Qawmi

Just another WordPress site



المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 تشرين ثاني 2015


ويضم هذا العدد:

– كلمة العدد: لماذا تعني القضية الفلسطينية الأمة العربية؟

– الدور المغاربي إزاء القضية الفلسطينية خلال احتلال فلسطين عام 48: المغرب وتونس نموذجاً/إبراهيم حرشاوي

– كيف همّش “الربيع العربي” القضية الفلسطينية؟/ إبراهيم علوش

– فلسطين: علامة فارقة في أهداف مشروع “الربيع العربي”/ صالح بدروشي

– فلسطين و”الربيع العربي”: هل التناقض الرئيسي مع المشروع الصهيوني-الأمريكي أم مع الأنظمة المستبدة؟/ معاوية موسى

– شخصية العدد: الرئيس المناهض للإمبريالية الدكتور بشار الأسد/ نسرين الصغير

– سلسلة قواعد المسلكية الثورية… الحلقة الثانية: الالتزام/ عبد الناصر بدروشي

– الصفحة الثقافية: الرسالة الوطنية في فيلم (ما يطلبه المستمعون)/ طالب جميل

– مدينة عربية: القدس/ علي بابل

– قصيدة العدد: لا تفكر في ربيع عربنا/ الشاعر الشعبي التونسي علي لسود المرزوقي

– كاريكاتور العدد



العدد رقم 18 – تشرين الثاني 2015
لقراءة المجلة عن طريق فايل الـــ PDF




للمشاركة على الفيسبوك



محور العدد: فلسطين و”الربيع العربي”

 

كلمة العدد: لماذا تعني القضية الفلسطينية الأمة العربية؟

جاءت “هبة السكين” الأخيرة في فلسطين، والعدوان المتكرر على غزة من قبلها، ليكشفا أكثر من أي وقت مضى أن ما يسمى “الربيع العربي” قد همّش القضية الفلسطينية في الساحة العربية إلى أضيق حد عرفته منذ نهاية القرن التاسع عشر عندما بدأت موجات الغزو اليهودي لفلسطين.  ولذلك نركز في هذا العدد من طلقة تنوير على محور: فلسطين و”الربيع العربي”.

ورب قائل: ألا يفترض بالعرب أن يحلوا مشاكلهم الداخلية أولاً قبل الالتفات لفلسطين؟  أليست الأنظمة العربية الفاسدة المستبدة أولوية مثل فلسطين أو سابقة عليها؟  ولماذا على العرب أن يلتفتوا لفلسطين أصلاً على حساب مشاكلهم الداخلية التي لم تعد تحتمل التأجيل؟  ألم يتم تعطيل كل الحياة السياسية على مدى عقود في الكثير من الدول العربية باسم فلسطين؟

لا يفيد الإنكار أن مثل هذه التساؤلات وغيرها يتم الترويج لها بقوة في الشارع العربي منذ أمدٍ بعيد.  وقد جاء في كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي” (الصفحات 108-110): لقد كانت مقدمة الوعي الإقليمي دوماً هي فكّ ارتباط الأنظمة العربية ضمن حدود التجزئة بالقضية الفلسطينية تحت شعار التركيز على الذات القُطرية وبنائها.  وفي خضم الهجمة الأمريكية على أفغانستان، كتب السيد جوناثان فريلاند مقالاً في صحيفة الغارديان البريطانية يوم 17 أوكتوبر/تشرين الأول 2001 مؤنباً العرب والمسلمين على ما اعتبره اهتماماً مفرطاً بالقضية الفلسطينية، وربطاً غير منطقي وغير مبرر بينها وبين قضاياهم الأخرى. يقول جوناثان فريلاند في مقالة تتصنع التعجب:

“لكن نظرة المسلمين إلى هذا النزاع وكأنه السؤال المركزي في حياتهم غير مفهوم على الإطلاق. فالانسحاب الإسرائيلي من غزة مهم بالنسبة للاجئين في غزة، ولكن كيف يمكنه بالضبط أن يغير حياة شاب عاطل عن العمل في المغرب؟ إن عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية هي هدف مشروع للفلسطينيين، ولكن كيف يمكنها بالضبط أن تنقذ باكستان من الديكتاتورية العسكرية؟ إن حدوداً جديدة بين فلسطين وإسرائيل مهم لهاتين الأمتين، ولكن كيف يمكنها أن تساعد المسلمين في العراق وسورية وإيران وليبيا ومصر والسعودية الذين يعيشون في ظل أنظمة قمعية وحشية؟ إنها لن تفعل ذلك.”

من الواضح طبعاً أن السيد فريلاند يتجاهل عن سابق إصرار الروابط التي تربط العرب والمسلمين ببعضهم، الروابط القومية والثقافية، أي العروبة والإسلام، لكي يصل إلى لاعقلانية اهتمام الإنسان العربي أو المسلم بالقضية الفلسطينية، فهو يطرح هذه الروابط جانباً بشكل اعتباطي، قبل البدء بالكتابة، بالإضافة لتجاهله لاعتبارات التاريخ والجغرافيا السياسية والمصالح المشتركة. فالبريطانيون توصلوا إلى فكرة “إنشاء وطن لليهود في فلسطين” عام 1840 لمنع تمدد النفوذ المصري شرقاً باتجاه الجزيرة العربية وبلدان الهلال الخصيب بعد جهود محمد علي باشا التوحيدية، ومازالت “إسرائيل”، منذ تأسست، جزءاً من منظومة إقليمية تحمي المصالح الاستعمارية في بلادنا، وجهها الآخر أنظمة التجزئة القطرية المصطنعة التي تنتج البطالة والقمع والمهانة الوطنية، وبهذا المعنى، باتت تلك المنظومة تنتج يومياً كل ما يربط المواطن العربي بفلسطين.

 (انتهى المقتطف من كتاب “مشروعنا”)

المشكلة إذن في من يدعون لفك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية أمران:

أولاً، أن تأسيس الكيان الصهيوني كفكرة جاء ضمن سياق جغرافي-سياسي محدد يهدف لمنع الوحدة العربية، تماماً كما تعمل التجزئة على منع الوحدة، وبالتالي، النهضة العربية، كما جاء أعلاه، وقد أوضحنا في أعداد سابقة من طلقة تنوير أن لا تنمية اقتصادية عربية، ولا أمناً قومياً عربياً، من دون دولة عربية واحدة.

ثانياً، أن الصهيونية ليست احتلالاً محلياً فحسب كغيرها من الاحتلالات التي عرفتها الشعوب، بل تمثل بؤرة نفوذ عالمي متحد عضوياً بالإمبريالية، فلو كانت الصهيونية مجرد ظاهرة احتلال فلسطين لما كانت بمثل هذه القوة في العواصم الأوروبية والأميركية الشمالية. وثمة احتلالات أخرى للأرض العربية، واحتلالات أخرى حول العالم، لم تتمتع في كل التاريخ المعاصر بمثل هذه القوة والسطوة في عواصم الدول الإمبريالية.

نحن لا نقول إن الصهيونية تسيطر وحدها على العالم بمعزل عن ظاهرة الإمبريالية، ولا نقول إن الإمبريالية لم تكن لتتحلى بنزعات استعمارية أو عدوانية لولا الصهيونية، بل نقول إن الصهيونية ليست مشكلة فلسطين أو العرب فحسب، بل هي شكل من أشكال تجلي الإمبريالية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً في عصرنا الراهن.

فالصهيونية مندمجة عضوياً بالإمبريالية، والإمبريالية بالصهيونية، لا كأداة إحداهما للأخرى، بل كتوأمين سياميين ولدا غير منفصلين. ويصح هذا القول بالأخص على الإمبريالية في عصر رأس المال المالي، عصر الربح من الربا والمضاربة المالية والعمليات الخدماتية الطفيلية التي تدمر الصناعة والزراعة وكوكب الأرض وقواه المنتجة.

الصهيونية إذن لا تقوم بدور إقليمي في الوطن العربي فحسب، بل هي ظاهرة دولية أساساً، لأنها ترتبط سياسياً واقتصاديا وثقافياً بشبكات دولية تتقاطع عضوياً مع الشرائح الاجتماعية التي تحكم العالم، وهي ظاهرة بنيوية لأنها تلون كل النظام الرأسمالي العالمي بلون يهودي يقوم على الربح من العمليات غير الإنتاجية، فالصهيونية هي الإمبريالية في مرحلة التحلل.

من هنا فإن فلسطين ليست مجرد احتلال محلي كأي احتلال آخر لـ27 ألف كيلومتر مربع أخرى من الأرض العربية من أصل 14 مليون كليومتر مربع هي مساحة الوطن العربي، وكذلك الجولان أو الباقورة أو شبعا، بل أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو عقدة تناقض الأمة العربية مع الإمبريالية العالمية، خصوصاً في مرحلتها اليهودية، وبهذا المعنى المجازي فإن حدود فلسطين تمتد من المحيط إلى الخليج.

أما خارج فلسطين، فاليهود ليسوا مجرد 15 مليوناً من أصل 7،3 مليار إنسان على هذا الكوكب، لأن الصهيونية مكون رئيسي للنظام الإمبريالي على مستويات متعددة، بنيوية وعقائدية وثقافية وسياسية، وبالتالي فإننا نلاحظ من فنزويلا إلى كوريا الشمالية، ومن أفريقيا جنوب الصحراء إلى روسيا، أن الصراع ضد الصهيونية لا ينفصل عن الصراع ضد الإمبريالية، والعكس بالعكس، وأن مناهضي الصهيونية غير العرب باتوا يدركون جيداً أن الصهيونية مشكلتهم المباشرة، في بلدانهم، وليس فقط من جراء مشاعر إنسانية فياضة إزاء “الشعب الفلسطيني المظلوم”!

إذن علينا أن نعمق وعينا بالترابط العضوي بين الإمبريالية والصهيونية في أذهاننا وأذهان شعوب الأرض، وهو ما يجعل ساحة المعركة السياسية ساحة عالمية، لا ساحة قومية أو إسلامية فحسب، حتى لو ظل الميدان الأساسي الذي تحسم فيه هو الوطن العربي، لأن خلاصنا بأيدينا وليس بيد أي حلفاء حقيقيين أو وهميين.

قبل كل شيء، إن لم يكن لدينا وعي بجذرية المعركة، وإن لم نبلور برنامجنا وأداة تحررنا وخلاصنا على أرض الواقع بأنفسنا، فمن العبث أن ندعو “الشعوب الصديقة” لقضية لا نتفق نحن على ماهيتها وأهدافها.

فالعمل السياسي في مثل هذه المرحلة إما أن يكون عملاً لبناء هذه الأداة وهذا البرنامج الذي يرتقي لمستوى المرحلة، وإما أن يكون تسولاً سياسياً للفتات أو عملاً خيرياً لترقيع عورات المرحلة، وإما أن يكون سمسرة سياسة أو عمالة مفضوحة.

الدور المغاربي إزاء القضية الفلسطينية خلال احتلال فلسطين عام 48: المغرب وتونس نموذجاً

إبراهيم حرشاوي

ترجع العلاقة المغاربية – الفلسطينية في اطار محاربة الغزو الاجنبي إلى الحروب الصليبية في فترة حكم الخليفة يعقوب المنصور الموحدي بالمغرب وصلاح الدين الايوبي ببلاد الشام.  وقد كان دور المغاربة في مواجهة الافرنجة دوراً بارزاً سواء من حيث تطوع المجاهدين أو من حيث توفير الدعم العسكري. فمن المعروف في كتب التاريخ أن السلطان المغربي يعقوب المنصور مدّ صلاح الدين الايوبي بأساطيل بحرية لتقارع أساطيل الافرنجية. أما من حيث التعبير العمراني لتلك المرحلة، فنجد حارة المغاربة (وباب المغاربة) التي استقر فيها المغاربة بعد فتح بيت المقدس، وهي بقعة محاذية للمسجد الأقصى، عند السور الغربي للمسجد، وهي منطقة سهلية كان يمكن أن تُستغل من طرف الغزاة لاقتحام المسجد وقتها.  وحينما  سئل صلاح الدين من قبل حاشيته عن سبب إسكان المغاربة بهذه المنطقة قرب الاقصى أجاب بقوله: “أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر من أستأمنهم على هذا المسجد العظيم وعلى هذه المدينة”.  وقد قام الكيان الصهيوني خلال حرب حزيران سنة 1967م بتدمير حارة المغاربة بالكامل وتحويلها إلى ما يُسمى بـ”ساحة المبكى” لخدمة الحجاج اليهود الغزاة عند حائط البراق.

بخصوص العلاقة المغاربية–الفلسطينية في تاريخنا المعاصر، شهدث فترة الاربعينيات من القرن الماضي حراكا ملحوظا في بلدان المغرب العربي لأجل نصرة الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة العصابات الصهيونية المدعومة من القوى الاستعمارية الغربية.  وساهم السياق السياسي لمنطقة المغرب العربي -الذي كان محفوفا بالروح الوطنية والقومية مع بروز الحركات التحررية- في التفاعل بقوة مع أحداث فلسطين.  وساهمت القضية الفلسطينية أكثر من اي قضية من قضايا الوطن العربي آنذاك في تعميق الوعي القومي العربي في منطقة المغرب العربي، ويرجع ذلك للميزات التي انفردت بها هذه القضية في مواجهة حركة استعمارية تسعى إلى تأسيس كيان استيطان يفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه.

ففي تونس، أدخلت نداءات “الهيئة العربية العليا” و”الجامعة العربية” البلاد برمتها في حالة من الحماسة  لنجدة فلسطين بعد إصدار قرار التقسيم من طرف الجمعية العامة للامم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين ثاني) 1947م.  ومن الملفت للنظر أن آلاف الشبان التونسيين تطوعوا للقتال في فلسطين ضد العصابات الصهيونية.  وكان هؤلاء المتطوعون ينتسبون إلى الطبقات الشعبية المهمشة كما نجد بينهم عشرات من طلبة جامعة الزيتونة.  وقد وصل عدد هؤلاء المتطوعين يوم 30 مايو (أيار) 1948 بحسب الاستخبارات الفرنسية إلى 2676 شخصاً، لكن من المعروف أنهم أوقفوا عند الحدود مع ليبيا أو وقع إيقافهم قبل الخروج من البلاد.  ويُقدر عدد المتطوعين الذين شاركوا فعليا في المعارك على أرض فلسطين بالعشرات، منهم من حارب في صف المتطوعين السوريين ومنهم من حارب مع مجموعات تابعة لمتطوعي مصر ولبنان.  ويذكر المقيم العام الفرنسي بهذا الصدد أن الفرقة الاولى التونسية تمكنت من  الوصول إلى بيت لحم وشاركت في معارك في شهر جوان (حزيران) ضد العصابات الصهيونية واستشهد من التونسيين 11 فدائيا من بينهم علي بن صالح التونسي الذي استشهد  بيافا بشهر ابريل سنة 1948 وعبد الحميد الحاج سعيد وبلقاسم عبد القادر ومحمد التونسي في شهر مايو (أيار) جنوب القدس، أما احمد ادريس فقد استشهد قرب مستعمرة راحات رحيل بشهر اكتوبر سنة 1948م. وكان من القادة الوطنيين البارزين الذين شاركوا في المعارك الضابطان عز الدين عزوز وعمر البنبلي وقائد المقاومة  المسلحة في تونس الازهر الشرايطي.

أما شعبيا، فقد تم، فور اعلان قرار التقسيم، إعلان اضراب عام من قبل جامع الزيتونة والتجار في العاصمة التونسية تونس، وبصورة أقل بالقيروان وسوسة وبقية القُطر التونسي. وبالإضافة إلى الإضرابات، شهدت تونس حملة مقاطعة تستهدف التجار اليهود ومحلاتهم.  ومن المعروف أن هؤلاء التجار كانوا مرتبطين  بالحركة الصهيونية التي كان يقودها “الحزب الصهيوني المُراجع الموحد” تحت زعامة أندري شمامة.  وقد تمكن هذا الاخير من جمع أكثر من مليون فرنك حولها إلى “الصندوق القومي اليهودي”.

على الصعيد الاعلامي، كانت الصحافة التونسية تنشر أخبار فلسطين وخلفياتها وقد برز بعض المناضلين في الميدان الاعلامي وعلى رأسهم الشيخ محمد الصادق بسيس المنتمي إلى الحزب الدستوري الملقب  ب”الشيخ الفلسطيني”.  وتجدر الاشارة إلى مقتطف من مقال (نُشر سنة م1947 بجريدة الزّهرة) لهذا المناضل التونسي لتوضيح الحماس والتحفيز الذي كان يتلقاه الرأي العام التونسي: “إنّ العالم العربي بموقفه الحاسم بجانب فلسطين، مؤيدا، ناصرا مقدما بالنفس والمال والأقلام والمهج والأرواح سيقطع دابر الصهيونية ويطاردها في كل مكان ويدخل معها في دور المحنة الاخيرة، دور الحياة أو الموت. إن تونس العربية المسلمة تصرخ امام الناس جميعا بأنها ستؤدي واجبها في الدفاع عن عروبة فلسطين كاملا غير منقوص فشبابها على أكمل استعداد للمشاركة في الدفاع وتنفيذ أوامر القائد الأعلى لجيش التحرير وجيش الانقاذ، محمد امين الحسيني”.  وقد اشتهر هذا الشيخ بصفته رئيسا “لجمعية شبان المسلمين” التي لعبت دورا مهما في تحسيس التونسيين بالقضية الفلسطينية.  كما أسست هذه الجمعية بالاشتراك مع بعض أساتذة الجامعة الزيتونية مثل الشاذلي بن القاضي والفاضل بن عاشور تنظيمين هما: “لجنة الدفاع عن فلسطين العربية” و”فرع المؤتمر الاسلامي بتونس لحماية القدس الشريف”. وقد تنوعت أنشطة الجمعيتين، فكانت إما خطبا في المساجد وإما مقالات صحفية أو جمعا للتبرعات المالية.

نسجل في المغرب -على غرار تونس-  حفاوة قومية للحركة الوطنية في نصرة الكفاح القومي ضد المشروع الصهيوني، خاصة بعد اعلان التقسيم. فلقد نظم الوطنيون المغاربة المهرجانات الخطابية، ووزعوا المنشورات التحريضية، وقاطعوا الدوائر الصهيونية في المغرب.  ولعل أبرز قيادي وطني مغربي تفاعل مع حدث احتلال فلسطين بجدية هو عميد المقاومة العربية الأمير عبد الكريم الخطابي. وقد كان موقفه إزاء القضية الفلسطينية نابعاً من  قناعة راسخة تعتبرالاستعمار منظومة واحدة، وأن المؤامرة على فلسطين ما هي إلا امتداد لما سبق من مؤامرات على الوطن العربي. ومن هذا المنطلق اعتبر الخطابي أن الاعتداء على جزء من الوطن العربي هو اعتداء على الوطن برمته. فخلال اقامته في القاهرة عبّر الخطابي عن استعداده لقيادة أفواج المتطوعين من أبناء المغرب العربي. ولقد صرح الخطابي للصحافة بعد اجتماع جرى بينه وبين أمين عام الجامعة العربية يوم 9 سبتمبر (أيلول) 1947م: “القضية الفلسطينية تحتل المكان الاول، والأعمال الآن أولى من الأقوال”.  ونظرا لخبرته العسكرية في تحرير منطقة الريف في شمال المغرب من الاحتلال الاسباني، فقد وضع نفسه وشقيقه رهن الإشارة لتولي قيادة المجاهدين من المغرب العربي، بالإضافة إلى توجيهه نداءً رسمياً للوطن العربي والعالم الاسلامي للجهاد في فلسطين.

ويذكر احد أبرز قيادي جيش تحرير المغرب العربي، العقيد الهاشمي الطود، أن أغلبية المجاهدين وقتها  كانوا من ليبيا، وبقيتهم من المغرب والجزائر وتونس. وقد كان عدد المتطوعين المغاربة بحسب الهاشمي الطود 12 مجاهدا كان من بينهم الاستاذ عبد الكريم الفلالي المقرئ المجيد والأستاذ الحاج البرنوصي وعمر الوزاني.  ويروي الهاشمي الطود أحداث الحرب مع رفاقه المجاهدين من المغرب وأقطار عربية أخرى في إحدى شهاداته: “قاتلنا أولاً في موقع البريج جنوب غزة، حيث واجهت وحدتنا في أكثر من موقع عصابات الهاكانا… ثم تقدمت وحدتنا داخل التراب الفلسطيني حتى مدينة غزة حيث مكثنا لمدة 15 يوما لنستقر بعد ذلك في منطقة بربرة قبالة مستعمرة نتساريم، الواقعة في الرأس الشرقي لمثلث أسدود-عسقلان – بربرة على مسافة 36 كم من تل ابيب”.  وقد كانت استراتيجية المجاهدين العرب آنذاك تقوم على قطع الإمداد عن التجمعات السكانية الصهيونية الكبرى في القدس وتل أبيب وغيرها من المراكز التي كانت لهم فيها كثافة سكانية مرتفعة، لذلك سميت تلك الحرب بـ”معركة الطرق”.  ومع  انتهاء الحرب في فلسطين أعطى الخطابي أوامره للهاشمي الطود ورفاقه بالإنسحاب من غزة واقتنع بضرورة تأهيل هؤلاء الشباب المغاربين عسكريا للمهام التحررية التي كانت تنظرهم عبر إرسالهم للدراسة في الكلية العسكرية ببغداد.

بإمكاننا اعتبار ما سبق أعلاه فقرة قصيرة من كتاب دسم حول عطاء وتضحيات أبناء المغرب العربي لأجل قضية فلسطين اثناء فترة احتلال فلسطين عام 48. ولعل ما تثبته هذه التجربة أنّ الشعب العربي يتفاعل مع قضاياه المختلفة كقضية قومية واحدة، بعيدا عن العصبيات الثانوية أو المفتعلة.  كما تثبت هذه التجربة مركزية القضية الفلسطينية في وجدان أبناء المغرب العربي وذلك عبر ما تمثله تلك البلاد من رمزية ودلالة ثقافية و دينية وجغرافية.

مراجع:

 

 – د.عميرة علية الصغير، في التحرر الاجتماعي والوطني: فصول  من تاريخ تونس المعاصر،المغاربية لطباعة واشهار الكتاب، تونس، 2010م

– العربي مفضال،عبد الاله بلقزيز، امينة البقالي، الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية 1947-1986: محاولة في التاريخ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،1992م

– د. الهادي التيمومي، دور القضية الفلسطينية في تعميق الوعي القومي العربي في المغرب العربي: مثال تونس، مجلة المستقبل العربي، السنة 8، العدد 72، بيروت، 1985م

 

– مجموعة من الباحثين، الخطابي: الغائب الحاضر في الذاكرة الوطنية، اشغال ندوة 7 فبراير 2009م بمناسبة الذكرى 46 لوفاة الخطابي،دار ابي رقراق،الرباط، 2009م

– محمد امزيان، عبد الكريم الخطابي: أراء ومواقف، صوت الديمقراطيين المغاربة بهولندا، لاهاي، 2003م.

 

كيف همّش “الربيع العربي” القضية الفلسطينية؟

إبراهيم علوش

– حول ابتعاد “الربيع العربي” عن التناقض مع الإمبريالية والصهيونية:

كنا قد لاحظنا مبكراً في أكثر من مادة منشورة على موقع الصوت العربي الحر وغيره أن ثورات ما يسمى ب”الربيع العربي” ركزت على قضية الديموقراطية بالمعنى الغربي، بمعنى الانتخابات والتعددية وتداول السلطة وما شابه، وأنها أهملت منذ البداية التناقض المركزي مع الإمبريالية والصهيونية، وقلنا منذ بداية ربيع العام 2011 ما مفاده على هذا الصعيد:

فإذا بدأنا من فرضية أن الأساس هو الحريات الفردية، وأن كل من يعيق الحريات الفردية هو العدو، وكل من يسهل نيلها هو الصديق، يصبح من السهل عندها أن نتعامل مع الولايات المتحدة وحلف الناتو والدول العربية التابعة لهما، لا على أساس مشاريعها في المنطقة، والاصطفاف القائم على الأساس القومي، بل على أساس الشعارات السياسية التي يرفعونها لتمرير مشاريعهم السياسية.  وقد رأينا ما جرى في العراق، على سبيل المثال لا الحصر، ونعرف بالتالي أن المشروع الأمريكي في المنطقة هو مشروع: 1) هيمنة، و2) تفكيك، 3) بغلاف “ديموقراطي”. 

 

أما إذا بدأنا من أولوية التناقض الرئيسي مع الإمبريالية والصهيونية، وهو التناقض الذي لاحظنا تغييبه إلى حدٍ بعيد في الانتفاضات الشعبية الأخيرة، فإن الاصطفاف يصبح مختلفاً بالضرورة، وعندها تصبح الدول والقوى التي تشكل عائقاً أمام المشاريع الإمبريالية والصهيونية قوى صديقة بالضرورة، حتى لو كانت لنا ملاحظات كبيرة عليها، ولو كان تناقضها مع الإمبريالية والصهيونية نابعاً ببساطة من مخطط قوى العولمة في تكسير الدول المركزية، مثل يوغوسلافيا السابقة أو كوريا الشمالية، المعيقة لمخططاتها.  في تلك الحالة، لا نسقط مطلب الإصلاح والتغيير طبعاً، ولا نسقط مطلب الحقوق الفردية، ولكننا نشترط بالحد الأدنى ما يلي: 

  • أن يكون صاحب ذلك المطلب غير مرتبط بأجندة خارجية أو بعلاقة مع الخارج الاستعماري المعادي
  • أن لا يكون جزءاً من مشروع تفكيك الوطن باسم تغيير النظام.

وقلنا بعد اتضاح الصورة إلى حد الغثيان في نهاية عام 2011: الديموقراطية في الغرب نشأت في الدول المركزية القومية المستقرة، بعد تكريس مفهوم المواطنة، على حساب الطوائف والأقاليم، وبعد الثورة الصناعية وعصري النهضة والتنوير.  أما الانتخابات والتعددية التي تكرس الانقسامات الطائفية والعرقية والعشائرية والمناطقية فهي وصفة للدمار، ولتفكيك الدول والمجتمعات.

المشروع الديموقراطي الحقيقي بالتالي هو المشروع الوطني والقومي، مشروع التنمية المستقلة، ومشروع التحرر عن الإمبريالية، لأنه يحقق الشروط الموضوعية للمجتمع الديموقراطي، أما “الديموقراطية” في ظل الانقسام فتمهد للحروب الأهلية والدمار.

إذن قلنا أن التحرر القومي والسيادة هما شرطان ضروريان، غير كافيين، للديموقراطية في الوطن العربي، وبالتالي فإن أي مشروع ديموقراطي حقيقي، كنقيض للديموقراطية الليبرالية، لا بد أن يبدأ بأولوية الصراع مع الإمبريالية والصهيونية. 

لكن ما حدث كان عكس ذلك بالضبط.  فبعد تسرب تقارير روسية وغير روسية عن اختراق الحراك الشعبي العربي من قبل الإمبريالية، بدأت تظهر قسمات مشؤومة على وجه ما سمي ب”الربيع العربي” سبق أن تطرقنا إليها في ورقة تحت عنوان “تداعيات التدخل الأجنبي في الوطن العربي“، ومنها:  

1) دور الإمبريالية والصهيونية الواضح في مشروع إسقاط النظام في ليبيا وسورية، من خلال دور الصهيوني هنري برنار ليفي مثلاً، واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة (أنظر ورقة أليوت إبرامز التي تطرح مشروع إسقاط النظام في سورية على موقع الصوت العربي الحر)، أو من خلال المواقف المعلنة في وسائل الإعلام، أو من خلال مجلس الأمن الدولي، أو من خلال أقرب حلفاء الإمبريالية والصهيونية في المنطقة (مثلاً موقف قوى 14 آذار في لبنان)،

 

2) انكشاف علاقات التنسيق والشراكة الاستراتيجية بين “ثوار” ليبيا وسورية، من جهة، وبين الإمبريالية والصهيونية من جهة أخرى، ومن ذلك العلاقة مع الصهيوني هنري برنار ليفي مثلاً،

3)  ابتعاد “ثوار” ما يسمى ب”الربيع العربي” عن طرح أي تناقض مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، والتركيز على موضوعة “الإصلاح الدستوري والانتخابي”، دون المساس ببنى التبعية والعلاقات مع العدو الصهيوني، ومن ذلك تصريحات راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإخوانية، في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الصهيوني، بعد لقاء للغنوشي في 30/11/2011 في ذلك المعهد قال فيه: أن “النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي” لا يعنيه، لأنه شأن الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، وأنه جاء للتحدث عن تونس ومصلحته الخاصة (هكذا!)، وأضاف بأن حزبه لم يضع في برنامجه الانتخابي شيئاً يمنع إمكانية نشوء علاقة مع “إسرائيل”، وأكد على التنسيق مع الناتو الذي لن ينقطع…

 

4)    انكشاف حجم الاختراق عبر منظمات التمويل الأجنبي وشبكات “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”، وهو ما وثّق له أكثر من كاتب في روسيا والصين، ناهيك عما كتبه بعض الكتّاب المصريين، مما وثّقناه على موقع الصوت العربي الحر،

 

5)    انكشاف التحالف الذي عقدته بعض قوى الإسلام السياسي في المنطقة مع الإمبريالية الأمريكية، ومن ذلك ما صرح به جيفري فلتمان، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، لصحيفة يديعوت أحرونوت، والتي ترجمت منها صحيفة العرب اليوم مقتطفات في 9/12/2011، قال فيها أن ثمة تفاهماً مع حركة الإخوان المسلمين في مصر، وتنسيقاً وشراكة استراتيجية مع السلفيين!

 

من هنا، لم تعد القصة قصة انحراف عن جادة الصواب وخلط للأولويات، بل تعدتها إلى ممارسة التطبيع مع العدو الصهيوني مباشرة، وليس التنسيق الأمني والعسكري والسياسي فحسب مع حلف الناتو، الذراع العسكرية للإمبريالية، حاضنة العدو الصهيوني وراعيته.  ولعل أبرز مثال على ذلك إعلان الإخوان والسلفيين في مصر احترام معاهدة كامب ديفيد، وكانت وسائل إعلام شتى قد نقلت في 18/2/2011 عن الدكتور سعيد الكتاتني، الناطق الإعلامي باسم جماعة “الإخوان المسلمون” في مصر، في تصريحات له على قناة “سي أن أن” الأمريكية: “الجماعة عارضت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، حينما كانت تناقَش، ولكن عندما تم توقيعها وأُقرت، أصبحت واقعاً ومعاهدة يجب احترامها”، مشدداً على أن “الجماعة تحترم جميع المعاهدات الدولية التى وقعتها مصر”.

تكررت مثل تلك التصريحات مراراً، ومنها ما نقلته هآرتس في 28/11/2011 عن تطمينات قدمتها جماعة “الإخوان المسلمون” في مصر لحكومة الولايات المتحدة حول عدم إلغاء معاهدة كامب ديفيد، وما نشره موقع العربية نت في 12/1/2012 عن د. رفيق حبيب، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة الإخواني، بعد لقائه مع مساعد وزير الخارجية الأمريكية وليام بيرنز في مقر الحزب، من أن “أن الدولة المصرية عليها التزامات وأن حصول أي حزب على أغلبية برلمانية فيهدم هذه الالتزامات والاتفاقيات غير وارد“.  الخ…

كذلك سار سلفيو حزب النور على نفس المنوال، كما كتبت وكالة الصحافة الفرنسية في تقرير لها في 21/12/2011: أجرى يسري حماد المتحدث باسم “حزب النور” السلفي المصري مقابلة غير مسبوقة عبر الهاتف من القاهرة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي اليوم الأربعاء قال فيها إن حزبه “يحترم جميع المعاهدات” التي وقعتها مصر بما فيها اتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979.

يشار أن جماعة “الإخوان المسلمون” وقفوا ضد اقتحام السفارة الصهيونية في القاهرة في 9/9/2011 بالقول والعمل، وأنهم أعلنوا والسلفيون عدم المشاركة في جمعة “تصحيح المسار” وقتها، كما حاولوا منع المتظاهرين من اقتحام السفارة تحت عنوان الأمن والنظام في الوقت الذي انتقدوا فيه أي استغلال للأحداث للضغط على الحريات أو تأجيل الانتخابات همهم الرئيسي…

ويذكر أن واشنطن بدأت تمول المعارضة السورية منذ عام 2006، على حسب برقيات ويكيليكس التي سربتها الواشنطن بوست الأمريكية الموثقة على موقع الصوت العربي الحر أيضاً.  

لكن مؤتمر باريس الذي عقده الصهيوني الليكودي المهووس هنري برنار ليفي لمساندة المعارضة السورية في أوائل شهر تموز 2011، والذي أثارت المشاركة فيه خلافاً في صفوف تلك المعارضة نفسها، تم بمشاركة عدد من رموز مؤتمر أنطاليا وممثل جماعة “الإخوان المسلمون” في سورية ملهم الدروبي.  ومن المعروف أن ليفي نفسه كان قد لعب دوراً مركزياً فيما يسمى “الثورة الليبية”.  وبالإضافة للعلاقة الوطيدة بين حلف الناتو والثورات العربية، فإن شخصية ليفي نفسها، بكل ما تحمله من شحنة تطبيعية غير قابلة للجدل، ربما تكون التعبير الأمثل عن حقيقة ما يسمى “الربيع العربي”، خاصة دوره في نقل رسالة الطمأنة التي تناقلت أخبارها وسائل الإعلام في 4/6/2011 من متمردي الناتو في ليبيا إلى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني بعد لقاء الأخير مع ليفي لمدة ساعة ونصف في القدس العربية المحتلة… 

 

لعل كل ما نقلناه أعلاه ليس إلا رأس جبل الجليد، لكن ذلك لا يهم، فالتطبيع تطبيع، وليس هنالك شيء اسمه نصف قذارة أو ثلث دعارة أو ربع تطبيع، وما رأيناه على الملأ يكفي لنطلق حكماً قاطعاً بالتطبيع مع العدو الصهيوني على المشروع السياسي لما يسمى “الربيع العربي”، حتى قبل أن ندخل في تحليل مستنقع تحولات حركة حماس في السياق الإقليمي والفلسطيني الداخلي، ولا ننسى إعادة محمد مرسي للسفير المصري لتل أبيب في بداية شهر أيلول 2012، محملاً برسالة منه لبيريز بدأها بالعبارة التالية: عزيزي وصديقي العظيم!

– “الربيع العربي” فلسطينياً:

 

يتكشف المشهد العربي الراهن عن حقيقة أساسية لم يعد ممكناً إنكارها وهي أن ما يسمى “الربيع العربي” همّش القضية الفلسطينية في حيزٍ لم يضق يوماً إلى هذا الحد، وأن ذلك جرى لأن ذلك “الربيع”: 1) حمل في بداياته برنامجاً مستورداً ومنبتاً عن التحرر الوطني هو “الإصلاح” بمقاييس غربية، 2) انطلق من تهميش التناقض مع الإمبريالية والصهيونية، 3) تمخض عن تحالف اللاعبين الرئيسيين فيه معهما، 4) انتهى لخلق ظروف تفكيك وصراعات طائفية وقبلية وإثنية أجبرت حتى المعنيين بالقضية الفلسطينية على التركيز على مواجهة الهجمة عليهم بدلاً منها.  لا بل يمكن القول أن “الربيع العربي” جاء كتتمة مباشرة للعدوان على العراق ليسفر عن استهداف الجيوش العربية التي قاتلت العدو الصهيوني يوماً: السوري والعراقي والمصري بخاصة، وأن ذلك لعب استراتيجياً لمصلحة الكيان الصهيوني بالضرورة.

فلسطينياً، تمخض “الربيع” المزعوم عن تبني حركة حماس رسمياً لبرنامج “الدويلة الفلسطينية” في حدود الأراضي المحتلة عام 1967، مع أن ذلك التوجه بدأ رسمياً مع خطاب خالد مشعل في دمشق في حزيران عام 2009 رداً على خطاب أوباما في جامعة القاهرة آنذاك، وبذلك لم يعد الصراع بين حماس والسلطة الفلسطينية صراعاً بين برنامج مقاومة وتحرير من جهة وبرنامج تسوية واستسلام من جهة أخرى، بل تحول إلى صراع فصائلي على سلطة غير موجودة في دولة مفتقدة السيادة.  فالسلطة الفلسطينية رسخت دورها كوكيل أمني للعدو الصهيوني في الضفة الغربية، أما حماس فباتت تبدو أكثر فأكثر كمن يناطح السلطة على سلطتها، لا كمن ينطلق من برنامج سياسي مختلف جذرياً عن برنامج السلطة، وقد تعزز ذلك بعد وصول الإخوان المسلمين للحكم في مصر وتونس، بالتفاهم مع الإدارة الإمريكية، كنتاج مباشر لـ”الربيع العربي”، وشعور الإخوان المسلمين في كل الإقليم أن اللحظة التاريخية حانت لاستلام الحكم في كل البلدان العربية، ومنها السلطة الفلسطينية طبعاً.   وصارت معضلة قيادة حماس، ولا تزال، نيل الاعتراف الدولي والرسمي العربي بسلطتها في غزة، لا برنامج المقاومة والتحرير، وصارت تلعب، كما لعبت قيادة فتح من قبل، لعبة القتال حتى الوصول لطاولة المفاوضات… ولا بأس من تنظيف حركة الإخوان المسلمين في الإقليم بالدم الفلسطيني بين الفينة والأخرى طبعاً.

في الآن عينه راح الجمهور الصهيوني يزداد يمينيةً وتطرفاً، وطفق يجنح أكثر فأكثر نحو انتخاب قوى سياسية تتمسك ببرنامج التهويد الشامل للأرض العربية الفلسطينية المحتلة وللنظام السياسي في دولة الاحتلال، وصار أقل استعداداً لتقديم تنازلات شكلية تافهة من نوع “تجميد الاستيطان” من أجل استمرار مهزلة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية و”العملية السلمية” في المنطقة!  ومع أن مثل ذلك الموقف المتشدد استفز الاتحاد الأوروبي وإدارة الرئيس أوباما، اللذان كررا التزامهما الأبدي أيضاً بأمن العدو الصهيوني وتفوقه العسكري، فإن حكومة نتنياهو وحلفائه من غلاة الصهاينة لم يتراجعوا، بل ازدادوا تشدداً، وراحوا يخوضون معركة سياسية ضد الرئيس الأمريكي في ملعبه الخلفي في مجلس النواب والشيوخ الأمريكيين، دون مراعاة حاجة الإمبريالية العالمية، في سياق المعركة الدولية ضد الدول المستقلة مثل روسيا والصين، لتجنيد العرب والمسلمين في صفها.

أكثر ما يغيب عن القضية الفلسطينية اليوم هو برنامج المقاومة والتحرير بعد أن تخلى عنه معظم أهله، إلا من رحم ربي، وهم موجودون بالطبع، ولا يزالون يقبضون على الجمر، لكن الحقيقة المؤلمة تبقى أن قيادة حركة فتح عبر مسيرتها، ومنذ برنامج النقاط العشر عام 1974، ثم قيادة حماس السياسية، بالإضافة لقيادة عدد من الفصائل اليسارية، ثم أقطاب المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً في فلسطين وجوارها، تمكنوا من زحزحة قطاع واسع من الشعب العربي الفلسطيني باتجاه برنامج “الدولة المستقلة” على خمس فلسطين بعيداً عن برنامج التحرير، وجاءت مداخلة إدوار سعيد وعزمي بشارة لتتمم ذلك التلوث السياسي بتلوث آخر، عقائدي، أكثر خطورة، بالحديث عن “دولة واحدة” لكافة مواطنيها، عربية-يهودية، ولتوجه ضربة أيديولوجية لفكرة عروبة الأرض، وهو أساس الصراع منذ بدأ: هل الأرض عربية أم يهودية؟

لم يبدأ التدهور في الوضع الفلسطيني مع “الربيع العربي”، إنما جاء “الربيع” المزعوم ليزيد الوضع الفلسطيني تدهوراً.  فالتدهور بدأ مع تقهقر المشروع القومي في بلادنا، وتكرس مع زيارة أنور السادات للقدس عام 1977، ومع التخلي عن المسؤولية العربية عن فلسطين في مؤتمر الرباط عام 1974 تحت عنوان “الممثل الشرعي والوحيد”، ثم “نقبل بما يقبل به الفلسطينيون”!!  لكن لا بد أن نصر أن ذلك التدهور هو بالضرورة حصاد نهج التسوية والاستسلام، عربياً وفلسطينياً، وأنه نتاج ضرب العراق وإخراجه من معادلة الصراع، وأنه سيزيد مع استنزاف سورية والجيش المصري وبقية البلدان العربية.   وأن وضع حد لذلك التدهور لا يكون إلا بالعودة لبرنامج المقاومة والتحرير، وتحقيق شروطه السياسية والتعبوية والعسكرية.

فلسطين: علامة فارقة في أهداف مشروع “الربيع العربي”

 

صالح بدروشي

 

بعد مرور خمس سنوات تقريبا على توهان المواطن العربي بين ركام الأطروحات والتحاليل والمضايقة الإعلامية التي تمارَس بلا هوادة على عقله، المتعب أصلا بظروفه القاسية، من قِبَل آلاف المواقع الإلكترونية وأطنان من الصحف ومئات المحللين السياسيين الذين يطلّون عليه صباحا مساءا من شاشات عشرات القنوات التلفزية، نجح صمود المقاومين من أحرار الأمّة العربية في إزالة الغشاوة وكشف المستور من أهداف مشروع ما يسمى “ربيعا عربيا”، رغم كل شيء، ورغم حجم الصدمة التي شلّت عقول الكثيرين بفعل تسارع الأحداث وضخامتها.

لكن على الرغم من كل ما انكشف، لا يزال كثيرون، ممّن تمّ استغفالهم واستغباؤهم من طرف العملاء وسماسرة السياسة وشهود الزور، متردّدين في حسم موقفهم من هذه العاصفة التي راحت تفتك بوطننا العربي، فتسقِط دولاً ليحلّ محلّها الخراب وتستقرّ فيها الفوضى الهدّامة لكلّ شيء، وتشعل نار الحرب والفتن في دول أخرى لم تقدر على إسقاطها ولا تزال محاولات إسقاطها جارية على قدم وساق حتى ساعة كتابة هذه الكلمات.

لهؤلاء المغرّر بهم والمخدوعين الذين اختلط عليهم الأمر، قمنا بتجميع جملة من الأحداث والمعطيات الظاهرة والتي لا يمكن إنكارها، أو الاختلاف حول توصيفها، بقصد وضعها مجمّعة بين أيديهم لعلّهم يحزمون أمرهم في اتّخاذ موقف واضح وصريح من مشروع “الربيع العربي” وأهدافه.

وفي عملية صفّ هذه الأحداث عمدنا أن يقتصر تسليط الضوء على أحد مخرجات هذا “الربيع”، والتي تخصّ واحدة من أهمّ قضايانا العربية وهي فلسطين والتطبيع مع الكيان الصهيوني، أي انعكاس أحداث الربيع المزعوم على القضية الفلسطينية.

– في مصر:

بعد أحداث 25 يناير لم يتمّ تطبيق أو المطالبة بالشعارات والأهداف التي كانت معلنة في الحراكات السابقة للربيع المزعوم بخصوص إلغاء اتفاقية مخيّم داود وإغلاق السفارة الصهيونية، كما أنّه لم يتمّ توجيه حراكات الشارع التي كانت ضخمة جدّا باتّجاه سفارة الكيان الصهيوني لتنفيذ شعار الاخوان السابق “عالقدس رايحين شهداء بالملايين”، بل على العكس تم توجيه الحراكات للمطالبة بغلق سفارة سورية.  كما لم تطالب أيّ من القوى السياسية وأحزاب الربيع المشاركة في العملية السياسية مع الإخوان بإغلاق السفارة الصهيونية وقطع دابر كامب ديفيد من مصر. وتمّ تدريب ميليشيات في عهد مرسي وتحريكها نحو سورية بدل فلسطين المحتلة، وأعلن مرسي النفير العام للجهاد في سورية، ودعا لإقحام الجيش المصري في سورية ومحاربة الجيش العربي السوري علنا في خطاب “الإستاد” المشهور، فيما تقع فلسطين على مرمى حجر منه.

أرسل رئيس مصر الإخواني مرسي رسالة بالغة الودّية إلى رئيس الكيان الصهيوني يصفه فيها بـ “عزيزي وصديقي العظيم صاحب الفخامة السيد شيمون بيريز رئيس دولة إسرائيل”، وختم رسالته بـ “لي الشرف بأن أعرب لفخامتكم عما أتمناه لشخصكم من السعادة، ولبلادكم من الرغد. صديقكم الوفي، محمد مرسي”، وكانت تلك رسالة لتعيين سفير لمصر لدى الكيان الصهيوني الذي كان مجمّدا منذ سنوات مبارك.  ولم يتمّ إلغاء اتفاقية التفريط في الغاز المصري للكيان الصهيوني بسعر زهيد جدّا.  ولا ننسى قيام حكومة الإخوان برعاية هدنة طويلة الأمد بين حماس والكيان الصهيوني بدلا من دعم خيار التحرير وإعلان المقاومة.

– في ليبيا:

حضور الصهيوني برنار هنري ليفي في كل تفاصيل المشهد الليبي كعرّاب للـ”ثورة” الليبية كان علنيا، بل شاهدناه في الصفوف الأمامية يقود “ثوار” الناتو المتأسلمين، وأعلن بعد سقوط الدولة الليبية في كل وسائل الإعلام العالمية أنه كان الداعم الرئيسي لـ”الثورة” الليبية، ليس لأجل عيون الليبيين، “ولكن خدمة لإسرائيل التي أعشقها”!!!  كما أعلن أن ليبيا “المحرّرة” ستقيم علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني، وأعلن إخوان ليبيا عن ترحيبهم بعودة يهود ليبيا، وقاموا بهدم تمثال الزعيم القومي جمال عبد الناصر في طرابلس، وأعادوا إقامة الكنائس التي كانت مخصّصة للمحتلّين الغربيين وأغلقت لمّا رحلوا بعد استقلال ليبيا، وكلّ هذا لكي تكون ليبيا الجديدة متأقلمة مع إعادتها إلى حظيرة الطاعة الغربية كما كانت في عهد السنوسي.

ليبيا التي كانت أحد الممولين الرئيسيين بالمال والسلاح والمجاهدين المتطوعين للمقاومة الفلسطينية، أصبحت مرتعا لمعسكرات تدريب الشباب العربي وإرساله إلى سورية لتخريبها، ولمحاربة الجيش المصري في سيناء، بدل إرسالهم لتحرير فلسطين. طبعا أتى كلّ هذا بعد “تحرير ليبيا” من شعبها الذي أصبح مشرّدا ومهجّرا (مليونا ليبي في مصر ومليون في تونس)، وحتى من بقوا بالداخل باتوا مهجّرين من مدنهم وديارهم (مدينة تاورغاء نموذجاً، التي تمت إبادة ساكنيها، وأغلبهم من ذوي البشرة السمراء، وهي الآن خالية تماما من السكان).  وفي كتابه “الحرب دون أن نحبّها”، يتحدّث الصهيوني برنار ليفي عن “طمأنة “إسرائيل” بأن ليبيا الجديدة لن تكون عدوا “لإسرائيل”.  وفي لقاء له مع الصهيونية تسيبي ليفني سُئل من الصحافيين: هل تخاف على حليفتك “إسرائيل” من الربيع العربي، وأنت أول من شجعه؟  فأجاب: على العكس تماما… وتصريحاته بهذا الشأن متعدّدة لمن يرغب بمراجعتها.

– في تونس:

قامت الحكومة ومجلس النواب المنتخبين المكلّفين ببناء دولة “الربيع العربي”، دولة “الحرية” المزعومة، برفض مطلب الشعب بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في الدستور التونسي الجديد!!  وقاموا بحذف الفصل 27 الذي ورد بمسودّة الدستور والذي نصّ على أن “التطبيع مع الكيان الصهيوني جريمة يعاقب عليها بقانون”.

لقد قامت حكومة تونس الجديدة، تونس “الربيع العربي”، ولأول مرة في تاريخ البلاد باستقبال “سياحٍ” صهاينة بجوازات سفر صهيونية، تختم جوازاتهم علنا، حتى ذوي الجنسية المزدوجة الفرنسية –الصهيونية منهم، أو الأمريكية –الصهيونية، دخلوا تونس بجواز سفرهم الصهيوني.  وقد كان من بركات “الربيع العربي” أن حكوماته في تونس أصبحت تصرّح علنا بأنّ التطبيع مع الكيان الصهيوني هو ضمان نجاح المواسم السياحية وانتعاش الاقتصاد في بلادنا!!

تمّ ترشيح روني الطرابلسي لمنصب وزير السياحة، وهو يهودي تونسي يعمل في مجال السياحة، كان يقوم سراً في السابق باستقدام سيّاح صهاينة من فلسطين المحتلّة وينظّم لهم الزيارات في جربة وغيرها (حسب تصريح له بالتلفزة). ولكن قرار ترشيحه لهذا المنصب قوبل باستياء شعبي ورفض عدد من القوى والشخصيات السياسية القومية فتم العدول عنه بعد الضجة التي حصلت، وتم استبداله بوزيرة متزوّجة من يهودي ألماني كانت تحاضر في المعاهد الصهيونية في فلسطين المحتلّة، أصبحت تجاهر بترحيبها بالسياح الصهاينة في تونس.

رئيس المجلس التأسيسي يقول بأنه لا مشكلة لنا مع إسرائيل، واعتبر مطلب تجريم التطبيع مطلب أقلية قومية متطرفة، حتى أنّه، من شدة غرامه بالصهاينة، قام “عن طريق الخطأ!!!”، بطباعة العلم التونسي على أوراق كرّاسات اجتماعات المجلس بنجمة سداسية  !!!

علامة أخرى ميّزت “ربيع تونس”، وهي زيارات زعيم إخونج تونس “راشد الغنوشي” لمعاهد ومراكز أبحاث منظمة اللوبي الصهيوني العالمي لدعم الكيان الصهيوني “آيباك”، وزياراته المتكرّرة هو وقياديي حركة النهضة الإخوانية، مثل الجبالي، للمعاهد الصهيونية وحفاوتهم الشديدة بأكبر جهابذة الصهيونية كاليهودي جون ماك كاين واليهودي جورج سوروس واليهودية مادلين أولبرايت في تونس وفي الولايات المتحدة الأمريكية.

كما نسجّل أن من أهم منجزات “الربيع العربي” في مجال تشغيل الشباب في تونس كان تأسيس شبكات لتسفير الجهاديين بالتعاون مع تركيا لتخريب الوطن العربي وليس للدفاع عن القدس وفلسطين.

– في سورية:

كان من إبداعات “الربيع العربي” أننا أصبحنا نشاهد في سورية المجاميع “الثورية” من نوع داعش والنصرة والجيش “الحرّ” تتقدم في أكثر من مناسبة تحت غطاء جوي لطيران العدو الصهيوني! وعندما يتمّ قصف أهداف سورية من قبل الكيان الصهيوني تعلوا التكبيرات من عند أبطال “الربيع العربي” ويطلّ علينا بعضهم من القناة العاشرة الصهيونية للتنديد بالجيش العربي السوري والإشادة بالجيش الصهيوني الصديق.  وفي طرطوس واللاذقية قام “ثوّار” سوريا بزرع كاميرات ورادارات وأجهزة بث آلية خفية للتجسّس على بلادهم لمصلحة الكيان الصهيوني، تمّ كشفها من قبل مخابرات الجيش العربي السوري وشاهدها العالم أجمع.

أمّا في الجولان المحتل، فإن “ثوّار” سورية لا يخافون من الصهاينة ويقومون بمحاربة الجيش العربي السوري والشعب السوري وظهورهم محمية من الجنود الصهاينة، والأكثر طرافة أن من يسقط منهم جريحا تسارع بالتقاطه الأدوات الصهيونية لتحمله إلى المستشفيات الصهيونية التي أصبحت مجهّزة لاستقبال جرحى أبطال “الربيع العربي” .. فيزورهم رئيس الوزراء الصهيوني في المشافي وتبثّ القنوات صوره وهو يربّت على أكتافهم كأفضل أصدقاء للكيان الصهيوني!!

لا يتورع العديد من زعماء “الربيع” السوري عن زيارة الكيان الصهيوني وحضور ندواته ومؤتمراته والظهور في قنواته الإعلامية بكلّ أريحية، ومن دون أدنى ضيق، بفضل “الربيع” الذي أطلق سراحهم من ضرورة كتمان خيانتهم لوطنهم وعمالتهم لأعداء أمّتهم.

وعلى ضوء، أو بالأحرى ظلام، كلّ ذلك يخرج رئيس جهاز الشاباك (المخابرات الصهيونية) السابق في فيديو يتحدث فيه عن ضرورة دعم ما أسماها “ثورة سورية” وهو يتحدث بالعربية .. بما أنه “ربيع عربي” !!

علامة أخرى ذات دلالة في سورية هي الاستهداف المكثّف للمخيّمات الفلسطينية فيها، وأشهرها مخيّم اليرموك، والسعي إلى تهجير الفلسطينيين منها، حيث يشكّلون رافداً للمقاومة المسلّحة الفلسطينية.  ويزداد الانكشاف وضوحاً عندما تخرج كلّ قيادات أحد أكبر الفصائل، وهي “حماس”، من سورية التي آوتها ودرّبتها وسلحتها لسنين طويلة، بل منذ نشأتها، وفضّلتها على سائر الفصائل لتنتقل تلك القيادات لتقاوم من فنادق قطر!

فإذا كان ما يجري في سورية ثورة تهدف إلى إسقاط النظام لانتزاع الحرّية، على ما زعموا، فلماذا يقع استهداف المخيّمات الفلسطينية وبضراوة؟؟  ولماذا تسعى هذه “الثورة” إلى تطبيع العلاقات مع الصهاينة وهم العدو الأول للشعب العربي؟؟

– في العراق:

بعد أحداث “الربيع العربي” قامت عصابات مسلّحة مختلفة بالسّطو على نفط العراق في المواقع التي تسيطر عليها وراحت تبيعه بثمن بخس للكيان الصهيوني عبر تركيا، مما يدلّل على الصداقة بين حراكات “الربيع العربي” والكيان الصهيوني.

ودون الغوص في الكثير من التفاصيل، فإن العراق الذي كان يمتلك قوّة وموقفا يهدّدان الكيان الصهيوني، نهشه “الربيع العربي” طائفياً، بعد الحصار والاحتلال، ولم يبقِ فيه ولم يذر، وانحدر مثل ليبيا إلى مرتبة أدنى من الصومال وبعد أن كان سندا قويّا للمقاومة الفلسطينية،  ولم يعد قادرا على تقديم أي شيء حتى إشعار آخر.

– في دولة آل سعود:

بعد “الربيع العربي” تواترت اللقاءات السعودية-الصهيونية بلا خجل، وشاع الحديث عن إمكانية قيام حلف عربي-صهيوني “لمحاربة الخطر الإيراني”، وبعد أن أقرّوا جميعهم أيام تلاقيهم مع مبارك أنه لا حرب بعد اليوم، وأن الحرب لم تساعد في حلّ أي مشكل في التاريخ، بحسب تصريحاتهم،  فإنما كانوا يقصدون بذلك الحرب مع العدوّ الصهيوني، لأنهم لم يتوانوا بعدها عن التورط في أقذر مهمّة مثل قصف العراق عام 2003 وليبيا عام 2011 بالمشاركة مع حلف الناتو، وبدعم الحرب على سورية، وقصف اليمن عام 2015.  حتى السودان الذي تحجج، عندما اعتدى عليه الطيران الصهيوني، بأنه لا يمتلك إمكانية الطيران الليلي للتصدّي للعدوان، نراه يدخل تحالفا عسكريا وأصبح لديه طيران قادر على هدم المنازل على رؤوس الأبرياء في اليمن.

ويذكر أن من أهمّ ممولي “ثورات الحرية” هذه، ويقود مجاميعها المسلّحة وغير المسلحة، أمراء قطر، بلاد “الحرية” والبترودولار، المستقلّة استقلالا تاما عن الإدارة الأمريكية.

 

– في فلسطين:

فقط في فلسطين بقي الربيع يتيما، لم ينجده البترودولار ولا حلف الناتو ولا تركيا، ولا حتى بندقية حماس.

غير أن فلسطين انتصرت في النهاية. أرادوا بربيعهم محوها من المشهد ففشلوا.  وعندما نقول أنّ فلسطين في القلب فهي فعلا في قلوب الأحرار. فدماء شباب فلسطين، ودماء شهداء الجيش العربي السوري وكلّ الشهداء العرب، لن تسمح بتغييب فلسطين. بدأ ربيعهم المشؤوم بالأفول تحت بسطار الجيش العربي السوري، وها هي فلسطين تعود بقوّة بالدّماء الشّابة والسكاكين المدوّية والخناجر المزمجرة وها هي بوادر النصر تلوح في أفق الشام القريب.

فهكذا وبكلّ بساطة نرى أن العلاقة بالصهيونية وفلسطين هي علامة فارقة في كشف أهداف مشروع “الربيع العربي”.

فلسطين و”الربيع العربي”: هل التناقض الرئيسي مع المشروع الصهيوني-الأمريكي أم مع الأنظمة المستبدة؟

معاوية موسى

منذ خمسة أعوام، وتحديدا منذ انطلاق ما يسمى في وسائل الإعلام بـ”قطار الربيع العربي”، في تونس فمصر فليبيا فاليمن ثم سوريا والبحرين، والقضية الفلسطينية تعاني التهميش، الأمر الذي أثار مخاوف الكثير من المخلصين، لاسيما أنها القضية المركزية للأمة كما في الخطاب السائد في صفوف القوى الحيّة في الأمة منذ نشأت قضية فلسطين، وهو الخطاب المحقّ والصائب دون أدنى شك وريبة، وهو الخطاب الذي لم يفقد البوصلة في زمن تشتّت البوصلات وتناثرها.  

والحق أننا إزاء أو أمام جدلية حقيقية طرحتها “الثورات العربية” عنوانها أولوية الأمة: هل هي التناقض مع المشروع الصهيوني-الأمريكي في المنطقة، أم التناقض مع أنظمة الاستبداد؟ وهي جدلية تعاملت معها القوى الحية في الأمة سابقا بروحية العمل على الجبهتين، إذ لم تمنعها مواجهة الاستبداد في الداخل من المساهمة في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني، كلٌ بحسب قدرتها وإمكانياتها وأدواتها، وهو ما أفرز مصطلح جبهة أو قوى المقاومة والممانعة (ايران، سورية، حزب الله، وقوى المقاومة الفلسطينية).

في هذا الإطار تحققت إنجازات لا يمكن إغفالها، تمثّلت في إيقاع بعض الهزائم الجزئية والمرحلية المهمة بالمشروع الصهيوني، من منظور المشروع القومي العربي الكبير، وفي مقدمتها انتصار أيار/مايو عام 2000 في الجنوب اللبناني، وكذلك انتصار تموز/يوليو عام 2006، الذي منع صهينة لبنان وأطلق رصاصة الموت على مشروع تقسيم المنطقة الذي عُرف وقتها بمشروع كونداليزا رايس “الشرق الاوسط الكبير”، وانتصار معركة الفرقان نهاية 2008 ومطلع 2009، وقبله انتفاضة الأقصى وانتصاراتها الرمزية والكبيرة التي أفْضت إلى الانسحاب “الإسرائيلي” من قطاع غزة وتفكيك مستوطناته.

ولا شك أننا إزاء أدوار ومعارك ساهمت في تحجيم طموحات المشروع الصهيوني الذي بات يحيط نفسه بالجدران جراء الخوف، بينما كان يحلم مع انطلاقة أوسلو بالهيمنة على المنطقة برمّتها. ولم يكن ذلك هو كل شيء، فقد أسهمت المقاومة العراقية بكل فصائلها في إفشال مشروع الغزو الأمريكي للعراق الذي كان واسعَ الطموحات كما يعرف الجميع، فضلاً عن أفغانستان، وقد ساهم ذلك كله في ضرب الغطرسة الأمريكية وفي الحد من النفوذ الأميركي في المشهد الدولي، وإعادة الاعتبار بالمقابل لكل من روسيا والصين، وتحوّل العالم إلى عالم متعدد الاقطاب، بدلا من سياسة ونفوذ القطب الواحد.

 لكنّ ذلك لم يكن كافيا لإحداث نقلة مهمة في مشروع الأمة للوحدة والنهوض، والسبب بالطبع هو تلك الأنظمة التي هيمنت على السلطة والثروة ورهنت قرار الأمة للخارج، ولم يعد بالإمكان الخروج من هذا المأزق دون مواجهتها والتخلص منها، وأقله تغيير بنيتها على نحوٍ جوهري.

كانت تلك هي روحية “الربيع العربي” في تجلياته الأولى. فمن هنا يأتي تأييدنا العفوي والمباشر لما حدث في مصر وتونس قبل انكشاف عورة ذلك الربيع المأفون والذي لم يتفتح لاحقا إلا على خراب.

فالبعض اعتبرها “ثورات” قامت بها الشعوب ضد سياسات الفقر والظلم والاستبداد والتبعية، وتجسّدت بفتح الباب أمام الشعوب لاستلام قرارها بيدها لتختار من يحكمها، وأن هذه “الثورات” ستؤثر لاحقًا بشكل إيجابي على القضية الفلسطينية لتكون قضيّة العرب المركزية، التي ستحظى بالاهتمام لتحقيق أهداف الشعب العربي في إنهاء الاحتلال وإنجاز التحرير والعودة، لأنّ هذه الدول في مرحلة انتقالية، وهي منشغلة في الوقت الحالي بإعادة ترتيب الساحة الداخلية وسياساتها الداخلية والخارجية.

بينما رأى البعض أن ما يجري هي مؤامرات خارجيّة تستهدف استقرار الدول العربية، مستشهدين بما جرى ويجري في مصر وسورية وليبيا واليمن من حالة فوضى وعدم استقرار، وأن ما يسمى بـ”الربيع العربي” همّش القضية الفلسطينية، وانتزعها نهائيا من صدارة المشهد السياسي والإعلامي العربي.

هذا في التوصيف، ولكنّ الحقيقة هي ما يعكسه الواقع نفسه، وما تفرضه الأحداث والتداعيات، فهذا “الربيع” في الحقيقة لم يهمّش القضية الفلسطينية فحسب، بل أخذ العرب جميعا إلى المجهول، إلى الفوضى، إلى التقسيم، إلى التجزئة، إلى ضياع البوصلة وتشتتها، إلى تهميش التناقض الرئيسي مع أعداء الأمة واستبداله بقضايا الحرية والقضايا المطلبية وحقوق الانسان وغيرها، فالكل رأى أن من تلقّف رياح التغيير المسماة ربيعا من تجار الربيع المزعوم من علمانيين ويساريين سابقين، هم فرق خبراء التسويق المكرسين لخدمة العصابات التكفيرية وتنظيمات الأخوان والسلفيين المرتهنة عن بكرة أبيها للمشيئة الاستعمارية من حيث تدري أو لا تدري، بالنتيجة تكون تلك الظاهرة قد همّشت القضية الفلسطينية وأغرقت العرب، في دول الطوق خصوصاً، بالصراعات الداخلية والفتن المذهبية (1) فهي ليست تعبيرا تلقائيا عن التناقضات الوطنية في المجتمعات العربية كما كانت حال فرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية في عصر التنوير الذي يعلك ذكراه بعض الواهمين إلى جانب باعة الأوهام والدجالين من مرتزقة النفط وعملاء الاستخبارات الذين يصرون على تسمية اكتساح البربرية لبلادنا العربية ربيعا (2).

في الخلاصة، ثمة مشكلة في رؤية لا تميز بين الأنظمة، حتى لو كانت مستبدة، وما إذا كانت تنزع للاستقلال عن الإمبريالية في اتخاذ قراراتها، ولو كنا لا نتفق مع بعض تلك القرارات، وما إذا كانت أنظمة تابعة للإمبريالية ومطبعة مع العدو الصهيوني.  لكن “الربيع العربي” رفع شعار مناهضة الفساد والاستبداد لينتهي للتحالف مع الأنظمة التابعة للإمبريالية ضد الأنظمة المستقلة، بذريعة محاربة الاستبداد، وبين الأنظمة التابعة بعض أكثر الأنظمة استبداداً في الوطن العربي.  فما يسمى “الربيع العربي” لم يكن منسجماً مع نفسه حتى في زعمه “محاربة الاستبداد”!

(1) ماذا تعني الهبة الشبابية في فلسطين اليوم؟، إبراهيم علوش ،جريدة “البناء” اللبنانية، 21/10/2015.

(2) خرافة الربيع وتجار الوهم العرب – غالب قنديل، 2/12/2014.

شخصية العدد:

الرئيس المناهض للإمبريالية الدكتور بشار الأسد

نسرين الصغير

طبيب العيون وخريج جامعة دمشق، ولد في 11 أيلول عام 1965، متزوج من السيدة أسماء الأخرس وله ولدين وبنت. هذه التفاصيل الشخصية ليست الأهم في سجل هذا الزعيم، وليست هي محط تركيز الإعلام حتى قبل اندلاع العدوان الإمبريالي التكفيري على سورية.

تسلّم مقاليد الحكم في الجمهورية العربية السورية عام 2000 بعد وفاة والده الرئيس حافظ الأسد، حيث انتخب قبيل ذلك أمينا قطريا لحزب البعث العربي الاشتراكي، مما قدمه لتسلّم مقاليد السلطة في سورية، وكان ذلك استكمالا لمسيرة الحركة التصحيحية التي رست بسورية في ميناء الاستقرار السياسي، وكانت كفيلة بتحويلها إلى بلد منتج ومكتفي ذاتيا في مجال كبير من السلع والخدمات، مما منحها دورا أكثر استقلاليةً وانحيازا للقضايا القومية.

أعيد انتخابه عام 2007 وعام 2014 في سياق تاريخي تمرّ به سورية والوطن العربي عنوانه: استهداف الدول العربية والمجتمع العربي والجيوش العربية الخارجة عن بيت الطاعة الأمريكي. الرئيس بشار الأسد من نمط الرؤساء الذين يمتازون بسويّة ثقافية عالية، علاوة على أنه محبّ للغة العربية ويفضل التحدث بها اعتزازا بالانتماء القومي، وينعكس هذا في خطاباته التي تذكر بالإرث الناصري في هذا الخصوص.

تعززت علاقة سورية بقوى المقاومة في لبنان وفلسطين في عهده، وكان احتضان سورية للفصائل الفلسطينية كحماس والجهاد والقيادة العامة سببا دائما للتوتر بين الجمهورية العربية السورية والحلف الصهيوني-الغربي، ولطالما مورست ضغوط على سورية بسبب هذا الدعم والاحتضان، علاوة على دعم المقاومة العراقية التي مرغت أنف الولايات المتحدة بالوحل.  فليس غريبا ما تتعرض له سورية اليوم، بل هو نتيجة طبيعية وثمنا للدور القومي العربي لسورية.

اتخذ العدوان الإمبريالي الرجعي التكفيري على سورية الرئيس بشار الأسد عنواناً، فمما لا شكّ فيه أن المطلوب هو رأس سورية. ولتغطية عدوانهم هذا شددوا على مطلبهم باستبعاد الرئيس عن أي دور سياسي في سورية. والحقيقة أن الدور المنسجم للرئيس الأسد مع الخطّ التاريخي العروبي لسورية التحم كلاهما بحيث لم يعد ممكنا التفريق بينهما، وليس من باب المبالغة أو المدح،  فالحقيقة الماثلة منذ تسلّم الرئيس الأسد مهامه إلى اليوم كانت أن السياسة العامة لسورية ذات اتجاه مستقل بوضوح عن أي مؤثرات خارج الخط القومي لسورية، ولم تنجح محاولات الاحتواء بالوكالة التي قامت بها كل من تركيا وقطر عن طريق بناء علاقة شخصية وعائلية مع الدكتور بشار الأسد وأسرته، فكان في جانب يعكس انفتاح سورية على جوارها وبناء علاقات حسن الجوار، وبذات الوقت، الالتزام بنهج سورية المقاوم والمنحاز لقوى المقاومة والنهج المعادي للصهيونية.

المراقب للعدوان الشرس على سورية، والاستهداف المحموم لشخص الرئيس، والهدوء الذي يواجه به سيادته هذا العدوان، يزيدك احتراما لشخصه.  فأمام مثل هذا الضغط والتركيز على زعماء عديدين لم يصمدوا فركبوا أول طائرة تغادر بلادهم، لكنّ الرئيس القائد بشار الأسد أحيى مناسبة رأس السنة بين جنوده في جوبر أكثر نقاط الاشتباك سخونة وضراوة، وفي عدرا، والإرهاب لا يبعد عنه سوى خطوات، أو في بابا عمرو في حمص، لأنه أيقن أنه بغير ذلك ستهوي سورية إلى اللاعودة.

لتعرف من هو الأسد صوِّب الفكر والنظر إلى اعدائه، فالمعسكر المعادي له هو الإمبريالية الأمريكية بذيولها الصهيونية والرجعية العربية والتكفيرية، فهكذا أعداء تجعل المراقب يفكر ألف مرة في سر اجتماع هؤلاء على عداوة الأسد، ويفكر في جحيم ينتظر سورية إذا أفلح مشروع الخراب الذي يزعمون أنه “ربيع” وأنه “عربي”، فالقضية لم تكن ميلا أو هوى في النفس للإعجاب بالرئيس بشار الأسد ، فكيف لعاقل أن يقف في الصف الأمريكي وذيوله، وكيف لا يقف مع الخط الذي يمثله الدكتور بشار؟!   والقضية بالنهاية ليست قضية شخص الرئيس، بل أن من يعزل رئيساً يعزل غيره، ويتحكم بسياسات سورية الداخلية والخارجية، وهي النقطة التي ينساها من ينجرون لشيطنة شخص الرئيس الذي يقف صامداً صلباً كجبل قاسيون في مواجهة العواصف التي تجتاح سورية.

الأزمة السورية شاهدة على ميلاد قامة عربية كبرى، وزعامة قومية لا تزال العروبة حاضرة في وجدانها، لا تغفل أن معركة سورية اليوم هي معركة الأمة برمتها فإن انكسرت موجة الريح السوداء على أعتابها نجت سورية ونجت معها العرب من خطر وجودي.  وبعكس ذلك لا قدر الله قد تفيق أمتنا ذات صباح أسود أغبر لتنكر ذاتها.

هنالك رؤساء أتوا وذهبوا ولم يسمع بهم أحد، أما أنت سيادة الرئيس فمالئ الدنيا وشاغل الناس، مذ اعتليت موقع المسؤولية، أشغلتهم بعدائهم لك ولسورية، وملأت قلوبا آملا أن غدا عربيا مشرقا أصبح ممكنا.  حفظ الله سورية وأسدها وأدامها كنانة للعرب والعروبة مهما أوغل الجرح.

سلسلة قواعد المسلكية الثورية

الحلقة الثانية: الالتزام

عبد الناصر بدروشي

إذا اعتبرنا أن قيمة النظرية الثورية لا تتجاوز قيمة الحبر الذي كتبت به، ما لم يتم تبنّيها من قبل تنظيم قوي يعمل على إنجازها باعتباره الرافعة التي تحمل على عاتقها مسؤولية تحقيق الأهداف، وباعتباره الأداة التي تنتقل بالنظرية من الحيز الورقي الى أرض الميدان والفعل على أرض الواقع، فحريٌ بنا إذن أن نحدد الدعائم التي تساعد على بناء هذا التنظيم بناءا قويا يضمن استمراريته وفعاليته حتى يحقق مبتغاه.

يعتبر الالتزام الركيزة الأساسية التي يقوم عليها التنظيم، إلى جانب القضية والنظرية الثورية المتكاملة، فالقضية مهما كانت عادلة، تظلّ ضائعة ما لم تجد من يلتزم بها ويناضل من أجل تحقيقها. والنظرية مهما كانت صحيحة ومهما آمن بها وتفهمها الأفراد، فإنها دون التزامهم بتطبيقها، تظلّ نظرية هائمة. ولهذا فإن انتصار القضية ونظريتها مرتبطان بمدى التزام عناصر التنظيم فيها وفيه.

فما هو الالتزام؟

شَغَل موضوع “الالتزام والإلزام” عدة فلاسفة ومفكرين منذ القدم، ففي إطار سعي الإنسان لتنظيم الحياة وضمان حسن تسييرها بمختلف جوانبها، حرص على وضع جملة من القوانين كضمانة وأضفى عليها صفة الإلزامية.

الالتزام من الإلزام، غير أن الفرق بين المصطلحين دقيق وجوهري في آن واحد، وهو أن الإلزام قد يكون بدافعٍ خارج عن إرادة الإنسان نفسه، كسلطة القانون مثلا أو العُرْف، بينما يعتبر الالتزام فعلاً إرادياً نابعاً من قناعة وإرادة الإنسان نفسه، فيصبح ملزما لنفسه بنفسه، وبالتالي ملتزماً.

يعتبر الالتزام صفة تنمّ عن رقي ونضج وعي صاحبها، وهي العِماد الذي تقوم عليه الحركة الثورية، ذلك أن الانخراط في العمل الثوري يكون طوعيا ونابعا من وعي المناضل بضرورة انتمائه وانصهاره في مجموعة منظمة في سبيل تحقيق أهداف مشتركة، وهذا الوعي هو الذي يجعل المناضل يلزم نفسه بالتمسك بأهداف الحركة ويعطيه استعدادا للتضحية في سبيلها.

 فكلما ضمّت الحركة في صفوفها مناضلين ملتزمين، كلما ازدادت فاعليتها وقويَ تماسكها وكانت أقدر على تحقيق أهدافها، وكلما ضعف الالتزام داخل الحركة الثورية كلما كانت أبعد عن تحقيق أهدافها وكانت عُرضة للانحراف والتصدع.

الالتزام هو الأساس الذي تنبع منه كل الصفات التي يجب أن يتحلّى بها المناضلون داخل الحركة الثورية كالاستعداد للتضحية والانتماء والفعالية وغيرها الخ… حتى تتمكن الحركة من إنجاز مهماتها وتحقق أهدافها.

مثلا لا يمكن أن ننتظر من الذين لا يلتزمون بأهداف الحركة ومبادئها أن يضحّوا في سبيلها. كذلك الانتماء، فالعضو غير الملتزم لا يعوَل على انتمائه، فالانتماء للحركة يكون نتيجة التزام المناضل بأهدافها وثوابتها ومبادئها، ولا يمكن أن نتوقع من الأعضاء غير الملتزمين أن يكونوا فاعلين.

فما هي مقومات الالتزام وكيف تعزز الحركة الثورية التزام أعضاءها؟

يتأثر الالتزام في العمل السياسي بثلاثة عوامل رئيسية لا بد للكوادر المعنية بتكوين المناضلين معرفتها وأخذها بعين الاعتبار أثناء محاولتهم تعزيز هذه القيمة في صفوف الحركة.

  • البيئة التي ينحدر منها العضو:

يعتبر المجتمع والأسرة بدرجة أساسية المصدر الرئيسي الذي يتشرّب منه الإنسان قيَمه، وهو الوعاء الأول الذي تُبنى فيه قناعاته، ومن الطبيعي أن تشهد القيم الأخلاقية انحطاطا في المجتمعات المتخلفة كمجتمعنا العربي بفعل الاحتلال الذي يسعى لتكريس حالة التخلف لضمان استمرارية هيمنته علينا، وبفعل التجهيل المتعمد الذي تمارسه الأجهزة الرسمية العربية التابعة للامبريالية، وكذلك بسبب ضعف حركات التحرر الوطني الحاملة لمشروع نهوض الأمة، فتقف قيم المجتمع حائلا بين الفرد وبين التزامه تنظيميا.

تعي الإمبريالية جيدا، كما الأنظمة الرسمية العربية، خطورة تشكّل حالة عربية منظمة تسعى للنهوض بنا كأمة، وتعي أكثر من ذلك بأن قيمة الالتزام هي مفتاح نجاح أي عمل تنظيمي، لذلك نجدها تعمل على نشر الإنفلاش والفردية في مجتمعنا بطرق مباشرة شتى، منها منظمات التمويل الأجنبي ومراكز البحوث التي أعدّت لغرض اختراق المجتمعات العربية، وخلق جمعيات، وبعث مراكز تدريب للشباب العربي تسعى من خلالها إلى نشر القيم الليبرالية وترسيخ عدة مفاهيم هدامة تحول دون نشأة حالة جماعية منظمة، أو بطرق غير مباشرة وجذابة عن طريق إيصال رسائل سياسية مبطنة مثل تلك التي تقوم بها الأفلام الهوليودية التي لم تترك بيتا عربيا إلا ودخلته، والتي تسعى لتكريس الثقافة الليبرالية نفسها في لاوعي شباب أمتنا، وضرب الوعي الجمعي لديهم وتفكيك منظومة القيم التي يمكن أن تؤدي إلى ولادة حالة مقاوِمة لواقع الهيمنة الإمبريالية.

هذا ما يفسر انتشار نزعة “الاستقلالية” مثلا في أوساط المهتمين بالشأن العام اليوم، والمقصود بالاستقلالية هنا هو ذلك المفهوم الهدام الذي يحول دون نشأة أي رابط بين الفرد وأي مجموعة منظمة (أحزاب وجمعيات …)، إذ صرنا نرى العديدين يمجّدون هذه “الاستقلالية” الهدّامة ويحاولون تصوير الملتزمين تنظيميا على أنهم أشخاص مسلوبي الإرادة، وأنّ الانتماء إلى جماعة منظمة ليس شرطا للنضال، فأصبح الملتزم يصوَر على أنه “المستعبَد” في مقابل الثائر “الحرّ” المستقل والمنحلّ من أي رابط تنظيمي.

كذلك نجد تفشّي ظاهرة الانفلاش في صفوف الأحزاب والتنظيمات العربية وضرب مفهوم المركزية وتقديمه على أنه نقيض للديموقراطية، وهو ما يفسر حالة التسيّب والفوضى التي تعصف بالأحزاب العربية بمختلف توجهاتها لتحولها إلى حلقات ثرثرة فوضوية.

لذلك على الحركة الثورية أن تعمل على نشر الوعي الجمعي في الأوساط التي تستهدفها، وأن تضع محاربة الثقافة الليبرالية المتفشيّة في المجتمع على قائمة جدول أعمالها، وأن تحرص على عدم انتقال الأمراض الناتجة عنها إلى صفوفها عن طريق التثقيف والتكوين. فالالتزام مرتبط ارتباطا وثيقا بالوعي، وأول خطوة نحو ترسيخ الالتزام لدى المناضل هي التكوين والتثقيف النظري المستمر، فكلما ازداد وعي المناضلين بقضيتهم كلما قوي التزامهم بها وبلغ أعلى مستوياته.

 

  • مستوى الالتزام داخل الحركة الثورية :

في حال أفلت الشاب العربي من براثن القيم المجتمعية الفاسدة التي تحول بينه وبين الانخراط في الشأن العام فإنه يبقى متأثرا إلى حدٍ ما ببعض العادات السلبية والأمراض الاجتماعية العالقة بشخصيته.  فتبدأ رحلة تشذيب شخصية المناضل وصقلها داخل الحركة الثورية، وهي رحلة طويلة وشاقة لإزالة الترسّبات العالقة بشخصيته والتي تعيق العمل الجماعي المنظم.

الالتزام هو أحد أبرز القيم المفقودة في مجتمعنا العربي، ويتطلب ترسيخها داخل التنظيم نضالا وجهادا من طرف الكوادر الذين يفترض  أن يصلَ التزامهم إلى درجاته القصوى حتى يكونوا نموذجا وقدوةً لبقية الأعضاء.

إن التنظيم الملتزم يفرض على جميع الأعضاء بشكل غير مباشر أن يكونوا ملتزمين، حيث يجد العضو غير الملتزم نفسه شاذا، مما يخلق لديه شعورا بعدم الارتياح وسط جو الالتزام السائد، ويدفعه ذلك الشعور إلى اتخاذ أحد خيارين: إما أن يلتزم وإما أن ينسلخ، وفي كلا الخيارين خيرٌ للحركة الثورية، فالعضو غير الملتزم يصبح عبئا على الحركة الثورية ويشكل قوة شد للوراء في الوقت الذي تسعى فيه كوادر الحركة لتحشيد الموارد ودفعها إلى الإمام، كما أنه يقدم نموذجا سيئا مما يتسبب في انتشار العدوى في صفوف التنظيم.

  • المحاسبة :

من المفترض أن يلتزم كل أعضاء الحركة الثورية بنهج الحركة ومواقفها ولوائحها التنظيمية وبقواعد المسلكية الثورية ذاتيا دون رقابة تُفرَض عليهم، حيث أنهم يمثلون صفوة المجتمع والنخبة الواعية فيه، ولكن تبقى إمكانية تسلل الأمراض التنظيمية إلى الحركة قائمة، وتزيد هذه الإمكانية كلما احتكّت الحركة أكثر بالجماهير وتوسعت. فالحركة الثورية معنية باستقطاب أفراد من مجتمعها المعلول، وبالتالي من الطبيعي أن يكون المنتسبون للحركة حاملين لبعض الأمراض التنظيمية بنسب متفاوتة وهنا يأتي دور الرقابة والمحاسبة، فالكادر المسؤول بالإضافة لالتزامه وتشربه لقواعد المسلكية الثورية يجب أن يمتلك حسا مرهفا يمكّنه من معرفة وتشخيص الأمراض التنظيمية لدى الأعضاء حتى قبل بروزها واستفحالها وقبل أن تؤدي إلى كوارث لاتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة.

ومحاسبة المخالِف أياً كانت رتبته التنظيمية ضرورية إذا ما أردنا أن نعطي قيمة لقواعد المسلكية الثورية في وعي ولاوعي منتسبي الحركة، لا بل إن الأعضاء الذين يشغلون مراتب قيادية يجب أن تكون محاسبتهم أعسر من غيرهم، وإلا لما كان هناك معنى لوضع هذه القواعد أصلا.

قبل اكتمال وعيه وإحساسه بالمسؤولية، يحتاج العضو إلى دافع خارجي (كالتحفيز والمحاسبة) يُلزِمه باحترام اللوائح التنظيمية وقواعد المسلكية الثورية وخط الحركة السياسي ليتطور هذا الإلزام فيما بعد ويصبح التزاما ذاتيا يعبر عن نضج العضو وتعمّق وعيه.

– المفهوم الثوري للالتزام

إن المفهوم الثوري للالتزام يعني :

  • الايمان المطلق بالقضية وبأهداف الحركة الثورية والاستعداد الكامل للنضال حتى الموت في سبيلها. إن الحركة الثورية التي تسعى لتغيير الواقع، بحاجة إلى ثوار يضحون بكل شيء في سبيل تحقيق أهداف الثورة، نتيجة إيمانهم المطلق بها وبعدالتها وبما تحققه من مصالح للشعب. إن الأيمان بالقضية من جهة، والاستعداد للموت في سبيلها، يشكلان أساس مفهوم الالتزام الثوري الاصيل.

  • الحرص الدائم على الانسجام الكامل مع النظرية الثورية للحركة والتقيد بخطها السياسي تكتيكيا واستراتيجيا. إن خروج الممارسة عن الخط السياسي للحركة، يعني عمليا خروجاً عن الحركة وانحرافاً عن مواقفها.. ويجب أن يفرّق الأعضاء بين الانحراف عن الخط الثوري وبين تطويره وإغنائه بالممارسة العملية… إن الانحرافات تنتج عن الممارسات التي تتعارض أو تتناقض مع الاسس والمبادئ التي تقوم عليها الحركة، أما عملية التطوير، فإنها تعتمد على تنظير الممارسات اليومية وتحويلها الى دروس تُغني النظرية ولكنها لا تنقضها.

  • التقيّد التام بقرارات الحركة الثورية والدفاع عن مواقفها. إن الحركة الثورية تعتمد على أعضائها كمدخل أساسي لارتباطها بالجماهير.  وإن قرارات الحركة تكون دائما في مصلحة الجماهير، ولذا فإن الأعضاء مطالَبون بتنفيذ قرارات الحركة والتقيد بها دون إفساح المجال للاجتهادات الشخصية والقرارات والمواقف الذاتية، إن عضو الحركة الملتزم من حقه أن يناقش قرارات الحركة وأن يوافق أو لا يوافق عليها ضمن الأطر التنظيمية. ولكن عندما تصدر القرارات بالأغلبية، فإن على الجميع، الموافقون والمعارضون، التقيّد بها والالتزام بتنفيذها وعدم مهاجمتها أو إظهار التعارض معها خارج الأطر، لأن هذا ينمّي المواقف الفردية والانشقاقية، التي تضر بالحركة الثورية وتضعِف فيها مواقف الالتزام الثوري، كما أنّ الالتزام يتطلب من كافة المستويات التنظيمية الدفاع عن مواقف الحركة الثورية وتوضيحها وشرح أبعاد المصلحة التي تحملها للجماهير.

ألا إنّ لكل بنيانٍ عماد.. وعماد الحركة الثورية الالتزام.. وبدون التزام لا مهمّات تُنجَز ولا أهداف تتحقق..

الصفحة الثقافية:

الرسالة الوطنية في فيلم (ما يطلبه المستمعون)

طالب جميل

عندما يشاهد المرء فيلماً مثل الفيلم العربي السوري (ما يطلبه المستمعون) لا يمكن له تصنيفه إلا ضمن أفلام المقاومة والتحريض ضد العدو الصهيوني على الرغم مما يدور في الفيلم من أحداث تبدو في شكلها الخارجي كوميدية، ورغم بساطة الطرح والموضوع إلا أنه يمكن اعتباره فيلماً يحمل مضموناً وطنياً مهماً خصوصاً في هذا الزمن الذي يحارب فيه الجندي العربي السوري كل أشكال الغطرسة والظلم والإرهاب.

فيلم (ما يطلبه المستمعون) من كتابة وإخراج السوري (عبد اللطيف عبد الحميد)، وبطولة ممثلين سوريين أبرزهم (جمال قبش)، (فايز قزق)، و(ريم علي) و(محسن غازي)، يشعر المشاهد بأنه أمام قصة يقرأها لا يشاهدها، فالبساطة في الأداء حاضرة، والسرد يتفق مع مسارات الفيلم، لذلك يندمج النص مع الصورة بشكل قريب الى النفس.

الزمان في الفيلم هو زمان (الراديو)، الجهاز الوحيد المتوافر لسكان القرى والأرياف في زمن حرب الجيوش العربية ضد الكيان الصهيوني (1967-1970)، التي كرر موضوعها (عبد اللطيف عبد الحميد) في كثير من أفلامه. أما المكان في الفيلم فهو بلدة جبلية على الساحل السوري التي يتكلم سكانها اللهجة القروية الأصيلة، والحدث مرتبط دائماً بيوم الثلاثاء الذي يُبَثّ فيه برنامج (ما يطلبه المستمعون)، فيعمل سكان البلدة على جمع أنفسهم والتوجه الى منزل (أبو جمال) الرجل المضياف المبتسم دائماً، المرحب بالناس الملتفين حول الراديو الذين ينتظرون سماع أسمائهم، والأغاني التي طلبوها.

تفاصيل حياة بسيطة كاملة في تلك المشاهد التي لا تخلو من تسليط الضوء على نفسيات بعض الشخصيات، وعلى علاقة حب تنمو بين الأحراش بين (جمال وعزيزة)، إضافة إلى الشخصية المحورية في الفيلم المتمثلة بـ(سليم)، وهو المجنون بالرغم من اسمه، والمطرود من منزل عائلته، واللاجئ لبيت (أبو جمال)، وهو الأخرس الصامت، لكنّ ردود فعله كفيلة بإيصال الرسالة المقصودة  منها، خصوصاً انه يقضي أغلب أوقاته في صنع المفرقعات والمراوح الهوائية.

مع كل هذا، نجد الألفة والحب بين سكان البلدة أنفسهم الذين يقررون الاتحاد والتبرع لناقل البريد في كتابة اسم أغنية سميرة توفيق (قلبي دق دقة) لبرنامج (ما يطلبه المستمعون) كي يتزوج ابن بلدتهم (صالح) من حبيبته (وظيفة).

يأتي يوم الثلاثاء وتصطف نساء وبنات البلدة، ورجالها وشبانها، يسيرون إلى دار (أبو جمال)، بعضهم يحمل سلال تين أو أشياء أخرى، حرجاً من الدخول إلى المنزل من دون هدية، والبعض الآخر يعمل على مساعدة (أبو جمال) وابنه في الفلاحة، والصبايا يكشفن عن سيقانهن دلالة على الشعور بالأمن – وهي عادة قروية قديمة – و(صالح) يذهب متأملاً سماع أغنية المطربة اللبنانية سميرة توفيق كي يحظى بمحبوبته، لكن الأغنية لم تبث في ذلك اليوم، فيرحل مكسور الخاطر مع صوت المطرب صباح فخري بأغنية (قدّك المياس) التي تجعل سكان البلدة يرقصون متشابكي الأيدي، ليقطع هذا الانسجام خبر عاجل: “قصفت الطائرات العسكرية الإسرائيلية دمشق، وتصدى لها جنودنا البواسل، وسنوافيكم بالتفاصيل لاحقاً”، وذلك في فترة تزداد فيها حرارة حرب الاستنزاف على الجبهة السورية.

وبين كل هذه المشاعر الجياشة، تظهر علاقة الحب بين (جمال) و(عزيزة) التي تنتظره كل مساء شابكة شعرها بخيط مربوط بشجرة يهزها (جمال) إشارة على وصوله.

يئس (صالح) من بث برنامج (ما يطلبه المستمعون) أغنية سميرة توفيق، فيقرر عدم الذهاب، فالأحداث الفعلية والمحورية في الفيلم تحدث بين ثلاثاء وثلاثاء آخر، على الرغم من أن سكان البلدة اتفقوا على إرسال طلب الأغنية كي يتزوج (صالح) من (وظيفة)، وتبث الأغنية فعلا، لكن صالح غير موجود، ويقطع الأغنية خبر عاجل آخر “وصول أول انسان إلى سطح القمر”.

حالة خوف وذعر تتمثل في وجوه الأهالي البسطاء، والاستغفار بالرحمن، وتسأل إحدى النسوة: من قال هذا؟  فيجيب أحدهم (أميركا)، وينتهي المشهد بذهاب كل إلى منزله، لكن (وظيفة) سمعت اسمها في الراديو، وهذا الأهم بالنسبة لها من وصول رجل إلى سطح القمر، فتُهرع إلى حبيبها (صالح) لتقسم له أنها قبلت الزواج منه.

في هذا اليوم تحديدا تؤكد (عزيزة) لـ(جمال) أنها أرسلت طلب سماع أغنية (جايبلي سلام) لفيروز باسمين مستعارين (الأميرة العاشقة إلى الفارس العتيق)، طالبة منه الإنصات جيداً كل ثلاثاء إلى أن يأتي الاسم الذي أتت معه حرب الاستنزاف الصهيونية على سورية.

يبدأ المشهد ما قبل الأخير تقريباً مع ضابط يدق باب (أبو جمال) ليسأل عن (جمال) لأنه مطلوب لأداء خدمة العلم في هذا الوقت العصيب.  يتحضر (جمال) لمهمته، مع وداع سكان القرية وحزن شديد من قبل (سليم) المجنون، الذي تصيبه حالة صمت طوال فترة غياب (جمال)، حتى أن (أم جمال) الشاكية الباكية دوما من زعيقه الذي لا يتركها تنام لا ليلاً ولا نهاراً، تشتاق إلى جنونه. يذهب جمال ويودع حبيبة الروح، ويبدأ بالتدرب تمهيداً للانضمام لرفاق السلاح.

وفي يوم وهو في مهجعه، يسمع أغنية لأم كلثوم صادحة من راديو بعيد عنه، يذهب إليه ليرى ضابطين يلعبان الشطرنج، يستأذنهما في سماع الأغنية فيقبلان لأنهما يشجعان العشق.

في المقابل، في البلدة التي تبعد عنه سبع ساعات سفر في البر، ينوح (سليم) وتبكي (عزيزة) على هذا الفراق، ويعده والد (جمال) أنه سيأخذه لرؤية (جمال) في اليوم التالي، ويصدق وعده، لكن المصادفة تكون حاضرة، إذ دخل (جمال) على مسؤوله يترجّاه أن يعطيه يوما واحدا لرؤية حبيبته “أنا عاشق يا سيدي، والله عاشق، وما بقى فيني أتحمل”، فيسمح له.  يركض جارياً، مستخدماً أكثر من وسيلة نقل إلى أن يصل متأخراً، يشد الخيط المربوط بخصلة شعرها، يوقظها من النوم، تمضي إليه والشوق يسبقها، يبتعد عنها، ويبدأ بالصياح “أنا بحب (عزيزة)، اخطبيلي هي يا أمي”.

يعود (جمال) كما وعد مسؤوله، في اللحظة التي تقصف فيها قوات العدو الصهيوني الكتيبة التي يتبع لها، وهو فوق المدفع يحاول إسقاط طائرة أو إبعادها دون جدوى فيستشهد جميع الجنود، بمن فيهم (جمال)، وبينما يعود تابوت (جمال) ملفوفاً بالعلم السوري إلى بلدته، يخرج صوت المذيعة حاملاً  إهداء الأميرة العاشقة إلى الفارس العتيق، وتمشي الجنازة على وقع أغنية (فيروز) جايبلي سلام في مشهد مؤثر تدمع له الأعين.

لعل أجمل ما ميّز هذا الفيلم هو الرسالة التي حملتها آخر مشاهده، والتي يمكن اعتبارها رسالة تدعو للمقاومة ومجابهة العدو الصهيوني وهي دعوة للجيوش العربية للانخراط في هذه المعركة من أجل تحرير الأرض العربية ورفع منسوب الكرامة الوطنية والعزة لدى الشعب العربي، فلا يوجد أسمى من الاستشهاد في معركة ضد عدو الأمة.

هنا لا بد من الإشارة إلى أن سبب نجاح هذا الفيلم هو قدرات مخرجه السوري عبد اللطيف عبد الحميد– الذي عمل في مؤسسة السينما السورية كمخرج متفرغ منذ بداية عام 1982، وأنتج معظم أفلامه عن طريقها- حيث تحمل معظم أفلامه حسّاً شاعرياً مرهفاً يمكن تلمّسه، أما هذا الفيلم فهو مزيج من الشجن والعذوبة كما أنه يشتمل على نفحة رومانسية جعلته قريباً من المشاهد، وهو يراهن على الموضوع أكثر من مراهنته على النّجم الذي قد يغري نوعاً من الجمهور، كما تمتاز تجربته ببعدها الإنساني الشفاف، وملامستها لجوهر العواطف والمشاعر الإنسانية، ناهيك عن بعدها الوطني.

لذلك يمكن اعتبار المخرج عبد اللطيف عبد الحميد بأنه ينتمي إلى تيار السينما الواقعية الجديدة التي تعتمد على آلية السرد الكلاسيكي، وهو يراهن على الجوانب الجمالية الكامنة في فن الصورة السينمائية، وحركة الكاميرا التي تستطيع أن تقدّم المبهر والمدهش من جماليات المكان المقرون بحدثٍ ما.

كما تُحسَب للمخرج قدرته الفائقة على التعامل مع ممثلين من خارج الظاهرة النجومية المعتادة في الفيلم العربي التقليدي، حيث يُسند أدوارا رئيسية لممثلين شباب من على خشبة المسرح ويفتح لهم فسحة من الأداء الدرامي، مما يؤشر على طاقات لافتة تبعث في حراكها المتواصل بين الأحداث بين حين وآخر، رغم قصر الدور، المزيد من المتعة والبهجة والعذوبة.

يشار إلى أن الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريةعام 2003 وقد نال العديد من الجوائز في مهرجانات عربية ودولية ولقي استحسان وتثمين النقاد وثناء الحضور.

 

مدينة عربية:

القدس

 

علي بابل

يبوس كان اسمها الأول، كما ذُكرت في الوثائق الفرعونية “يابيثي” أو يبوس، اور سالم؛ اسمها الكنعاني القديم (أورو ـ سا ـ ليم)، وهو ما يوافق اسمها في الآثار الأشورية منذ القرن الثامن ق.م (أور ـ سا ـ لي ـ أمو)، إيلياء، وبيت المقدس وبيت ايل أو “بيت الرب”؛ التسمية العربية منذ القدم. أسماؤها العربية، رغم تعددها، دليل على عروبة القدس التاريخية منذ القدم وتأكيد على أنه بالرغم من تدمير القدس لأكثر من خمسة عشر مرة، لم تُمحَ عروبتها المتجذرة في الأرض، وأن من استوطنها وعمرها هم اليبوسيون والكنعانيون وغيرهم من القبائل العربية التي هاجرت لفلسطين التاريخية أو جنوب بلاد الشام لعدة أسباب وعلى فترات تاريخية مختلفة، آخرها الهجرات العربية خلال الحكم الأيوبي لبلاد الشام ومصر، أي بعد معركة حطين المجيدة.

موقعها الجغرافي بين وادي الأردن والساحل الفلسطيني وعلى هضبة القدس والجبال الوسطى لفلسطين أكسبها أهمية كبيرة لكل أرض فلسطين، لأن السيطرة على القدس تعني المفتاح للسيطرة على كل أرض فلسطين وفصل بلاد الشام عن مصر، فقد قال وزير الخارجية البريطاني “بالمرستون” في رسالته إلى سلطات الاحتلال العثماني في العام 1840: ” إنّ تشجيع اليهود للعودة إلى فلسطين، ووجودهم الدائم هناك، يقطع المخططات الشريرة لمحمد علي وخلفائه”.

 

تختزل القدس القديمة داخلها الصراع القائم بين عروبتها التاريخية والمحاولات الجارية لتهويدها  وسرقة تاريخها الثقافي والمعماري، حتى أسماء الأحياء والشوارع والأزقة تُسرق وتهوّد، فلا بد لنا من التأكيد على أن القدس مدينة عربية منذ أن كانت مجرد مدينة صغيرة تعتمد على الزراعة والتجارة بينها وبين المدن الفلسطينية الأخرى تحت الحكم الكنعاني، أبوابها الكثيرة من باب العامود، إلى باب الساهرة، والمغاربة، والخليل ويافا تحكي قصة المدينة عبر العصور، فلكل باب حكاية ولكل تسمية سبب يروي قصص الحصار والهجرات.

مدينة الأديان السماوية تميزت بتنوع خاص خلال الحكم العربي من العهد الكنعاني وصولا إلى العهد العربي الإسلامي بالرغم من ارتكاب الفرنجة أفظع الجرائم في حق العرب، مسيحيين ومسلمين، خلال الاحتلال الفرنجي للمدينة في عصور الظلام.

كثيرةٌ هي محاولات الإحلال السكاني التي تعرّض لها أهل مدينة القدس منذ العهد “الهلينستي” والفارسي، ولكنها باءت بالفشل التام بسبب صمود أهلها التاريخي الذي لم يسجله غيرهم، فقد كان أهل مدينة القدس العرب ومن يساندهم في باقي أرض جنوب سورية مثالاً في التمسك بالأرض والتاريخ، وها نحن الآن نرى صمودهم وتمسكهم بالمدينة ودفاعهم عنها بالحجر والسكين، بالكلمة والتراث العربي الذي تشتم رائحته من كعكها الذي يباع على الأبواب، وسيوفها المرصعة بأحجار جبال الزيتون وموريا.

تعرّض تاريخ مدينة القدس للكثير من التشويه التاريخي على أيدي المستشرقين المتصهينيين الذين خطّوا تاريخ المدينة بحسب تلمودهم وكتابهم المقدس “التوراة” الذي بانَ كذبه وافتراءه بعد آلاف الحفريات في المدينة وما حولها؛ حتى الحجر نطق عربياً وقال لهم لا شيء لكم هنا سوى الموت أو الرحيل.

حتى نصوصهم المقدسة والتي لا نؤمن بها، لا تذكر أن المدينة كانت لهم في يوم من الأيام بالرغم من أنها عبارة عن كذب وسرقات للتاريخ العربي القديم، وتزوير واضح للتراث البابلي القديم وسرقة تاريخية واضحة المعالم.

أما عن علم الآثار والتاريخ بتفرعاته الكثيرة فلم يؤكد سوى على عروبة القدس “أركيولوجياً” وتاريخياً، فكل ما وُجد في المدينة إما بقايا لمدن كنعان أو بقايا الحقب الاستعمارية الكثيرة من يونانية ورومانية، إلخ….

وفي العصر الحديث للمدينة كانت القدس في صدارة المدن الفلسطينية التي وقفت ضد “الانتداب” البريطاني وثارت مع باقي المدن وشارك أهلها في الإضراب الكبير للعام 1936، وقدّمت آلاف الشهداء خلال الثورة ومعارك عام 1948، وكان شبابها من خيرة الشباب والقادة في التصدّي للعصابات الصهيونية.

وبما أن القدس في عهدة من لا عهد له!!!! فلا بد لنا من القول بأن عملية التهويد، وإن كان أهل المدينة صامدون، مستمرة، وتعمل على محو الهوية العربية للمدينة ليلاً نهاراً، ولا تجد من يتصدّى لها رغم خطورة الأوضاع في المدينة وما حولها، غير أن المقدسيين استطاعوا من خلال المقاومة الثقافية والعملية إحباطَ الكثير منها بالكلمة والسكين جنباً إلى جنب.

ومن واجبنا نحن الشعب العربي دعمهم بشكل كبير للحفاظ على عروبة المدينة التي فقدت الكثير من أهلها بفعل عمليات الطرد والتهجير المتسمرة سنة بعد سنة، وحصار أحيائها الصغيرة وقراها المنتشرة حول المدينة وفي وديانها والتي تم تدمير الكثير منها أو تحويلها إلى مغتصبات صهيوينة متطرفة كما جميع الصهانية على أرض فلسطين من البحر إلى النهر.

جاء الإسكندر وذهب داريوس، وتبعهم هادريان ورحل، جاء العثماني ورحل، ورحل اللنبي وسيرحل بنو صهيون وسيبقى آشوربانبيل، ونبو خذنصر خنجراً في صدور أعداء القدس وأهلها.

قصيدة العدد:

لا تفكر في ربيع عربنا

 

اخترنا لهذا العدد قصيدة شعبية عن “الربيع العربي” من تونس للشاعر علي لسود المرزوقي.

https://www.youtube.com/watch?v=67xjWWSy7-8

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *