبريالياً، كما نجد مثلاً في هذه المادة:

http://freearabvoice.org/?p=1117

غير أن موضوعنا هنا ليس “الربيع العربي” وما إذا كان ظاهرة مخترقة ومجيرة من الأساس، أم ظاهرة ذات عوامل موضوعية وعفوية تم اختراقها والركوب عليها، وهو ما يجب تركه لمعالجة أخرى، مع أن هذا السؤال ليس منفصلاً تماماً عن موضوعنا هنا وهو: ما هو موقع مسألة الديموقراطية في البرنامج القومي الجذري؟  ونقول أن السؤالين غيرُ منفصلين لأن هناك فرقاً كبيراً بين اعتبار كل قصة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان” مفتعلة إمبريالياً، ومجرد بدعة تحولت من ذريعة أيديولوجية تقليدية في “الحرب الباردة” إلى سلاح غير تقليدي موجه ضد الدول والحركات المستقلة في مرحلة العولمة يتم استخدامه لنشر نفوذ الإمبريالية والشركات متعدية الحدود عبر المعمورة، وبين الاعتبار أن هناك مطالب ديموقراطية محقة ومشروعة من حيث المبدأ يتم استغلالها وتجييرها إمبريالياً.   فما أوسع البون ما بين اعتبار الديموقراطية بدعة إمبريالية جملة وتفصيلاً، وما بين اعتبارها كلام حقٍ يراد به باطل هنا والآن وبهذه الطريقة!  وإذا كان مثل هذا الفرق لا يبدو شديد الأهمية في خضم المعركة الشرسة الدائرة اليوم بيننا وبين الإمبريالية وأدواتها عربياً وعالمياً، حيث يصبح مناهضو الإمبريالية، من ديموقراطيين وغير ديموقراطيين، حلفاء موضوعيين بالضرورة في الدفاع عن الاستقلال الوطني، فإن فهم هذا الفرق يبقى مهماً جداً على مستوى برنامجي لأن الإمبريالية إن كانت تستغل “كلام حق” من أجل باطل في نفسها، فإننا أولى بمثل هذا الحق، ولا يجوز أن نتركه لعبث الإمبريالية وأدواتها.  وإذا كان القوميون واليساريون والوطنيون، ومناهضو الإمبريالية بعامةً، مقصرين في تبني حق مشروعٍ للجماعات والأفراد وفي الدفاع عنه، مما يتركهم لقمة سائغة في فم الخطاب الإمبريالي، وإذا كانوا قد ارتكبوا أخطاء على صعيد فهم الديموقراطية وتطبيقها، فإن الأولى هو تصحيح مثل هذا الخلل البرنامجي.  أما إذا كان جل الخطاب الديموقراطي المعاصر بدعةً إمبريالية مفتعلة، فإن علينا أن نكشفه إيديولوجياً، لا أن نكشف طريقة تجييره إمبريالياً فحسب، وعلينا في الآن عينه أن نمسك بسر جاذبية مثل ذلك الخطاب المخترق للكثير من الناس، وأن نعمل على تفكيكه نظرياً، لا سياسياً فحسب، ولهذا يجب أن نعود للسؤال: ما هو موقع مسألة الديموقراطية في البرنامج القومي الجذري؟

قبل “الربيع العربي” بعقود، اعتبر المفكر القومي ناجي علوش تحقيق الديموقراطية ركناً أساسياً من أركان المشروع القومي، فانتقد الأنظمة الاشتراكية والقومية والوطنية ديموقراطياً، معتبراً أن تقصيرها على هذا الصعيد ثغرة كبيرة سوف تؤدي لإضعافها وعزلها عن قواعدها، وقد فعل ذلك صراحةً وتكراراً في الندوات والمقالات والكتب، ومنها مثلاً كتابه “الديموقراطية: المفاهيم والإشكالات” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993).  غير أن ناجي علوش كان يصر على اعتبار الديموقراطية غير ممكنة خارج سياق المشروع القومي، وعلى اعتبار تحقيق الديموقراطية مرتبطاً بشكل عضوي بمواجهة الإمبريالية والصهيونية وأدواتها من أجل تحقيق التحرر الوطني وفك التبعية، وعلى اعتبار الدعوات الديموقراطية الغربية مخترَقة ومغرضة، وعلى تعرية الخطاب الديموقراطي الذي يمهد للتسوية أو للتطبيع مع العدو الصهيوني أو لتفكيك البلدان العربية، فقد كانت الديموقراطية بالنسبة إليه جزءاً لا يتجزأ من مشروع: 1) الوحدة العربية، 2) بناء قاعدة إنتاج اقتصادية كبيرة، 3) الاستقلال الوطني، 4) نيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 5) تحرير فلسطين وكل الأراضي العربية المحتلة من سبتة ومليلة حتى الأحواز.  ولذلك دعا لحراك ديموقراطي منبثق من الطروحات القومية والانتماء القومي، وقد ترسخ مفهوم الثورة القومية بصفتها ثورة ديموقراطية في برنامج “حركة التحرير الشعبية العربية” (1978-1992) التي كان ناجي علوش مؤسسها وأمينها العام، ولذلك كانت تتم الإشارة إليها دوماً كثورة قومية ديموقراطية (حركة التحرير الشعبية العربية، البرنامج السياسي، 1983)، وقد ترسخت في أدبيات ذلك التيار فكرة الثورة القومية كثورة ديموقراطية منذ بدأت تتبلور في أواسط السبعينيات، ونجد جذوراً بشكل أو بآخر لمثل هذه الطروحات عند ياسين الحافظ في عنوان “في المسألة القومية الديموقراطية”، وعند عبدالله الريماوي وفؤاد الركابي وآخرين.

كان الخط الذي تبناه هذا التيار هو أن الثورة القومية الهادفة لتحقيق الوحدة والتحرير يجب أن تكون أيضاً: 1) ثورة ديموقراطية بالمعنى السياسي، و2) ثورة اشتراكية بالمعنى الاقتصادي-الاجتماعي، وهو ما كان يفترض أن يعتمد على نخب وجماهير قومية وديموقراطية واشتراكية.  لذلك فإن مسألة الديموقراطية في البرنامج القومي عند ذلك التيار كانت محلولة، باعتبارها مندمجة اندماجاً عضوياً في مشروع الوحدة والتحرر الوطني والاجتماعي، لا منفصلة عنه، وباعتبارها التحرر الوطني والاجتماعي استكمالاً للديموقراطية، وباعتبار الدولة والاقتصاد القويين المستقلين شرطاً لا غنى عنه لقيامها واستمرارها، إذ لا حرية للأفراد في المجتمعات المستعبدة.

فهل تكمن المشكلة في الدعاوى الديموقراطية المعاصرة، إذن، في تهميشها لفكرة الوحدة والتحرر الوطني والاجتماعي، لا بل في مناهضتها أحياناً، مما سمح بتحولها لأداة اختراق أيديولوجي وسياسي، بخاصة في الدول الاشتراكية سابقاً وفي دول العالم الثالث، أم أن المشكلة هي ابتداءً ربط التحرر القومي بالديموقراطية من دون وجود أساس نظري وتاريخي راسخ لمثل ذلك الربط عند القوميين أو الاشتراكيين سوى الأماني؟

للإجابة على هذا السؤال، فلنبدأ بالربط بين الثورة الديموقراطية والثورة الاشتراكية.

مهّدت ثورة أوليفر كرومويل في بريطانيا في القرن السابع عشر، ومن ثم جاءت الثورة الفرنسية عام 1789، لتشطب السلطة المطلقة للملوك والنبلاء وكبار رجال الدين، ولتكرس مبدأ حكم الشعب أو سلطة الشعب عبر ممثليه المنتخبين، المجتمعين في مجلس نواب، فشُكلت بذلك ثورة ديموقراطية بالمعنى الحرفي للتعبير، وكانت تلك الثورة في الواقع صراعاً بين البرجوازية الصناعية الصاعدة التي أطاحت بحكم الإقطاع والكنيسة وأوقافها، وقد عبأت البرجوازية الصاعدة في مرحلتها التقدمية تلك عامة الجماهير تحت عنوان ديموقراطي للتحرر من سلطة الإقطاع ورجال الدين فقط لتكرس سلطتها، سلطة رأس المال، عبر جهاز الدولة الحديثة.  وبدأت تترسخ هنا فكرة المساواة أمام القانون والقضاء المستقل واستقلال الجهاز التنفيذي عن التشريعي وحقوق المواطن إلخ…

ارتبطت الديموقراطية بهذا المعنى بأربع تطورات تاريخية مهمة: 1) التصنيع، ونشوء طبقة برجوازية صناعية تدير دفة اقتصاد كبير منتج، 2) العقلانية، ونشوء نزعات فكرية قوية تتعامل مع العقل كمرجعية للحكم على الأشياء وظواهر الكون والمجتمع، وانحسار حيز الجهل والخرافة، 3) فصل الدين عن الدولة، أي النزعة العلمانية، وهي لا تعني الإلحاد بالمناسبة، 4) القومية، ومفهوم المواطنة القومية، بما يتجاوز الانتماء الطائفي والمناطقي والعشائري وغيره.  فالبرجوازية الصاعدة لم تطِح بحكم النبلاء والألقاب الفارغة والإكليروس لتُحلّ نفسها محلها فحسب، بل قدّمت منجزات تاريخية جعلت قطاعات كبيرة من الجماهير تسير خلفها، وعلى رأس تلك المنجزات حاجتها لتوحيد السوق القومية لتحقيق مصالحها، مما دفع تلك البرجوازية  لتبنّي الشعار القومي، لا الشعار الديموقراطي فحسب.

الآن جاء الاشتراكيون الفرنسيون مثل سان سيمون وفورييه، ولاحقاً برودون، والاشتراكيون الإنكليز مثل روبرت أوين، والاشتراكيون الروس مثل باكونين، ليقولوا: لقد كذب البرجوازيون علينا!  انظروا، لقد تحدثوا عن الحرية والمساواة والإخاء (شعارات الثورة الفرنسية)، لكنهم أسسوا حكم البرجوازية على العمال والفقراء!  فلا بد من ثورة ديموقراطية اجتماعية واقتصادية تتمثل بنزع مقاليد القوة من أيدي البرجوازيين، وإعادة توزيع الثروة والسلطة، وإلا فإن الديموقراطية تكون خدعة!  وكان اسم تلك الديموقراطية الاجتماعية والاقتصادية عندهم هو الاشتراكية.

إذن نشأت النزعة الاشتراكية كاتجاه سياسي ذي نخب فكرية وقواعد جماهيرية كامتداد مباشر للتجربة الديموقراطية، ولهذا اعتبر الاشتراكيون الأوائل أن اشتراكيتهم هي التطور الديموقراطي المنطقي التالي، وكان ذلك قبل ماركس وإنجلز وبمعزل عنهما، وكانت الفكرة أن الاشتراكية ستزيد الديموقراطية ديموقراطيةً، ولن تجبّها.

الآن دخل لينين والماركسيون الروس على الخط.  لم تكن روسيا قد أنجزت تطورها الديموقراطي بعد، بالمعنى التاريخي الذي لا يصحّ ولا يجوز اختزاله وتسطيحه في مسألة الانتخابات وما شابه.  وكان خط الاشتراكيين الروس وقتها هو السير خلف البرجوازية الروسية حتى إنجاز الثورة الديموقراطية في روسيا.  لكن لينين والبلاشفة وجدوا أن على الشعب، من خلال طلائعه الثورية، أن يقود الثورة الديموقراطية، لا أن يترك قيادتها للبرجوازية، وأن يتولى قيادة تلك الثورة أكثر أقسام تلك الطلائع ثوريةً، نابذين الاتجاهات الانتهازية (المتصالحة مع الأمر الواقع) في الحركة العمالية والاشتراكية، من أجل تحقيق مهام الثورة الديموقراطية بسرعة، والمضي بها قدماً نحو الثورة الاشتراكية (انظر “خطتا الاشتراكية-الديموقراطية في الثورة الديموقراطية”، لينين، 1905).

من هنا نشأت فكرة المزج بين ثورتين، أي بين مرحلتين تاريخيتين. وقد رسخت ثغرة جوهرية أخرى في الديموقراطية البرجوازية أهمية تلك الفكرة وهي أن الأنظمة الديموقراطية البرجوازية لم تمثل في النهاية حكم البرجوازية فحسب، كيفما ذهبت تلك الديموقراطية وكيفما أتت، بل مثلت مشروعاً إمبريالياً لكل دولة ديموقراطية برجوازية على حدة، وللنظام الرأسمالي بشكل عام، يقوم على: 1) خوض الحروب المدمّرة ضد بعضها البعض لاقتسام وإعادة اقتسام العالم، كما تجلى ذلك في الحرب العالمية الأولى مثلاً، 2) إخضاع شعوب الكرة الأرضية واستعمارها واستثمارها، بما يمنع تطورها الديموقراطي (انظر “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، لينين، 1917).

تطورت هذه الأطروحة مع ماوتسي تونغ، كما نجد في كتابه “في الديموقراطية الجديدة”، لتقدم صيغة لتحقيق الحداثة والتصنيع والتحرر في المجتمعات المتخلفة والتابعة تحت قيادة الطبقة العاملة التي يقودها الحزب الشيوعي الصيني للانتقال بسرعة من المشروع القومي الديموقراطي إلى المشروع الاشتراكي، مع تداخل المرحلتين، ومن ينظر للقسم الاقتصادي في ذلك البرنامج، فإنه سيجد أن ماو ترك حيزاً فيه للرأسمالية الوطنية الصينية لتلعب دوراً في تحقيق التنمية والحداثة والتصنيع.  لكن الأهم أن فكرة الديموقراطية هنا باتت تأخذ طابع “الديموقراطية الشعبية” التي تمثل تحالفاً طبقياً يسعى تحت قيادة الطبقة العاملة الصينية وطليعتها السياسية لتحقيق مهمات الثورة القومية الديموقراطية.  العبرة هنا أن الديموقراطية باتت تتخذ شكلاً جمعياً ذا بعدٍ تاريخي، لا شكلاً فردياً نزقاً على النمط الليبرالي الغربي.

غير أن نقاط ضعفٍ برزت في الأنظمة الاشتراكية والديموقراطية الشعبية في العالم الثالث. وذلك إن الديموقراطية البرجوازية هي ديموقراطية مجوفة، بلى، لأنها: 1) تمثل حكم رأس المال، 2) تمثل حكم المنظومة الإمبريالية على شعوب الأرض، لكن ما فات القوميين واليساريين في الواقع، وهم يرددون هذه النقاط المحقة، هو أن حكم رأس المال الإمبريالي لم يكن ذا واجهة ديموقراطية براقة لأسباب محض تجميلية، بل إنه أسس نظاماً يحافظ على حكمه، ويبقيه ضمن نخبه بكل تأكيد، ولم يكن يتورع عن استخدام أقصى درجات العنف والشدة عند تعرض وجود النظام للخطر، ومنه القتل في الشوارع والاعتقال التعسفي، لكنه كان نظاماً فعالاً في تجديد دمائه، وفي التأقلم مع المتغيرات، ومنها تغير موازين القوى في صفوف نخبه، أي  أنه كان نظاماً ديموقراطياً للنخبة الحاكمة، تماماً كما كان حكم مالكي العبيد في أثينا وروما القديمة، ولم يكن حكم فرد أو قلة، فقد أوجد آليات لحل النزاعات ولاستيعاب الدماء الجديد المتدفقة في شرايين النظام، ولذلك كان أكثر استقراراً، وهي النقطة التي تفوّق فيها على الأنظمة والقوى والحركات التي كانت تعادي النظام الإمبريالي عن وجه حق.

رغم ذلك، لا يجوز أن نفترض أن هناك خطاً واحداً للتطور التاريخي في كل المجتمعات، أو أن منتجات الغرب السياسية، مثل الديموقراطية، بالشكل الذي تبلورت فيه هناك، يجب أن يتم استيرادها ونطبيقها على كل المجتمعات، لكن ربما يكون أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي أنه لم ينجز، خلال سبعين سنة من الحكم الاشتراكي، كلّ مهمات الثورة الديموقراطية البرجوازية، من دون أن نتردد للحظة في القول أننا نصطف مع الاتحاد السوفييتي الذي قصّر على ذلك الصعيد وغيره في مواجهة الإمبريالية التي لم تتوقف لحظة عند محاولة إجهاض التجربة الاشتراكية في القرن العشرين، كما لم تتوقف عن محاولة إجهاض تجارب التحرر القومي.  ولا يسع المجال أن ندخل في تقييم التجربة التاريخية للاتحاد السوفييتي، لكن يمكن أن نقول أن البلاشفة قفزوا بسرعة أكثر مما يجب من الثورة الديموقراطية للثورة الاشتراكية قبل إنجاز مهامها، من دون أن يدفعنا ذلك للقول أن دفة الثورة الديموقراطية في روسيا كان يجب أن تُترك للكاديت والاشتراكيين الثوريين والمناشفة، أي للقوى الانتهازية في الحركة الاشتراكية والعمالية.

العبرة هي في خطورة حرق المراحل التاريخية.  فالديموقراطية لها شروط تاريخية وبنيوية لم تتحقق في أوروبا إلا على مدى قرون، والدولة القومية الأوروبية بدأت بحكم مطلق، لترسخ مؤسساتها، ومفهوم المواطنة، لتنتقل بعدها إلى تداول السلطة وفصل السلطات واستقلال القضاء إلخ… ومن يحقق شروط الديموقراطية هو ديموقراطي موضوعياً، لأن التصنيع والاستقلال الوطني والوحدة القومية ومحو الأمية وإقامة المؤسسات يخلق المجتمع المدني الذي لا تقوم ديموقراطية من دونه، فإذا كان من يقوم بهذا ديكتاتوراً، مثل محمد علي باشا مثلاً في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإنه يحقق شروط الديموقراطية التاريخية، ويجب أن ندعمه من دون تردد، لأنه يتحمل عبء المهمات التي يجب أن نقوم نحن القوميين الجذريين بها، وإذا كان من يحمل عبء تلك المهمة التاريخية هو نخب (لا نراها حالياً) ذات وعي قومي ديموقراطي اشتراكي، فإن ذلك سيكون أفضل بكثير طبعاً، لكننا لا نفصّل التاريخ على مزاجنا!

كذلك، لا تتعلق إمكانية تطبيق الديموقراطية بمدى ديموقراطية النخب السياسية والثقافية القائمة على المشروع القومي النهضوي الذي لا تقوم ديموقراطية من دونه أبداً، بل بإمكانية تطبيقها عملياً على الأرض.   ففي ظل مخاطر خارجية متنوعة، ومشاريع تدخل خارجي سافر ومستتر، وتكاثر مراكز القوى الطائفية والعشائرية والمناطقية، وهو ما نتج طبعاً عن تعثر المشروع النهضوي العربي، فإن القوة المسنودة بدعم جماهيري والتزام نضالي عقائدي وشريحة من المثقفين الثوريين العضويين هي وحدها ما يمكن أن يصهرنا في دولة وحدة، وكما قالها أوتو فون بسمارك، موحِد المانيا، في خطابٍ له عام 1862: بالحديد والدم!

المشروع القومي يأتي أولاً إذن، الوحدة والتحرير والنهضة، بأفق ديموقراطي واشتراكي إذا كان القائمون عليه قوميين جذريين، وإلا فإننا ندعم كل ما يمكن أن يدفع باتجاه تحقيق المهمات القومية الكبرى ولو لم يكن القائمون عليها ديموقراطيين أو اشتراكيين.   ونحن نعيش حالياً حالة تفكيك، تشكل الدعوة لتطبيق الديموقراطية أحد مداخلها، فعلينا أن نحذر جيداً من أحصنة طروادة تلك، ومن البديهي أننا يجب أن نتصدى لمشاريع التفكيك، وأن نقف مع من يتصدى لها، ولو لم يكن قومياً أو ديموقراطياً أو اشتراكياً، إلى أن نتخطى هذه المرحلة، وعلينا أن نعمل في الآن عينه على تنمية القوى القومية الجذرية لكي نتمكن من تنفيذ برنامجنا بشروطنا، ولكن ذلك لا يعني أن لا ننخرط في النضال العملي إذا وجدنا ما لا يعجبنا هنا أو هناك…

من البديهي أن علينا أن ننتقد الفساد والاستبداد، حتى لو أتى من أنظمة وطنية ممانعة أو من حركات مقاومة أو من قوى أو شخصيات قومية أو يسارية، لكننا لا نفقد البوصلة بسبب ذلك لنجد أنفسنا فجأة في حضن أعداء الأمة!  وعموماً، علينا أن ندرك أن الفساد والاستبداد مترسخان في وعينا الجمعي، نتاج تعثر المشروع القومي النهضوي، فعندما نرى كيف يسعى الطلاب للغش، والموظف للتقاعس، والأهل لاستخدام كل الوسائل الملتوية لإيجاد وظيفة لابنهم أو ابنتهم ولو على حساب شخص أكثر أهلية، وعندما نرى كيف يكاد الشاب العربي يدخل معركة سحق شامل ضد شاب آخر بسبب تجاوز بسيط أو نظرة، علينا أن نسأل: كيف سيتصرف هذا المواطن لو استلم السلطة؟  وهل سيكون أكثر ديموقراطيةً ممن ينتقدهم؟  والجواب أنه ربما يكون أسوأ، والمشكلة لا تتعلق بالابتعاد عن الدين أو الأخلاق، كما يظن البعض، بل بمنظومة ثقافية موروثة من عهود الغزو والإقطاع والمماليك، أي منظومة التخلف، وهي المنظومة التي لا تزول إلا على أعقاب تطور اقتصادي-اجتماعي لن يأتي إلا في ركاب المشروع القومي.

 

الديمقراطية: مشروع تاريخي أم أداة للتدخل الإمبريالي؟

صالح بدروشي

 

إنّ غاية الإنسان الطبيعي هي أن يحقّق ذاته في كل نواحي الحياة في المجتمع بكلّ حرية ويشبع حاجاته ورغباته المادية وغير المادية من دون ظلم أو إهانة، وبما أن الإنسان مدني بالطبع فإنه لا يحقّق ذاته إلّا ضمن ومن خلال المجموعة التي يعيش ضمنها وينتمي إليها والتي يتوجّب عليه الدفاع عنها والاحتماء بها دون سواها وتقديم مصلحتها العامة عن مصلحته الخاصة التي قد تتعطل نسبيا لأن الضامن للمصلحة الخاصة إنما هي المصلحة العامة، ومن ذلك ابتدع الإنسان فكرة التضحية والنضال في سبيل الوطن التي أصبحت مصدر سعادة لديه.  وسبب صعوبة تحقيق هذا الهدف الإنساني السهل والبسيط في اعتقادي هو أنّ جزءاً من بني الإنسان، بغبائه أو بجشعه أو بالاثنين معًا، لم يدرك أو أنه تعامي عن حقيقة أن خيرات الكون أكثر بأضعاف من حاجات كلّ الناس، إن وجه قدراته وإمكاناته الجمعية لاستغلالها، ولعل التعبير الأبرز عن هذا الجزء يتمثل بالامبريالية العالمية والرجعية العميلة لها.

أمّا الوسائل والأدوات المستعملة لتحقيق تلك الغاية فهي متعدّدة وتنحصر في بابين: الحرية والعدل.  أمّا الحرية فتنقسم دون أن تنفصل إلى قسمين: حرية الوطن ككلّ وكمجموعة داخل المجموعات البشرية، وحرية المواطن داخل هذا الكلّ.  وبالنسبة إلى حرية الوطن فإنها تترجم إلى تحرير الأرض من الاحتلال كأحد أهمّ أدوات الظلم، وكذلك إلى تحرير الإرادة السياسية الجمعية وامتلاك القرار داخل أسوار الوطن.  وأمّا حرية المواطن فقد تمّت ترجمتها أو اختزالها في الأداة الديمقراطية، موضوع هذا المقال، والتي سنرى كيف عملت القوى العالمية الظالمة على تغليب معناها الفردي عن الجمعي، والشكلي عن الجوهري، للتمكّن من الشعوب المستضعَفة لسلْب خيراتها.

أمّا العدل فقد تمّت ترجمته إلى أحد أهمّ أدوات تحقيقه وهي الاشتراكية بكل أصنافها كأداة للتوزيع العادل، بالإضافة إلى العدالة كأداة للمساواة في المقاضاة والتقاضي وتكافؤ الفرص بين الناس.

وكلّ هذه المفاهيم متشابكة ومترابطة وتغذي بعضها سلبا وإيجابا.

وبالنسبة للإنسان العربي فقد تمّ التعدي عليه في بابي الحرية والعدل عن طريق تقسيم وطنه إلى أجسام ضعيفة للتّمكّن من احتلال أجزاء منه ونهب ثرواته وإفشاء الظلم بداخله لإدامة إضعافه.  ولأجل ذلك برز بابٌ جوهريٌ عربيٌ ثالثٌ أساسيٌ في تحقيق غايات الإنسان العربي الطبيعي، كما ذكرنا أعلاه، وهو باب الوحدة العربية وهو متداخل ومترابط كلّيا ببابي الحرية والعدل، ولذلك فإننا نقول أن المشروع القومي العربي يقف على ثلاثة مرتكزات ويسقط بدون إحداها وهذه المرتكزات هي الوحدة والتحرير والنهضة.

بالعودة إلى جوهر موضوعنا نذكّر أنّ الديمقراطية هي كلمة مركّبة مشتقة من اليونانية ديموس-كراتوس، (ديموس): وتعني عامة الناس أو الشعب، (كراتوس أو كراتيا): وتعني الحكم أو السلطة، وبذلك فهي تعني : حكم الشعب أو سلطة الشعب .

لقد تحوّل هذا النظام في كثير من الدول إلى صورة لا حقيقة لها، غابت فيها الحرية وتعاظمت فيها الأدوات الديمقراطية، بل تحوّلت إلى مجرد شعارات تُخدع بها الشعوب، والحاكم الفعلي هو رأس الدولة الذي تمسك به قلّة متنفّذة من خلال امتلاكها أكبر نسبة من الثروة الوطنية، وعبر لعبة الأحزاب التي تتحكّم في خيوطها جيّدا، والشعب مقهور مغلوب على أمره يعيش على الفتات ويتلاعَب به الإعلام التضليلي الذي تسيطر عليه هذه القلّة المستبدّة الظالمة.   فالديمقراطية أداة، والهدف هو الحرية، وفي معظم البلدان التي تتباهى بالديمقراطية والعراقة في الديمقراطية تغيب الحريات وتتكاثر أطباق الأدوات الديمقراطية المتنوّعة التي يتيه فيها المواطن ويتمّ تطويعه للإذعان إلى لعبة لا يمتلك خيوط تحريكها ويقبل نتائجها طواعية لأنه لا يرى إمكانية لغيرها، وعلّموه منذ الصغر أنّ الانتخاب واجب وطني مقدّس .. أقدس من محاربة الظلم .. وأنّ الذهاب إلى الصندوق مرّة كلّ بضع سنوات، أو كلّما دعوه إليه والقبول بنتائجه هو قمّة الحضارة والتمدّن والمواطنة …

بالنسبة إلى حرية الوطن، فإنها تُترجم إلى تحرير الأرض من الاحتلال كأحد أهمّ أدوات الظلم، وكذلك إلى تحرير الإرادة السياسية الجمعية وامتلاك القرار داخل أسوار الوطن. وأمّا حرية المواطن فقد تمّت ترجمتها أو اختزالها في الأداة الديمقراطية، موضوع هذا المقال، والتي عملت القوى العالمية الظالمة على تغليب معناها الفردي على الجمعي، والشكلي على الجوهري، وديمقراطية الأفراد على ديمقراطية الجماعة، والديمقراطية الرأسمالية الليبرالية على الديمقراطية الاشتراكية الجمعية، للتمكّن من المجتمعات المستضعفة بعد تفكيك روابطها الاجتماعية وهدم ثقافتها الجمعية وتكريس علْوية حقوق الإنسان الفردية فيها لتيسير سلب خيرات شعوبها.

كمثال على المبشرين بالثقافات التي تخدم المشاريع الهدّامة نذكر المدعو عزمي بشارة و”مركز دراسات الوحدة العربية” وما قاموا به من ترويج لفكرة أن الديمقراطية هي أعلى قيمة وتأتي في المرتبة الأولى مقارنة بكل القيم الأخرى، وهي أهم سبب على الإطلاق في تخلّفنا نحن العرب.  فلا التجزئة ولا الاحتلال ولا الاحتكار العالمي وجشع قوى الطغيان العالمي تشكّل برأيهم سببا ذا قيمة في تخلّفنا، لكن كلّ بلائنا آت من غياب الديمقراطية في شكل التداول على السلطة على طريقة الغرب الاستعماري، ومن غياب الاعتناء بحقوق الإنسان الفردية كما حدّدها هذا الغرب.  وكان هذا الطرح يمهّد موضوعياً لتقبل ضرورة هدم الدول التي يحدّدها الغرب على أنها استبدادية ليزهر “الربيع العربي” .. طبعا مع استثناء كلّ من الإمارات والملكيات العربية لأنها “ليست استبدادية”!

فمنذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، اشتغل أصحاب مشروع الهدم العربي وأعداء المشروع القومي العربي عبر “مركز دراسات الوحدة العربية”، وعدة منابر وأدوات أخرى، على إعداد الديمقراطية وحقوق الإنسان كأهمّ معول للهدم، وجنّدوا مجاميع من المثقفين العرب وشجّعوهم على الكتابة و”الإبداع” في مواضيع مثل: إعلاء شأن الديمقراطية فوق أيّ شأن آخر، وأن اعتبار الاستعمار والصهيونية  سبب خراب وطننا هو ترّهات “قومجية” قديمة ومرض نظرية المؤامرة، وأن السبب الرئيسي والوحيد في تخلّفنا هو الاستبداد وأنه أخطر من الاستعمار!   وهكذا كان تشجيع المثقفين العرب على الكتابة في الموضوع وإلقاء المحاضرات بحوافز مالية مغرية جدّا ورحلات واستضافات مجانية في فنادق عالمية مرفقة بهدايا سخيّة، ولا يخفى على أحد اليوم تكليف عزمي بشارة، صبي قطر، باستقطاب المثقفين العرب وإغرائهم بالرشاوى للانضمام إلى هذه الجوقة، وقد حاولت قطر التمكّن من “مركز دراسات الوحدة العربية” بأكمله، ثمّ آثرت إنشاء مركز جديد لعزمي بشارة لا يزال يشتغل بإدارته ويترأسه إلى اليوم، وهو “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، ومركزه الرئيسي في الدوحة قطر، مع فروع في بيروت وتونس.

كما أسست قطر “الملتقى العربي للديمقراطية والإصلاح” و”المؤسسة العربية للديمقراطية” الذي يرأسه حاليا التونسي محسن مرزوق، وكل هذه المراكز شغلها الشاغل الديمقراطية وحقوق الإنسان التي أصدروا عنها في بضع سنوات قليلة مئات الكتب!

لقد ذهبوا بمفهوم الحرية الفردية إلى أقصى حدودها الهدّامة، وهي حرية الفوضى وحرية الهدم وحرية إنشاء الكيانات المستقلّة داخل الجسم الموحّد لتفكيكه تحت عناوين مختلفة من حريات إثنية ودينية وطائفية وعصبيات ثقافية مستحدثة وغريبة، وكل هذا على حساب الحرية الوطنية الجمعية.  وفي خضمّ سوق السمسرة السياسية والمتاجرة بالعناوين القومية والناصرية وغيرها، استطاع عزمي بشارة هذا، عضو الكنيست الصهيوني السابق، أن يشغل “كرسي جمال عبد الناصر” في مركز دراسات الوحدة العربية بين الأعوام 2007- 2009!!

تمر الأمم في مراحل تاريخها بمحطات حاسمة في مسار تطورها تنقلها إلى مستوى معيشي وثقافي مغاير لما دأبت عليه لردهة من الزمن.  وتشّكل هذه المحطات منعرجات تحدث فيها تغييرات عميقة في المجتمع على عدة مستويات تمسّ السلوك والطبائع والعادات، وهذه التغييرات تستوجب نظام حكم خاص يتميز بشيء من الاستبداد لفرض قواعد جديدة مخالفة للنمط السائد الذي تعوّد عليه الناس.  وإذا كان الاستبداد ظالما في مثل هذه الحالة، فإن التغيير المطلوب لن يحدث وستكون المسيرة رجعية وتّتسع دائرة الفقر والاحتياج والظلم بين فئات الشعب ويضيق الشعور بالحرية والسعادة والرفاه وسوف يزداد المجتمع تخلّفا واحترابا.  أمّا إذا كان الاستبداد عادلا، فسوف يوفّر أرضية خصبة لنموّ الحريات لجميع أفراد المجتمع وتكون المسيرة تقدمية وناجحة باتجاه تحقيق النهضة التي تضمن كرامة كل المواطنين وسعادتهم. المطلوب إذن ليس ديمقراطية الحلف الصهيو-أمريكي، ولكن الحرية التي يبنيها الاستبداد العادل والتي تبدأ بالاستقلال وسيادة القرار الوطني الذي يحقق الحرية الجماعية قبل الحريات الفردية.

فإذا أخذنا بعين الاعتبار المخاض الذي يعيشه وطننا العربي اليوم مع حالة الجهل والتخلف التي تعمّ مجتمعاتنا العربية والفرق الشاسع بين مستوى نهضة وتطور أمم العالم والحالة الرثة التي تعتري أمتنا العربية .. إذا اعتبرنا هذا كله، وأضفنا إليه حدة وشراسة العداء الذي يضمره لها هؤلاء المتفوقين علميا واقتصاديا وعسكريا، فإنّ هذا يجعلنا لا نتردد لحظة في التأكيد على أن ما نحن بحاجة إليه إنما هو الاستبداد العادل.

الديمقراطية مفهوم فضفاض يستطيع كل منا أن يترجمه على مقاسه أو حسب مشروعه وأهدافه.  ولمّا اكتسب مصطلح الديمقراطية إيحاءً إيجابياً جداً لدى مختلف الشعوب والثقافات، أصبح كل الحكام الظلمة يتشدّقون بدعم “الديمقراطية” وإجراء انتخابات معروفة النتائج سلفاً.  وكل حكومات العالم تقريباً تدّعي الديمقراطية.  لقد تمّ اغتيال مفهوم الديمقراطية في غايته من قبل معظم حكومات الغرب الاستعماري، ولكنهم لم يتجرؤوا على تبنّي شعار الاشتراكية كأداة لتحقيق الحرية بل شنّوا عليها حربا معلنة وصريحة، وجعلوا من معناها سبّة، كما تم اغتيال غايتها وقالوا عنها سرقة، أي أنّ الشعب عندما يستعيد ثرواته الوطنية ليوزّعها بشكل عادل فهو برأيهم يسرق ثروة الأغنياء ويعتدي على الحريات الفردية.

إذا عدنا إلى مفهوم الاستبداد نجد أنّ أصل الكلمة في اللغة اليونانية مشتقة من كلمة “ديسبوتيس” التي تعني رب الأسرة، أو السيد على عبيده. ثم خرجت إلى عالم السياسة لكي تطلق على نمط الحكم الملكي المطلق، الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه مثل سلطة الأب على أبنائه في الأسرة.

أمّا الاستبداد في معناه العام فهو يعني انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم أو السلطة المطلقة، وإذا كان هذا الاستبداد من أجل تحقيق مصالح ومنافع شخصية وفئوية على حساب عموم الشعب من دون وجه حق ولا ضوابط عادلة فإنّه يعتبر ظلمًا.  وأمّا إذا كان مقيّدا من حيث الهدف بتحقيق المصلحة الجماعية لكلّ الشعب بالعدل وتكافؤ الفرص للجميع، فإنه يعتبر عدلًا ولا يحمل هذا النوع من الاستبداد أي مضمون سلبي كما يصوّره الغرب بل يعود إلى مضمونه الأصلي في  القاموس العربي-الإسلامي بمعني “الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه”.  ومن هنا جاءت عبارة: “إنما العاجز من لا يستبد”.  وعلى رأي محمد عابد الجابري في مقالة له بعنوان “المستبد العادل… بديلاً للديموقراطية” (الاتحاد الإماراتية 4 تموز 2002): “هذا هو معنى الاستبداد في المرجعية العربية خصوصا عندما يقرن بـ”العدل”.  فالعدل يفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه. أما الاستبداد من دون عدل فكان له اسم آخر في المرجعية العربية وهو “الطغيان” أو الظلم (قال تعالى :”اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى”)  .. كما أنّ مقولة “المستبد العادل” جاءت في إشارة إلى سيرة الخليفة عمر ابن الخطاب “رضي الله عنه” في الحكم والإدارة “.

مع أنّ الظلم يمكن أن يكون في شكل سلطة خاضعة للقانون الذي تفرزه لعبتهم الانتخابية وتعود بالنظر إلى رأي المحكومين بشكل مزيّف أو مخادع مثل صناديق الاقتراع .. ولقد تم الحديث بإطناب في هذا الموضوع من طرف بعض من يسمّون المفكّرين الإصلاحيين الإسلاميين مثل عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وغيرهم … حيث قال جمال الدين الأفغاني أنّ الحل الذي يراه لمشكلات الشرق إنما هو “المستبد العادل” الذي يحكم بالشورى: “لن تحيا مصر، ولا الشرق بدوله، وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهما رجلا قويا عادلا يحكمه بأهله على غير تفرد بالقوة والسلطان”،  وقال أيضا: “إنما ينهض بالشرق مستبد عادل”، مستبد “يتمكن به العدل أن يصنع في 15 سنة ما لا يصنع العقل وحده في 15 قرنا” (المستبد العادل في التراث السياسي العربي الإسلامي، عبدالله العليان، 28 تشرين أول 2004).

كما هاجم جميعهم وبشدّة الاستبداد في صيغته الظالمة أي الطغيان واستبعاد الأمة من إدارة شؤونها وعدم استشارتها في مصالحها وتغييب إرادتها، وكانت الفكرة الايجابية للاستبداد العادل هي التي قامت عليها فكرة السلطة الدينية في الممالك والإمارات، وكان التذرع بها من قبل الحكام طريقا لهم إلى إطلاق يدهم في الدولة وحقوق الرعية.  والملفت للانتباه أن دعاة محاربة الاستبداد المعاصرين من أهل الغرب لم يستهدفوا هذا النوع من الاستبداد، بل جاؤوا لمحاربة كل مستبدّ عادل في بلادنا، أوفيه أيّ شبهة من العدالة والوطنية والغيرة على أمّته، وشنّوا عليهم حرب “الربيع العربي” مستعينين بالطغاة أي المستبدّين الظلمة أمثال آل سعود وآل خليفة ومن لفّ لفّهم.

إنّ الثقافة التي تسعى الدوائر الامبريالية إلى زرعها في وطننا هي ثقافة القبول بالديمقراطي المائع المفرّط في السيادة والهوية الوطنية، أو المستبدّ الظالم الفاسد الذي يساعد على تحقيق المصالح الفردية، ورفض المستبدّ العادل الوطني واعتباره متطرّفا وشوفينيًا وغير واقعي لأن العدل “مثالية”، بحسبهم، ولأن الفساد والرشوة والمحسوبية أمور واقعية لا يخلو منها أي مجتمع!

وفي الختام أودّ أن أقدّم للقارئ الكريم هذه الفقرات من المقال الرائع بعنوان «المستبد العادل.. رائد نهضة مصر» للكاتب الصحفي سيد عبد العاطي من مصر العربية :

“… سوف أتوقف عند فترة زمنية مهمة في تاريخ مصر  الحديث.. «1805 ـ 1849» وهي فترة حكم محمد علي باشا لمصر.. وهي الفترة التي تحولت فيها مصر من دولة بلا اقتصاد، وبلا جيش.. إلى دولة ذات اقتصاد قوي.. وجيش استطاع أن يحارب في أوروبا شمالاً.. ووصل إلى الحبشة جنوباً.. وإلى الحجاز شرقاً.
عامان قضاهما «محمد علي» في معارك داخلية مع المماليك حتى تمكن من فرض قبضته على البلاد ليبدأ معركة البناء والتنمية.. معركة نهضة مصر الغارقة في الجهل والتخلف.

كان «محمد علي» يريد أن يجعل من مصر إمبراطورية، لا تقل عن الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس.. لكن الغرب كعادته تآمر عليه.. ووقف ضد طموحاته وأحلامه.. ورغم ذلك واصل  «محمد علي» مشروعاته العملاقة لنهضة مصر.

لم يتوقف «محمد علي» عند هذا  فقط.. بل امتدت إنجازاته في مصر.. فقد أحدث ثورة عمرانية هائلة.. بدأت منذ تصميمه علي إحداث نهضة علمية بإنشاء مطبعة بولاق لتكون مركزاً للطباعة والنشر والصحافة.. حيث ظهرت باكورة الكتب المؤلفة والمترجمة إيذاناً بنهضة علمية حديثة.. وفي مطبعة بولاق كانت تطبع الوقائع المصرية، أول جريدة رسمية للحكومة أسست عام 1828.. وهو من أنشأ دار المحفوظات أو الدفترخانة «ذاكرة الأمة» التي تحتوي علي 90 مليون وثيقة.. من بينها عرض حال خاص بأوقاف المسجد الأقصى ومسجد سيدنا ابراهيم الخليل بفلسطين، وفي عهده أيضاً أنشأ العديد من القناطر لضبط مياه النيل محدثاً طفرة زراعية هائلة ونهضة بشئون الري والمحاصيل.. وأنشأ المصانع الكبرى، واهتم بالتجارة.. وأنشأ أول أسطول بحري مصري وأول منارة بالإسكندرية.. كما اهتم ببناء عشرات القصور في مختلف محافظات مصر، والتي مازالت قائمة حتى الآن شاهدة على إنجازاته العظيمة.

لقد وصِف «محمد علي باشا»، بالمستبد العادل.. وهنا أتوقف عند وصف «المستبد».. إذ كان يفرض عشرات الضرائب والمكوس علي الفلاحين.. وكان يطبق نظام السخرة.. وهو أمر غير مقبول.. فقد  كان يستخدم الفلاحين إجبارياً لحفر الترع وتطهيرها وتقوية  الجسور وحراسة شواطئ النيل أثناء الفيضان.. وكان يحق للدولةـ وقتها ـ نقل عمال السخرة من أي مكان في مصر.. وكانت السخرة تتم خلال تسعة شهور في السنة.. علاوة علي قيامه بذبح المماليك وإبعاد  القوي السياسية وتوزيع القبائل العربية المشاغبة بين الأقاليم المصرية، بحيث يكسر باستمرار التكتلات ضده.

لكنه ـ أي محمد علي باشا ـ على الجانب الآخر قدم نموذجاً رائعاً للتحديث والنهضة واستخدام الأموال التي يجمعها من دماء شعبه في مشروعات عملاقة، عادت على خزائنه بالمزيد من الأموال، وربما كان ذلك سبباً مباشراً في نجاح دولته واستمرار الحكم في أسرته طيلة 147 عاماً.

لو لم يكن محمد علي باشا والي مصر حازماً وصارماً وقوياً.. ولو لم تكن لديه رؤية وقدرة وشجاعة على اتخاذ القرار.. ولو لم يكن قد استعان بأهل الخبرة والمعرفة والعلم  عن أهل الثقة.. ما نهضت مصر، وأصبحت دولة ذات وزن وثقل بين الأمم.”

عليه نقول: الاستبداد العادل .. كفيل بنقلنا إلى مناخ الحرية الدائمة.

الاستبداد العادل .. ضمان بناء مجتمع الحرية.

عن ضرورة وجود طرح ديمقراطي عربي

إبراهيم حرشاوي

من صفات الفكر العربي المعاصر أنه لا يلتفت إلا لماماً إلى المسألة الديمقراطية من منظورها التاريخي في السياق العربي – الاسلامي، برغم وجود كم هائل من الادبيات العربية التي أنتجتها تيارات فكرية وسياسية مختلفة.  أما الطرح الديمقراطي العربي بحد ذاته فيتسم عموما بارتباطه بالتجربة الديمقراطية الغربية من دون مراعاة السياق، أي الزمان والمكان والبعد الحضاري العربي – الاسلامي.  وبإمكاننا من هذه الزاوية أن نسلط الاضواء على خلفية الاسباب الرئيسية التي قد تفسر إلى حد ما عقم الطرح الديمقراطي العربي على مستوى التنظير والتطبيق.

بادئ ذي بدء، تعاني المسالة الديمقراطية العربية على المستوى النظري من عدم التشبث بمرجعية تاريخية تمهد الطريق لدمقرطة عربية، أي أن النخبة السياسية العربية تفتقد فيما بينها اجماعاً او شبه اجماع بخصوص المرجعية التأسيسية للمشروع الديمقراطي العربي.  ولا نقصد بالمرجعية التأسيسية التوافقات على برامج ورؤى مشتركة بين التيارات السياسية العربية البارزة مثل التيار الاسلامي والقومي العربي واليساري وما شابه، فتلك خطوات تطبيقية في العمل السياسي، وليست محاولة  للتأصيل والتأسيس.  فما نعنيه بالمرجعية التأسيسية هو نوع من عقد إجتماعي- سياسي تمثله قيم ومبادئ سياسية سامية للأمة قادرة على تنظيم الاجتماع السياسي.  وبالإمكان اعتبار المرجعية التأسيسية للنظام الديمقراطي هي تلك القاعدة التي يبنى عليها النظام السياسى وتُكتب في ظلها الدساتير.

ففي حضارتنا العربية-الاسلامية يمكن اعتبار وثيقة “صحيفة النبي” مرجعيتنا التأسيسية الاكثر نضجاً لبناء نظام سياسي قابل لمواكبة العصر والاستمرارية.  ولمن لا يعرف صحيفة النبي، فهي عبارة عن ميثاق قومي أبرمه النبي(ص) بعد هجرته إلى المدينة المنورة مع سكانها العرب، ومن بينهم معتنقي الديانة اليهودية. ويُعتبر هذا الميثاق قوميا لأنه يشير في أحد بنوده إلى أن المهاجرين والأنصار واليهود العرب أمة واحدة، متعايشون و متعاونون ضد أي اعتداء خارجي. لقد كان هذا الميثاق، الذي تمخض عنه كيانٌ سياسيٌ، مرتكِزاً على مبدأ المساواة بين جماعة من الناس فيما يخص إدارة دولة المدينة المنورة، متجاوزا الولاء القبلي والديني.  في إطار هذه الصيغة الفاصلة بين الاعتقاد الديني وإدارة الشأن العام، حافظت صحيفة النبي(ص) لكل القبائل المسلمة واليهودية على أعرافهم، وبالأخص في إصدار الاحكام في مسألة الجنايات، وبالأخص القتل، مما يجعل اعتبار هذه التجربة المركزية في تاريخنا العربي-الاسلامي نموذجا يفتح الباب للمواطنة وللعلمانية بمرجعية عربية-إسلامية محض.

يمكننا أيضاً الإشارة إلى الاجتماع الذي جرى بعد وفاة النبي(ص) في سقيفة بني ساعدة، والذي أسفر في خاتمته عن مبايعة أبي بكر خليفة للرسول.  وقد يكون ربط اجتماع سقيفة بني ساعدة بصحيفة النبي مفيداً جدا كونه يعزز مسألة الفصل بين ما هو ديني وما يتعلق بإدارة الشأن العام، حيث أن الصحابة عالجوا مسألة خلافة النبي(ص) بطريقة سياسية محض، تتوافق مع العرف وميزان القوى السياسية –الاجتماعية.  كما ينبغي التذكير بالطريقة التي بويع فيها عمر وعثمان وعلي كونها هي الاخرى اعتمدت على الحوار وميزان  القوى.  مثل هذه الحقائق التاريخية مهمة للغاية كونها تؤكد على ان السياسة هي التي كانت موضوعا للنقاش وليس الدين.

وعلى غرار هذه التجارب في حضارتنا العربية – الإسلامية، نجد في الأمم الاخرى أحداثاً تاريخية أسست لتطوير بنيتها الديمقراطية والعلمانية.  ففي انجلترا نجد على سبيل المثال “الماجنا كارتا” أو الوثيقة العظمى الصادرة لاول مرة عام 1215م في ظل حكم الملك الانجليزي جون. تحتوي تلك الوثيقة بندا يُطوِق صلاحية الملك، كما تحتوي بنودا متعلقة بمنح حريات سياسية معينة، ولهذا تُعتبر من أهم الوثائق المرجعية في التكوين التاريخي للديمقراطية الغربية إلى جانب وثائق اخرى مثل “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الصادر بعد الثورة الفرنسية أو إعلان الاستقلال الامريكي.

يصطدم الباحث في الديموقراطية، إلى جانب مسالة المرجعية التأسيسية، بإشكاليات معرفية متعلقة بكيفية  بلورة مفهوم الديمقراطية التي تعددت تعريفاته بسبب تواجد افكار متعددة ومتباينة عند المدارس الايديولوجية الغربية.  نلاحظ بهذا الخصوص أن تعريف الديمقراطية أو المفاهيم القريبة منها، “كالعقد الاجتماعي”، مرتبطة بشكل شبه خطي مع أفكار ونظريات متعلقة بطبيعة الانسان في سياقه الاجتماعي.  وإذا نظرنا الى هذا نوع من الأطروحات في فكرنا العربي المعاصر، سنجد بينها نظرية جدل الانسان التي طرحها الفيلسوف القومي العربي د. عصمت سيف الدولة، التي تقدم أرضية ابستمولوجية متينة لفهم علمي لظاهرة الانسان ككائن اجتماعي-سياسي متحرك.  فالإنسان  بحسب هذا الطرح مدفوع باستمرار الى تقليص الفجوة بين ظروفه وبين تطلعاته في اطار دينامية جدلية تاريخية مستمرة يكون هو (الإنسان) جوهرها.  ومن هنا تأتي ضرورة حرية الانسان في معرفة واقعه الآني بشكل علمي لتشكيل رؤية للمستقبل لكي تصبح العملية الجدلية حركة الى الامام بدلا من أن تكون خطوة الى الخلف.  هذا يعني أن حق المعرفة والعلم للإنسان ضرورة ملحة لتغيير واقعه الاجتماعي-السياسي من أجل تحقيق تطلعاته من خلال العمل الذي يخلق واقعا جديدا وينتج بدوره رغبة جديدة في التغيير.

من هنا تأتي اهمية شكل النظام السياسي الذي ينسجم مع هذه الرؤية للإنسان.  فهل ستؤدي السلطة الشعبية المباشرة مثلاً الى النتيجة المرغوبة في تحقيق التطلعات المختلفة للناس عبر اشراك أكبر عدد ممكن منهم في صناعة القرار بصرف النظر عن الاختلافات الطبيعية بين من له القدرة (كالحنكة والمستوى العلمي الخ…) في التأثير، ومن يفتقدها؟  كما ينبغي التساؤل حول امكانية نشوء تحزب او تكتل غير معلن عبر تيارات سياسية وفكرية داخل اجهزة السلطة الشعبية التي قد تسفر عن  خلخلة ميزان القوى السياسي لصالح تيار معين.  وهل  يمكن للنظام الحزبي بدوره ان يحقق هذا المسعى لو افترضنا وجود أحزاب ديمقراطية تنظيميا في اطار دولة تراعي المساواة بين سكانها، علما بأن الاحزاب تتفاعل مع ادارة الشأن العام بمنطق الربح والخسارة.  كما يمكن أن نضيف الى ذلك إمكانية اختراق الاحزاب من قبل اطراف خارجية وعدوانية لتوظيفها كطابور خامس.

أخيراً وليس آخراً، تُرجِعنا هذه التساؤلات إلى ضرورة التوافق بين البنية الاجتماعية والنظام السياسي.  فلا يعقل مثلا أن تكون هناك مشاركة عارمة للمواطنين في صناعة القرار في حالة تفشي الامية وهيمنة الخرافة والتخلف الديني ومنظومة اقتصادية تابعة ووعي وطني متآكل بالولاء الجهوي والطائفي والعرقي. وهذا التناقض بالذات يفسر إلى حد بعيد الفشل الذريع الذي منيت به التجارب الديمقراطية العربية المستقلة أو “الديمقراطية” التي اتى بها العدوان  الغربي الامبريالي عبر جيوشه الجرارة في العراق أو عبر النخبة التابعة له في دول “الربيع العربي”.  فالديمقراطية لا يمكنها ان  تتطور وتنضُج إلا كنتيجة وامتداد للمشروع نهضوي عربي مستقل تكون اولوياته ترسيخ هوية قومية عربية وبناء دولة-الامة المستقلة وتطوير البنية الاقتصادية والعلمية والفكرية لفك التبعية بجميع اشكالها.  كما ينبغي تكرار وتأكيد ضرورة بلورة طرح ديمقراطي عربي ينطلق من قراءة علمية ودقيقة لتراثنا السياسي والفكري لصياغة ديمقراطية تكون هويتها الرئيسية محلية وبعيدة عن التغريب العشوائي.

الصفحة الثقافية:

عبد الرحيم محمود، من الشعر إلى الثورة                      

 

معاوية موسى

وقف بعض الشعراء بقامات تتسامى لتصل عِنان كلماتهم وشعريتهم، فلا تعود أشعارهم وبحورهم الشعرية، مجرد نَظم من الكلمات، بل واقعاً يجسدونه بحياتهم ومواقفهم، وهكذا كان شاعرنا عبد الرحيم محمود أستاذاً معلماً للأجيال، وأديباً، ومجاهدا مقاتلاً، استشهد في تموز (يوليو) 1948، في الخامسة والثلاثين من عمره، ولقد تحول شعره إلى جزء من حياة ونضال الشعب الفلسطيني والأمة العربية، لا تدرس قصائده في المدارس أو تقرأ من محبي الأدب والشعر وحسب، بل تنطلق كلماته طلقاتٍ من أفواه من يرفضون الظلم ويرفعون أيديهم في مواجهة جنود الاحتلال والظالمين وهم يرددون كلماته:

سأحمل روحي على راحتي، وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى.

سنة 1937 انضم إلى صفوف الثورة الفلسطينية، وبعد أن خمد لهيب الثورة هرب إلى سورية فالعراق وهناك درس في الكلية العسكرية وتخرج برتبة ملازم ، ثم عمل مدرسا في البصرة، وفي العام 1941 اشترك في حركة رشيد الكيلاني في العراق، وبعد ذلك عاد إلى فلسطين ودرّس في كلية النجاح.

سنة 1943 تزوج من ابنة خاله من الناصرة، وأنجب منها ثلاثة أطفال، وبعد “قرار التقسيم” عام 1947 انتظم ملازما في جيش الإنقاذ وسافر إلى سورية ليتدرب في أحد معسكراتها، وبقي حتى أوائل سنة 1948 وعاد إلى فلسطين برتبة ملازم أول وحارب في منطقتي المثلث والجليل إلى أن استشهد في معركة الشجرة ودُفن في المقبرة الاسلامية في الناصرة.

عبد الرحيم محمود، كان مثالاً للمناضل الوطني والقومي الذي عزّ نظيره في أيامنا الحاضرة، فهو شاعر قال قولا وصدقه، وكل كلمة قالها في شعره كانت حقيقة صدرت عن قلب سليم وعن إرادة فاعلة فطبقها حتى استشهد، كان مثلا لفارس الكلمة والسيف معا.  فكان قوله مصداقاً لفعله، وفعلُه مصداقاً لقوله، كتب أجمل الأشعار في فلسطين الحبيبة، ولم يكتفِ بالكلام، بل حوّل الكلمات إلى ممارسة وعمل، وكان نضاله بحد الكلمة والبندقية، كتب قصائده بدمه وجاد بروحه دفاعا عن أنبل وأقدس قضية، وظلّ شعلة متوقدة ومتألقة في الشعر العربي الفلسطيني المقاوم والجذري والثوري.  ولا نقول ذلك لمجرد ترتيب جمل منتقاة عن حياة رجل أو شاعر، بل لإنصاف فارس عربي وقومي تعرض لغبنٍ كبير ولم ينلْ نصيبا كافيا من الشهرة، فحقّ علينا أن ننصفه بأضعف الأيمان، هنا في مجلة طلقة تنوير، حيث نقدم هذه الشهادة.

عبد الرحيم محمود اعتلى صهوة جواد الشعر في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، وتعتبر “الشهيد” من أشهر قصائده التي كتبها في ثلاثينيات القرن الفائت.  يتّسم شعره بالجزالة والقوة في غير تعقيد، ويتراوح بين المحافظة والتجديد في الصور والمعاني والأوزان الشعرية.  ولعله الأول بين شعراء العربية في ابتكار الأناشيد القومية، إلى جانب قصيدتي “موطني” و”صامت لو تكلم” لمواطنه وابن جيله الشاعر الكبير إبراهيم طوقان.

رأى أبو الطيب في الثالوث الدنس، الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية، العدو الأساسي والحقيقي للشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة ولجميع الشعوب الكادحة والمقهورة والمناضلة في سبيل حريتها واستقلالها الوطني. ولهذا نجد أن قصائده تستلهم الواقع السياسي والمعيشي الحياتي، بسلبياته وإيجابياته وتناقضاته، وتعبر عن آلام وهموم الكادحين وفقراء الشعب وتستفزهم إلى الكفاح والنضال الطبقي الثوري ضد مستغِليهم ومضطهِديهم ومصاصي دمائهم وسارقي قوتهم، وتستشرف مستقبلهم الجميل القادم بلا محالة، وفي قصيدته “يا عامل” يصور معاناة وأوضاع العامل المسحوق والمضطهَد والمسلوب الارادة الذي يبني القصور ويزرع الجنان ويحرم من التمتع بها فيقول:

هذي القصور وأنت رافع شملها هل هن لك
والروح من حول القصور زرعته هل ظللك
والنور من يدك الصناع فما حياتك في الحلك
الحسن انت خلقته لكن سواك له ملك
لا تأس فالدنيا تصير اليك إن دار الفلك يا عامل.

آمن شاعرنا بقيم الحرية وبالعدالة الاجتماعية التي لا يمكن تحقيقها إلا في المجتمعات القوية، يقول:

أتينا للحياة فلي نصيب كما لك أنت في الدنيا نصيب
فلمَ تعدو وتغصبني حقوقي وتطلب أن يسالمك الغصيب؟!
أعدلك قال أن أسعى وتجني وأطلب المعاش فلا تجيب
فأنصفني ولا تجحف فأني اخوك إذا دهى الخطب العصيب.

عبد الرحيم محمود علمٌ من أعلام الأدب والنضال والمقاومة، وقد شارك في ترسيخ وتأصيل المفاهيم الجديدة للثورة، وسار على درب التضحية والفداء بكل شموخ وإباء وعناد، معانقا خيوط الشمس. آمن عبد الرحيم بالثورة وكان الصوت الحزين والمتألم والغاضب والمجلجل والهادر والواثق بالأمل والغد المشرق والسعيد لجميع الكادحين والمظلومين والمستضعفين في الأرض، عاش حياته القصيرة شعلة من الثورة والتحدي، في مواجهة الاستعمار البريطاني والغزو الصهيوني، ورحل مبكرا، غير أنه بقيت لنا من شعره رؤيتَه الواضحة لآلية الصراع في الأرض المقدسة، وإذا كنا ندرك أن كلمات الشعراء مهما كانت حرارتها لا تكفي لتحرير وطن، فإننا على يقين بأن هذه الكلمات هي التي تذكّر الإنسان بالحق المغتصَب، وتبقي هذا الحق مؤرقاً للوجدان حتى يستدعي الرصاصة التي تحرر الوطن وتحقق للقول الشعري نبوءته ووعده الذي لن يخيب.

الصفحة الثقافية:

العروبة والمقاومة في أغاني فيروز

طالب جميل

فيروز التي لا يهرم صوتها ولا يتقادم، صاحبة الإرث الغنائي الطويل، السيدة التي قدّمت كل شيء جميل فأمتعت الشعب العربي من محيطه إلى خليجه عبر أكثر من نصف قرن اعتلت فيها فيروز منصة المجد وفرضت نفسها كقامة إبداعية عالية قلّ نظيرها، فكان لها الفضل في تنقية الذائقة الغنائية العربية وتطهيرها والسمو بها.

فيروز كانت دائماً، ولا تزال، تجمع ولا تفرق، فهي التي غنّت للمسيح وللسيدة العذراء كما غنّت لمكة المكرمة، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأنها تعتبر أحد العوامل التي تجمع بيننا كعرب، فقد بات معروفاً للجميع أنه عندما اندلعت الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات في لبنان وكادت أن تجهزَ على كل شيء، كان صوت فيروز يوحّد شطري العاصمة التي انقسمت إلى شرقية وغربية، ولم يكنْ غريبا أن يختلف السياسيون والمثقفون على أشياء كثيرة، ليتفقوا حول قيمة فيروز ومكانتها اللائقة في الوجدان العربي، ودورها في إعادة بناء الذائقة الفنية.

كما يحسب لها دائماً أنها وعبر مسيرتها الطويلة لم تغنِ لزعيم أو قائد سياسي وحافظت على مسافة بعيدة من  المؤسسة الرسمية العربية، لذلك كانت قاسماً مشتركاً بين أبناء الشعب العربي على اختلاف ايديولوجياتهم وآرائهم السياسية.

ولا يمكن الحديث عن تجربة فيروز طبعاً من دون ذكر الأخوين رحباني (عاصي ومنصور) كونهما كانا الوقود لأغلب أعمال فيروز الغنائية والمسرحية، فهي كانت دائماً جزءاً من المدرسة الرحبانية العملاقة، واستكملت هذه المسيرة مع العبقرية الرحبانية الأخرى؛ ابنها (زياد).

كان الرحبانة يختزنون أبعاداً قومية ودينية ووطنية وإنسانية تجاه كافة القضايا العربية وخصوصاً قضية العرب الأولى (فلسطين)، فقد عبّرت أعمال فيروز عن عروبة الأرض العربية وأكّدت على الهوية الحضارية العربية-الإسلامية للوطن العربي، ولم تستثنِ المسيحية الشرقية، فلامست البعد القومي وعبرت عن الحسّ العروبي.

لم تغنِ فيروز لبيروت فقط، بل كانت لكل العواصم العربية حصة واسعة من مجدها الغنائي الذي حصدته على مدار السنوات الطويلة، فقدمت فيروز أغان للعواصم وتغزّلت بالمدن وافتخرت بالمعالم التاريخية في الأقطار العربية، بكلمات استنطقت التاريخ بزهوه العربي الخالد، فهي التي شَدَتْ لتونس وعمان وبغداد ودمشق والكويت والإمارات، وهي التي تغزّلت بنهر بردى وجبل الشيخ وشطّ الاسكندرية، حيث صارت تلك الأغاني تمثل مرجعا أخلاقيا لوحدة الهمّ العربي، في وقت قدّمت فيه المسرحيات الغنائية التي منحت للأغنية العربية نوافذ جديدة تقدم للناس متعة وجمالاً.

فلسطين كان لها حصة الأسد في أعمال فيروز، فقد أنجز الرحابنة منذ سنة 1954 عدداً من الأغاني لفلسطين، مشبعة كلها بالحنين والتحدي والثورة والغضب، وأودعت فيروز في أغنياتها الفلسطينية ذروة ما جاد به صوتها من الغناء فقدمت أغنيتها الرائعة (راجعون)، التي كتبها الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، ولحنها الأخوان رحباني.

بعد حرب حزيران 1967 واحتلال القدس الشرقية غنت فيروز قصيدتها للعاصمة العربية التي لم تغنِ لها من قبل، القدس، وجاءت زهرة المدائن نموذجا رائعا للقصيدة القومية المغنّاة، تغنت فيها بمعاني القومية والتصالح الديني بين المسلمين والمسيحيين العرب تحت راية القضية القومية الواحدة، واستخدم الرحبانية دقات أجراس الكنائس وتيمة أذان الصلاة في تجانس عبّر عن الوحدة بين أبناء الشعب الواحد في مواجهة عدو واحد، وقبل أن تتوغل في اللحن كثيرا تجد جملة (يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي) غايةً في التعبير عن موقف الصلاة من أجل المدينة المقدسة، وقبيل نهاية القصيدة تشترك مجموعة الكورال في لحن تبادلي مع صوت فيروز يتصاعد في قوة إلى نهاية اللحن التي يسيطر عليه أداء الكورال حتى الختام موحياً بجماهيرية الموقف، وقد لاقت زهرة المدائن نجاحا كبيرا ولا زالت تُسمع في مختلف الفضائيات والإذاعات العربية كعمل من أفضل الأعمال الفنية القومية، فكانت (زهرة المدائن) تعبيرا غير عادي يفجر كل الطاقات ولم تزل هذه الأغنية خالدة لم تتجاوزها أي اغنية وطنية أو قومية أو دينية.

كما خُلدت فلسطين في أعمال غنائية أخرى مثل (القدس العتيقة) و(أجراس العودة) و(نهار آخر) و(سنرجع يوماً) و(بيسان) و(جسر العودة) و(سنرجع يا يافا) وساهمت هذه الأغاني في تشكيل مساحة من وعي الشباب العربي بقضية فلسطين في كافة أقطار الوطن العربي.

وللدول العربية المركزية (العراق، سورية، مصر)، التي هي خط الدفاع الأول عن العروبة، نصيب من أغاني صاحبة الصوت الملائكي، فقد غنّت للعراق قصيدة جميلة كتبها الأخوان رحباني ومطلعها:

بغداد والشعراء والصور ذهب الزمان وضوعه العطر

يا ألف ليلة يا مكملة الأعراس يغسل وجهك القمر

وغنت لمصر قصيدة مطلعها:

مصر عادت شمسك الذهب تحمل الأرض و تغترب

كتب النيل على شطه قصصاً بالحب تلتهب

في حين غنت لسورية عدة أغاني أهمها (أحب دمشق) و(يا شام عاد الصيف) و(سوريا مواكبٌ تسيرُ في مطالعِ الضياءِ) و(موال دمشقي) وغيرها.

لم تنس فيروز أن تقدم شيئاً للمقاومة فقدمت لها أعمال غنائية مجدّت وحيّت من خلالها الثورة الجزائرية والمقاومة الوطنية اللبنانية وغنت لميسلون (المعركة الشهيرة التي خاضها السوريون ضد الاستعمار الفرنسي عام 1920)، وعندما كانت حرب تشرين المجيدة عام 1973 كان صوت فيروز يعلن بدء المعركة بأغنية (خبطة قدمكن عالأرض هدارة)، فقد كانت كلمات هذه الأغنية هي كلمة السر ولحظة انطلاق الدفعة الأولى من الصواريخ السورية باتجاه الكيان الصهيوني.

ولأن القومية انتماء حضاري وثقافي يربطنا كأبناء أمة عربية واحدة بعضنا ببعض بعمق تاريخي موغل في القدم، وحيث أن اللغة هي روح الأمة وحياتها وهي محور القومية وعمودها الفقري، فقد كان للغة العربية الفصحى حضور في أغلب أغاني فيروز من خلال القصائد المختارة من الشعر العربي القديم والحديث المعاصر والمرتبطة بالتراث والتاريخ، حيث كان الرحابنة من أكثر المبدعين العرب انفتاحاً وإقبالا على اختيار القصائد كالموشحات الأندلسية بالإضافة إلى نصوص شعرية لعمالقة الشعراء مثل أبي نواس، وعنترة، وجرير، والأخطل الصغير، وايليا أبو ماضي، ونزار قباني، وجبران خليل جبران، وأحمد شوقي، وبدوي الجبل.

لا زالت الكثير من أغاني فيروز التي تتغنى فيها بالأوطان والمقاومة تلهب حماس الشباب العربي وتعبر عن قيم ومعاني العروبة التي تحمل عبق الحضارة والتراث والتاريخ العربي، لذلك ستبقى فنانةً لكل العرب وحارسةً لوجدانهم في مواجهة أعداء الأمة.

سلسلة قواعد المسلكية الثورية:

مفهوم الرابط التنظيمي

عبد الناصر بدروشي

شغل موضوع انحدار المشهد السياسي العربي وحالة الوهن التي تعتري حركة النضال القومي بال المناضلين القوميين، وأصبح تحليل حالة التشظّي والترهل والعجز التي تعصف بالأحزاب والتنظيمات القومية تتصدر عناوين صالوناتهم وكتاباتهم بحثا عن حل يخرجنا من مستنقع الركود وينتشلنا من الضياع في دهاليز الجمود.

فما الحل؟

                                                                                                   

مع احترامنا لكل الجهود الصادقة وبعيدا عن المزايدات، إلا أن اغلب المحاولات للإجابة على هذا السؤال كانت السطحية سمتها البارزة، وكثيرا ما انتهت بإطلاق دعوات ومبادرات لتوحيد القوميين وللنهوض بالمشروع القومي سرعان ما باءت بالفشل.  وكانت دعوات وأصوات تحطمت على صخرة صمّاء اسمها القفز فوق القوانين التي تحكم حركة الواقع، وهي قوانين تلقي بمن لا يقيم لها وزنا في هوّة الفشل.  ذلك أن تلك المحاولات لم تحتكم إلى المنهج العلمي وكانت محاولات صادقة في كثير من الأحيان، إلا أنها اتسمت بالسطحية والعشوائية.

نحن لا نزعم أننا سنقدم في هذه السلسلة الجواب الشافي على هذا السؤال، بل سنحاول تسليط الضوء على أحد جذور مشكلات العمل القومي ألا وهي “غياب التنظيم”، وسنستعرض بعض الإسهامات التي تهدف الى تطوير العمل التنظيمي عبر سلسلة من المعالجات.

يعتبر العمل التنظيمي بالغ الأهمية كونه يُعنى ببناء الرافعة أو الأداة التي ترسم الخط الاستراتيجي وتعمل على وضع البرنامج السياسي والتكتيكات اللازمة في سبيل إنجاز الثورة وتحقيق الأهداف الكبرى.

فالأيديولوجيا/ النظرية لن تتجاوز قيمتها قيمة الحبر الذي كُتبت به ما لم تعتنقها مجموعة ترتقي إلى درجة التنظيم، وكقوميين علينا أن نمتلك الشجاعة لنقرّ بفشلنا الذريع في بناء تنظيم قومي يمكّننا من تحقيق أهدافنا، ففي ظل غياب تنظيم قومي قوي ومتماسك عابر لحدود سايكس-بيكو لن نتمكن من تحقيق أهداف العمل القومي، حيث أن النجاح لا يحالف من لا يوفر له أسبابه ولن نكون ناجحين لمجرد رغبتنا في أن نكون كذلك.

ولا شك أن افتقار المكتبة القومية للتأصيل النظري في المجال التنظيمي هو أحد أهم الأسباب التي تقف وراء تعثّر مسيرة المشروع القومي، الأمر الذي يجعل من بناء نظرية تنظيمية قومية جذرية ضرورة ملحة يفرضها واقعنا العربي الذي يشهد أسوأ أيامه وأحلكها، خاصة بعد هبوب الرياح “الربيعية” المسمومة التي أتت على الأخضر واليابس والتي بدأت في تقسيم المقسّم، وزادت من وطأة الاحتلال وسطوته، ورفعت حالة التخلف التي نعيشها إلى أعلى مستوياتها.

من مبدأ “الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها هو أحق الناس بها” نعتبر أن المناضل القومي يجب أن لا يجد حرجا في الاستفادة من الإسهامات الفكرية لمختلف التيارات والمدارس كالإسهامات اللينينية في المجال التنظيمي مثلا، ولا ضير في أن نستقي منها ما يتناسب معنا من قواعد تساعدنا في البناء التنظيمي على الرغم من أية خلافات أيديولوجية أو سياسية مع من وضعها دون أن تنتفي حاجتنا إلى بناء نظريتنا القومية الجذرية في المجال التنظيمي التي تمكننا من بناء تنظيم قومي عربي عابر للحدود قادر على تحقيق أهدافنا القومية الكبرى وهي الوحدة والتحرير والنهضة.

ما هي مسلكيتنا كقوميين؟

لكل مسلكية قواعدها التي تحكمها، وعلى أي تنظيم أن يحدد مسلكيته بوضوح كي يتحرك ويضع خططه وبرامجه بما لا يتناقض معها، وحتى يكون أداؤه منسجما مع مبادئه.

إن أهداف العمل القومي المتمثلة في الوحدة والتحرير والنهضة تستوجب بالضرورة القطع مع كل ما هو سائد، وتتطلب تغييرا جذريا للواقع واجتثاث الاحتلال والتجزئة والتخلف باعتبارها تمثّل جذور مشكلات الواقع العربي، أي أنها أهداف ثورية الطابع. وبما أنها أهداف ثورية فهي لا تسعى إلى التعايش مع الواقع ولا تطرح رؤية تجميلية تكتفي بمجرد محاولة إصلاح المنظومة السائدة من الداخل ووفق قوانينها، عندئذ يصبح لزاما علينا أن نكون ثوريين وأن تكون مسلكيتنا كقوميين مسلكية ثورية، من هنا نلتمس ضرورة استعراض بعض الإسهامات القيمة التي عملت على وضع مجموعة من القواعد المهمة في المجال التنظيمي تحت عنوان “قواعد المسلكية الثورية”.

ما هي قواعد المسلكية الثورية؟

قام مناضلون، بعد تقييم ودراسة لتاريخ عدد من التنظيمات والأحزاب الثورية (عربيا وعالميا)، وبعد دراسة عدة تجارب ثورية بتحديد عوامل نجاح بعضها وأسباب انتكاسات وانحرافات وفشل البعض الاخر، ثم وضعوا عددا من القواعد التنظيمية في كراس سُمي ب “قواعد المسلكية الثورية”، ويعتبر هذا الكراس من أهم ما أنتجته الثورة الفلسطينية في مرحلتها الذهبية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وتُعنى هذه القواعد بوضع أساسات متينة لعلاقات تنظيمية سليمة، وتبين الصفات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها العضو الحركي والتي تمكّنه من تحقيق القواعد الأساسية، فهي (أي قواعد المسلكية الثورية) أشبه بالسد الذي يحول دون تسرب أمراض المجتمع إلى التنظيم، وهي صمام أمان يحمي التنظيم من الانحراف ومن أي خطر يتهدده داخليا كان أو خارجيا.

إن الهدف من توضيح هذه القواعد وشرحها لا يقتصر فقط على مجرد معرفتها والإطلاع عليها فحسب، وإنما لتعريف الشباب العربي بها والعمل على تطبيقها وتنزيلها إلى أرض الواقع، فهي كفيلة بتصحيح ممارسات الحركة الثورية وذلك عن طريق النقد والنقد الذاتي، الذي يجب أن ينصبّ وبلا هوادة ليحارب كل انحراف أو إهمال لقواعد المسلكية الثورية التي يؤدي غيابها (كما سنرى لاحقا) إلى تحول التنظيم إلى مرتع لأمراض تنظيمية كفيلة بإلهائه والإجهاز عليه وشلّ قدرته، فيكون بذلك عاجزا عن أداء مهماته غارقا في صراعاته الداخلية ليصبح أبعد ما يكون عن السير نحو الهدف الذي انطلق من أجله.

وفي ما يلي عرض لبعض أهم قواعد المسلكية الثورية في مفهوم الرابط التنظيمي، الذي نستهل به هذه السلسلة.

  • الرابط التنظيمي:

لا شك في أن للمصطلحات أهمية بالغة، فعندما يحصل خلط في فهم المصطلح تنتج عن ذلك لخبطة في الممارسة.  وعندما يتسرع البعض في إطلاق صفة تنظيم على أي مجموعة بشرية اجتمعت حول أهداف أو مبادئ سياسية، وعندما نجد أن الأحزاب القومية اليوم أشبه بتجمعات بشرية تفتقر لأبسط مقومات التنظيم، ندرك عندها أن جذور المشكلة معرفية بالأساس، وتكوين شباب أمتنا المنخرطين في الشأن العام وتعريفهم بأسس العمل التنظيمي يبدأ بتعريفهم بماهية التنظيم قبل التطرق إلى مقوماته وكيفية بنائه،  فما هو التنظيم؟

التنظيم ليس بالضرورة سياسيا ويمكن أن يأخذ أشكالا متعددة (شركة تجارية، وزارة، إدارة… الخ)، إلا أن المبدأ الذي يقوم عليه أي تنظيم (بغض النظر عن نوعه) واحد، وهو حشد الموارد الفردية وتوجيهها ضمن مسارات معينة لتحقيق أهداف معينة.

ويمكن أن نعرف الشيء بنقيضه فنقول بأن التنظيم هو نقيض الفوضى والإنفلاش والفردية.

ويمكن أن نعرف التنظيم أيضا على أنه: مجموعة أفراد زائد الروابط فيما بينهم.  وكلمة السر هنا هي الروابط، وهي ليست أي روابط  بل روابط مؤسسية، بما تحتمله المؤسسية من تقاليد لإدارة العمل، وهي ليست مجرد أشخاص أو مكاتب ويافطة.

كلما قويت تلك الروابط، كلما ازداد التنظيم صلابة وقوة، فالماس مثلا يستخدم لقطع الفولاذ، لأن الروابط بين ذرات الماس أقوى من الروابط بين ذرات الفولاذ.  كذلك، فإن التنظيم الأكثر تماسكاً يتغلب على التنظيم الأقل تماسكاً ولو كان أصغر منه.  فعندما يكون الأصغر هو الأكثر تنظيما والكبير هو الأقل تنظيما، ينتصر الصغير على الكبير لأنه يكون أكثر صلابةً ومرونةً في آنٍ معاً.  وللأسف لا تتغلب الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بالحق فقط، بل بالباطل أيضاً، بشرط أن تكون أكثر تنظيماً.  فأهمية الحركة الثورية لا تتوقف على عدد أعضائها، وإنما على درجة التنظيم والترابط بينهم أولا، فالبناء السليم على الأسس والقواعد التنظيمية والتمسك بها، يضاعف قوة التجميع العفوي عشرات المرات، حيث أنه يعطي للمجموعة إرادة موحدة تحولها الطليعة إلى إرادة ثورية للمجتمع بكامله.

الروابط التنظيمية في التنظيم الثوري هي شكلياً روابط إدارية شأنها شأن أي مؤسسة، إلا أنها تختلف عن غيرها بأن جوهرها ينبثق من قواعد المسلكية الثورية التي تضع أساسات متينة لعلاقات تنظيمية سليمة، وتبين الصفات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها العضو الحركي.

هذه المادة إذن هي عن أهمية قواعد المسلكية الثورية في خلق الرابط التنظيمي، وهي تتطرق لمعنى كلمة “تنظيم” الذي يفترض بالثوريين بناؤه بناءا يسمح لهم بمواجهة القوى المعادية للمشروع القومي، وأن يكونوا قادرين على توجيه الضربات المؤلمة لأعداء الثورة، وأن يشكّلوا منظمة مترابطة صلبة البناء والتكوين يشدّ أعضاؤها بعضهم بعضا بوثائق من المبادئ والمفاهيم الثورية ومجموعة من القواعد يجب التمسك بها ويصبح تجاهلها وعدم الالتزام بها انحرافا عن الخط التنظيمي الثوري وتدميرا للحركة الثورية بكاملها.

جوزيف ستالين – الرجل الحديدي

نسرين الصغير

ولد جوزيف ستالين 18 كانون الأول 1878 و توفي في 5 آذار 1953.  درس في المدرسة الروسية للمسيحية الأرثوذكسية. وبدأ، وهو في المدرسة، العمل والمشاركة مع الحركة الاشتراكية، فقامت المدرسة بطرده عام 1899.  تربط ستالين بأمه علاقة قوية جداً، إلّا أن ظنها خاب فيه حيث بقيت تحلم أن يصبح ابنها الوحيد كاهنا.  جاء ستالين من عائلة فقيرة، وتعرّض في صغره لقمع والده المدمن على الكحول.  تعلّم اللغة الروسية وهو في التاسعة من عمره، وكانت اللغة الثانية إلى جانب لغته الأصلية الجورجية.  التحق في العاشرة بمدرسة غوري اللاهوتية بمنحة دراسية، وقد تفوق في الدراسة وبدأ بكتابة الشعر.  بسبب إصابته في ذراعه تم إعفاءه من الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى، وتخرّج في الدفعة الأولى من المدرسة بعد أن عاد إليها بعدما شفائه من إصابته التي بقي على أثرها شهراً في المستشفى.

بدأ ستالين في سن الخامسة عشر بكتابة الشعر باللغة الجورجية وعمل على توسيع مداركه و قراءة الكتب، وقد اجتذبته الكتب الثورية والماركسية والمادية الجدلية، وقد عوقب أكثر من مرة في المدرسة لقراءته مثل هذه الكتب وفي هذا السن. رغم صغره قرر ستالين أن يتخلى عن الكهنوت وأن ينضم لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الذي أصبح يسمى لاحقاً الحزب البلشفي، وعندما اكتشف كتابات فلاديمير لينين قرر ستالين أن يصبح ثورياً، وبسبب تغيبه تم طرده من المدرسة، فأصبح يعمل كاتباً  في مرصد الأرصاد الجوية براتب زهيد (20 روبل شهرياً).  كان يحلم بالتفرغ لممارسة العمل الثوري، وبدأ بتحريض العمال وتنظيم الإضرابات، وقاد بنفسه كثيرا من التظاهرات وبدأ بإلقاء الخطب عام 1901 حتى التفتت الشرطة السرية لستالين ولتحركاته فتمّ اعتقاله وعدد من قادة الحزب عام 1901، وانتقل بعدها لمرحلة كتابة المقالات في الصحيفة الثورية، صحيفة الراديكالي في باكو.

عام 1902 انتقل ستالين إلى بانومي وعمل في مصفاة بترول مملوكة لعائلة ثرية. اندلع حريق في المصفاة فكان الفضل لستالين بإخماد الحريق فقام ملّاك المصفاة بتكريم ستالين وإعطائه مكافأة، لكنه بحسه الاشتراكي الثوري رفض المكافأة وطلب رفع معاشات العمال لا تمييزه لوحده بمثل تلك المكافأة، فرفض الملاك وبدأ مرحلة تنظيم إضرابات جديدة من أجل العمال وتم اعتقاله ومحاكمته وتبرئته لعدم وجود الأدلة.  في عام 1903 تم نفي ستالين لسيبيريا وحصل وقتها الانشقاق المعروف بين البلاشفة والمناشفة بقيادة يوليو مارتوف وفلاديمير لينين، وعاد ستالين إلى تفليس وتعرف على قيادة الحزب البلشفي ومنهم كامنييف، وتنقل بين جورجيا، تفليس، وباكو، ولفت انتباه لينين إليه، وفي المؤتمر البلشفي الذي حضره ستالين قابل لينين لأول مرة في حياته عام 1906. عام 1907 نظّم ستالين عملية سطو لسرقة البنك الإمبراطوري، وهو البنك الخاص بأموال عائلة القيصر، وبعد نصب كمين محكم تمكن ستالين من السيطرة على (250000 روبل كانت تساوي 3 ملايين دولار في ذلك الوقت)، وسلمها إلى لينين الذي ذهب بها إلى جنيف وأمّن بهذه الأموال نفقات الحزب لسنوات، مع رفضه الشديد مقترحات للسطو على بنوك أخرى لاعتبارها بنوك عامة أما البنك السابق فاعتبره  مملوكاً للقيصر وعائلته.

تآمرت الشرطة السرية القيصرية على البلاشفة واستهدفتهم، فأدرك ستالين وجود اختراق لعدة جواسيس، وبدأ باجتثاثهم وملاحقتهم، وقامت الشرطة باعتقال ستالين عام 1910 في شهر نيسان، وتمكن من الهروب، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات في أحد سجون القوقاز، واستمرت انتكاسات الحزب وتعرضت القيادات للاعتقال.  تراوحت حياة ستالين بين الهروب والاعتقال والمنفى إلى أن عاد مع آلته الكاتبة جنباً إلى جنب مع كامينيف ومرانوف ومولوتوف، ليصبحوا من محرري جريدة برافدا.  قاد ستالين الفرق البلشفية المسلحة في شوارع بتروغراد واشتبك أكثر من مرة مع الجيش، وقد فوجئت السلطات بالانقلاب على الحكومة المؤقتة، بعدها هاجمت الحكومة المؤقتة بأمر من رئيسها كيرنسكي جريدة برافدا البلشفية وحاصرت المقر، وكان لينين بداخلها، إلا أن ستالين تمكن من إنقاذ لينين وتهريبه، وبعد المؤتمر السادس للحزب البلشفي الذي عُقد سراً في بتروغراد، اختير ستالين ليكون رئيس تحرير جريدة الحزب برافدا وعضو الجمعية التأسيسية.

في عام 1917 عند استيلاء البلاشفة على السلطة عُين ستالين مفوضاً أعلى لشؤون القوميات وكانت مسؤوليته الإشراف على المناطق التي تسكنها القوميات غير الروسية، وفي عام 1918 نشر زعيم المنشفيك جوليس مارتوف مقالات ضد ستالين هاجمه فيها فقام ستالين برفع دعوة قضائية ضده وفاز فيها.

اندلعت الحرب الأهلية في روسيا بين الجيش الأحمر بقيادة لينين، والجيش الأبيض يساندهم الأغنياء ورجال الدين بدعم بريطاني فرنسي، وبعد أن انتقل ستالين إلى تساريتسين التي كانت تمثل طريق الإمداد الرئيسي للنفط والحبوب إلى شمال القوقاز كان هناك نقص شديد في الغذاء مما اضطر ستالين للبدء بثورة الإصلاح الزراعي واستصلاح الأراضي، وكانت المنطقة مهددة بالسقوط بيد الجيش الأبيض فأعطى لينين الضوء الأخضر لستالين لبدء العمليات العسكرية وانتصر على قوات كولتشاك، وفي هذه المعركة تمّت معرفة نتيجة الحرب الأهلية عملياً، وتمّت تسمية المدينة لاحقاً بمدينة ستاليغراد ومعناها مدينة ستالين بالروسية، وكان الرجل الحديدي هو العسكري المنقذ فتمّ إرساله لمدينة بتروغراد ليقاتل في وجه الجنرال يودينيش فبدأ المرحلة الأولى بتنظيم الجبهة الداخلية وتنظيم الدفاع إلى أن أصبح هجوما، وانتصر للمرة الثانية وفكّ الحصار عن المدينة، واستمر هكذا من سمولينسك إلى كييف من جنوب أوكرانيا لغربها، وكان في كل مرة يبدأ بإصلاح الجبهة الداخلية وينتهي بالنصر.

صدرت أحكام بإعدام ضباط الجيش الأبيض إلا أن ستالين كان يرفض ويقول أنه يجب إدخالهم للجيش الأحمر للاستفادة من خبراتهم، هنا بدأت العداوة بين ستالين وتروتسكي، وبعدها طلب ستالين من لينين إقالة تروتسكي، كان لينين يعترض على أسلوب ستالين الذي كان دائماً ينتهي بالانتصارات إلا أنه يجلب الكثير من الإصابات لصفوف الجيش الأحمر لكنها كانت طريقة ستالين المميزة في مواجهة الأعداء، الحديد والنار لتحقيق الهدف بأي ثمن.

استمر ستالين ولينين في تصدير الثورات للغرب والشرق، وعاد ستالين إلى موسكو عام 1920 ووقف أمام المكتب السياسي ووصف الحرب ضد بولندا أنها كانت خطأ وألقى اللوم في الخسائر على كامينيف بسحبه للجيش الأحمر إلى أوكرانيا، وكانت خسائر الجيش الأحمر كبيرة حيث اعتقل مئة ألف مقاتل لم يعد منهم إلا ستون ألفاً والباقي لا يزال مصيرهم مجهولا، وهنا كانت فرصة تروتسكي للانتقام من ستالين ووصفه بالمغرور ووصفه أنه يحرص على سمعته أكثر من انتصاراته.

فرض ستالين على الاتحاد السوفيتي نظرية الزراعة التعاونية وهي استبدال الحقول الزراعية البدائية بحقول زراعية ذات تجهيزات حديثة وملكية أو أدارة عامة، ووعدت الحكومة الفلاح بمردود يساوي مقدار الجهد المبذول وكان هذا المشروع خطوة على طريق هلاك ملاكي الأراضي الكبار، إذ لاقت الزراعة التعاونية معارضة شديدة منهم وهددهم ستالين إذا لم يعودوا عن عنادهم باستخدام قوات خاصة وأرغمهم على تسليم أراضيهم ومواشيهم للفلاحين الفقراء مقابل مبالغ محددة تدفعها الحكومة، لكن الأغنياء رفضوا وفضلوا نحر مواشيهم على تسليمها للفقراء، وفي عام 1932 عانت أوكرانيا من مجاعة نتيجة لقتل المواشي، وبعد انتهاء الأزمة حمّل ستالين الإقطاعيين المسؤولية في الأزمة التي تعرضت لها البلاد، ووصفهم بالرأسماليين الطفيليين، وتمّت محاكمتهم على أنهم أجرموا في حق الشعب السوفيتي، كان همّ ستالين التركيز على تغيير المفاهيم لدى مختلف الطوائف والقوميات، فكان من الضروري تحويل المجتمع من زراعي إلى صناعي، وكان كل مشروع وهدف لستالين يتعارض مع الرأسماليين البرجوازيين لأن مشاريعه كانت مشاريع اشتراكية تهدف لمصلحة المجتمع لا الفرد.

كان ستالين صارماً وحازماً في حياته وخصوصاً الحزبية، فبعد بناء الجيش الأحمر قام ستالين بتصفية وإعدام كل الضباط المتخاذلين والمشكوك في ولائهم وكانت وجهة نظره أنه لا يريد أن يتعرض للخيانة في أي مرحلة من المراحل القادمة وهي التي اعتبرها مرحلة الحملات العسكرية، وبدأ بعدها مرحلة استرجاع الجزء المحتل من روسيا وبدأ باليابان، ثم ببولندا وفنلندا التي دعمت الروس البيض ضد البلاشفة، وكللت كل معاركه بالنصر لامتلاكه جيشاً عقائدياً منتمياً لوطنه ومبادئه وقائداً حكيماً صارماً كستالين.  في عام 1941، في خضم الحرب العالمية الثانية، حاولت ألمانيا احتلال الاتحاد السوفيتي بشكلٍ مفاجئ، وكان ستالين يؤمن بحتمية المعركة مع ألمانيا لكنه لم يكن يتوقع أن تكون قريبة هكذا، وفي نهاية 1941 خسر السوفيت أكثر من أربع ملايين جندي وأصيب الناس بالذعر عندما اقتربت القوات الألمانية من الكرملين وبدأت الشائعات تقول أن ستالين هرب من موسكو، مما اضطره للخروج ليخطب في الناس في الذكرى الواحدة والعشرين لثورة أكتوبر قائلاً: “لنجعل الراية الحمراء ترفرف فوق رؤوسهم، تحت راية لينين نحو الانتصار”!

استمرت المعارك بين الألمان والجيش الأحمر الذي استنزفته الحرب وخطط ستالين أن يستمر بالحرب للشتاء لأنه كان يعلم أن الجيش الألماني لن يستطيع الوقوف في وجه الجيش السيبيري المدرب، وفعلا استمرت المعارك لأكثر من ثلاثة شهور حتى دخل الشتاء ونال ستالين مبتغاه فدارت المعركة، وتراجع الجيش الألماني عن حدود موسكو، في عام 1943 بدأت معركة ستالينغراد إحدى أهم معارك الحرب العالمية الثانية التي استبسل فيها الجيش السوفيتي، وكان من منجزاتها أسر قائد الجيش الألماني السادس فريديك باولوس مع جيشه، واستمرت المعارك لتحرير الاتحاد السوفييتي من الغزو الهتلري. وكان ستالين قد أصدر أوامره بنقل المصانع إلى الشرق عبر جبال الأورال لحمايتها من الحرب والقصف وأصدر أوامره ببناء الترسانة السوفيتية وبذل قصارى الجهد من العمال، وبفضل التصنيع السريع تمكن ستالين من بناء جيش ضخم من الدبابات، وبعد اندلاع الحرب وصل عدد الدبابات السوفيتية الى 5500 أما الألمانية فكانت فقط 1200 دبابة، وانتهت المعركة بخسارة الألمان لمليون جندي قتيل وأسير وتحرير بولندا ودول البلطيق والوصول لحدود ألمانيا.

في نهاية عام 1942 قام الألمان باعتقال ياكوف ستالين الابن الأكبر لستالين، وهو ملازم في الصفوف الأمامية في الجيش الأحمر، وعندما اتصل الألمان بستالين لإخباره باعتقال ابنه لعقد صفقة تبادل أسرى مقابل ياكوف ومنهم قائد الجيش الألماني فريديك باولوس وجيشه، لكن ستالين المعروف بمواقفه الصلبة والجذرية،  المبنية على مصلحة الحزب والوطن فوق كل شيء، رفض الصفقة ورفض تمييز ابنه عن أي جندي آخر بالجيش الأحمر وقال: “جميع جنود الجيش الأحمر هم أبنائي ولن أبدل الملازم بالمارشال” عندما سمع الألمان قرار ستالين قرروا نقل ياكوف لمعتقل زاخسنهاوزن الواقع شمال برلين وفي 14 نيسان، وفي محاولة له بالهروب من المعتقل سقط ياكوف قتيلاً.

عام 1945 أمر ستالين بقصف المناطق العسكرية في برلين، وبعد قصف عنيف لبرلين في 22 نيسان اجتاح السوفيت برلين، واندلعت حرب طاحنة بين الطرفين، ولحقت بالجيشين خسائر فادحة، وفي صباح 30 نيسان 1945 انتحر هتلر وكان ستالين قد وجه للجيش الأحمر رسائل عسكرية مضمونها أنه عند حلول الفجر يود سماع أن أسطورة الرايخ قد انمحت للأبد، وفعلا بعد ساعات استسلم الجيش الألماني، وقدرت خسائر السوفييت بالحرب العالمية الثانية بعشرة ملايين عسكري وثمانية عشر مليون مدني.

بعد انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية كانت خطة ستالين تقوم على النهوض بالبلاد لتعويض الدمار الذي لحق بها، وكان هدفه الرئيسي وهمّه الوحيد هو الحصول على قنبلة ذرية كتلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية رأس المعسكر الغربي الرأسمالي، وتم تشكيل فريق علماء لصنع القنبلة النووية، وفي عام 1949 تم تفجير أول قنبلة ذرية سوفيتية في منطقة معزولة في صحراء كازاخستان، وقدم أصاب هذا الخبر الحكومة الأمريكية بالصدمة لأنها كانت تقول وتعتقد أن القنبلة النووية يجب أن تبقى حكرا على الولايات عليها وعلى المعسكر الغربي.

كان ستالين من المؤيدين للسلم بين العرب واليهود ولكن بعد آذار 1949 تراجعت حالة ستالين الصحية، وأصبح يسعل دماً، وبعد التحقيق تبين أن أحد الأطباء قام بحقن ستالين مادة سامة، واعترف الطبيب بما قام به، وبعد التحقيق معه ظهر أنه يعمل لصالح الاستخبارات الأمريكية، وبعد تعافيه علم بمؤامرة الأطباء اليهود  لتدمير الاتحاد السوفيتي بعد أن تم القاء القبض على شبكة منهم اعترفت بتخطيط وتنفيذ اغتيالات لقادة سوفييت وقتل شخصيات بارزة وعمليات تجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، فقرر القيام بحملة تصفية للقوميين اليهود ومؤيدي الصهيونية، وتم إغلاق متحف الطبيعة اليهودي، ومتحف النثوغرافية الذي انشأه اليهود الجورجيين، وتم إغلاق المدارس التي تدرس العبرية، وتم تحجيم اليهود على كل الأصعدة، الكتاب وغيرهم، وصرح ستالين أن كل قومي يهودي هو جاسوس للمخابرات الأمريكية، وقال: “إن إنشاء دولة يهودية قومية في الشرق الأوسط يعني زرع بؤرة حرب دائمة هناك”.

في بداية شهر آذار عام 1953 تدهورت حالة ستالين وهو على مأدبة عشاء، وتوفي بعد أربعة أيام، أي في 5 آذار 1953، وقالت بعض المصادر أن سبب الوفاة جلطة دماغية، وهنا يجب أن نذكر أن ذكرى وفاته هي نفس ذكرى وفاة المناضل القومي هوغو تشافيز من العام 2013.

من أقوال ستالين:

  • كونوا أوفياء مخلصين للقضية مثلما كان لينين.
  • إنه من الجيد أن نحظى بالاحترام غير المشروط من رفاقنا في الجحيم !
  • جميع جنود الجيش الأحمر هم أبنائي ولن أبدل الملازم بالمارشال.
  • إنشاء دولة يهودية قومية في الشرق الأوسط يعني زرع بؤرة حرب دائمة هناك.
  • قضيتنا عادلة والنصر لنا.

كان من أسباب نجاح ستالين أنه كان يعتمد في كل مرحلة على قدراته في تنظيم وتدريب الأفراد، وكان جيشه جاهزاً لمواجهة كل قوة تواجهه في أي معركة يدخلها.  وكان الجيش البلشفي جيشا جذريا، وكان شعار لينين في الاشتراكية من لا يعمل لا يأكل، والاشتراكية هي الملكية العامة لوسائل الإنتاج.

قصيدة العدد:  أرى ما أريد/ صقر قريش

عبد الرحمن بن معاوية المعروف بلقب صقر قريش او عبد الرحمن الداخل هو مؤسس الدولة الاموية في المغرب بعد انهيارها في المشرق، بعد أن فر من الشام إلى الأندلس في رحلة طويلة استمرت ست سنوات، بعد سقوط الدولة الأموية في دمشق، وتتبع العباسيين لأمراء بني امية وتقتيلهم.

دخل الأندلس وهي تتأجج بالنزاعات القبلية، فوحدها بالحديد والنار، وقضى على كل النزعات الإنفصالية للقيسية واليمنية وخلافهم، لا سيما ثورة الدعي “شقنة” سليمان بن عثمان عامله على مدينة “شنت برية” التي غلفت بغلاف الدين وادعاء الأخير الانتساب لآل بيت الرسول “ص”، والتي استمرت 10 سنوات حتى تمكن عبد الرحمن الداخل من القضاء عليها، عدا عن صد العديد من احتلالات وتجاوزات البشكنج والجلالقة لأرض العرب في الأندلس.

لم تكن مسيرة الفتى الأموي القادم من دمشق تحت وطأة الرايات السود لبني عباس في مأمن وسلام، وتكللت رحلته حتى وصل للأندلس ووحّدها وحكمها تحت سطوة الدولة المركزية كثير من المخاطر والتضحيات والصبر والنفس الطويل، إلا أنه كان قائدا فذا مجتهدا لم يتنازل قيد انملة عن بناء دولته وتحقيق حلمه فأنشد قائلا ذات مرة:

درب يؤدى لدرب جديد… وخلف المسافات وعد وعيد

أرى العنفوان وثوب الغسق… أرى منزلا مشرعا بالضياء

أرى ما أريد

أرى مهرة أسرجت للرياح… أرى موطنا للغناء المباح

أرى وردة أينعت بالجراح… آخر الليل بدء الصباح

أرى ما أريد

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *