Qawmi

Just another WordPress site


المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 شباط 2016


ويضم هذا العدد:


– كلمة العدد – الأمة وعوامل نهضتها: من التفتيت والاستنزاف إلى غسل الدماغ/ من أوراق الراحل ناجي علوش


– عروق الوحدة العربية لا تزال تنبض، وستظل… الجزء الثاني: العروبة و”الربيع العربي”/ السيد شبل


– المقولة الوحدوية عند ناجي علوش… الجزء الثاني: مبحث في عوائق الوحدة العربية/ إبراهيم علوش


– الطرح الوحدوي في التجربة الناصرية… الجزء الثاني: البعد القومي العربي لدى ضباط الاحرار من اطاحة النظام الملكي حتى اقتراح الوحدة المصرية-السورية/ إبراهيم حرشاوي


– قضية الوحدة مرة أخرى/ جميل ناجي


– محمد عزة دروزة ثائراً في كل الميادين/ نسرين الصغير


–  سلسلة قواعد المسلكية الثورية… الجزء الخامس: العلاقات الأخوية/ عبدالناصر بدروشي


– الصفحة الثقافية 1: حكايات أموات لا يموتون في الفيلم العراقي (بغداد خارج بغداد)/ طالب جميل


– الصفحة الثقافية 2: رواية عزازيل، بين قسوة العقل ولين العاطفة/ معاوية موسى


– قصيدة العدد: القطيعة… شعر: جورج صيدح/ إعداد: أيمن عدنان الرمحي


– كاريكاتور العدد


رقم 21 – 1 شباط 2016
لقراءة المجلة عن طريق فايل الـ PDF


طلقة تنوير 21

للمشاركة على الفيسبوك






 

كلمة العدد –

الأمة وعوامل نهضتها: من التفتيت والاستنزاف إلى غسل الدماغ

ناجي علوش*

تتعرض الأمة العربية لعمليات احتلال وتفتيت واستنزاف سياسي وعسكري.  وهذا واضح لكل من يرى ويعقِل.  ولكنها أيضاً تتعرض لعملية “غسل دماغ” منظّمة.  وتعرف الأطراف المعادية أن العملية الأولى لا تنجح إلا إذا نجحت الثانية، لأن الأمة التي تملك إرادتها لا تذل ولا تهون.  ومن هنا فقد حاول أعداء الخارج والداخل أن يقنعونا أن البعث القومي تمّ نتيجة عوامل خارجية جاءتنا من الدول المعادية.  ولذلك، فإنّ غزوة نابليون، ومدارس الإرساليات، والتأثر بالثورة الفرنسية والفكر الغربي، كانت العوامل الأساسية في هذا البعث القومي، من وجهة نظرهم.  ولأنّ الأمر كذلك، فإن بعض المسيحيين هم حمَلة الراية القومية.

وكانت أصحاب هذه الدعاوى ثلاثة أطراف:

– الأول: الأوساط الحاكمة في السلطنة العثمانية التي كانت تخشى الانبعاث العربي، وكانت تفعل كل ما من شأنه طمس الهوية العربية.  وقد لجأ إلى هذا الأسلوب سلاطين بني عثمان، من سليم وسليمان، بعد الاحتلال مباشرة، سنة 1516، إلى عبد الحميد الثاني وحزب الاتحاد والترقي.  ولقد برز الأمر في عهد الاتحاد والترقي أكثر من ذي قبل لأن المقاومة العربية ازدادت، ووسائل تمركز الدولة تطورت، لا لأي سبب آخر، وكان هذا واضحاً من أيام السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1908).  وقد ارتبط بالسلطنة بعض رجال الدين الذين عملوا لخدمتها، أو الذين كانوا يرون فيها نمط الخلافة الإسلامية، وقد قام هؤلاء باتهام الحركة القومية “بالتفرنج” والارتباط بمطامع الدول الغربية ومعاداة الإسلام.  كما قام بعض موظفي السلطنة وأتباعها بحملات مماثلة، سواء كانوا من العرب أم من الترك.

– الثاني: الحكومات الاستعمارية وأجهزتها، لأنها كانت تريد أن تحرّض العرب على الترك، والترك على العرب، وأن تظهر حامية للحركة القومية، لتبتز الدولة العثمانية والعرب والترك.  وحاولت هذه الدول وأجهزتها أن تنسب الحركة القومية إلى المسيحيين لتعزل الحركة القومية، ولتزيد العداء للمسيحيين، فيضطر هؤلاء للالتحاق بالغرب، لأن الدول الغربية معادية، كانت ولا تزال، وهي لا تريد للحركة القومية نجاحاً، كما لا تريد ذلك للماركسيين أو البرجوازية الوطنية أو حتى القيادات ذات المطامح.  فالقوى الإمبريالية الطامعة في الوطن العربي، أو التي كانت قد احتلت بعض أراضيه، كالفرنسيين والإنجليز والإسبان، كانت تعرف أن انتصار الحركة العربية القومية يحرمها من مواصلة احتلالها الأرض العربية، ويعرّض مستعمراتها وأحلامها الاستعمارية للخطر.

– الثالث: بعض النزعات السياسية والدينية العربية، التي كانت تخشى التحديث والوحدة القومية، وكانت بحاجة لإبقاء الوضع على حاله، ولذلك شنّت حملات شعواء، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم، بالإضافة إلى القوى الحاكمة في هذا القطر أو ذاك، والتي كانت تخشى أي تغير في موازين القوى لمصلحة الوحدة القومية.

وهذا ما حاولنا أن نؤكده منذ سنوات في دراسات نُشرت في محاولة لرد تهمة عن الحركة العربية القومية أُلصِقت بها لأسباب عدة منها:

1 – محاولة ربط الحركة القومية بالغرب، وبالتالي بمشروع التغريب،

2 – محاولة الفصل بين الحركة القومية وهوية الشعب وتراثه،

3 – محاولة خلق هوّة بين الحركة القومية والإسلام،

4 – محاولة تعبئة الشعب العربي ضد الحركة القومية.

ولقد تسربت هذه الاتهامات إلى الفكر السياسي العربي، وإلى كتب المدارس والجامعات، حتى إبان النهوض القومي، وصارت لازمةً لأي حديثٍ عن القومية.  ودافعَ عن مثل هذه الأطروحات مؤرخون قوميون وسياسيون قوميون، وأساتذة أجلّاء.  فتبنوا في معظمهم التحليل الذي روّجه جورج أنطونيوس، ولم يخضِعوه للتدقيق، مع أنه يربط نشوء الحركة القومية بالإرساليات، وبدور المسيحيين العرب الثقافي.  وما زال الكثيرون ينسجون على هذا المنوال، ومنه ما يقدمه ألبرت حوراني وهشام شرابي وبسام طيبي وغيرهم.  ولذلك، فقد آن الأوان أن تُكشف هذه اللعبة، وأن ينجلي الحق.

إن الحركة القومية لم تنشأ في مدارس الإرساليات، ولا ضمن مخططات الدول الأجنبية.  لقد نشأت في وسط عربي إسلامي صميم.  ولقد أسهمت في تأسيسها حركات سلفية كالوهابية والسنوسية والمهدية، وقام ببلورة برامجها رجال دين كبار محترمون، ينتسبون إلى عائلات وقبائل عربية، وبعضهم كالكواكبي والزهراوي ينتسبون إلى الرسول، بالإضافة إلى رموز مثل رفاعة الطهطاوي وعبدالله النديم وحسن الشمسي.  إن الشخصيات الأساسية في التأسيس للحركة القومية كانت شخصيات إسلامية، ولم يكن للشخصيات المسيحية أثرٌ يذكر، سواء على صعيد الدور السياسي أو الثقافي، وإن كان لبعضها دورٌ، فعلى صعيد الصحافة واللغة والتعليم، وضمن إطار الإصلاح العام العثماني.  وإذا برز دور بعض هؤلاء، مثل اليازجيين وآل البستاني وجرجي زيدان، فقد كان هذا الدور ثقافياً مسالماً، إلا في حالة كحالة فرح أنطون، مع أن هذا الدور لم يتعدّ الأدب والفكر والثقافة إلى السياسة المباشرة، وكان جزءاً من نهضة ثقافية عامة، وتالياً لدور إدارة محمد علي في مصر.

ولو أخذنا باحثاً رصيناً مثل سي أرنست دون، في كتابه “من العثمانية إلى العروبية، مقالات حول أصول القومية العربية” From Ottomanism to Arabism: Essays on The Origins of Arab Nationalism، المنشور في العام 1973، لوجدناه يفنّد هذه الفكرة، فهو يرى أن “التفسير المسيحي يواجه صعوبات لا يمكن التغلب عليها… لأن أصحابه لا يقدمون أي دليل أو حجة مقنعة تؤيد التعاطف المفترض بين العرب المسيحيين والمسيحيين الأوروبيين، أو تؤيد الطبيعة البرجوازية للعرب المسيحيين، أو للقوميين العرب”.  ويرى سي إرنست دون أن هذه الأطروحة طرحت قبل سنة 1914، وردّ عليها محمد كرد علي، ثم عاد وردّ عليها أنيس النصولي عندما نشر كتابه سنة 1926.  ويضيف سي إرنست دون: “إن الأدلة المتوفرة حالياً توضّح أن العرب المسلمين والأتراك هم الذين أخذوا الريادة في ذلك (نشر الحس القومي)… وأن رفاعة رافع الطهطاوي من العرب كان هو الأكثر نفوذاً”، ويحاول سي إرنست دون أن يقدم بعض الأدلة الإضافية هنا، ومن ذلك:

1 – أن القوميين العرب من المسيحيين كانت نسبتهم إلى مجموع القوميين العرب في سورية قبل سنة 1914 ستة بالمئة فحسب،

2 – أن نسبة الذين تعلموا في مدارس الحكومة العثمانية من القوميين العرب قبل 1914 كانت 63 بالمئة، ونسبة الذين تعلموا في المدارس التقليدية 20 بالمئة، ونسبة الذين تعلموا في المدارس الغربية لا تتجاوز 17 بالمئة من القوميين العرب،

3 – أن كثيراً من العرب المسيحيين، منهم معظم من كان يُطلق عليهم عامة لقب “خالقي القومية العربية العلمانية”، شاركوا في رد فعلهم على الغرب الذي بلغ ذروته في حداثة محمد عبدة الإسلامية، إذ كانت كتاباتهم ومواقفهم بعيدة عن مشاعر القربى للغرب، كما أنهم شاركوا العرب المسلمين في الفكرة الذاتية المجروحة عن النفس،

4 – أن بعض كبار مثقفي العرب المسيحيين كالبستاني، والشدياق وأديب إسحق، حذروا من تشويهات الغرب ورذائله، وانتقدوا الإفراط في التفرنج، وأن بعضهم لم يكونوا قوميين عرباً، بل وطنيين عثمانيين.

ويعود السيد سي إرنست دون إلى “أولئك الذين ينكرون ولادة العروبة من الحداثة الإسلامية” ليتهمهم، وهو محق، بأنهم “لم يقدموا أي تعريف محدد لنسبها.  إنهم يكتبون عن القومية العربية من دون القوميين العرب، وعن حركة من دون المشاركين فيها.  وهم في ذلك لا يختلفون، لسوء الحظ، عن معظم الذين كتبوا عن القومية العربية”.

ولا يقف الأستاذ سي إرنست دون عند هذا الحد، بل يمضي قدماً ليناقش قضية التتريك، وليرد على القائلين بأن التتريك بدأ في عهد الاتحاد والترقي بأن “الأتراك الفتيان كانوا قوميين أتراكاً”، ويرى الاستاذ دون “أن شهرة جمعية الاتحاد والترقي، كجماعة متركين، هي شهرة لا تستحقها”، إذ كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية ولغة الإدارة، منذ قيام الدولة العثمانية، وقد نص على ذلك قانون صدر سنة 1888 “يحدد درجة إتقان اللغة التركية اللازمة للمناصب المختلفة”، كما نص على ذلك دستور 1876، أي أن من بدأ مشروع التتريك هو السلطان عبد الحميد!

ولقد ظلّ القادة العرب المعادون للاحتلال والتفرنج، المؤمنون بما أسمي رسالة الأمة ودورها التاريخي، قادة الحركة القومية العربية، حتى عندما كانوا من المسيحيين، بعد حوالي قرن على بدء نشوء الحركة القومية.  وإذا كان هنالك من ينسب إلى العمالة، ويُحسب على الحركة القومية في الآن عينه، فإنه لم يكن من صلب الحركة، ولا من أحزابها الأساسية كالعربية الفتاة والقحطانية والعهد، بل كان ممن ينتسبون إلى جمعيات كجمعية بيروت الإصلاحية، ولم يكن هؤلاء من قادة الحركة القومية، ولا استطاعوا أن يغيروا برامجها، وأن يقودوها على الطريق الذي أرادوه.

وهذا لا يعني أن الحركة القومية لم تُخترق في كل تاريخها، لأنّ كل حركة سياسية معرضة لأنْ تُخترق.  ولكن هل غيّر هذا الاختراق برنامجها، كما حصل مع حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وم. ت. ف؟  وهل حوّل الاختراق الحركة القومية من حركة مناضلة إلى حركة تابعة؟

إن الجواب هنا واضح.

والاختراق بهذا المعنى، أي التسلل إلى قلب حركة من الحركات، لم تسلم منه أية قوة قومية أو ماركسية أو إسلامية، ولم يسلم منه الاتحاد السوفييتي في أيام عزه، ولا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الاتحادية وألمانيا الديموقراطية…

ولما كان هذا الاتهام لا يزال سائداً، فإن علينا نحن القوميين، ونحن ندافع عن وجود الأمة، أن نكشف أطروحات هذا الاتهام وأن نبين أسبابه، وأن ننشر أهداف مصطنعيه، وأن نرد للحركة القومية حقها.  ونحن بذلك ندفع كيد أعداء الأمة، وندحض تهمة ألحقت أذى بالأمة وحركتها القومية، وساعدت الأطراف المعادية الداخلية والخارجية، ونؤسس لوعي قومي سليم، هو وحده القادر على قيادة الأمة على طريق الخلاص.   وإذا فعلنا ذلك، فإننا نسهم في إنقاذ القوى التي أصبحت موضع اتهام، ونوحد شعبنا على أساس الثقة بنفسه وبحركته القومية، ونحبط مساعي الأعداء الذين يحاربون كل من يتنطح لمحاربتهم منا، مهما كان اسمه وبرنامجه.  ونحن بحاجة إلى ذلك، لأن الحركة القومية هي المعبر عن وجدان الأمة ووجودها وتاريخها ومصالحها ومطامحها.   وهي حركة نابعة من صميم الأمة، وإذا كانت العوامل الخارجية تلعب دور العوامل الموقظة الحافزة، فإن الأساس هو إرادة الأمة في الحياة.

وليس غريباً أن ينكر أعداء الأمة عليها حقها في الحياة.  فهذا طبيعي بالنسبة لهم.  ولذلك، فإنهم على استعداد لنسبة حركتها لقوى خارجية، ولوصم مطالبها ومطامحها بوصمة أجنبية، لأنهم لا يريدون أن تكون لها إرادة أو أن تنهض.  أما نحن أبناؤها الذين نعيشها آلامها، ونعرف مطامحها، فإن من واجبنا أن ندفع عنها كيد أعدائها، وأن نعطي حركتها من القوة ما يثبت أصالتها، وهذا ما يستلزم أن نخوض معركة السياسة والثقافة معاً، وأن نبني للسياسة أساسها الثقافي الفكري المتين.

الأمة تنهض، وهي تنهض بإرادتها، وبين بُرْدتيها كل تاريخها الإسلامي، وكل تاريخها ما قبل الإسلام، من أباطرة وادي الرافدين وتاريخهم العظيم، إلى فراعنة وادي النيل وسجلهم الخالد إلى أمازيغ الشمال الأفريقي الذين رفعوا راية الإسلام، إلى نصارى المشرق العربي الذين ظلوا جزءاً من الأمة رغم اختلاف الدين.

وهي تنهض، بكل أبنائها، من كل المذاهب والأديان والأصول الإثنية، لأن هؤلاء كانوا دوماً أمةً واحدة، قاتلوا معاً، وغنوا معاً، وكتبوا التاريخ معاً، وبنوا الحضارات يداً بيد، وقاوموا الغزاة من كل الألوان والأديان، واستعاضوا بالثقافة العربية الإسلامية عن كل الثقافات.

وسيظلون معاً، وبهذا تنهض الأمة لتهزم أعداءها كلهم، من العدو الصهيوني الصغير جداً، إلى كل أطراف الإمبريالية المعادية، وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.  وفي مناخ هذا النضال الكبير، سيُبنى الوطن العربي الكبير من جديد، على أساس المساواة والحرية والديموقراطية، والإبداعات الثقافية والعلمية والمنجزات الحضارية، ومن أهمهم حقوق الأمم وحقوق المواطنين في كل مكان.

* مقتطفات من أوراق ناجي علوش، كتبت في العام 1994، ونشر جزءٌ منها كمقالة في جريدة “المجد” الأردنية.

 

 

عروق الوحدة العربية لا تزال تنبض، وستظل

الجزء الثاني: العروبة و”الربيع العربي”

 

السيد شبل

استعرضنا في العدد الماضي جانبًا من عوامل الوحدة العربية، وحاولنا التأكيد على أن اكتشاف تلك العوامل مسألة فطرية بالأساس، والتنظير فيها ليس إلا إعادة صياغة لهذا الإحساس الغريزي، وسنحاول في هذا العدد القفز إلى الزمن المعاصر، وبتخصيص أكثر إلى ما تواطأ الإعلام على تسميته بـ”الربيع العربي”، على ما فيه من تشوهات ومصائب بالجملة! لنستنتج، منه ارتباطات معقدة ومتشابكة بالعروبة:

أولًا: أن الطرف الصهيو-غربي، كان على وعي مبكر بأن الغلاف القومي هو الحامي للدول العربية من الانحلال والتفكك، وهو حِصنها الذي يمنعها من التدمير ذاتيًا، وهو جوهرها الذي إن فقدته فقدت معه كيانها، لذا كانت المؤامرة تستهدف هذا الغلاف وتعمل على تهشيمه وتهميشه، والحطّ من قدره، وكان الاستهداف يتم في الغالب عبر عناصر داخلية “إسلاموية” و”ليبرالية”، تنقل دون وعي أطروحات المستشرقين، وتتورط في الترويج لها بسطحية وعنفوان، وأحيانًا باتفاق مع الطرف الأصلي وبتمويل منه، وعليه فقد تم تكثيف العمل على خلخلة البنية القومية العربية، ولا يتبقّى بعد ذلك سوى تزكية نيران الخطاب الطائفي والمذهبي وتوسيع هوّة الانقسامات السياسية والحزبية، حتى تصل المجتمعات من ذاتها إلى الانتحار، دون أن تنزف القوى الاستعمارية من دمائها قطرة واحدة!  وعليه يفترض أن يكون أولى سبل تمريض وتطبيب ما جرى هو إعادة الاعتبار إلى قضية الانتماء الوطني والقومي، وترقيع ما تمزق من هذا الغلاف الحامي وتكثيفه، باعتباره الحصن الذي يحول دون تصاعد الخطاب الطائفي والمذهبي.

ثانيًا: أن النسخة الاستعمارية الحديثة التي تقودها الشركات عابرة القارات، كانت ترى الأمة العربية كوحدة واحدة – تخيل !- ، وعندما استهدفتها لم تستهدفها بالقطعة، وأطلقت كرة النار فيها من غربها إلى شرقها، ولم تستثنِ، فكان سلوك ” النخب” المشبوهة في كل الأقطار العربية واحدًا (وحدة العدو مرة جديدة): يقفز على نضالات الجماهير، ويختطف هبّتهم، ويحرِف بوصلة عملهم المخلص والعفوي، ومع الوقت ينحّيهم ثم يتصدر المشهد مدعومًا بآلة إعلامية غربية جبارة، فيرحب بالتدخل العسكري الغربي، ويهمّش قضية الصراع مع الطرف الصهيوأمريكي، ويطلق الشعارات الفضفاضة الخالية من أي مضمون، ويعمّق الانقسامات داخل المجتمع، ويسعى للحطّ من قدر السلطة والهجوم على مؤسسات الدولة من حيث أصل تكوينها لا من حيث فسادها أو عجزها عن القيام بوظائفها، ثم يزوّق خطابه ببعض الكلمات الرنانة عن “الحرية” و”الديمقراطية”. الخلاصة: أن العدو رأى الأمة كوحدة واحدة، واستهدفها ككيان واحد، وأوعز لخدّام مشروعه بتبنّي واستنساخ ذات الخُطب والتحليلات، لأن حقائق الأمور تعطي ذلك، ولا مفر مما أقره الواقع (فالحوض الحضاري واحد، والمزاج النفسي متقارب).  في المقابل لا يزال بعض أبناء الأمة في غفلة عن هذه الحقائق، ولا يعطونها الأهمية التي تستحقها، تحجبهم أنانيتهم ومصالحهم الضيقة!

ثالثًا: أثبتت الأحداث على رخاوتها، أن القلب العربي لا يزال ينبض، وأن العروبة حقيقةٌ وواقعٌ تعيشه الجماهير، ولم تنجح الأنظمة المتآمرة عليها في تغييرها، وكان هذا باديًا سواء في أوقات الحماسة للتغيير الثوري أو في أوقات انكشاف اللعبة وتأكد الشكوك والرغبة في التصدي للتدخلات الغربية.  وقد نجح الشباب العربي تحت الأربعين، في تونس ومصر والأردن واليمن وسورية والعراق وغالب الأقطار، في مد جسور التواصل والتفاعل والتنظيم بصورة مبهرة، واستيراد وتصدير الأفكار بطريقة تلقائية وبسيطة، فكان شباب الوطن العربي، الذي انحجب في بعض الأقطار عن قضية العروبة بسبب جمود النصوص التي تتناولها والمحاولات المحمومة لتهميشها، كمن يعيد اكتشاف نفسه ومحيطه وواقعه وحقيقته، وهذا ما يعيدنا إلى ما أفردنا له في الصدارة من أن الحديث عن العروبة ليس حنيناً وأشواقاً وإنما حقيقة فطرية تفرض نفسها ويكتشفها المرء بتجربته الذاتية.  صحيح أن الحديث عن تقارب بين الشباب العربي في سياق هذا “الربيع”، لم يكن هو المأمول على التمام، ولكن رب ضارة نافعة، خاصة أن الأمر لم يكن كله سيئاً، خصوصاً في مراحله الأولى، وبتخصيصٍ أكثر في مصر وتونس.  وعلى كل صفحات الحياة تعلمنا يومًا بعد يوم أن كل ما يصيب المرء، حسن أو قبيح، حتى في حياته العادية، يكون الحكم فيه على التغليب، فأفضل الأمور كانت لها جوانب سلبية، وأحطّها كانت لها جوانب حسنة.. وهكذا، بل إن هذا التنوع بين الجيد والسيء، وبين الأبيض والأسود، وبين القبيح والجميل هو ما يعطي الحياة غناها، ويرسم اللوحة الكبيرة، بل هو الفرق في الأساس بين الحياة والموت وبين الوجود والعدم!  ولو لم نعرف المؤامرة والاحتلال، لما عرفنا المقاومة والنضال، ولو لم نعرف قسوة الحياة وشظف العيش، لما عرفنا الرجولة والجسارة، بل لو لم نعرف “الربيع العربي” بكل زخمه وتعقيداته وضبابيته، لظلّ الحابل مختلطًا بالنابل ولما امتلكنا هذا الميزان الدقيق الذي ميزنا به بين تجار الشعارات من جهة، وبين أصحاب المبادئ والثوابت من جهة أخرى.. وإلخ.

ما سُقناه بخصوص “الربيع”، من كونه كالزَبَد يذهب جفاءً ظهرت أمور إيجابية من أسفله، أهمها اكتشاف الشباب لمحيطه العربي وتفاعله مع أشقائه، ينطبق بصورة أو بأخرى على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها “الفيس بوك”، فذلك الموقع المؤكَد ارتباطه بالمخابرات الأمريكية عبر تشابكات إدارية تربطه بشركة “إن كيو تل” المسجلة تجاريًا لصالح “السي أي إيه”، والذي يدور في فلك مشاريع “إنيتا جونز” لجمع المعلومات المفيدة استخباراتيًا عن شعوب العالم، والذي يلعب دورًا خطرًا في توجيه الرأي العام في دول العالم الثالث (1)، ذلك الموقع على كل ما فيه قد فتح بابًا للتقارب والتواصل العربي – العربي، بل واستُخدم في أحايين كثيرة كعامل صدّ وكشف للمؤامرات الكونية التي كانت تستهدف الأمة في صميم وجودها، فكان أيضًا كالبركة الآسنة التي ظهرت على ضفافها بعض النباتات الصالحة!  لكن قبل إغلاق ملف “الفيس”، أليس من اللائق هنا أن نوجّه رسالة إلى وزارات الاتصالات العربية والعالمية التي تواجه ذات المخاطر الإمبريالية، نحثها فيها على ضرورة إصدار موقع تواصل بديل عن “الفيس بوك”، يحقق ذات الأغراض الاتصالية، في الوقت الذي يكون فيه محصنًا ضد تدخل الجهات الاستخباراتية الدولية، وفي مأمن من عمليات توجيه الرأي العام التي تتمّ بمنهجية عبر صفحات مدعومة وممولة، تفرض نفسها وأخبارها (بأسلوب نفسي مدروس) على المتابعين؟

بقيت ملاحظتان أخيرتان بخصوص “الربيع العربي” وهما:

1- أن “الليبراليين” و”الإسلامويين” حتى مع كرههم لكل ما يتعلق بالعربية والعروبة، لم يجدوا مفرًا من لصق كلمة “العربي” بعد “الربيع”، لأن حقائق الأمور فرضت نفسها، سواء بحسن نية أو بسوء.

2- أن العالم كله تحدث وتعامل مع الهبّات التي انطلقت في الأقطار العربية بداية من نهايات 2010 ميلادية، على أنها تخصّ العرب وحدهم، فلم نسمع أحد المنظرين الغربيين يتحدث في وسائل الإعلام عن إمكانية انتقال شرارة “الربيع” إلى تركيا أو الهند أو تشاد أو النيجر أو مالي أو إيران أو أي دولة تقع على تخوم الوطن العربي، وهذا يؤكد ما أشرنا إليه سابقًا من أن الرؤية الخارجية ترى فينا – مع الأسف – ما ينكره بعضنا، ولكن هذا لا يعني أن الدول المجاورة للوطن العربي كانت في مأمن من التدخلات الغربية، التي تتخذ من شعارات “الحرية” والديمقراطية” بوابة لها، فـ”إيران”، على سبيل المثال لا الحصر، كانت على موعدها مع نسختها من الثورات الملونة في 2008 – 2009، حتى قبل أن ينطلق “الربيع العربي” من تونس.

يبدو أن الحديث عن العروبة بين الماضي والحاضر لا ينتهي وكأنه بحر لا شواطيء له، ويكفينا أن نخصص فقرة الخاتمة للحديث باقتضاب عن العلاقات المصرية-السورية، على المستوى الشعبي قبل السياسي، فكأن هذين القطرين تحديدًا على موعد يتجدد دائمًا فيه الحديث عن وحدة المصير. ففي الثلاثين من يونيو المصرية، كانت سوريا العروبة حاضرة وبقوة، وأدرك الشعب ببساطة يُحسد عليها، والدولة بما بقي فيها من ثوابت ناصرية، وحدة مصير القطرين، فاتُخذ قرار دفن الإخوان، بعد أن كانوا قد ماتوا بالفعل منذ وصولهم للحكم، في اللحظة التي أعلن فيها محمد مرسي قطع العلاقات مع سورية حاشدًا جهوده لتدمير كيان الدولة هناك، ومن ثم القضاء على آخر القلاع العربية الباقية على موقفها الرافض والمقاطع للعدو الصهيوني، والداعم لشتى صور المقاومة ضد الاحتلال في فلسطين وفي لبنان وفي العراق.  وبانتصار مصر انتصرت سورية، وبثبات سورية ثبتت مصر.  هكذا جدّد أبناء القطريْن العهد، وجددت حقائق الأمور فرْض نفسها.  ولم يتبقَ سوى أن تترجم القيادات السياسية (المصرية على الأخص) هذا الإحساس الشعبي بوحدة المصير في خطوات ملموسة، تواجه بها المؤامرة الغربية وخدّامها الإقليميين كوحدة واحدة، بجدية لا تعرف الليونة، وبحسم لا يعرف اللغة الدبلوماسية، وبصراحة لا تعرف المناورات التي تضيع الوقت ولا تشتريه.

هوامش:

(1) ما لا تعلمه عن الفيس بوك.. إبراهيم علوش

 

المقولة الوحدوية عند ناجي علوش

الجزء الثاني: مبحث في عوائق الوحدة العربية

إبراهيم علوش

انتقل ناجي علوش، بعد استعراض التجارب الوحدوية الأوروبية والآسيوية التي استعرضناها في الجزء الأول، إلى تجارب بعض الأمم التي لم تتمكن من تحقيق وحدتها، مثل ألمانيا وكوريا والوطن العربي عند تاريخ كتابة الكتاب الذي نستند إليه هنا، وهو “الوحدة العربية: المشكلات والعوائق”، وقد توحدت ألمانيا في الفترة الواقعة ما بين كتابة الكتاب ونشره، فاعتبر ناجي علوش ذلك في مقدمة الكتاب مصداقاً لما ذهب إليه من أن العامل الخارجي هو العامل الرئيس في منع قيام الوحدة، وأن انهيار دول المنظومة الاشتراكية، التي اصطفّ معها من دون مواربة في مواجهة الإمبريالية، هو الذي سمح بتحقيق وحدة ألمانيا من خلال ابتلاع ألمانيا الغربية لألمانيا الشرقية، بعد 45 عاماً من التجزئة.  ويمكن أن نضيف، بناءً على المقياس نفسه، أنه ينطبق على وحدة اليمن أيضاً في الفترة نفسها، وعلى ابتلاع اليمن الشمالي للجنوبي، وهي الوحدة التي تسعى الإمبريالية والدول الرجعية العربية لفض عروتها الوثقى اليوم.

أما كوريا، فليس هناك من شكٍ أيضاً أن ما منع وحدتها هو العامل الخارجي، وكان الاتحاد السوفييتي قد دخل  كوريا قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية حتى خط العرض 38، في سياق مواجهة اليابان التي كانت قد ضمت كوريا إليها رسمياً منذ العام 1910، فيما دخلت القوات الأمريكية إلى الجنوب منذ ذلك الخط، وهو ما أصبح فيما بعد الخط الفاصل بين كوريا الشمالية والجنوبية.  وقد اشتدت الحركة القومية الكورية في مواجهة اليابان منذ بداية القرن العشرين، واتخذت من الصين منطلقاً لها، وقد انجذل نضال الكوريين مع نضال الصينيين في مواجهة اليابان تاريخياً، وقاتلت الوحدات الكورية بعشرات الآلاف مع جيش التحرير الشعبي الصيني على الأرض الصينية، وهي الوحدات المدربة والمنظّمة والمجهّزة التي أعادها الصينيون فيما بعد إلى كوريا الشمالية باسم جيش الشعب الكوري.

كان تحقيق وحدة كوريا، على الطريقة البِسماركية، أي بالحديد والدم، هو همّ القيادة الشيوعية الكورية في الشمال، كما كان همّ قيادة النظام العميل الذي أسسه الأمريكان في الجنوب، وكان سعي كل من القيادتين لابتلاع أراضي الأخرى أحد أهم العوامل التي حرّكت الحرب الكورية بين العامين 1950-1953، التي سقط فيها حوالي مليون وربع المليون قتيل بأقل تقدير حديث، تقول المصادر الأمريكية أن بينهم حوالي 35 ألف جندي أمريكي، وتقول المصادر الصينية أن بينهم حوالي 150 ألف جندي صيني، وكلا المصدرين، الأمريكي والصيني، يضع خسائر الطرف الآخر عند مستوى أعلى بكثير، فقد كانت الحرب الكورية، التي بدأت بمواجهة سحق فيها الشمال الجنوب حتى دخلتها القوات الأمريكية، قد تحوّلت إلى حرب دموية مباشرة بين القوات الصينية وقوات الأمم المتحدة التي شكّل الأمريكيون 88 بالمئة من قوامها.   وهي المواجهة التي انتهت بهدنة في صيف العام 1953 رسّخت خط العرض 38 حدوداً غير رسمية حتى الآن بين الشمال والجنوب.

اعتبرت الولايات المتحدة أن السماح للقوميين اليساريين الكوريين بالسيطرة على شبه الجزيرة الكورية يهدد اليابان مباشرة، ولذلك لا يمكن أن ترضى بصيغة أقل من سيطرة الجنوب على الشمال الكوري.  ولكن مثل هذه السيطرة لم تكن ممكنة بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، أولاً بسبب تماسك النظام الكوري الشمالي، وثانياً بسبب وجود الصين، ولذلك لم تتوحد الكوريتان بعد العام 1990 كما توحدت ألمانيا، مع العلم أن مشروع الوحدة الكورية يظلّ المشروع الرسمي المطروح على الطاولة حتى الآن، ولا يزال العامل الخارجي هو العامل الرئيس في منع قيامها ما دامت تنزع للتخلص من الهيمنة الإمبريالية.

يشير ناجي علوش بالنسبة للوطن العربي أن العامل الخارجي لعب تاريخياً الدور الرئيس أيضاً في منع قيام الوحدة العربية، أولاً لأن الأعاجم الذين حكموا العرب على مدى ألف عام، من السلاجقة للبويهيين للمماليك للعثمانيين، عملوا على إضعاف الحسّ القومي باسم الدين، كشرط لاستمرارهم، وثانياً لأن العمل على التخلص من ربقة الحكم العثماني كان يعيقه الخوف والحذر من الوقوع في براثن الاستعمار الأوروبي، وثالثاً لأن الاستعمار الأوروبي عمل على تجزئة الأقطار العربية حتى في ظل إدارته الاستعمارية، ففرنسا حرصت على إبقاء الجزائر وتونس منفصلتين تحت حكمها، وكذلك سورية ولبنان، وعملت بريطانيا على جعل كل من فلسطين والأردن والعراق، وكل من مصر والسودان، وكل من جنوب اليمن وإمارات الخليج العربي، إدارات استعمارية منفصلة، فعززت قوى التجزئة في كل من هذه الأقطار، فيما أبقت تركيا دولةً موحدة لمواجهة روسيا والاتحاد السوفييتي بعد 1917، ورابعاً لأن البرجوازية العربية كانت ذات طابع تجاري مالي عقاري ترتبط مصالحها في كل قُطر بالخارج مقارنة بالبرجوازيات الصناعية الأوروبية التي امتلكت في القرنين الثامن والتاسع عشر مشروعاً لتوحيد السوق القومية، وسادساً لأن القوى الرجعية في ألمانيا وكوريا تمتلك برنامجاً وحدوياً، أما القوى الرجعية العربية فلا تمتلكه، وسابعاً مساحة الوطن العربي وموقعه وموارده تجعل وحدته ممنوعة حتى في ظل حكم رجعي، قد يصبح منافساً دولياً خطيراً للقوى الإمبريالية، وثامناً لأن طريقة تقسيم الوطن العربي خلقت تناقضات جغرافية-سياسية حقيقية بين الأقطار العربية جعلت الصغير يخاف من الكبير، والكبار، والصغار، من بعضهم البعض، وتاسعاً لأن الحركات القومية لم تنجح بتأسيس حالة دائمة عابرة للحدود القُطرية، وعاشراً بسبب غياب دور الجماهير الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في تحقيق الوحدة العربية.

يؤسس ناجي علوش استمرار التجزئة العربية إذن على مثلث مترابط الأضلاع: 1) مصلحة القوى الإمبريالية والحركة الصهيونية بإبقاء حالة التجزئة وتعزيزها، 2) وجود قوى تجزئة عربية ضمن حدود الأقطار تمكنت من بناء قواعد اجتماعية وحواشي تسندها، 3) عجز الحركة الشعبية العربية حتى الآن عن إنتاج مشروع قادر على هزيمة الإمبريالية وأدواتها في بلادنا.

ينتقل ناجي علوش إلى ما قدّمه بعض المفكرين القوميين حول عوائق الوحدة العربية، فيبدأ بمحمد عزة دروزة الذي اعتبر تلك العوائق نوعين: الأول، خارجي، أو استعماري، والثاني، داخلي، يتعلق من جهة بالإقليمية، التي اعتبرها الحجر الذي تستند إليه العوائق الخارجية، بالإضافة للاعتبارات الطائفية والأسروية والشخصية، وهو ما اعتبره ناجي علوش مكونات الدولة القُطرية فعلياً ولو لم يسمها دروزة كذلك، ويتعلق العامل الداخلي، من جهةٍ أخرى، بتخلف الوعي العام والتنظيم الشعبي.  أما تجاوز تلك العوائق من أجل تحقيق الوحدة العربية فيكون، بحسب دروزة، أولاً، بنشوء قوة يحركها المطمح الشخصي والحافز القومي لتحقيق الوحدة، ثانياً، بتبني دولة عربية مركزية مثل مصر أو سورية أو العراق للمشروع الوحدوي، وثالثاً، وعلى المقدار نفسه من الأهمية، بنشوء جهاز شعبي عابر للأقطار يعمل ويناضل من أجل تحقيق الوحدة.  ويشير ناجي علوش إلى أن دروزة يدعو لدولة وحدة اتحادية، لا مركزية، ذات نظام جمهوري برلماني يحافظ على الحريات الشخصية ما دامت لا تتعارض مع الوحدة، وأن دروزة كان سبّاقاً في معالجة هذه القضايا، غير أنه يشير أيضاً إلى أن دروزة درس التجارب الألمانية والإيطالية في الوحدة، لكنه لم يدرس التجارب الصينية والفيتنامية، ولم يدرك المدى الذي وصلته الدولة القُطرية في مأسسة وجودها، ربما لأنه لم يكن بعد ظاهراً للعيان بوضوح عندما كتب، ولم يأخذ البعد الطبقي في تصنيف قوى الوحدة والتجزئة بما يكفي من الاعتبار، خصوصاً بعد الدور الذي لعبته البرجوازية السورية في فكّ عُرى الوحدة المصرية-السورية، مع أنه وقف مع الوحدة ضد الانفصال.   لكن يبدو أن جهود دروزة التنظيرية توقفت بعد الانفصال، وكان العمر قد بلغ به مبلغه، وكان المدّ القومي قد بدأ بالتراجع.

ينتقل ناجي علوش بعد دروزة للمفكر القومي نديم البيطار الذي لمع نجمه في فترة تراجع المد القومي، وقد اتبع البيطار مقاربة سوسيولوجية لمسألة الوحدة استنبط من خلالها ما اعتبره قوانين الوحدة الرئيسية والثانوية، هي في الواقع الأنماط المتكررة والمشتركة في التجارب الوحدوية التي درسها البيطار، وحدد شروط الوحدة الثانوية بستة عشر شرطاً، منها تماثل اللغة والأنظمة السياسية والتوجهات العقائدية وزيادة التفاعل السكاني والتكامل الاقتصادي والتجاور الجغرافي والتاريخ المشترك وانخراط الشعب والمثقفين في العملية الوحدوية بين الأقطار النازعة نحو التوحد.  أما الشروط الرئيسية لقيام الوحدة عند البيطار فثلاثة، وهي:

  • نشوء إقليم-قاعدة تتمحور حوله العملية الوحدوية، يتمتع بقدر من التماسك والتطور والثقل يسمح له بلعب مثل هذا الدور، وقد رأى في مصر، في حالة الوطن العربي، المرشح الأول لدور الإقليم-القاعدة، غير أنه لم يستبعد احتمالات أخرى، مثل وقوع ثورة في الجزيرة العربية تسقِط أنظمتها وتوحّدها في دولة واحدة تستفيد من وزنها الاقتصادي الهائل في إطلاق المشروع الوحدوي، أو أن يتمكن العراق من توحيد الجزيرة العربية على الطريقة البسماركية للقيام بالدور نفسه،
  • وجود خطر خارجي يدفع الأقطار للاتحاد، وهذا الخطر في حالة الوطن العربي هو الخطر الصهيوني الذي يصيب بشكلٍ مباشرٍ جزءاً من الأراضي العربية، مما يضعف بحسب البيطار فاعليته الوحدوية،
  • قيام السلطة المشخصنة التي تستقطب ولاء الشعب انطلاقاً من الإقليم-القاعدة في مواجهة الخطر الخارجي، ويقدم البيطار هنا دراسة لفكرة السلطة المشخصنة عبر خمس تجارب تاريخية في الوحدة.

المشكلة طبعاً أن تلك الشروط الرئيسية توفرت في مصر الناصرية في الخمسينيات والستينيات، لكن الوحدة لم تتحقق، وهو ما يعزوه البيطار لتخلف الوعي الوحدوي، وضعف الالتزام بفكرة الوحدة سياسياً، وغيبية العقل العربي، وتقليدية المجتمع العربي في الولاءات والسلوك.  وقد اعتبر ناجي علوش أن الأنماط المتكررة تاريخياً في التجارب الوحدوية المختلفة التي استخلصها البيطار تمثل إسهاماً مهماً وجدياً في الفكر الوحدوي، من دون أن يفسر د. نديم البيطار خصائص الحالة العربية التي منعت تحولها إلى واقعٍ وحدويٍ أسوة بالحالات الوحدوية الأخرى، آخذاً على البيطار، ومحمد عزة دروزة من قبله، عدم إعطاء وزنٍ كافٍ للتجارب التي تمكنت فيها حركة شعبية ثورية يقودها حزب، كما في الصين، من تحقيق الوحدة، وعدم ربط المشروع الوحدوي بالقوى الطبقية صاحبة المصلحة بتحقيقها في المراحل التاريخية المختلفة.

أما فكرة الإقليم-القاعدة فقد جاءت تنظيراً لإرث قومي عربي منذ القرن التاسع عشر نظر في البداية للجزيرة العربية كقاعدة للوحدة، ثم لمصر محمد علي، ثم للجزيرة العربية الشريف حسين بعد احتلال بريطانيا لمصر حتى العام 1920، ثم للعراق ما بين عامي 1921-1954، ثم لمصر الناصرية بعد العام 1955 حتى العام 1970.  وتبقى المشكلة أن التعرف على قوانين الوحدة العامة لا يكفي للتعرف على خصائصها العربية المحددة، ولا يكفي بحد ذاته لتحقيق الوحدة، خصوصاً العوامل الذاتية لقيامها، فمن سيبني الإقليم-القاعدة بعد وفاة عبد الناصر مثلاً؟!

ينتقل ناجي علوش في هذا الحيز لمناقشة أفكار د. منيف الرزاز حول سبب عدم قيام الوحدة العربية رغم النزوع الجماهيري إليها، وحقيقة الوجود القومي المتمثلة بوحدة الأرض واللغة والتاريخ، ويسلط الضوء تحديداً على ما نزع إليه الرزاز من أن تحقيق الوحدة يحتاج إلى أداة قومية وحدوية، وأن القوة القُطرية المحصورة في قُطر واحد لا يمكن أن تكون وحدوية مهما بلغ إيمانها بالوحدة، لأن الوحدة الحقيقية لا تقوم إلا بنضال موحد مشترك يتجاوز حدود الأقطار بقوىً عربية تمثل الوحدة في تركيبتها التنظيمية وفي نضالها.

ويلتقي الرزاز مع البيطار في الدور التوحيدي للخطر الخارجي، لكن ناجي علوش يسترسل في عدة فقرات هنا أن الخطر الخارجي لم ينتِج نزوعاً وحدوياً فعلياً في الوطن العربي، وأن الأحزاب القومية التي حكمت في الدول العربية أسست دولاً قُطرية، ظلت محكومة بقوانين التجزئة، ولم تنجح ببناء تنظيمٍ قوميٍ شعبيٍ عابرٍ للأقطار، رغم التأييد الجماهيري الواسع الذي حظيت به.   أما الأحزاب الشيوعية العربية فقد ظلت قضية الوحدة قضية ثانوية في برامجها، إذا حظيت بالاهتمام أصلاً، على عكس الأحزاب الشيوعية في الصين وفيتنام وكوريا.   وعندما اهتمت بها، فقد رأتها نتاجاً موضوعياً لتأسيس أنظمة اشتراكية في كل قُطر عربي على حدة!  ويعتبر ناجي علوش أن كل ما بُني على الدولة القُطرية هو قُطري، ولو اتخذ لوناً معارضاً، ما دام ليس جزءاً من مشروع عمل قومي، فالدولة القُطرية نجحت بتثبيت مؤسساتها وفضائها وضخّمت ذاتها القُطرية بتاريخ مصطنع بناءً على خرائط استعمارية كفلها الاستعمار القديم والحديث، لتنتجَ وعياً قُطرياً حتى عند بعض القوى القومية، ومن ذلك انحلال حركة القوميين العرب إلى تنظيمات قُطرية في اليمن ولبنان وفلسطين والبحرين وغيرها من الأقطار العربية.

وقد جاءت مرحلة العولمة لتكرّس فكرة تفكيك الدولة الوطنية والهوية القومية لمصلحة الشركات متعدية الحدود المعنية باستباحة موارد العالم وأسواقه، مما أنتج نزعتين متلازمتين يستهدف كلاهما الوعي والهوية القومية وهما: 1) النزعة الإنسانية الكوسموبوليتية ما فوق القومية، 2) النزعة الطائفية والمحلية والعرقية ما دون القومية.   وكلاهما وجهان لعملة واحدة في واقع الأمر، لأن كليهما يؤدي للمزيد من الارتباط بمنظومة التبعية للرأسمالية العالمية، ويلاحظ ناجي علوش هنا أن الدول العربية الأكثر ارتباطاً بالإمبريالية الأمريكية، مثل مصر السادات وسودان النميري والسعودية، هي التي راحت تخوض معركة التراث والقيم التقليدية!

رأى ناجي علوش أن مشروع الوحدة هو مشروع الفئات الكادحة في المجتمع العربي الذي لم ولن تتمكن الدولة القُطرية من حل إشكالاته المتعددة المعيشية واليومية والاستراتيجية، ورأى أن تلك الفئات الشعبية هي المتضرر الأكبر من منظومة التجزئة وما يترتب عليها من تبعية وتخلّف، وعليه اعتبر أن المشروع الوحدوي هو بالضرورة مشروعٌ اشتراكي، غير أنه اعتبر أن الوحدة لن تتحقق بمجرد تحديد معسكر المستفيدين، ومعسكر المتضررين منها، بل رأى ضرورة بناء أدواتها المتمثلة بـ: 1) حزب قومي، 2) جبهة قومية متحدة، 3) منظمات ونقابات شعبية عربية عابرة للأقطار، 4) مؤسسات قومية ثقافية وإعلامية، واقتصادية إن أمكن.  وعليه اعتبر أن الوحدة يجب أن تكون مشروعاً شعبياً عربياً بالأساس، وأن قاعدتها يجب أن تكون عامة الشعب، وأن زيادة فرص تحقيق الوحدة تتطلب من المنظور الجغرافي-السياسي سيطرة تلك الحركة الوحدوية على إقليم مركزي مثل سورية-العراق، الجزائر-المغرب، مصر-السودان، اليمن-الجزيرة العربية.  لكنه لم ينغلق على أي احتمال على هذا الصعيد، ومع أن ناجي علوش فضّل الحل الديموقراطي الشعبي في تحقيق الوحدة، إلا أنه لم يرفض الحل البسماركي إن كان ذلك ما ينتجه الواقع، ولا أي خطوة وحدوية.  لكنه اعتبر أن الوطن العربي بحاجة لدولة مركزية واحدة، وأن تحقيقها يتطلب إعداد القوى لمواجهة الإمبريالية الأمريكية والعدو الصهيوني والرجعية العربية.

نقطتان إضافيتان يمكن أن نستشفهما من كتاب “الوحدة العربية: المشكلات والعوائق”:

– أولاً: فيما يتعلق بالتمييز بين العوائق الرئيسية والعوائق الثانوية للوحدة، يفرِد ناجي علوش فصلاً للعوائق الثانوية يؤكد فيه أن الدول المجاورة للعرب غير معنية على الإطلاق بتحقيق الوحدة العربية، لكن التناقض الرئيسي يبقى مع الإمبريالية والصهيونية وأدواتهما، غير أن ذلك لا يعني ترك تلك الدول تفعل ما تشاء، بل يضع مقياساً يمكن اعتباره بوصلة في التعامل معها هو: بمقدار ما تقترب تلك القوى وتتقاطع مع الأعداء الرئيسيين، أي مع الإمبريالية والصهيونية، بمقدار ما يتحول التناقض الثانوي معها إلى تناقض رئيسي، كما هي الحال مع تركيا في سورية اليوم، وبمقدار ما تتناقض مع الإمبريالية وتتقاطع معنا بمقدار ما يجب تعويم الخلافات معها وتأجيلها وحلها بطرق ودية.

– ثانياً: لا يعتبر ناجي علوش أن التنوع اللغوي والعرقي والبيئي في الوطن العربي يشكل مشكلة لتحقيق الوحدة، لأن مثل ذلك التنوع موجودٌ في معظم الأمم، ولأن حوالي 95 بالمئة من سكان الوطن العربي هم عربٌ مسلمون، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السريانية والأمازيغية هي لهجات عربية قديمة.  وعليه لا يعتبر ناجي علوش أن المشكلة الدينية أو العِرقية هي مشكلة تمسّ كل الوطن العربي، بل تمس أقطاراً عربية محددة مثل السودان أو العراق أو لبنان، وهي مشكلة يمكن احتواؤها ما دامت الأصابع الخارجية بعيدة عن توظيفها، وفي نبوءة خطيرة، كتبت قبل 25 عاماً، يقول ناجي علوش:

“يمكن اعتبار خطر الانقسام المذهبي الآن أكبر من خطر الانقسام الديني… إن انقسام المجتمع العربي على أساس سني-شيعي أكثر خطراً، لأن لهذا الانقسام تاريخه وأيديولوجيته وقواه، ومثل هذا الانقسام لا يرتبط بالفرنجة، أو بدين غير الإسلام، أو بدول غير إسلامية، ويمكن أن يشق المشرق كله” (الوحدة العربية: المشكلات والعوائق، ص. 96).

 

 

الطرح الوحدوي في التجربة الناصرية

الجزء الثاني: البعد القومي العربي لدى ضباط الأحرار من اطاحة النظام الملكي حتى اقتراح الوحدة المصرية-السورية

 

إبراهيم حرشاوي

 

تتميز التجربة الناصرية على بقية التجارب القومية العربية كونها كانت تفتقد أي مرجعية فكرية-سياسية  ترتكز عليها و تُؤدلج من خلالها مشروعها السياسي.  فالتوجه العام لدى قيادة الثورة في المراحل الأولى  كانت تعكس بالدرجة الأولى الروح الوطنية المصرية التي كانت قاسما مشتركا بين كل القوى السياسية والفكرية آنذاك. أما فكرة القومية العربية في مصر فكانت – رغم تواجدها قبل 1952م، كما تبيّن معنا في الجزء الأول – ضعيفةً للغاية مقارنة مع المذاهب السياسية الأخرى.  ويرجع ذلك، إلى حدٍ كبير، إلى عدم احتضان مصر وشمال إفريقيا للجغرافية التي حددتها النخبة القومية العربية في بداية القرن العشرين لبناء الدولة القومية العربية.  ويبدو هذا مثلا في طروحات نجيب عزوري في كتابه “يقظة الأمة العربية” الصادر عام 1905م، وادمون رباط في كتابه “الوحدة السورية والمصير العربي”.  كما يرجع للجهد الحثيث الذي بذله البريطانيون لاجتثاث الفكرة القومية العربية من مصر خوفاً من تكرار تجربة محمد علي باشا وبروز دور مصر الوحدوي، عاملين على  تشجيع النزعات المصرية والإسلامية لإضعافها، كما يشرح ياسين الحافظ في كتابه “المسألة القومية الديموقراطية”.

لم تتجلى ملامح التوجه القومي العربي فور قيام النظام السياسي في مصر رغم الصدى الكبير الذي تركته ثورة يوليو في الوطن العربي.  فمفهوم القومية العربية لم يظهر للمرة الأولى في الخطاب الناصري إلّا في عام 1955م، عكس مفهوم الوحدة العربية الذي كان يشير إليه جمال عبد الناصر إلا فيما ندر.  فالقومية كان يتم ربطها كمفهوم، في السنة الأولى والثانية بعد الثورة، بالوطنية المصرية والإطار المصري (بشكل غير معادي للانتماء العربي)، مثلها مثل مفهوم “الأمة” الذي كان يشير هو الآخر إلى الإطار القُطري المصري. وانتقل مفهوما الأمة والقومية إلى صيغة عروبية اعتبارا من سنة 1956م، وبالضبط  في الخطاب الذي أُعلن فيه عبد الناصر تأميم قناة السويس. ويُلاحظ في هذا الخطاب أن الوعي القومي العربي كان في مهده رغم نبرته الحماسية، ويبدو ذلك على سبيل المثال في استعمال عبد الناصر لتعبير”الخليج الفارسي” بدلا من تعبير الخليج العربي لوصف منطقة الخليج: “كلنا سندافع عن قوميتنا، كلنا سندافع عن عروبتنا، كلنا سنعمل؛ حتى يمتد الوطن العربى من المحيط الأطلسى إلى الخليج الفارسى..

أيها المواطنون:

إن القومية العربية تتقدم.. إن القومية العربية تنتصر.. إن القومية العربية تسير إلى الأمام، وهى تعرف طريقها، وهى تعرف سبيلها.. إن القومية العربية تشعر من هم أعداؤها ومن هم أصدقاؤها.. إن القومية العربية تعلم أن وجودها فى اتحادها، وأن قوتها فى قوميتها”.

أما مفهوم الوحدة العربية في المرحلة الأولى للثورة فيدلّ بشكل خاص على وحدة الكفاح العربي ضد الاستعمار.  ويبدو هذا الأمر واضحا في فقرة تشير إلى تجربة جمال عبد الناصر أثناء حرب 1948م بفلسطين في  كتابه “فلسفة الثورة”:

أومن بكفاح واحد مشترك وأقول لنفسي: ما دامت المنطقة واحدة، ومشاكلها واحدة، ومستقبلها واحدا، والعدو واحدا، مهما حاول أن يضع على وجهه من أقنعة مختلفة، فلماذا نشتت جهودنا؟”

وتُرجم هذا المبدأ سياسيا في مصر ابتداء من سنة 1953م حيث يكتب عبد الناصر في هذا الموضوع في  الكتاب ذاته ما يلي:

“ثم زادتني تجربة ما بعد 23 يوليو إيماناً بهذا الكفاح الواحد وضرورته، ولقد بدأتُ أخيرا في اتصالات سياسية من أجل توحيد مهما كانت وسيلته (…) ولست أشك دقيقة أن كفاحنا الواحد يمكن أن يعود علينا وعلى شعوبنا بكل الذي نريده لها ونتمناه”.

وقد مورست هذه الدلالة الكفاحية لمفهوم الوحدة العربية في تلك الفترة على أرض الواقع مع اندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954م.  وتوجد في مذكرات المناضل الجزائري أحمد بن بلة تفاصيل أول لقاء جمعه مع جمال عبد الناصر قبل الثورة الجزائرية، والدعم الذي وفّره هذا الأخير لجبهة التحرير الجزائرية وباقي الحركات التحررية في المغرب العربي من دون قيد أو شرط.

من المؤكد أن استقرار الوضع الداخلي في مصر بعد إزاحة محمد نجيب وبروز جمال عبد الناصر كقائد ذي جاذبية عالية ساهم في اتّباع سياسة خارجية أكثر جرأة.  وهذا الأمر كان مرتبطا طبعا بالبعد الدولي الذي فرض على مصر سياسة عربية استراتيجية عبر اعتناق القومية العربية كمنهج وهوية سياسية.  لقد كانت سنة 1955م سنة إنشاء حلف بغداد المدعوم من طرف الدول الغربية الاستعمارية، وعلى رأسهم الولايات الامريكية المتحدة بغرض الهيمنة على دول الجناح الشرقي للوطن العربي عامة، وعلى مصر المتحررة خاصة. فبادرت مصر لتعزيز أمنها الوطني في الإطار القومي العربي عبر إنشاء مشروع قيادة موحدة للجيوش بين مصر وسورية والسعودية مما يُثبت المعنى الخاص في تلك الحقبة لمفهوم الوحدة العربية، أي الدفاع العربي المشترك إزاء الاستعمار. لكنّ اختلف هذا الامر تماماً مع مبادرة حزب البعث في مجلس النواب السوري الذي طرح فيه الاتحاد بين سورية ومصر سنة 1956م عقب التهديدات المباشرة التي تلقتّها سورية من قبل الجيش التركي الناتوي في إطار “مشروع أيزنهاور” الرامي إلى تطويق سورية وكل الدول المشرقية التي لها نزعة استقلالية.  لقد أدّى هذا الوضع إلى تسريع خطوات العملية التوحيدية، وظهر ذلك هو الآخر في الاستجابة لنداء المجلس النيابي السوري في خطاب تأميم قناة السويس:

“وأنا اليوم – أيها المواطنون – أتجه إلى إخوان لكم فى سوريا.. سوريا العزيزة.. سوريا الشقيقة، وقد قرروا.. قرروا وأعلنوا أن يتحدوا معكم اتحاداً حراً سليماً عزيزاً كريماً؛ لندعم سوياً مبادئ الحرية، ولندعم سوياً مبادئ العزة، ولندعم سوياً مبادئ الكرامة، ولنرسي سوياً القومية العربية، ولنرسي سوياً الوحدة العربية.

إننى اليوم أقول لإخوانكم فى سوريا باسمكم: إننا نرحب بكم أيها الإخوة؛ فقد قلتم فى دستوركم: إنكم جزء من الأمة العربية، وقلنا فى دستورنا: إننا جزء من الأمة العربية، وسنسير معاً – أيها الإخوة – متحدين.. يد واحدة.. قلب واحد.. رجل واحد؛ لنرسي مبادئ العزة الحقيقية، ولنرسي مبادئ الكرامة الحقيقية، ولنقيم بين ربوع الوطن العربى وبين ربوع الأمة العربية استقلالاً سياسياً حقيقياً، واستقلالاً اقتصادياً حقيقياً”.

يمكن القول أنّ تصعيد الخطاب القومي العربي في مصر عبد الناصر تمفصل مع التحدي الجيو-السياسي الذي كان على مصر مواجهته في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي للحفاظ على مكتسبات وأهداف الثورة.  كما أفشل هذا التوجه أهداف العدوان الثلاثي في نهاية 1956م الرامية إلى ردع السياسية الاستراتيجية لمصر. ومن الواضح أنّ الإدراك الناصري بضرورة تبنّي الطرح القومي العربي في فترة التحرر والاستقلال هو نفس الإدراك الذي كان موجودا لدى محمد علي باشا في القرن التاسع عشر عندما تزّعم مشروع النهوض بمصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا. فالبوصلة الوحدوية يمكن فهمها  في السياق المصري ليس كعقيدة سياسية فحسب، بل أيضا كضرورة يمليها تموقع والوزن الجغرافي السياسي لهذا القطر العربي الكبير.

قضية الوحدة مرة أخرى

جميل ناجي

مجددا نعود للوحدة كضرورة قومية ملحّة، وللخطاب القومي كحلّ نافذ في مواجهة التأليب الطائفي العفن الذي يملأ النشرات الإخبارية علنا هذه الأيام.  فلتسقط الطائفية وليسقط الخطاب الإسلاموي القذر، اللاعب المحوري لمصلحة المشروع الإمبريالي، الذي يتغنى بعودة السلطان التركي إلى ساحة المساومات الجديدة على المنطقة العربية بعد أن باع فلسطين لليهود!  كيف يستقيم هؤلاء إذن بعد أن نخر عقولهم الوحي الوهابي وكُرْه كل ما هو حضاري؟!  لقد أعاد تقاطع المصالح هؤلاء النكرة مجددا إلى الساحة السياسية، بعد أن تخلّى السيد الإمبريالي عنهم مع سقوط الاتحاد السوفييتي، ليعودَ مجددا في توظيفهم لتحويل المراكز الإقليمية العربية إلى تورا بورا، وليدمر كل معلَم سيادي وحضاري في هذه الأمة، مع صعود قوى منافسة جديدة على الساحة الدولية.  لذلك تبقى الوحدة كنزوع قومي وكقاعدة ثورية في مواجهة الخطاب الطائفي ومشروع التفكيك الغربي هي الحل الوحيد للمجابهة.  فالوحدة هي معركة مفتوحة دائما مع كل عوامل التجزئة والتفكيك للوطن العربي وعلى رأسها الإسلام السياسي، فالوحدة هي إعلان حرب كما هو متعارَف في الأدب القومي.

صحيح أنّ حركة التحرر القومي قد تقاعست كثيرا في التوجه نحو الهدف الوحدوي، وأن هذه الحركة انهارت تماما مع اشتداد الدعس الإمبريالي في المنطقة، ناهيك عن كل الإشكاليات العملية والتنظيرية التي كانت تحملها، والخطاب التبشيري الأرعن الفاقد لكل أساس علمي متين.  لم نستطع أن نقتنص الفرصة مع تراجع الاستعمار التقليدي، في الوقت الذي استماتت فيه أمم شرق وجنوب شرق اسيا من أجل تحقيق مكسب تاريخي يخلّصها من نير الهيمنة الإمبريالية.  هل نعيد تفتيش الأدبيات المتناثرة هنا وهناك لدى البعث والناصرية لنرى كيف نسفتها المصلحة الآنية ضيقة الأفق في خضم كل مواجهة حقيقية مع المشروع الغربي؟ ماذا تعني الوحدة مجددا عندما يهجرها مريدوها وكتابها، وماذا حققت كل المكتبة القومية العربية على أرض الواقع؟  يجب أن نتعلم كيف نعيد تعريف أنفسنا من جديد، هكذا نظر المحدّثون في تحلليهم للخطاب القومي الكلاسيكي.

جناحٌ كبيرٌ من البعث، مع كل منظّريه وتاريخه النضالي، يتساقط الآن في أحضان النظام السعودي، الوكيل الرسمي لطمس الحضور المدني والحداثي في المنطقة، إضافة إلى الصبغة الصهيو-أمريكية.  ويرى كثيرون أن الناصرية أيضا تلاشت، ولم يبقى منها سوى صورة ذلك العربي الدمث، جمال عبد الناصر، بعد أن التهمها الكمبرادور المصري. ماذا أنتجت منظمة التحرير بكل تلاوينها وتفريعاتها والتي تفوق السبعين فصيلا، سوى طابور خامس للاحتلال، وامتداد للمشاريع الإقليمية الرجعية؟!  أنريد محاكمة التاريخ هنا أم نريد اجترار خطاب تساقَطَ تحت نير تخلفه كما يشير نديم البيطار، قبل بدء المعركة.  ماذا نريد حقا؟؟؟

فلنبدأ مجددا في التفكير في التخلص من كل الخردة التقليدية، ولنجعل همنا الحاضر القريب والمستقبل البعيد. لا تستطيع الأفكار المتمحورة حول الماضي أن تنتج سوى عابثين. الأمة لم تُهزم بعد، ولن تهزم قط، لقد خسرت معارك كثيرة على مدى قرن لكنها لم تترضرض ولم تُسحق.  وهذا ما يجعل الوقت مواتياً دائما لإنتاج الترسانة البشرية.  فمصر رغم كل ما أحاط بها، لا تزال موجودة على الخارطة الجيوسياسية، وسورية أيضا لم يستطع عدوان غاشم لأكثر من خمس سنوات، أن يغير فراش في القصر الرئاسي.

لنعد لتحديد الموقف السياسي النابع من العقل لا الإيديولوجيا، ولننظر إلى الواقع كرافد علمي والوقائع كمحرك ومحفّز للعمل، لا لكتيّبات ابن باز والغزالي في أقصى اليمين إلى رأس المال في أقصى اليسار. فماركس لم ينظّر للدفاع عن المكاسب القومية العربية الوحدوية ولو على متر واحدٍ من الأرض، بل نظّر للدفاع عن حقوق العامل البولوني اليهودي. نعم نحتاج إلى ثورة ديمقراطية، لكن هل هناك إجماع على مستوى القاعدة على تعريف واضح للثوابت القومية، التي تنطلق من مصلحة الأمة، وتعتبر الأرض محورا للصراع؟  إن الشارع اليوم ينساق للدفاع عن أردوغان (حتى على مستوى بعض النخب) أكثر من الدفاع عن مصالحه الضيقة، نتيجة الاستلاب والتهميش التاريخي إضافة إلى النخر الطائفي.  ولم يختلف الماضي كثيرا بالمناسبة؛ إذ يشير عبدالله العروي إلى أن القومية والماركسية (السلفيتين) المجترتين، كانتا تجهلان الخطوط العريضة في تاريخ الاقتصاد، والنظريات والحركات الاجتماعية، وحتى القضايا الرئيسية في التاريخ الإسلامي، عندما تصدتا لتشخيص مشكلات مصر والمنطقة العربية.  وقد برز ذلك الضعف وضيق الأفق في كتابة “الميثاق” الذي يمثل حصيلة النخبة المثقفة الملتفة حول عبد الناصر. نحتاج إذن إلى تحديد واضح ودقيق لطبيعة المشاكل التي تواجهها الأمة في ظل واقع مغاير تماما عن واقع الستينيات والسبعينيات. نحتاج لنفَس جديد عقلاني دافعه الأساسي ليس أخلاقيا فقط، وليس اقتصادياً محض، بل قوميٌ، ثقافيٌ، تاريخيٌ، باحثاً عن مستقبل مشرق كما يقول العروي أيضا.

 

محمد عزة دروزة ثائراً في كل الميادين

 

نسرين الصغير

 

ولد محمد عزة دروزة في شهر حزيران من العام 1887 في مدينة نابلس في فلسطين، وتوفي في العام 1984 في سورية.  بدأ  تعليمه في نابلس حيث اجتاز المرحلة الإعدادية وتخرج منها في العام 1906.  درس القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والقرآن الكريم وعلم التجويد على يد أساتذة مثل “الشيخ عبد العظيم أغا طوقان – معلم القرآن والتجويد، والشيخ عارف أبو غزالة، والشيخ إبراهيم الدرويش، صاحب أحد الكتاتيب المشهورة بنابلس آنذاك- المدرسة الدرويشية”، وغيرهم.

بعد أن انتهى من المرحلة الإعدادية، شق حياته ثلاثة محاور متوازية: الوظيفة والعمل السياسي والوطني والنشاط العلمي، فلم يكتفِ بما اكتسبه من أساتذته وشيوخه، فكان العلم والدراسة بالنسبة له أمراً مستمراً لا يقتصر على ما ناله في المدرسة، فاستكمل رحلة العلم والدراسة.

بدأ حياته العملية في دائرة البرق والبريد العثمانية من عام 1907 إلى 1918 وتنقل بين وظائف مختلفة، فبدأ مأموراً، فمديراً، فمفتشاً إلى أن أصبح سكرتيراً لديوان المديرية العامة في بيروت. بعد انتهاء الاحتلال العثماني عمل لمدة أقل من سنة كاتباً في ديوان الأمير عبدالله بن الحسين الأول في عمان عام 1920، وانتقل بعدها ليعمل رئيساً لمدرسة النجاح الوطنية الابتدائية الثانوية بين عامي 1922- 1927، ثم انتقل للعمل مأموراً للأوقاف الإسلامية، والذي كان يتبع للمجلس الإسلامي الأعلى، وفي عام 1939 تمت إقالته منه.

كان، وهو على رأس عمله في البرق والبريد، يقرأ بعض الجرائد التي تتسرب لنابلس بالبريد قبل إعلان الدستور العثماني عام 1908، مثل “المؤيد، الأهرام، والمقطم”. انتسب لنادي الاتحاد والترقي في نابلس، ولكن سرعان ما تبين لعزة دروزة أن جماعة الاتحاد والترقّي يرسمون لخطة استعلاء عنصري تركي تتضمن إبقاء العرب عند درجة من الأتراك في الدولة، فانفصل عن النادي وأسس مع بعض رجالات نابلس فرعاً لحزب الائتلاف الذي أسس ليكون معارضاً للاتحاد والترقي، وكان سكرتيراً له.

عام 1911 قام دروزة وبعض رجال نابلس بتأسيس الجمعية العلمية، وكان الهدف منها إنشاء مدارس عربية للتعليم، لأن المدارس في ذلك الوقت كانت تعلم باللغة التركية، التي فرضها الاحتلال العثماني، حتى لتدريس اللغة العربية! وفي عام 1914 أسس مع بعض رفاقه فرعاً لحزب اللامركزية الذي كان يطمح لمنح البلاد العربية شيئاً من الاستقلال المحلي.

أما في عام 1916 فقد انتسب سراً لجمعية “العربية الفتاة” التي كان من أهدافها استقلال البلاد العربية عن الاحتلال العثماني، وكان يلتقي في أثناء تجواله الذي كان يقوم به بحكم وظيفته التفتيشية ببعض رفاقه السريين في الجمعية هنا وهناك، ويتداولون فيما يجب أن يعملوه لتحقيق الهدف.  وفي هذه الأثناء انفجرت الثورة العربية في الحجاز، وعندما قاد فيصل الجبهة الشمالية الشامية، تهيأ مع المرحوم الدكتور أحمد قدري للالتحاق بها، ولكن الظروف حالت دون ذلك.

بعد انتهاء الاحتلال العثماني وجلائه عن فلسطين، عاد من بيروت إلى نابلس، وبعد إعلان وعد بلفور عام 1917 بدأ بمرحلة جديدة من حياته وهي النضال ضد الانتداب البريطاني والإنجليز، وقام بتأسيس الجمعية الإسلامية المسيحية عام 1918، وكان ممثلها مع بعض رفاقه، وعقدوا أول مؤتمر عربي فلسطيني في بدايات عام 1919، وكان لدروزة نشاط بارز في المؤتمر وفي وضع قراراته ومن أهمها أن فلسطين جزءٌ غير منفصل من سورية الجنوبية وجزء لا يتجزأ من الوطن العربي، كما رفض المؤتمر وعد بلفور والهجرة اليهودية لفلسطين والانتداب الإنجليزي، وبعدها قرر عزة دروزة السفر لسورية لكن السلطات الإنجليزية منعته.

بعد معركة ميسلون وسقوط الحكم الفيصلي عاد هو ورفاقه لفلسطين وبدأوا في مجابهة ومحاربة الصهاينة فيها، وقام دروزة بتفعيل الجمعية الإسلامية المسيحية في نابلس التي تحول اسمها إلى الجمعية الوطنية وظل سكرتيراً لها حتى عام 1932.

في عام 1932 أنشأ مع بعض رفاقه حزباً في فلسطين اسمه “حزب الاستقلال”، كفرع لحزب الاستقلال في دمشق، على أساس استقلال فلسطين ووحدتها مع سورية والوطن العربي، ورفض وعد بلفور واتفاقيات التقسيم في الوطن العربي، ورفض الانتداب على الوطن العربي من الإنجليز وغيرهم، وكان شعار الحزب النضال ضد الإنجليز أولاً لأنهم أصل البلاء، وكان نشاط دروزة في الحزب بارزاً ومميزاً.

تمّت ملاحقته هو ورفاقه واعتقالهم أكثر من ثلاثة أشهر، هرب مع بعض رفاقه بعدها إلى بغداد والرياض كموفدٍ عن الحزب في سياق اللجنة الملكية، ولما تقرر اتصال اللجنة العربية باللجنة الملكية البريطانية، كان دروزة من الذين تكلموا أمام اللجنة ملقياً نبذة تاريخية وافية لإثبات عروبة فلسطين، وعندما أصدرت اللجنة الملكية قرارها بتقسيم فلسطين رفض القرار ثم خرج من فلسطين مندوباً عنها لحضور المؤتمر العربي العام الذي عُقد في أيلول من عام 1937 في بلودان بدعوة من اللجنة العليا ولجنة الدفاع عن فلسطين في سورية التي كان يرأسها نبيه العظمة.

اختير دروزة سكرتيراً عاماً للمؤتمر وألقى كلمة فلسطين، وذهب بعدها إلى بغداد لإنشاء لجنة الدفاع عن فلسطين في العراق، وتم إنشاء اللجنة بالتعاون مع رجالات العراق الرسميين والوطنيين، وتزامن تأسيسها مع انفجار الثورة الثانية في فلسطين وإعلان حالة الطوارئ فيها، وبعد إعلان حالة الطوارئ حلّ الإنجليز المجلس الإسلامي واعتقلوا أعضاء اللجنة العربية العليا، وتمّ نفي دروزة وبعض رفاقه إلى جزيرة سيشل في المحيط الهندي، وصدر قرار بمنعه ومنع كل أعضاء اللجنة العليا المقيمين خارج فلسطين بالعودة لها، وظل هذا القانون معمولا به حتى نهاية الانتداب البريطاني.

وفي عام 1939 حوكم دروزة أمام محكمة عسكرية، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات أمضى منها أربعة أشهر في قلعة المزة، وستة عشر شهراً في قلعة دمشق، وأفرجَ عنه مع عدد من المسجونين السياسيين على إثر استسلام فرنسا للألمان في أوائل 1941.

تم إرسال دعوة من بريطانيا لمؤتمر عربي في لندن وذكر اسم دروزة ممثلاً للجنة العليا لكنه اتفق مع رئيس اللجنة على البقاء في سورية ولبنان لمتابعة مهامهم وعملهم القومي الذي يهدف لتحرير فلسطين وقد أصدر الإنجليز، كنتيجة للمؤتمر، الكتاب الأبيض الذي وعدوا فيه بوقف الهجرة وبيع الأراضي وقيام حكم وطني، وهي المطالب الثلاثة التي كانت شعار العرب في تلك المرحلة، ولكن تبين فيما بعد أن الإنجليز فعلوا ذلك لمسايرة الموقف المتأزم وكسباً للوقت.

بعد غزو الإنجليز والديغوليين سورية عام 1941 غادرها في شهر أيار إلى تركيا لاجئاً وقضى فيها ما يقارب الأربع سنوات، وفي عام 1945 بعد أن نالت سورية استقلالها عاد إلى سورية وأعاد تشكيل اللجنة العربية العليا تحت اسم الهيئة العربية العليا برئاسة مفتي فلسطين، واعترفت بها جامعة الدول العربية كممثل لفلسطين، لكن سرعان ما قدم استقالته منها لأنه لم يرتح لأسلوب العمل فيها.

في العام 1947 ساءت حالته الصحية وأجرى عملية المرارة في المستشفى الأمريكي في بيروت مما دعاه للاعتكاف في بيته في دمشق ليبدأ مرحلة مكثفة من تأليف الكتب قلل فيها من نشاطه السياسي.

دُعي إلى مؤتمر غزة الوطني الذي أعلن قيام حكومة عموم فلسطين 1948 فلم يستطع التلبية. أيد محمد عزة دروزة قيام منظمة التحرير الفلسطينية التي رأى فيها بارقة أمل لقيام حركة تحرير شعبية لوطنه، وقد اختير عضواً في المؤتمر الذي دعا إلى إنشاء المنظمة والمؤتمرات الأخرى التي تبعته فلم يستطع المشاركة.

موقف دروزة من الوحدة المصرية السورية: عندما تم إقرار الدستور المصري الجديد واعتبار مصر جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية اعتبر دروزة أن الظروف باتت مهيأة وستجذب الأقطار العربية الأخرى إليها. آمن دروزة أن مصر بمواردها البشرية والاقتصادية ستتمكن من لعب الدور نفسه الذي لعبته بروسيا في الوحدة الألمانية وأن عبد الناصر سيكون بسمارك آخر، يقول دروزة عن عبد الناصر: “منذ الثورة العربية الكبرى، لم يوجد زعيم عربي على مستوى الأحداث سوى جمال عبد الناصر”.

اجتهد محمد عزة دروزة وكتب في أكثر من محور منها الإسلامي والقومي العربي والفلسطيني والتاريخي  وكان من أهم مؤلفاته:

الإسلامية

  • عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيئته قبل البعثة (صور مقتبسة من القرآن الكريم(
  • الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة، وطبع في مجلدين كبيرين
  • التفسير الحديث، صدر في 12 جزءاً
  • اليهود في القرآن الكريم
  • القرآن والمبشرون
  • المرأة في القرآن والسنة
  • الإسلام والاشتراكية
  • الجهاد في سبيل الله في القرآن والحديث
  • القواعد القرآنية والنبوية في تنظيم الصلات بين المسلمين وغير المسلمين

القومية

  • مشاكل العالم العربي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
  • الوحدة العربية
  • حول الحركة العربية الحديثة”. في ستة أجزاء
  • نشأة الحركة العربية الحديثة

الفلسطينية

  • مأساة فلسطين
  • فلسطين وجهاد الفلسطينيين
  • القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها
  • قصة الغزو الصهيوني
  • في سبيل قضية فلسطين والوحدة العربية
  • من وحي النكبة
  • صفحات مهملة ومغلوطة في سيرة القضية الفلسطينية وصلتها بالحركة القومية العربية
  • العدوان الاسرائيلي القديم والعدوان الصهيوني الحديث ومراحل الصراع جزآن

تاريخية

  • تاريخ الجنس العربي في مختلف الأطوار والأدوار والأقطار من أقدم الأزمنة، صدر في ثمانية مجلدات
  • العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي من القرن الثالث إلى القرن الرابع عشر الهجري، وصدر في تسعة أجزاء
  • دروس التاريخ العربي من أقدم الأزمنة حتى الآن، كتاب مدرسي للصفوف الابتدائية
  • وفود النعمان على كسرى أنوشروان، رواية قومية 1911
  • مختصر تاريخ العرب والإسلام
  • دروس التاريخ المتوسط والحديث
  • عروبة مصر قبل الإسلام وبعده

قال فيه المناضل الراحل ناجي علوش:

ويرى الأستاذ دروزة أن الطريقة الثالثة من طرق تحقيق الوحدة العربية. قد تكون الأكثر انطباقا على حالة الأمة والبلاد العربية اليوم.  كما يرى “ضرورة تبنى إحدى الدول العربية الدعوة إلى الوحدة، وحمل رايتها.

وهو يرشح مصر وسورية لذلك، موضحا كيف راهنت الحركة القومية على العراق الفيصلي في البدء، وكيف كان هو من دعاة هذا الاتجاه. إلا أن وجود دولة تتبنى الوحدة لا يكفي، فهناك حاجة ماسة لوجود جهاز شعبي، ومهما يكن من أمر فإن الحاجة إلى جهاز قومي، يتفرغ للدعوة إلى الوحدة، ويعمل في سبيلها، ويقوم بمختلف المساعي والاتصالات في مختلف أجزاء الوطن، ومع مختلف هيئاته الشعبية والحكومية، تظل شديدة كحاجتها إلى دولة تتبناها، حيث يكون الجهاز عضدا شعبيا لهذه الدولة.

ولقد سعى الأستاذ محمد عزة دروزة إلى بناء هذا التنظيم بعد احتلال فلسطين عام 48، وعلى أساس الدعوة لاتحاد سورية والعراق، ثم تبنّى الدعوة لوحدة سورية ومصر، وشجعه على ذلك قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو(تموز).  واتصل من أجل ذلك بالعديد من زملائه في الحركة القومية ومنهم أحمد قدري وبهجت الشهابي وعبد القادر الميداني وغيرهم.

ولكن الجهود لم تؤد إلى تحقيق هذه الغاية. وعلى الرغم من قناعة محمد عزة دروزة بالوحدة الكاملة، وإصراره عليها، طوال حياته، فإنه كان يرى أن الظروف لا تسمح بتحقيق الوحدة الشاملة، ولذلك دعا إلى الاتحاد، وقدم مشروعا اتحاديا. ولقد كان يرى في الاتحاد خطوة على طريق الوحدة، ولم يكن يراه حلا نهائيا، ولم يكن يعتبره مشروعه، وأنما كان يلجأ اليه، لزيادة التفاعل القومي، وردّ المخاطر الخارجية.

من هذا المنطلق أيّد مشروع الاتحاد بين سورية والعراق في أوائل الخمسينات، وأيد مشروع الاتحاد بين مصر وسوريا سنة 1956، وأيد وحدة مصر وسوريا سنة 1958، معتبرا “أنها تجاوزت كل ما كان متوقعا”. وظلّ وفيا للوحدة، عند حدوث الانفصال، حتى أنه قاطع زميلا “عزيزا” عليه، مثل شكري القوتلي، لأنه أيد الانفصال سنة1961 .

((ناجي علوش مختصرات قومية… مراكز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988م، ص 37 ))

بدأ حياته كما أنهاها أكثر من تسعين عاماً من النضال ضد المحتل بغض النظر عن جنسيته وديانته: تركي، إنجليزي، فرنسي أو صهيوني. عاش حياته يحلم في دولة الوحدة العربية وعاش في سورية ولبنان أكثر مما عاش في فلسطين، ولم يكن يؤمن بالحدود الوهمية التي زرعتها سايكس بيكو لتمزيق الأمة العربية.

 

 

* سلسلة قواعد المسلكية الثورية

5) العلاقات الأخوية:

عبدالناصر بدروشي

“يمكن أن نعرّف التنظيم أيضا على أنه: مجموعة أفراد زائد الروابط فيما بينهم”، هكذا عرفنا التنظيم في افتتاحية سلسلة القواعد المسلكية الثورية.  كما أكّدنا على أهمية الروابط التنظيمية باعتبارها المحدد الأول لصلابة وقوة التنظيم، فهي ليست أي روابط  بل روابط مؤسسية، بما تحتمله المؤسسية من تقاليد لإدارة العمل.

تأتي الحركات الثورية لتحدد علاقات جديدة، تربط مجموعة من أفراد المجتمع بعضهم ببعض، بروابط جديدة تفوق في قوتها الروابط الاجتماعية السائدة، إلا أنه لا يمكن اختصار العلاقات بين أفراد التنظيم على أنها روابط مؤسسية فحسب، على أهمية هذه الأخيرة، فأفراد التنظيم ليسوا “روبوتات” تؤدي وظائف ومهمات معينة، وليسوا موظفين تربطهم علاقة عمل ميكانيكية جافة.

ولئن استفاد المشتغلون في الحقل السياسي والتنظيمي من بعض المعارف والعلوم الحديثة كعلم الإدارة مثلا، فإنهم يجب أن يدركوا جيدا أن التنظيم يختلف عن المؤسسات الإدارية، فالعلاقة بين الموظفين في مؤسسة تجارية مثلا ليست هي نفسها العلاقة التي تربط المناضلين في إحدى التنظيمات الثورية

إنّ أعضاء الحركة الثورية، الذين تجمعهم فكرة واحدة ويتوجهون نحو هدف محدد ويختارون أسلوبا موحداً،  يتمازجون روحا، وتظلّلهم في أحلك الظروف أجنحة قانون المحبة، فتُنتزع من بينهم كل الشوائب وتتعمّق روح الأخوة فيما بينهم وتجعلهم يسْمُون على جراحاتهم الذاتية في سبيل الهدف المشترك، وتصبح صورة القوى المعادية الرامية لإفنائهم والبطش بهم جميعاً، هي التي تجذب أبصارهم وتشدها نحو التناقض الرئيسي.

إنّ روابط الممارسة اليومية، التي يعمّدها الجهد والعرق والدم، هي التي تجعل الأعضاء ينظرون إلى بعضهم بعضا كقوة متلاحمة تشد أزر بعضها، ولا يستطيع أي منهم الاستغناء عن الآخر. إنّ تعميق هذا الشعور بالتكامل الحركي والمشاركة الثورية، يمتّن الروابط والعلاقات بين الأعضاء، ويجعل الحركة كالبنيان المرصوص، ولا تستطيع كل القوى ان تلحق به أي اذى. إن نقطة الضعف في الحركات الثورية هو قدرة أعدائها على تصديعها من الداخل.. وتشتيتها وتشرذمها تمهيدا لشقّها، فمن الطبيعي أن تحدث بعض الخلافات والمشاكل أحيانا بين أعضاء التنظيم الواحد، لكن الحركة الثورية تفرض على كل أعضائها أن يحلّوا ما ينشأ بينهم من مشاكل وخلافات بالحوار الهادئ والنقد والنقد الذاتي.. إنّ سيادة قانون المحبة داخل الحركة الثورية هو الذي يضمن تماسكها وتلاحمها ورأب أي صدع فيها بأسرع مما يتوقع الأعداء، حيث أن الشعور بالمحبة والأخوية داخل الحركة الثورية، يجعل كل الأعضاء يفهمون أنّ خلافهم وتشتتهم لا يفيد إلا أعداءهم.. وأن أمراضهم لا يستطيع أن يعالجها إلا هم، بالصبر.. والحزم.. والمحبة.

إنّ العلاقات الأخوية داخل أطر الحركة الثورية، تنعكس بصورة دائمة على العلاقات التي تنشأ بين الحركة الثورية والمجتمع، وكلما سادت هذه العلاقات روح الأخوة والرفاقية، كلما اجتمع حولها مزيد من الجماهير. إن طبيعة العلاقات التي تنص عليها اللوائح والأنظمة الحركية، والتي يتوجب على الأعضاء التمسك بها واحترامها، ليست هي فقط التي توطّد علاقات الترابط والتلاحم داخل الحركة الثورية.

إنّ العلاقات الحركية الأخوية، هي البديل الأمتن عن كل أنواع العلاقات الأخرى. وهي التي تحارب كل أنواع العلاقات المرَضية الشاذة داخل صفوف الحركة الثورية. إنّ دور العلاقات الأخوية في تعميق مفهوم الشعور بالمحبة بين الأفراد واعتزاز بعضهم ببعض، يلتحم مع الشعور بحرصهم وحمايتهم لبعضهم البعض من كل منزلق أو خطر أو خطأ. إنّ المناضلين الأقوياء، الذين يتميزون بالثقة العميقة بأنفسهم وبحركتهم هم الذين يعمّقون مفهوم الروح الأخوية، وينطلقون من مبدأ الوحدة الدائمة للحركة، ويشعرون ويتصّرفون على أساس أن الحركة لجميع المناضلين من أبنائها، وأنّ الأخوة التي تربط بين الجميع هي أواصر المحبة الحركية.

إنّ أي تكتّل أو تشرذم يقلل من دور الروابط الحركية ويعمّق مفاهيم الشللية والاستزلام، أياً كانت الدوافع له. انما هو خروج عن مفهوم الخط الثوري وتحطيم العلاقات الأخوية.

إنّ المناضلين الأكثر وعيا وإيمانا بحتمية النصر وشجاعة واستعداداً للتضحية، هم الذين يناضلون من أجل تعميق مفهوم العلاقة الأخوية والروابط الحركية.

الصفحة الثقافية 1:

حكايات أموات لا يموتون في الفيلم العراقي (بغداد خارج بغداد)

 

طالب جميل

 

ليس مثل باقي الأفلام، هو الفيلم العراقي (بغداد خارج بغداد)، الفيلم الذي يحمل في ثناياه استعراضاً ثقافياً وتاريخياً لحضارة العراق عبر العصور، من جلجامش إلى بدر شاكر السياب، وفيه معالجة مختلفة لفكرة الغربة عند المثقف، وحكايات ليست مثل باقي الحكايات التي يمكن مشاهدتها في فيلم سينمائي آخر.

الفيلم غير مبني على قصة أو حدوتة معينة لها بداية وعقدة ونهاية، يبدو فيه جلجامش حاضراً وهو يربط مشاهد وفصول وشخصيات الفيلم، فهو الذي يقوم بنقل شخصيات الفيلم القادمة من القرن العشرين بين ضفتي نهر دجلة بالزورق الذي يبدو على هيئة (قفة)، وهي مستعملة من العهد السومري.

عرض متماسك رغم كل ما يحمل من قصص وحكايات تتداخل وتتقاطع من دون أن تفقد وحدة الموضوع، قائم على ثنائية الموت والحياة، ويبدو صراع جلجامش مع الخلود هو مفتاح الحكاية ووقودها إلى النهاية، وصراع شخصيات الفيلم مع الموت الذي قهرهم جميعاً، مع الأخذ بالاعتبار أن العرض لا يخلو من رقص وغناء وموسيقى وشعر في مدينة (بغداد) التي كانت عبر التاريخ مليئة بالحضارة والفنون والآداب.

يستلهم كاتب ومخرج الفيلم العراقي (قاسم حول) أسطورة جلجامش نصف الإنسان ونصف الإله الذي يتعذب بعد أن يشهد تجربة الموت إثر وفاة صديقه الحميم أنكيدو الذي يرفض أن يدفنه تشبثا بفكرة الأبدية فيترك جثته على الفراش تتعفن، ثم يذهب حزينا ليبحث عن سر الخلود فتظهر له في حانة إلهة الخمر السومرية (سيدروي) فيعرب لها عن خشيته من الموت فتقول له أن الموت قدر على الإنسان وتنصحه بنبذ الحزن والاستمتاع بالحياة.

الفيلم محمل بالأفكار والمشاعر لمسار شخصيات بارزة في التاريخ الثقافي العراقي في ما بعد الحرب العالمية الأولى منهم الشاعر جميل الزهاوي، والشاعر معروف الرصافي والمطرب مسعود العمارتلي، أو بدقة أكثر، المطربة مسعودة التي تنكرت في زي رجل كي تتمكن من ممارسة شغفها بالغناء واشتهرت باسمها الذكري، وأخيرا الشاعر بدر شاكر السياب.

في تقديمه لحكايات أولئك المبدعين، والذي تنتهي حكايات كل واحد منهم بموته ودفنه، يقصد المخرج أن يجعل من كل حكاية مرثاة لمبدع رحل عن الدنيا، وهو رحيلٌ عزاؤه الوحيد أنهم دفنوا في أرض العراق بعكس المبدعين العراقيين في الزمن المعاصر الذين يضطرون للموت في الغربة.

تظهر في الفيلم أمسيات ومجالس الشاعر الكبير جميل الزهاوي في أحد مقاهي بغداد، حيث كان يجلس بصحبة الشاعر معروف الرصافي، والذي يبدو كرجل شديد الزهو والاعتداد، لم يكن يسمح لأحد بالجلوس مكانه في المقهى، وكان يمارس نوعا من الأبوية على الرصافي ويعتبره أحد تلاميذه في الشعر، ويقول إن أحمد شوقي ليس بأهمية “تلميذه” الرصافي!

لكن تبدو قصة موت بدر شاكر السياب هي الأكثر تاثيراً في هذا الفيلم، ففي المشهد الأول نرى السياب في سيارة أجرة متجها للكويت بحثا عن عمل بصحبة سائق لا يعرف من هو السياب، بل يسأله ما إذا كان يعرف القراءة والكتابة مبديا استنكاره الشديد لذهاب العراقيين للعمل خارج البلاد، وفي المشهد الثاني نرى السائق نفسه بعد سنوات عائدا بصحبة شخص كويتي صديق للسياب مصطحبين معهما جثمان الشاعر الراحل. أما في المشهد الثالث فيهطل المطر بغزارة ويوقف السائق السيارة لتغطية جثمان السياب الموجود فوق سطح السيارة فيقول له الصديق الكويتي: السياب يحب المطر (في إشارة ذكية لقصيدة السياب الشهيرة “أنشودة المطر”).  في المشهد الرابع يقوم الإثنان تحت وقع المطر الغزير بدفن السياب على جانب الطريق، إنما في أرض العراق. ويبدو المشهد موجعاً لدرجة يلّخص فيها النهاية المؤلمة لقامة كبيرة مثل السياب.

ورغم حجم الحزن الموجود في الفيلم، إلا أنه لا يخلو من بعض المشاهد الكوميدية ومنها مشهد إلقاء الرصافي قصيدته الشهيرة التي قال فيها “علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف” أمام جمع من المواطنين الذين يصيبهم الحماس فيهتفون ضد الاستعمار البريطاني، ومن بين المشاهد الممتعة أيضا في الفيلم مشهد كيفية تقبّل الناس أول عرض سينمائي في العراق، ومشهد آخر حول بداية انتشار الاختراع الجديد جهاز (الغرامافون) بين الناس أي آلة الحاكي، عدا عن المشهد الذي يكتشف من خلاله (الجقمقجي) – وهو الشخصية المتحضرة القادمة من المدينة- الصوت الساحر للمغنية العراقية مسعودة العمارتلي التي كانت خادمة في أحد بيوت الأعيان بقرية من قرى الأهوار، ويدعوها إلى بغداد فتذهب بعد أن ترتدي ملابس الرجال، وهناك ينتج لها بعض الاسطوانات لأغانيها، وتصبح معروفة باسم مسعود العمارتلي، وتذيع شهرتها باعتبارها رجلا، الى أن يكتشف أمرها على الأغلب، فتموت مسمومة فيما يشير الفيلم إلى أنه نتيجة مؤامرة للخلاص منها على الأغلب من أقاربها وعشيرتها.

أما ظهور شخصية جعفر لقلق زاده (الذي يقوم بدوره المخرج قاسم حول نفسه في أداء مدهش)، وهو شخص حاول أن يظهر على المسارح بعد فترة الملكية في العراق، كان يرغب بالتمثيل على المسارح الجادة ولكنه كان يرتجل المشاهد، وكانت لديه القدرة على مزج الحكمة والفلسفة بالسخرية حيث كان يقدم مشاهده الساخرة التي تبدو تهريجية، لذلك كان يحضر المناسبات الوطنية والشعرية التي يؤديها معروف الرصافي ويقودها منددا بالاستعمار البريطاني، ويظهر جعفر لقلق زاده في إحدى الحانات حيث ترقص راقصة تركية هي (مجيدة)، التي يتقاتل عليها الرجال، ويصفها جعفر بسخرية بأنها كانت أحد البنود الأساسية في معاهدة استقلال العراق بين بريطانيا وتركيا. وعندما ضربه أحد الأشخاص السكارى متهما إياه بالتهريج قال له (لو كنت مهرجا أنت ما تقدر تشوفني) يعني أنا لو كنت مهرجا لأصبحت حاكما أو رئيسا وتتعذر عليك مقابلتي، في إشارة ساخرة منه إلى أن الحكام هم المهرجون وليس هو المهرج.

 

 

في المشهد الأخير من الفيلم نشاهد رجالا أقرب الى الأشباح يصعدون سلما أسطوريا شامخا منتصبا وسط الجبال، وكائنات أخرى تهبط في منطقة تبدو مليئة بالمقابر وهناك رجلان يتهامسان داخل بقايا غرفة من العصور السحيقة، حارس المقابر ورجل يسأله عن طبيعة المكان والحارس يقول له إن المكان مسكون بالأرواح، وأنه يشاهد أناسا قادمين من عصور أخرى قديمة، ويسمع أصواتا تتهامس في الليل، ويرى شخوصا يدلفون إلى الغرف، وعندما يسأله لماذا لا يطلق النار عليهم فربما هم من اللصوص، يجيبه في بلاغة وشموخ: لا يمكنني ذلك.. لا أستطيع أن أقتل أسلافنا… لقد ذهب التاريخ وأخشى أن تختفي الجغرافيا أيضا!

يعتبر الفيلم تجربة غير تقليدية في السينما العربية، ولا يحمل الفيلم أي إدانة لأي واقع معاصر في العراق بقدر ما يحمل من استنهاض لأمجاد شخصيات كان لها تأثير كبير في الثقافة والفن والحضارة العراقية ويشكل الفيلم نوستالجيا مفعمة بالحنين إلى الماضي.

يتميز الفيلم بالأداء الرائع لجميع الممثلين والممثلات بلا استثناء، وغالبيتهم من الفنانين العراقيين من ذوي الخبرة الكبيرة والطويلة في المسرح والسينما العراقيين، والفيلم من إنتاج وزارة الثقافة العراقية، وتم تنفيذه بمناسبة تسمية بغداد عاصمة للثقافة العربية في العام 2013، وهو من كتابة وإخراج (قاسم حول)، أما أبرز أبطال الفيلم فهم رشا الكناني، فلاح محسن، عبدالمطلب السنيد، نزاز السامرائي.

و(قاسم حول) مخرج عراقي، وهو أصلا مؤلف وممثل مسرحي، كان كاتبا وممثلا في الفيلم العراقي الشهير (الحارس) الذي حصل عام 1968 على الجائزة الفضية من أول مهرجان للسينما العربية وهو(الأيام السينمائية في قرطاج). أخرج قاسم حول في لبنان في العام 1982 أول فيلم روائي فلسطيني طويل هو (عائد إلى حيفا) عن رواية غسان كنفاني، كما أخرج في العراق الفيلمين الروائيين (بيوت في ذلك الزقاق) عام 1975 و(المغني) عام 2013، وله عدد كبير من الأفلام التسجيلية منها (الأهوار) عام 1975.

 

الصفحة الثقافية 2:

رواية عزازيل، بين قسوة العقل ولين العاطفة

 

معاوية موسى

باسمك أيها المتعالي عن الاسم،

المتقدس عن الرسم والقيد والوسم

أخلي ذاتي لذاتك، كي يشرق بهاؤك الأزلي على مرآتك

وتتجلى بكل نورك وسناك ورونقك

باسمك أخلي ذاتي لذاتك، لأولد ثانية من رحم قدرتك

مؤيدا برحمتك

بهذه اللغة البالغة الدقة والإثارة والفصاحة، لغة، تغشيها مسحة تصوّف، كما في صلاة الراهب هيبا، نبدأ طريق التعرف على إحدى أهم الروايات العربية في القرن الواحد والعشرين، ألا وهي رواية عزازيل للكاتب العربي المصري يوسف زيدان، حيث تدور أحداث الرواية في القرن الخامس الميلادي ما بين صعيد مصر والإسكندرية وشمال سورية، عقب تبنّي الإمبراطورية الرومانية للدين المسيحي، وما تلا ذلك من صراع مذهبي داخلي بين آباء الكنيسة من جهة، والمؤمنين الجدد والوثنية المتراجعة من جهة أخرى.

الرواية تحكي قصة الراهب هيبا ورحلته في طلب العلم (الطب واللاهوت).  ويستعرض فيها الكاتب أحداثا تاريخية مظلمة من التاريخ المسيحي، ويسلّط أيضاً الضوء على شخصيات كبيرة كانت مؤثرة في تلك الفترة.

رحلة للبحث عن الحقيقة، عبر الراهب هيبا، وكشف غطاء لتاريخ الفكر الكنَسي ما قبل عصور التنوير، وهي بالمناسبة رواية تدفع القارئ باتجاه إمكانية إسقاطها على واقعنا الحالي لتعرية عدة قضايا فكرية وسياسية ودينية، من خلال الربط بين الفكر الكنَسي المتشدد الذي حكم على الفيلسوفة الاسكندرانية (هيباتيا) بحرقها حيّة، كونها مخالفة للشرائع المنصوص عليها كنسياً، وما بين الفكر الإسلامي المتشدد الذي يمثّله السلفيون في عصرنا الحالي، وما بين أساقفة الفكر الكنسي في الإسكندرية آنذاك، وهو ما يختلف عن الفكر الكنَسي المتمنطق في أنطاكية وقليل منه في روما مهد الفكر الكنسي.

الرواية محاولة من المؤلف لنقل مادة تاريخية من خلال قصة، الجوهر الأساسي فيها ليس الخلافات الكنائسية حول طبيعة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والصراعات على الحكم بين المجمع الكنائسي فحسب، ولا نشأة وتطور الصراع المذهبي بين الطوائف المسيحية في المشرق فقط، وإنما ارتقى يوسف زيدان بالفكرة الكامنة داخل الرواية، إلى أن وصل بنا إلى المغزى الأساسي منها، وهو الصراع الكامن داخل النفس البشرية حول الحقيقة الكونية من جهة، وحول خداع النفس والسعي وراء الشهوات من جهة أخرى.

 

والرواية في تفاصيلها لمن لم يقرأها، تحكي قصة راهب اسمه هيبا يخرج من أسوان بصعيد مصر حيث توشي أمه المسيحية بوالده الوثني عند أقاربها فيتكالبون عليه ويقتلونه أمام عيني هيبا، وتتزوج أمه واحداً من قتلة والده.

يذهب هيبا إلى عمه فى نجع حمادي ليقيم معه، وهناك ينصحه عمه بتعلم الطب والمسيحية فى إخميم، يذهب هيبا إلى إخميم، و يتعلم الطب واللاهوت المسيحي هناك، ثم يقرر الذهاب إلى الاسكندرية للإبحار فى بحور العلم.  وهناك يتعرف إلى هيباتيا، الفيلسوفة العظيمة، ويتعرّف إلى أوكتافيا، الوثنية التي يقضي معها ثلاثة أيام، قبل أن تطرده عندما تعرف أنه مسيحي.

يتجه هيبا إلى الكنيسة بالإسكندرية ويقضي فيها ثلاث سنوات حتى يأتيَ اليوم الذي يتجمع فيه بعض الرهبان والقساوسة بعد خطبة تحريضية من البابا كيرولوس، بابا الكرازة المرقسية ضد هيباتيا الفيلسوفة الوثنية، فيتجهون إليها ويقتلونها بدم بارد، ويرى هيبا مصرع أوكتافيا أمامه أثناء دفاعها عن هيباتيا، فيقرر هيبا فورا ترك الإسكندرية، و ينزع لباس الرهبان، و يذهب إلى القدس حيث أصل ومهد المسيحية.

أثناء وجوده في القدس يتعرف على أسقف كنيسة أنطاكيا البابا تيودور ونائبه نسطور، ويرتاح لهما، وينصحه نسطور بالذهاب إلى أنطاكية فيرفض هيبا، فيعرض عليه نسطور الإقامة فى أحد الأديرة التي تقع بين حلب وأنطاكية والذي يتميز بالهدوء والسكينة. يوافق هيبا ويذهب إلى هناك، ويشتهر بالطب، فيعالج الناس ويحبه الجميع.

تأتي مارتا ذات العشرين ربيعا وتنشأ بينها وبين هيبا قصة حب ثم تعرض عليه الزواج فيتردد، تتركه مارتا ذاهبة إلى حلب للاشتغال هناك بالغناء.  في هذه الأثناء يجتمع المجمع المقدس بعد خلافات كبيرة حدثت بين قساوسة الكنائس الكبرى حول طبيعة المسيح، ويتخلى الجميع عن نسطور الذي أحبه هيبا، وهو كبير قساوسة القسطنطينية فى ذلك الوقت، لصالح منافسه كيرولوس بابا الإسكندرية.

و ينتهي كل شيء، و يختتم هيبا كلامه بقوله: “مع شروق الشمس سأصبح حراً”، فى إشارة منه إلى تركه حياة الرهبنة.

عزازيل عمل إبداعي يتجاوز حقيقته الخاصة، أي أنه يتجاوز كونه رواية، ويتجاوز كونه بحثاً، وهو عمل أدبي معرفي استثنائي بالمقارنة مع ما تفرزه الرواية العربية، والدراسات العربية على حد سواء، لأنه يؤسس لكتابة جديدة، كتابة إبداعية تعبر تخوم التاريخ والمثيولوجيا والأديان والفلسفة بلا تردد، حيث المعرفة والفن وجهان لرواية واحدة. عزازيل رواية ترفع سقف الرواية العربية وتجعل الكتابة تحدياً، وبقدر ما هي

موسوعة معرفية في تاريخ نشأة الصراع “المسيحي- المسيحي”، والصراع “الوثني- المسيحي”، بقدرِ ما جاء العمل منتصرا لقيمه الجمالية بالدرجة الأولى، فالكاتب على كل المعرفة التي يحوزها، يكتب بلغة السؤال، لا بلغة التقرير، وهو لا ينتصر لإيديولوجيا، ولا ينحاز لطرف على حساب آخر لمجرد عرض وجهة نظر شخصية في التاريخ.

عزازيل ليست رواية تاريخية فحسب، عزازيل تحكي قصة أخرى أكثر عمقاً، عزازيل هي رحلة الإنسان المضنية في سبيل البحث عن معنى، هي أيضاً قصة صراع، صراع الأفكار، صراع الأديان والمذاهب، صراع العلم والجهل، الشك واليقين، الخطيئة والفضيلة، لتنتهي في آخر الكتاب بالصراع الأزلي، صراع الخير والشر.

يوسف زيدان كما جاء في قول المطران يوحنا جريجووريوس على غلاف الرواية الصادرة عن دار الشروق في القاهرة، هو أول روائي مسلم، يكتب عن اللاهوت المسيحي بشكل روائي عميق.  وهو أول مسلم، يحاول أن يعطي حلولا لمشكلات كنسية كبرى، إن يوسف زيدان اقتحم حياة الأديرة، ورسم بريشة راهب أحداثا كنسية حدثت بالفعل، وكان لها أثر عظيم في تاريخ الكنيسة القبطية.

عزازيل، الصوت الهامس في الروح المؤمنة التي ظّلت عشرين عاماً تبحث عن هدوئها، وحين أتقنته أو حاولت التأقلم به رغم العذابات، أصيبت بمسّ، فاختفت هي ووُلِدَ عزازيل.

قصيدة العدد: القطيعة

شعر: جورج صيدح

إعداد: أيمن عدنان الرمحي

حلّل الحب ما التعصب حـرّم     فاتـحـدنـا وما خُـلقـنا لنُقــسـم

واعـتنقـنا دـين العـروبـة ديناً     واطّرحنا لزوم ما ليـس يلزم

شَـرَعٌ مـجـدنا سـواء نُـســبنا      أرز صـنّين أو نخيل المقطّـم

بـيـن لـبـنـان والـشـآم لــبــانٌ     رضـعـاه ولـم يـزل يــتـوحّـم

حـدّثـونا عن انفصـال فـلُـذّنـا     باتصال من العـواطف محكم

ربّ سـورٍ على الحدود منيع      إن لـمـسـناه بالـشـعور تـهـدّم

ما بـنـاه علـوج عـهد انـتداب     كـيف تبنيه دولة الخال والعم

يا ولاة الأمور سمعاً لـشكوانا     وســـعـيـاً إن الـمـهـمّ المـقـدّم

أوثقـوا عـروة العروبـة فيـنا      ذهـبـت ريـح أمّـة تـتــقــسّــم

علّـلونا بـوحـدة الـروح تأتي      بعـدها وحـدة التـخوم فتـسـلم

أرشدونا إلى السـبيل المؤدي      لأمان القطيع في غاب ضيغم

وانصرونا على غُلاة أساؤوا      فهم طه وفهم عيسى بن مريم

شــهــد اللهُ مـا أردنــا ولـيـّـاً      غيـر من حـرّر البلاد ونـظـم

والزعيم الذي يـقود الـسّرايا       يوم ثـأرٍ هـو الـنبـيّ الـمعظّـم

* العلوج: جمع علج، وفي الأصل هو الضخم من حمر الوحش.  وتطلق على كفّار العجم، وهنا يراد بها المستعمرون

ملاحظة: أتى اسم القصيدة (القطيعة) من وحي تأثر الشاعر وأساه لما حل في ديار العرب من فرقة وتعصب وجفاء.

– جورج صيدح

هو جورج بن ميخائيل بن موسى صيدح (1893- 1978م)، ولد بدمشق، كان بارزاً باللغة العربية بالمرحلة الابتدائية، فأرسله ذووه إلى كلية عينطورة بلبنان ليتعلّم الفرنسية، فتخرج منها سنة 1911، وترك الدراسة ليلتحق بإخوته في مصر ويعمل في التجارة، فأقام فيها ثلاثة عشر عاماً.  سافر في نهاية عام 1927 إلى كراكاس عاصمة فنزويلا بعد أن أقام بأوروبا لفترة قصيرة ليتزوج خلالها من فتاة فرنسية.  أقام بفنزويلا عشرين عاماً عمل خلالها بالتجارة، ولما بلغ الخمسين انصرف إلى المطالعة والسياحة، فانتقل في عام 1947 إلى الأرجنتين، وأسّس فيها «الرابطة الأدبية» (1949ـ1951) التي ضمّت مجموعة من الأدباء المهاجرين في الأرجنتين.

قال الأديب عيسى فتوح عنه: “صيدح هو الشاعر المتعدد الجوانب الذي ملأ دنيا العروبة بقصائده القومية الرنانة، ووضع كل مواهبه وطاقاته المبدعة في خدمة وطنه وأمته التي حمل همومها”.

ومن شعره في الشوق والحنين إلى قلعة العروبة دمشق مسقط رأسه، يقول:

أمّ الـنـسـور تفـرّسـي وتأمّـلـي    أعرفـت وجه القـادم المتهـلّـل

هـذا فَـتـاك إلى مـتى نـكـرانـه    أو ليس في لُبد سمات الأجدل

ما عابه الجسم المهيض تبدّلت   قــسـمـاتـه والقـلب لم يـتـبـدّل

لولاك يا نادي العـروبة لم أقم     من عـثـرة الآمال جـدّ مؤمّـل

حيّـيت فيك أحبـّـتي فأجـازني     نثر المقفّع بعد شـعر الأخطل

في عام 1952 عاد إلى بيروت، وبقي بها حتى عام 1959، ليستقر بعدها بباريس بشكل دائم ‏إلى أن توفي عام 1978، بعد أن أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات أهمها دواوين النوافل، نبضات، حكاية مغترب، شظايا حزيران، ديوان صيدح، كما قام بنشر عشرين قصيدة في مجلة الأديب اللبنانية.

وضع كتاباً عن الأدب والأدباء في المهجر أسماه “أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية”، وكان أفضل ما خطته الأقلام في هذا الموضوع.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *