Qawmi

Just another WordPress site







المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 أيار 2016


(مع صدور هذا العدد، يكون قد مضى عامان على صدور مجلة “طلقة تنوير”)


ويتضمن هذا العدد:


– كلمة العدد: ممالك النفط والعبث في المصطلحات والوعي/ أحمد عدنان الرمحي


– ملاحظات على هامش تاريخنا/ علي بابل


– حول نشأة المسرح العربي/ إبراهيم يونس البطوش


– مسرحية (المحطة) للأخوين رحباني: الرهان على الحلم الصعب/ إبراهيم علوش


– السينما في العراق/ معاوية موسى


– السينما السورية وقضية فلسطين/ طالب جميل


– ستيفن سبيلبرغ يُعيد أجواء الحرب الباردة إلى السينما/ إبراهيم حرشاوي


– شخصية العدد: زعيم الثورة الجزائرية أحمد بن بلا/ نسرين الصغير


– سلسلة قواعد المسلكية الثورية- الجزء السابع: الجدية/ عبد الناصر بدروشي


– قصيدة العدد: موشح (جــادك الغيــث) لأبي عبدالله ابن الخطيب/ اعداد أيمن الرمحي


– كاريكاتور العدد



العدد رقم 24 – 1 أيار 2016
لقراءة المجلة عن طريق فايل الــ PDF




للمشاركة على الفيسبوك






















































ممالك النفط والعبث في المصطلحات والوعي

 

أحمد عدنان الرمحي

 

كان للكتاب الأثر الكبير في بناء الوعي الثقافي العربي في زماننا المعاصر، وكان لبيروت الدور الكبير في ذلك، فقيل حينها أن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ، في تعبير عن التكامل بين الأطراف الثلاثة – الكتابة والنشر والقراءة – والتكامل بين العواصم الثلاث للثقافة العربية.

 

كانت بيروت تعجّ في أوج المد القومي إبانَ الستينيات بدور النشر والمطابع لتستمر رائدة النشر حتى مطلع التسعينيات، حيث كان للتنافس الأيديولوجي بين الشرق والغرب من جهة، والصراعات العربية الإقليمية من جهة أخرى، والعداء المشتعل بين الأنظمة العربية التقدمية والرجعية، الأثر الكبير في نهضة المكتبة العربية آنذاك، وكان للحرب الأهلية اللبنانية الأثر العظيم وراء دفع بيروت المقسمة لأن تكون منافساً عالمياً في عدد منتجات الطباعة والنشر والتوزيع، إذ دفع التنافس الضاري بين الدول والأيديولوجيات المتناحرة إلى ضخ ملايين الدولارات لطباعة الكتب حيث انساق الجميع إلى تشكيل أيديولوجيات معرفية  ثورية من جهة وظلامية من جهة أخرى وهنا كانت الدولارات تأتي من دول النفط الخليجية، وتحديداً من السعودية والكويت، وأيضاً من ليبيا والعراق وسورية، وحتى من منظمة التحرير الفلسطينية والاتحاد السوفييتي.

 

استمرت ثورة النشر الى أن تراجعت الطباعة كأداة مؤثرة في التأثير في الوعي الجمعي وتراجع معها الإنتاج الموسيقي والسينمائي الثوري في مطلع التسعينيات لتحلّ محلها المحطات التلفزيونية التي ملأت الفضاء، فضاقت أسطح المنازل بأطباق ولواقط الستلايت التي انتشرت على ظهور المنازل من المحيط إلى الخليج، وكان أن بدأ البثّ الفضائي على نظام الأنالوج، حيث احتوى  قمر “عرب سات” وقتها على 30 محطة تلفزيوينة تقريباً، معظمها حكومي، عدا فضائيات لبنان وأخرى خاصة تمولها السعودية، إلى أن انتقلنا إلى نظام الديجيتال الذي شهد تنافساً بين قمريْ “نايل سات” المصري و”عرب سات” الممول خليجياً بشكل أساسي.

 

اختار معظم العرب قمر “نايل سات” الذي يتميز عن نظيره “عرب سات” بأن مصر حولت محطاتها الأرضية العديدة من البث الأرضي للفضائي حينها، مما ميزه عن قمر “عرب سات” الذي بث عدداً أقل من المحطات.

 

هنا أدركت أنظمة دول الخليج، وعلى رأسهم السعودية، أهمية الإعلام الفضائي وأثره في المتلقي، فبادر النظام السعودي إلى تمويل محطة “إم بي سي” عبر أمرائها، لتدخل مضمار السباق المكلِف فتجاوزت أخيراً القنوات الترفيهية اللبنانية والمصرية وغيرها، ومما لا شك فيه أن تفوقها المالي ساعدها على تجاوز كل منافس، فعالم الإنتاج التلفزيوني يحتاج إلى آبار نفط، إلى جانب المثقفين والفنانين والنجوم الموجودون في المشرق والمغرب العربي ممن جذبهم المال النفطي.  وضُخت الأموال حتى باتت مجموعة محطات “إام بي سي”  الأكثر متابعة ً، تبث مجاناً 24/7 ولم يتمكن أحد من مجاراتها لتتربع على رأس أكثر القنوات متابعة.

 

وأكملت أنظمة السعودية وأخواتها مشوار العبث بعقول المتلقين، بعد أن كان “الثوار” المهزومون قد بدأوه، فبعض اليسار العربي تحول إلى الليبرالية.  أما الثوري الإقليمي (القُطري) فقد ألقى سلاحه ليهرول عارياً باتجاه “معركة السلام”، وأصبح عرفات، المشهور بخطاباته الرنّانة الثورية المزاوِدة على التسويات الساداتية، منظراً كبيراً في نظريات “السلام العادل الشامل”  ومخرِجاً عظيماً لمسلسل التطبيع والتسوية، وتحوّل التحرير لديه ولدى زملائه إلى مشروع  “دولة”، وتحول السلوك التطبيعي المذموم مع العدو إلى مشاريع مدّ جسور” السلام”، وأصبح العدو – شريكا، وأصبح الصراع – نزاعاً، وجلس السفاح شارون على طاولة المفاوضات – وأصبحت فلسطين أراضٍ ما في “مناطق محتلة” في العام 1967!!

 

وقد كان عبثْ عرفات هذا بالمصطلحات مسوغاً بل ضوءاً أخضر لمحطات التلفاز في الخليج العربي وفي مصر وغيرها من الدول العربية – إلا من رحم ربي-  لإلقاء قواميس المصطلحات الإخبارية القديمة في سلة المهملات لتساهم تلك المحطات في التبشير بالمصطلحات “الجديدة” وتسويغ معانيها التسووية، لترسخ عميقاً في عقل المتلقي الجديد، الذي هجر الكتاب والقراءة.

 

في المعسكر الآخر، بدأ يسود الصمت مع تراجع المد الوطني والقومي، فحين يتساقط من كان يُعتبر “رمزاً” للمقاومة، وحين تتساقط القلاع الواحدة تلو الأخرى، فإن جماهير وأنصار ذلك التوجه يدخلون عادةً إلى قوقعة الإحباط، ويعلو صوت التزوير.

 

وفي مطلع القرن الجديد بدأ استهداف عدد من الأنظمة العربية ذات التوجهات القومية والمستقلة، من العراق إلى ليبيا، ومع سقوط كل نظام، كنا نجد سيلاً لامتناهياً من المحطات الخاصة التي تظهر هنا وهناك ثم تختفي، أو التي تولد من جديد بأسماء جديدة لتشعل الفتن وتزيد من الانقسامات وتذوب بالمحلي على حساب القومي لتلتهم عقول المريدين وتعبئهم.

 

شهدنا في العقد الأخير أيضاً ازدهار عصر قنوات الفتنة التي يمولها “رجال أعمال”، فانتشرت قنوات الفكر السلفي الظلامي وقنوات التعبئة الطائفية المضادة للسلفية، واختفى الفكر العروبي الجامع وغابت فلسطين والمقاومة عن العناوين الرئيسية لتختفي تدريجياً من نشرات الأخبار.  وخلَت الساحة أمام عمالقة النفط والغاز، وأصبحت مجاراتهم مضنية، ما لم تقف خلف أي قناة، تسبح عكس التيار، موازنة مالية جادة وثابتة.  وتكاثرت القنوات الاخبارية كالفطر، وأصبحت لكل إمارة نفطية ماكينة أعلامية ضخمة، متخمة بالبرامج الغنية والمكلفة التي تبث بتقنية الـHD.

 

وتجاوزت الفضائيات السعودية ومحطاتها مؤخراً كل التابوهات القديمة السابقة فبدأت بسرقة الإرث القومي العربي الفني بمصطلحاته ومضامينه لتجنيده في خدمة مشاريعها السياسية، وأعيد إحياء الأغاني والأناشيد القومية العربية التي كانت متروسة في أشرطة مصنفات الممنوعات في مكتبات التلفزيونات الأرضية الخليجية، وصرنا نسمع “بكتب اسمك يا بلادي” و”وطني حبيبي الوطن الأكبر” لتغنى على مسرح “الآراب آيدول”، وكانت “ام بي سي” قد فاجأت الوطن العربي حين قام معدو برنامج “آراب أيدول” بتأليف أغنية قومية عربية، خُصصت لختام أحد مواسم “الآراب أيدول” الأكثر متابعةً، بعنوان “يا عروبة تجددي” ليقدمها المغني الفائز بالمسابقة محمد عساف بعد أن كانت تعتبر العروبة وناصر والبعث وفكرهم درباً من دروب “الكفر”.

 

وتمادت أدوات النظام السعودي وماكيناته الفضائية في خيالها وتزويرها للمصطلحات، حين أسمت الحلف العسكري الذي يقوده آل سعود للعدوان على اليمن “بقوات التحالف العربي”، وأصبحنا نرى ترويسة على الشاشة “للناطق الرسمي باسم تحالف القوات العربية”!

 

ولم يكتفِ النظام السعودي بذلك، بل بات يضيّق على كل ما يسير عكس تياره الذي يصب في مستنقع الولايات المتحدة ومشاريعها الإمبريالية، فأوقف بثّ قنوات المقاومة على “العرب سات” – الذي تملكه تقريباً – وضغطت على مصر المأزومة مالياً لإغلاق قناة المنار وقنوات مناصري النظام الليبي السابق ووقف بثها على قمر “النايل سات”.

 

وأخيرا وجب على المتلقي القومي العربي الجذري وصاحب المشروع أن يقوم بالتوعية بهذه الظاهرة، والدعوة للعودة إلى الكتاب وتطوير محتواه ولغته، وأن يشرع بمقاومة السيل المسموم بابتكار المواد المفيدة والجذرية متبنياً الوسائل الإبداعية عبر الإعلام البديل – عبر النت والذي يصنف على أنه الأقل تكلفة لإيصال الكلمة المكتوبة والمسموعة والمصوّرة، أو أن يكتفي مستسلماً يلعن الظلام!

 

حول نشأة المسرح العربي

 

إبراهيم يونس البطوش

 

لا غرو أن المسرح ظاهرة اجتماعية، وُلدت من رحم الحاجة لهذه الظاهرة، وطُورت في الاتجاهات المطلوبة اجتماعياً وسياسياً.  فالمسرح لا يفرض على مجتمع لا يريده أو لا يحتاجه، أو لا يتفق معه، فالفراعنة أرادوا المسرح فقط في الطقس الديني والاحتفاء والاحتفال بالآلهة.

 

لهذا لم يعرف العرب المسرح حتى القرن التاسع عشر، إذ لم يكن يحوي رؤيتهم الايديولوجية للحياة، عدا عن إرهاصات ومثبطات أخرى كثيرة.  ورغم أن العرب عاشوا في الأندلس، حتى خرجوا منها رسميا عام 1492 مع تألق عصر النهضة، وانتشار المسرح في ربوع الأندلس حينئذ، وظهور أول مسرحيه (لاثليستينا)، وهذا يعني أن المسرح الديني والأخلاقي كان موجودا زمن وجود العرب بالأندلس، بيد أن العرب رفضوا أن يحملوا مع خروجهم فنّ المسرح، ولم يسمحوا بعد خروجهم للفِرق الإسبانية بإقامة عروضها في بلاد المغرب العربي.

 

وحين بدأت قبضة “الخلافة العثمانية” تضعف، والتقت رغبات الاستقلال والتحرر مع الدعوات القومية التي اجتاحت العالمين القديم والجديد، أواخر القرن الثامن عشر، وتحرر العرب من الشعور الديني مع العدو العثماني المحتل لأرضهم بمسمى حكم، ولد المسرح من حدة الصراع بين العربي صاحب الأرض والذائد عنها، وبين الآخر المستعبِد الناهب للثروات المادية والبشرية.

 

في زمن الانسلاخ عن الجسد العثماني وتحقق الاستقلال الذاتي، والدعوة للقومية العربية، قدّم العرب المسرح بدائيا وبسيطا ومختلطا بالاحتفالات الشعبية السائدة وقتها.

 

في القرن الأخير من الألفية الثانية كان الواقع العربي يفيض بالحركة ضد الاحتلال الغربي، وغاص الواقع الفكري عميقا باحثا عن الهوية، والواقع السياسي عن الديموقراطية والتعددية الحزبية.

 

والمسرح العربي يتصدى ويرصد ويجسد كل هذه الحالات بإطار لا أستطيع تصنيفه خارج سياق المذهب التجريبي، الذي يتجاوز الشكل الثابت للعمل المسرحي ويقدم ما هو جديد بشكل حداثي مقبول.

 

من هنا يمكننا القول أن المسرح العربي في بداياته عكس تصورا صادقا للواقع السياسي العربي، محاولا إبراز دلالات وطنية وطموحات قومية معينة ما كان لها لتبرز وتُقنع –أحيانا- لولا خشبة المسرح.

 

ومن هنا أيضا، ومن منطلق أني أرى أن المسرح يرى في ذاته ضرورة، كما نراها نحن، نراه كما طائر الفينيق، ينبعث دائما من تحت الرماد رغم مثبطي العزائم وواضعي العصيّ بالدواليب.

 

 

مسرحية (المحطة) للأخوين رحباني: الرهان على الحلم الصعب

 

إبراهيم علوش

 

مسرحية (المحطة) للأخوين منصور وعاصي الرحباني تنبثق بسهولةٍ من التقاء البساطة بالحلم، من الانتقال المجنح من وحل الرتابة اليومية إلى سحر الخيال، من الدمج السهل بين النوتات الغربية في الموسيقى ضمن قالب شرقي، ومن “حقل البطاطا” الذي يملكه المزارع “سعدو” إذ يتحول إلى وعد، إلى حلم، إلى محطة قطار كامنة تنتظر من ينتشلها من تحت تراب الحقل لتصبح منصة للسفر إلى مدن الشمال البعيدة، نحو حياةٍ أفضل، فهي “المحطة”/ المشروع الذي لا يُرى بالعين المجردة، إنما بعين الروح، كرمزٍ لكل حلمٍ صعبٍ قد يبدو وهماً للجميع إلا للقابضين على جمره، والفتاة الغريبة “وردة” (السيدة فيروز) هي موقظة حلم المحطة في السهل النائم رغم كل الصعوبات وعدم اليقين، ورغم المشككين وطول الانتظار، فالقبض على جمرات الحلم الصعب هو في النهاية فعل إيمان:

“مهما تأخر جايي وما بيضيع اللي جايي عا غفلة بيوصَل من قلب الضوّ من خَلف الغيم، وما حدا بيعرف هَللي جايي كيف بيبقى جايي.

إيماني ساطع يا بحر الليل إيماني الشمس المدى والليل ما بيتكسَّر إيماني ولا بيتعب إيماني وإنتَ اللي ما بتنساني.

أنا إيماني الفرح الوسيع ومن خلف العواصف جايي الربيع. إذا كبرت أحزاني ونسيني العمر التاني إنتَ اللي ما بتنساني”.

 

(… ولا حرج من استخدام العامية هنا، فالرحابنة استخدموها في مسرحية “أبو الطيب المتنبي” أيضاً مصرّين أنها وجدت في كلام الناس إلى جانب الفصحى دوماً.)

 

الحوارات الغنائية الممزوجة بينابيع القرى والمعجونة بترابها وناسها، وأغانٍ شاعت فينا كالماء والهواء مثل “ليالي الشمال الحزينة، “يا دارا دوري فينا”، “سألوني الناس”، “حنا السكران”، و”رجعت الشتوية”، جعلت من مسرحية (المحطة) أقرب لنوع المسرحية المغناة A Musical، وهو نوع متعارف عليه عالمياً من الفن المسرحي، فليس صحيحاً، كما ذهب بعض النقاد والمسرحيين، ومنهم زياد الرحباني نفسه، الذي جاء ظهوره المسرحي الأول في مسرحية (المحطة) نفسها في العام 1973، أن اعتماد منصور وعاصي الرحباني على الأغنية واللحن والرقص في مسرحياتهم يقلل منها فنياً كمسرح يفترض مهنياً أن يعتمد أساساً على الحوار والتمثيل، إنما هو ببساطة نوعٌ آخر من المسرح، أصعب، ويتطلب قدرات فنية أعلى وأكثر شمولاً، ليُقدم بنجاح.

 

وقد كانت مسرحيات الرحابنة الغنائية خبز روحنا نحن جيل الحرب الأهلية اللبنانية عندما كانت تنقطع الكهرباء في الليالي المظلمة فنجلس لنستمع، على ضوء الشموع، لمسرحيات فيروز عبر جهاز المذياع أو المسجل ما دامت لم تنفذ البطاريات…   ولأن إدراك المسرحية كان يعتمد في تلك الحالة على الإصغاء، بدلاً من المشاهدة على خشبة أو شاشة، فقد كان تذوق جمالياتها، في الحوارات والأغاني المتدفقة منها، يتطلب بالضرورة إطلاق العنان للخيال في تصور المشهد والشخصيات والأدوار والسياق وكل شيء، حتى شكل حلقات الدبكة المواكبة للأغاني.

 

الرحابنة مدرسة، لا في الموسيقى والغناء فحسب، بل في المسرح، وقد كانوا ملوك إيصال الفكرة الكبيرة باللغة البسيطة للناس، وسادة اجتراح الأجواء الساحرة من البيئات العادية من دون افتعال يخرِج المستمع أو المشاهد عن انغماسه في الحالة الانفعالية للعمل الفني، رغم إدراكه التام أن فكرة المسرحية نفسها قد تكون غير معقولة بمقاييس المنطق، مثل إصرار “وردة” في مواجهة الجميع، أن ثمة محطة قطارات في حقل البطاطا.  ولعل مسرحية (المحطة) بالذات من أبرز الحالات الرحبانية التي تتجسد فيها ازدواجية الواقع بتفاصيله العادية جداً مع الحلم السوريالي كتناقض يفرزه ذلك الواقع بالذات، في محاكاة لضرورات الواقع خارج العمل الفني ربما، في الواقع السياسي العربي مثلاً، ليخلق عقدة يجيء حلها الدرامي في سياق العمل الفني نفسه.

 

إن مثل هذه القدرة على مسرحة الواقعي الرتيب إلى حد الهزل، مع ما فوق الواقعي المبهر إلى حد السحر، في قالبٍ فنيٍ متماسك ومقنع، جاء أكثر بروزاً في (المحطة) ضمن سياق سلسلة  مسرحيات رحبانية بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات نجد فيها بدرجات متفاوتة شخصيات أو حبكات ما فوق واقعية تنبثق بسلاسة من السياق الواقعي نفسه، ومنها (الشخص) في العام 1968، (جبال الصوان) في العام 1969، (يعيش يعيش) في العام 1970، (المحطة) في العام 1973، و(لولو) في العام 1974، وكأنها كانت مرحلة خاصة في الإنتاج المسرحي للأخوين رحباني ستترك أثراً لا ينسى حتى فيمن تسنّى له أن يستمع إليها سماعاً فحسب، من دون أن يشاهدها، من الجيل الذي عاصرها أو الجيل الذي تلاه، وتبقى بعد ذلك جزءاً متميزاً من التراث المسرحي العربي المعاصر ومن الإرث الفني الكبير للمدرسة الرحبانية.

 

الجسر بين الواقعي والمبهِر لا يمكن أن يبنيه إلا خطابٌ مبهِر: “الانتظار خلق المحطة، وشوق السفر جاب القطار”، كما تقول “وردة” (السيدة فيروز)، ثم: “لمّا يصير وقت القطار، لا تعود تهتم إذا ما فيه سكة”، بهدوء، من دون غناء أو موسيقى!  لكن “وردة” لم تكن مجرد شخص حالم، أو خطيبٍ أو مغنٍ مفوّه استمال الناس إلى حلمه بالكلام ووعود الغد الأفضل فحسب، فقد ألمَحت لـ”سعدو” المزارع أن وجود “محطة” في أرضه يزيد من قيمتها العقارية، فأعجبته فكرة المحطة، من دون أن يصدّقها، والتقط ملاكو العقارات الفكرة لكي يتبنَوا الترويج لمشروع المحطة الذي سيزيد من أسعار أراضيهم، مما يقدم نموذجاً على من ينخرطون في مشروعٍ كبيرٍ لتحقيق أجندات خاصة، من دون أن يؤمنوا فيه حقاً.

 

المهم، صدّق عددٌ كبيرٌ من الناس القصة، واشتروا تذاكر سفر من شخصية “الحرامي” (الممثل أنطوان كرباج) الذي تبع “وردة” في سفرها للبلدة لكي يسرق شنطتها، لكنه عندما سمع قصتها قرر أن يستثمر في تصديق الناس للحلم الصعب ببيعهم تذاكر سفر مزيفة ليسرق أموالهم.  وقد لعبت شخصية أنطوان كرباج دورها بجدارة كنموذج لمنتهزي المشاريع الكبرى، لكن مجرد وجوده كبائع تذاكر بزيٍ رسميٍ أضاف مصداقية معينة لفكرة المحطة أمام الناس، كأنه بات، من دون أن يدري، جزءاً من بيادق القدر.  حاول “الحرامي” أن يقاسم “وردة” عائدات بيع التذاكر، فاستسخفّته وأفهمته أنه تحول رغماً عنه إلى موظفٍ شريف عند شركة القطارات، بمعنى أن عليه أن يسلم الأمانة من بيع التذاكر، فحذرها أن الناس سيسحقونهما عندما يكتشفون، فأكّدت له: “القطار قادم لا محالة”.  فيبدأ بتحريض زوجة المزارع “سعدو” على قتلها.

 

في مثل تلك الظروف القذرة والملوثة بالذات، نجحت “وردة” بخلق حالة شعبية مؤمنة بالمحطة ومجيء القطار والسفر إلى الشمال (الغد الأفضل)، وتأسست مشاريع تجارية من حول المحطة، وفندق، لكن السنين مرّت، والقطار لم يأتِ، وضجّ مشترو التذاكر وثاروا وواجهوا رئيس البلدية (الممثل والمغني القدير نصري شمس الدين) فأقنعته أن ينفق على احتياجاتهم من موازنة البلدية لأن ذلك سيزيد من شعبيته سياسياً، باعتبار ذلك أجدى له من الولائم اليومية التي يقيمها (الفساد)، فتبنّى فكرة الإنفاق على منتظري القطار من دون أن يقتنع بمجيئه، محمّلاً إياها المسؤولية، وكان يجرها قبل ذلك إلى المخفر كل يوم، وهو ما يمّثل نموذج السلطة السياسية التي تساير الحالة الشعبية المؤمنة بمشروع المحطة من أجل استيعابها فحسب.

 

تدخل “وردة” في السياق في حالة صراع مع ذاتها، في مونولوج غنائي يعكس الصراع الداخلي بين الشك والإيمان، بصوتين ولحنين نابعين من الذات الواحدة الحاملة للحلم الصعب، في قمة رحبانية فيروزية غير عادية، هل “تعود للبيت”، أم تستمر في مشروعها؟!!!!  وفي النهاية يثور الناس عليها، ويستهدفونها، لأنها أقنعتهم بفرصة الحصول على الغد الأفضل الذي لم يتحقق، بعد أن عطّلوا حياتهم وطال انتظارهم، وتبرز هنا تحديداً ترنيمة “إيماني ساطع يا بحر الليل” الجميلة بحدّ ذاتها، والأجمل بما لا يقاس في خضم ذلك السياق، ليغني الناس معها في النهاية: “إيماني ساطع يا بحر الليل”، ليتغلب الإيمان على الشك.

 

تدخل الأجهزة الأمنية على الخط هنا، وتبدأ حملة البطش والاعتقالات والتهم العشوائية، وفي تلك اللحظة الأشد سوداوية، يُسمع صفير القطار القادم من بعيد، ويصل القطار، فتنحسر قبضة الأجهزة، ويتحقق الحلم، ويصعد مشترو التذاكر إلى أمكنتهم على متن القطار الذاهب نحو الحياة الأفضل في الشمال، فتطلب “وردة” من “الحرامي”/ بائع التذاكر بطاقة سفر لها، فيعلن بائع التذاكر، حقاً الآن، بإيقاعٍ جنائري: “انتهوا التذاكر”!  لا بطاقة سفر لصانعة الحلم إذن.  لا بأس!  فتردد “وردة”: إيماني ساطع يا بحر الليل!

 

… إذ لا يهم أن نصل نحن، بل المهم أن ينجح المشروع.

 

=================================================

 

ملاحظة: مسرحية (المحطة) وغيرها من المسرحيات الرحبانية المذكورة أعلاه يمكن إيجادها على موقع يوتيوب وغيره على الإنترنت.

 

 

السينما في العراق

 

معاوية موسى

 

للسينما مشاهدوها ومتابعوها، وهي عالم فني حيوي وجميل يجذب الكثيرين لمتابعته والقراءة عن تاريخه، وهي تعتبر زاداً ثقافياً وترفيهياً لجماهير عريضة على مستوى العالم، وبحكم كونها فنا سمعيا وبصريا فهي تصل إلى كافة المستويات الثقافية والاجتماعية، ولذا تعد أداة هامة من أدوات التغيير الاجتماعي والسياسي وتنمية الوعي الثقافي، أو العكس، إذ يمكن استخدامها كسلاح مدمّر وأداة طيّعة من أدوات التضليل الإعلامي والتاريخي، فتصبح قوة خطيرة تعمل على غرس مشاعر ومعايير سلوكية وتشويه لحقائق كبيرة، وهذا ما حذّر منه مثلا الكاتب والباحث الدكتور إبراهيم ناجي علوش في كتابه الموسوم “الرسالة السياسية لهوليوود – تفكيك الفيلم الأمريكي”.

 

والسينما كفن ما انفكّت تعاني من ندرة في عدد النقاد الذين تناولوها، على الأقل في الوطن العربي حيث صناعة السينما مازالت متأخرة، ولم تنتج السينما العربية سينما بديلة وحقيقية وفاعلة، حيث تختصر نفسها في بضع آلاف من الأفلام التي قدمت للمشاهد العربي، ولأهمية هذا الجانب الذي يساهم في تشكيل وعي الفرد عموما والمواطن العربي خصوصا، تفرد مجلة “طلقة تنوير” في عددها هذا محورا خاصا عن السينما العربية، وفي هذه المادة تحديدا نحاول تسليط الضوء على السينما العراقية، حيث لم يستطع المشاهد العربي معرفة الكثير عن السينما في العراق، بسبب ما عاناه القطر العراقي من ظروف خاصة، تمثّلت في سنوات الحرب الطويلة مع إيران، والحصار الجائر الذي فرضته الولايات المتحدة والغرب على العراق، فلم يصلنا إلا القليل عنها، على الرغم من غنى تلك التجربة وتميزها.

 

لقد حققت السينما العراقية لنفسها منزلة بارزة في مضمار لا يسهل البروز فيه، فالسينما في وادي الرافدين كشعب هذا الوادي، كلاهما نتاج الأرض والمناخ، لم تكن يوما بعيدة عن واقعه وطموحاته، بل عبّرت عن سيرته ومكنوناته وهويته القومية.  فتراوحت موضوعات السينما العراقية بين دراما اجتماعية وأخرى كوميدية واستعراضية وتاريخية وبوليسية وأفلام سياسية، عدا عن أن الأدب أسهم في تنفيذ العديد من الأفلام السينمائية إذ تحوّلت عدة روايات إلى أفلام منها رواية “خمسة أصوات” لغائب طعمة فرمان التي أصبحت فيلم “المنعطف”، ورواية “النهر والرماد” لتكون فيلم “النهر والرماد”، و”القمر والأسوار” لعبد الرحمن الربيعي لتصبح فيلم “الأسوار”.

 

ومن الأفلام السياسية التي تميّزت بها السينما العراقية فيلم “المسألة الكبرى” للمخرج الشهير محمد شكري جميل، أحد أهم المخرجين العراقيين على الإطلاق، والفيلم عبارة عن دراما سياسية، يناقش مرحلة نضالية من تاريخ الشعب العربي في رفضه للاستعمار، حيث يسلّط الضوء على مرحلة مبكرة من تاريخ العراق السياسي إبان ثورة العشرين الشهيرة ضد الاستعمار الإنكليزي للعراق، ومن أهم المحطات أو الرسائل السياسية لفيلم “المسألة الكبرى” أن البطولة في الفيلم لم تكن فردية محصورة برمز أو شخصية محددة من أبطال المقاومة الشعبية، وإنما البطل هو الكل والمجموع المتمثّل بالجماهير الشعبية.

 

وهناك العديد من الأفلام السياسية التي استمرّ إعادة عرضها في التسعينيات وبداية القرن الحالي في دور السينما العراقية، ووجد العديد منها على أقراص ولكن بشكل نادر، نذكر منها فيلم “عهد ورجال”، وهو فيلم يروي عملية إعدام أربعة عشر جاسوسا، كانوا يعملون لحساب مؤسسة صهيونية للتجسس، فالعراق لم يكن أبدا يوما خارج دائرة الاستهداف والعدوان الصهيوني الذي تتوّجَ بقصف وتدمير المفاعل النووي العراقي في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم.  كذلك هنالك  فيلم “طريق النصر” الذي يركّز على دور الفدائيين الفلسطينيين في مرحلة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وهنا أيضا نشير إلى حقيقة الدور القومي والعروبي الذي تبنّته السينما العراقية اتجاه القضية المركزية للأمة العربية، القضية الفلسطينية، والمتماهي تماما مع موقف النظام هناك، وهنا يبرز دور الدولة العراقية الوطنية في دعم السينما الهادفة، إذ تشير المصادر أن هذا الفيلم هو من إنتاج مصلحة السينما العراقية، وهي مؤسسة رسمية ووطنية.  يضاف إلى ذلك العديد من الأفلام التي أشرفت على إنتاجها مصلحة السينما العراقية كفيلم “تساؤل”، وهو فيلم يعبر عن مأساة اللجوء الفلسطيني، وفيلم “إلى المعركة”، وهو عبارة عن لوحة غنائية راقصة قدمتها فرقة الرشيد الشهيرة التي تتحدث عن معركة الشعب العربي ضد الصهيونية، ومثل هذه الأفلام وغيرها الكثير تثبت تماما أنّ معركة الشعب العربي واحدة، والتعبير عنها هذه المرة جاء من العراق، وبدعم مباشر من النظام الوطني والشرعي العراقي ممثلا برئيسه الشهيد الراحل صدام حسين، لكسر قاعدة احتكار مقاومة العدو الصهيوني لجهة محددة ويتيمة.

 

عند الحديث عن السينما العراقية لا بد من الإشارة إلى الضعف والتراجع الذي أصابها في بداية تسعينيات القرن الفائت، تحديدا مع بداية سنوات الحصار الجائر على العراق، والتأثر الذي طال كل القطاعات على كل المستويات، ولم تكن السينما بعيدة عن هذا التأثر، فمن انعدام الاستقبال الفضائي للقنوات العربية والعالمية، وانحسار رؤية المشاهد العراقي في قناتين هما العامة الحكومية والشباب التابعة إلى اللجنة الأولمبية العراقية، إلى أفلام السكرين الشهيرة، ففي ظل توقف عجلة الإنتاج السينمائي نتيجة الحصار الذي فُرض على العراق ومنع الشريط الخام ومعامل الطبع والتحميض ظهرت في سنوات التسعينيات ظاهرة أطلِقَ عليها في وقتها أفلام السكرين كبديل للفيلم السينمائي، وقد صورت هذه الأفلام بكاميرات ديجيتال وعرضت في دور السينما بتكبير الصورة على الشاشة باستخدام جهاز السكرين، وقد أطلق عليها البعض سينما الفيديو والبعض الآخر أفلاما تلفزيونية، والحقيقة أن هذه الأفلام والتي ساهمت دائرة السينما والمسرح في إنتاج بعضها حققت في معظمها إقبالا جماهيريا كبيرا بل إن بعضها استمر يُعرض لأشهر في دور السينما.

 

ومن بين أشهر افلام السكرين التي عرضتها دور السينما العراقية كما تشير مجلة موروث الثقافية في عددها ال 89 و ال 90

 

ت    اسم الفيلم                   المخرج             تاريخ العرض      دار العرض

1ـ  كبرياء التحدي             جمال محمد            20/6/1994       النجاح

2ـ  ضحايا الظلام             علي هادي الحسون     3/6/1996        النجاح

3ـ  زائر الليل                 علي هادي الحسون     19/8/1996       النجاح

4ـ  القفاز الأبيض              أكرم كامل              16/9/1996      النجوم

5ـ  البطل                      هاشم أبو عراق        16/9/1996       السعدون

6ـ الفرار                       جمال عبد جاسم      21/10/1996      السعدون

7ـ  الغضب                   طارق عبد الكريم      28/10/1996      النجوم

8ـ  رقصة المال              هاشم أبو عراق        4/11/1996        النجاح

9ـ بعد الحب                 علي هادي الحسون     18/11/1996      السعدون

10ـ شكوك                   أكرم كامل              8/2/1997          النجاح

11ـ الانفجار                أركان جهاد             14/3/1997         النجوم

12ـ الحب والسيف         عادل طاهر             14/3/1997         النجاح

13ـ منحرفون               أوس كامل             14/3/1997          السعدون

14ـ الغجرية والوحش      فاروق القيسي          2/6/1997           النجاح

15ـ الاقتحام                 قحطان عبد الجليل     16/6/1997         السعدون

16ـ رقصة الموت         عبد الباسط              15/9/1997          النجوم

17ـ خفافيش                فادي أكوب             15/9/1997          النجاح

18ـ سباق الثعالب         فاروق القيسي           27/10/1997        النجاح

 

 
السينما العراقية، رغم كل ما مر بها من ظروف قاهرة جعلت من فترات صمتها تطول، إلا إنها كانت بحق متميزة. وهذه المقالة البذرة تساهم في خلق فكرة أولية وعامة لإماطة اللثام عن سينما وفيلم لم يستطع كسر الحدود والخروج إلى الفضاءات الخارجية، على الأقل في حدود الوطن العربي الكبير.

 

 

السينما السورية وقضية فلسطين

 

طالب جميل

 

تعتبر السينما السورية من أكثر السينمات العربية التصاقاً بالهمّ العربي، وقد التزمت منذ نشأتها بالتعبير عن قضايا العرب المصيرية.  لذلك كانت قضية فلسطين، وما تفرّع عنها من حروب وهجرات وهزائم وانتصارات، في رأس أولوياتها، حيث كانت فلسطين وقضيتها هاجساً للعاملين في السينما السورية من مخرجين وكتّاب، فقلّما يوجد فيلم سوري لا يتطرّق للقضية الفلسطينية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فمنذ انطلاق السينما السورية في بدايات القرن العشرين كان لفلسطين حضور كبير ونصيب جيد من الأفلام خصوصاً بعد احتلال فلسطين عام 1948.

 

ولا يمكن الحديث عن السينما السورية دون التطرق إلى إنتاجات المؤسسة العامة للسينما، وهي مؤسسة حكومية تعنى بإنتاج الأفلام السينمائية بمختلف أشكالها (تسجيلية، وثائقية، روائية طويلة وقصيرة).  ولأن البداية الحقيقية للسينما السورية بدأت مع المؤسسة العامة للسينما، منذ تأسيسها في العام 1963، كان لقضية فلسطين حضور واسع في أفلامها لأنها كانت الهمّ المشترك بالنسبة للجمهور العربي وجمهور السينما بشكل خاص، وحتى في بعض الإنتاجات المشتركة التي تمّت بين المؤسسة العامة للسينما وجهات عربية أخرى كانت فلسطين هماً مشتركاً بين الفنانين لذلك فمن النادر أن تجد مخرجاً سورياً، خصوصاً من المخرجين المخضرمين، لم يقدم فيلماً له علاقة بقضية فلسطين.

 

نشطت السينما السورية في مرحلة الستينيات والسبعينيات حيث برزت عدة أفلام تتناول القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها وتحرّض على المقاومة وتمجّدها، منها بعض الأفلام القصيرة مثل فيلم (إكليل الشوك) وهو من سيناريو وإخراج (نبيل المالح) وقد أنتج في العام 1968، وفيلم (الزيارة) سيناريو وإخراج (قيس الزبيدي) 1970، وفيلم (اليد) سيناريو وإخراج (قاسم حول) 1970، وفيلم (النافذة) سيناريو وإخراج (نبيل المالح) 1978، وتخلل تلك المرحلة إنتاج عدة أفلام تسجيلية مهمة مثل فيلم (بعيداً عن الوطن) سيناريو وتصوير ومونتاج وإخراج قيس الزبيدي 1969، وفيلم (نعم عربية) إخراج (خالد حمادة) 1969، و(نحن بخير) إخراج (فيصل الياسري) 1970، و(عيد سعيد) سيناريو وإخراج (مروان المؤذن) 1970، و(شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب) سيناريو ومونتاج وإخراج (قيس الزبيدي) 1972، و(دروس في الحضارة) إخراج أمين البني 1974، و(نداء الأرض) سيناريو وإخراج (قيس الزبيدي) 1976، و(اليوم الطويل) سيناريو وإخراج (أمين البني) 1977 وهو من إنتاج التلفزيون العربي السوري.

 

أما بخصوص الأفلام الروائية الطويلة فقد ظهرت عدة أفلام ملفتة في تلك المرحلة أبرزها ثلاثية (رجال تحت الشمس) 1968، وتشمل ثلاثة أفلام هي: (المخاض) لنبيل المالح، و(ميلاد) لمحمد شاهين، و(اللقاء) لمروان المؤذن.  وهنالك أيضاً فيلم (عملية الساعة السادسة) سيناريو وإخراج (سيف الدين شوكت) 1970، والفيلم المهم (المخدوعون) 1972 سيناريو وإخراج المخرج المصري (توفيق صالح)، وهو مأخوذ عن رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني، وفيلم (السكين) 1972 سيناريو وإخراج خالد حمادة عن رواية (ما تبقى لكم) لغسان كنفاني،  و(مائة وجه ليوم واحد) 1972 للمخرج للمخرج كريستيان غازي، وفيلم (كفر قاسم) 1974 سيناريو وإخراج المخرج اللبناني (برهان علوية) ويروي أحداث وتفصيلات مجزرة قرية كفر قاسم التي ارتكبها الصهاينة عشية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وهو من الأفلام العربية الأولى التي عالجت القضية بجديّة، وقد مُنحَ كثيرٌ من الجوائز في أوروبا والدول الشرقية وعدّه النقّاد من أفضل عشرة أفلام عربية، و(الاتجاه المعاكس) 1975 إخراج (مروان حداد) حيث يرصد حياة مجموعة من الشباب من انتماءات اجتماعية متنوعة في مرحلة ما بعد حرب عام 1967 وانعكاس تلك المرحلة على مختلف همومهم الاجتماعية والسياسية، و(الأطفال يولدون مرتين) 1977 سيناريو وإخراج (صلاح دهني) ويرصد الفيلم عملية الانتقال النضالي من الفطرة إلى القرار.

 

أما في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، فقد ظهرت أفلام تسجيلية مثل فيلم (اللعنة) 1984 إخراج (باسل الخطيب)، و(مذكرات فلسطينية) 1991 سيناريو وإخراج (أمين البني). أما أهم الأفلام الروائية الطويلة التي ظهرت آنذاك فمنها فيلم (الليل) 1992 من إخراج (محمد ملص)، ويتحدث هذا الفيلم عن مدينة القنيطرة التي هدمها الصهاينة بعد احتلال عام 1967، وهو فيلم غنيّ بالمشاعر الجياشة والفياضة التي تلمس الحنين للوطن وروح الجهاد والدفاع عن فلسطين في بداية الفيلم، ويتناول التغيرات السياسية التي مرّت بها سورية بدءا من ثورة فلسطين وصولا للاحتلال الفرنسي واحتلال فلسطين وبداية الاحتلال الصهيوني، وفيلم (أمينة) 1986 قصة وسيناريو وإخراج (باسل الخطيب)، وفيلم (قيامة مدينة) 1995 وهو أيضاً من سيناريو وإخراج (باسل الخطيب) والذي يبحث فيه المخرج في ذاكرة مدينة القدس حيث سعى لتوظيف الجانب التسجيلي بطريقة درامية بحيث تتداخل الذكريات مع الصور لتشكل عالماً قائماً ومعبراً بحد ذاته.

 

وفي السنوات الأخيرة ظهرت عدة أفلام بهذا الخصوص منها فيلم (بوابة الجنة) 2009 الذي يرصد الواقع الفلسطيني في الأشهر التي سبقت الانتفاضة الأولى عام 1987، من خلال عائلة من الضفة الغربية الفلسطينية تتلقى الأحداث وتصبح مشاركة في صيرورتها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أفلام المخرج السوري المعروف (عبد اللطيف عبد الحميد) التي لا تخلو الإشارات إلى فلسطين في سياق تصويرها لتأثير الحروب العربية مع الصهاينة على الناس البسطاء، ومنها على سبيل المثال فيلم (ما يطلبه المستمعون) وفيلم (ليالي ابن آوى).

 

أما على مستوى الأفلام التلفزيونية فقد أنتج التلفزيون العربي السوري عدة أفلام مرتبطة بالقضية الفلسطينية منها فيلم (فلسطين…الجذور) 1980 سيناريو وإخراج (أمين البني)، وفيلم (الأرجوحة) للمخرج (هيثم حقي)، إضافة إلى بعض الأفلام التي أنتجت من قبل جهات أخرى.

 

القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب الأولى بحاجة ماسة للسينما كونها سلاحاً حضارياً فعالاً ومؤثراً من أجل فضح العدو وتناولها باعتبارها قضية عادلة ومحقة، والترويج لفكرة الالتصاق بالأرض وحق العودة، إضافة إلى حماية الذاكرة العربية عن فلسطين من التآكل والتأكيد على عروبة فلسطين.

 

عموماً يتطلب الواجب العربي بالحد الأدنى قيام العاملين على قطاع السينما في كافة الأقطار العربية الاستمرار بإعطاء نضالات الشعب العربي الفلسطيني أولوية عند إنتاجهم لأي أعمال سينمائية، كجزء من تكريس التوجه العروبي، وإظهار صمود وبطولة هذا الشعب والترويج لملاحم وقصص الشهداء والترويج لفكرة المقاومة حتى آخر قطرة دم على الأقل كأرشيف للأجيال القادمة بدلاً من الاستثمار في الأفلام التجارية وتلك التي تحمل مضامين فارغة.

 


ستيفن سبيلبرغ يُعيد أجواء الحرب الباردة إلى السينما

 

إبراهيم حرشاوي
لم يُفاجأ كثيرون من عودة الأفلام الهوليوودية المرتدية طابع الحرب الباردة إلى قاعات السينما نظرا إلى ما آلت إليه الأمور في الساحة الدولية. فالصراعات الدائرة بين حلفاء روسيا وحلفاء الولايات المتحدة في مناطق مختلفة من المعمورة ما لبثت أن تركت بصماتها في الساحة الفنية والثقافية.  ومن المرتقب أن تظهر، من الآن  فصاعدا، أفلام كثيرة تعكس بدرجات متفاوتة حدة الصراع بين الرغبة الأمريكية في الاحتفاظ بالأحادية القطبية من جهة، ورغبة الدول الصاعدة – وفي مقدمتها روسيا – في خلق عالم متعدد الأقطاب من جهة أخرى.  كما أنه ليس من المفاجئ أن يكون ستيفن سبيلبرغ أحد أبرز المخرجين الذين استثمروا أعمالهم السينمائية الاخيرة- وهو فيلم “جسر الجواسيس”- خدمةً لطموح الإمبريالية الأمريكية.

 

لعل الإشارة إلى الخلفية السياسية لستيفن سبيلبرغ ليست من نافلة القول، فهو المعروف كأحد الوجوه البارزة للوبي الصهيوني في الساحة الفنية بالولايات الأمريكية المتحدة، كما لا تخفى علاقاته المتينة بالدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة، وبالأخص الحزب الديمقراطي. وننصح القارئ الكريم هنا بقراءة مقالة بعنوان “ستيفن سبيلبرغ: صاحب الحس الإنساني المزيف” للكاتب اليساري الكندي ستيفن غوين الذي يكشف الدور السياسي  لستيفن سبيلبرغ المتماهي مع الطرف الصهيو-الأمريكي[1].
تدور أحداث فيلم “جسر الجواسيس” حول صفقة تبادل الجواسيس بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في عنفوان الحرب الباردة خلال القرن الماضي.  ويستقي الفيلم اسمه من كتاب “جسر الجواسيس” الذي ألّفه الكاتب البريطاني جيل ويتويل في العام 2010.  لكن حبكة الفيلم جاءت أكثر تطابقا مع أحداث كتاب “غرباء على الجسر” للمحامي الأمريكي جيمس بريت  دونوفان الذي  يروي قصة حقيقية جرت أحداثها بين سنة 1957 و1962، مع العلم أن الضحية الرئيسية فيها، أي (الطالب الأمريكي)، وهو لا يزال على قيد الحياة، أوضح لصحيفة “الإندبندنت” البريطانية أن كل ما يتعلق به في الفيلم هو من صنع الخيال.  أما تكاليف الفيلم، فقد بلغت أربعين مليون دولار، وقد حقق من الإيرادات أضعاف هذا المبلغ حتى الآن.
يسلط الفيلم، الذي يصل زمن عرضه إلى ساعتين وخمسة عشر دقيقة، الأضواء على هذا المُحامي المخضرم الذي يؤدي دوره الممثل توم هانكس ببراعة.  فهو يجسد دور المحامي ذي الضمير الإنساني والوطني الذي يجعله لا يكلّ ولا يملّ في التمسك بقيم العدالة “الأمريكية” بغرض تبرئة موكله رغم استياء مؤسسة القضاء والرأي العام الأمريكي.  ويتمكن المحامي  دونفان، في وسط احتدام هذا السياق، من إقناع القاضي، الذي يحكم على الجاسوس السوفييتي  بالإعدام، بتخفيف الحكم إلى المؤبد وذلك بتوظيف احتمالية وقوع أي أمريكي تحت الأسر عند الخصم السوفييتي في المستقبل، وتصبح حياة هذا الجاسوس، بالتالي، بمثابة العملة الصعبة لعملية التفاوض والاستبدال. ويأتي ذلك اليوم عندما أُسقِطت طائرة تجسس أمريكية من نوع “يوتو” فوق أجواء الاتحاد السوفييتي بمهمة رسمية من الأجهزة الأمنية الأمريكية، ليسقط معها  الطيار الأمريكي فرانسيس غاري باورز أسيرا.  ويتم اختيار المحامي دونفان للسفر إلى ما وراء الستار الحديدي للتفاوض مع ممثلي الاتحاد السوفيتي بهدف بلورة صفقة  تبادل بين الطرفين، إلا أن اعتقال وسجن  طالب أمريكي في برلين الشرقية بتهمة التجسس زاد الطين بلّة.  وهكذا يدخل في مواجهة تفاوضية عسيرة مع مفاوضي المعسكر السوفييتي، مطالبا إياهم بإطلاق سراح الأسيرين الأمريكيين مقابل تسليم الجاسوس السوفييتي.
يحاول سبيلبرغ رسم انطباع متوازن لدى المشاهِد في التعاطي مع الطرفين عبر الكشف عن قسوة النظام الشيوعي وعن السلوكيات غير المحايدة والتسلطية للقضاء ورجال المخابرات في الولايات المتحدة في آنٍ واحد. وهنا ينبغي الانتباه وإماطة اللثام عن ازدواجية المعايير لدى سبيلبرغ  في رسم هذه الصورة بحيث أنه لم يعطِ نفس الاهتمام في تصوير جوانب متعددة في  الاتحاد السوفييتي، بل قام بإعادة إنتاج الصورة النمطية والأحادية الجانب المعتاد عليها في أفلام هوليوود التي تجعل من الاتحاد السوفييتي نظاما بوليسيا متخصصا في انتهاك حقوق الإنسان. كما اتضحت هذه الصورة من خلال إضفاء أجواء كئيبة وتعسفية على المشاهد في برلين الشرقية والمحكمة السوفيتية.  بالإضافة إلى ذلك، يُلاحظ أن سبيلبرغ لم  يقم بإبراز التفوق العسكري الأمريكي في الصراع مع المعسكر الشيوعي، بل ركّز على  قوتها الناعمة المتمثلة في قيم الحِوار والإقناع  والإنسانية، التي جسدها بشكل متميز بطل الفيلم المحامي جيمس دونفان.
وتُجدر الإشارة عند تناول هذا الصنف من الأفلام  إلى العلاقة الموجودة بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والمؤسسات الثقافية والفنية الشهيرة والعملاقة في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. ويوثّق كتاب الباحثة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز “الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب” بدقة شديدة الدور الثقافي الذي تلعبه “السي أي أيه” في إدارة المعركة الثقافية والفنية مع خصمها الشيوعي.  وتنبغي الإشارة هنا على سبيل المثال إلى “اللجنة القومية من أجل أوروبا حرة” التي تمّ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية لتوظيف المهارات المتنوعة للفنانين مثل دي ميل ودرايل زانوك والممثل رونالد ريغان، وهذا كله يفترض أن يدفع المشاهِد نحو استهلاك الأفلام الأمريكية بعدسة نقدية تساعده على قراءة الرسائل السياسية المشفرة وغير المشفرة التي  تسعى إلى  اختراقه وأمركته.

 

شخصية العدد: زعيم الثورة الجزائرية أحمد بن بلا

 

نسرين الصغير

 

الزعيم أحمد بن بلا الرمزالقومي والرمز العالمي في إطار مواجهة الاستعمار ومحاربته، ارتقت إلى عليائه الزعامة وعن جدارة، فلا غرو وهو القائد الذي قاد حرب التحرير الجزائرية.  لم يساوم ولم يهادن على استقلال الجزائر، هذا الزعيم الذي ولد لأسرة فقيرة وعانى ذات البؤس الجزائري من الفقر والحرمان وزد عليها مرارة الاحتلال الفرنسي، فليس من باب الصدفة أن ينتفض ابن بلا كما الشعب الجزائري.  وكانت ولادته على الراجح في العام 1916 لتمتدّ به سنين العمر وقد رأى بأم عينه انتصار الجزائر وطرْد الاستعمار الفرنسي منها وتحريرها، إلى أن وافاه الأجل في 11 نيسان من العام 2012.

 

درس بن بلا الابتدائية في قريته وانتقل ليتابع دراسته الثانوية في تلمسان، ومن هنا بدأ بن بلا  مرحلة جديدة من حياته؛ مرحلة الوعي الوطني لينتقل بعدها لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية سنة 1937، والتي أعطته اطّلاعا على العسكرية والتنظيم العسكري، إضافة إلى أنه خبِر الحرب من خلال زجّه مع الكثير من رفاقه المغاربة في الحرب العالمية الثانية في إيطاليا، دافعة بهم فرنسا في المواضع التي تخشى على جنودها فيها.

 

بعد ترك الخدمة العسكرية، واجه المستعمر الفرنسي في المعتقل كغيره من آلاف الشباب الجزائريين الذين أودعهم الاحتلال الفرنسي في المعتقلات.  دخل السجن لأول مرة عام 1950، وبقي في المعتقل ما يقارب العامين والتهمة كانت تأسيس منظمة سرية تمس أمن الدولة، والمقصود هنا بالدولة هو الدولة الفرنسية المحتلة للجزائر العربية، وهرب من السجن سنة  1952 ليلتحق في القاهرة بحسين آيت أحمد ومحمد خضر ليشكلوا لاحقاً قيادة ما عُرفَ فيما بعد بالوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني.

 

قُبض عليه مرة أخرى سنة 1956 خلال عملية القرصنة الجوية التي نفذّها الطيران العسكري الفرنسي ضد الطائرة التي كانت تنقله من المغرب إلى تونس، والتي كان معه خلالها أربعة قادة آخرين لجبهة التحرير الوطني وهم محمد بوضياف، رابح بيطاط، حسين آيت أحمد، الصحفي مصطفى لاشرف. تم اقتياده إلى سجن فرنسي يقع في الأراضي الفرنسية، وبقي معتقلاً فيه إلى أن خرج المستعمِر ونالت الجزائر الاستقلال في 5  تموز1962، فعاد هو ورفاقه إلى الجزائر.

 

خلال وجوده في القاهرة كرّس وقته ونشاطه للعمل “ليلاً ونهاراً من أجل الثورة”.  وكانت القاهرة يومها قد انتقلت من مرحلة الملكية والعبودية لمرحلة التمرد على العهد الملكي مع ثورة تموز/ يوليو 1952.  ويقول بن بلا عن تلك الفترة: “لقد ارتبطنا في تلك الأيام برباط من الأخوة والجهاد والمحبة، وكان رباطاً ثورياً نظيفاً وطاهراً بين ثورة يوليو وثورة نوفمبر”.

 

ثورة الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 هي ثورة الجزائر ضد الفرنسيين وحكمهم المستمر منذ أكثر من قرن وربع القرن.  فقد كانت ثورة ضد استعمار استيطاني أسسها وقادها أحمد بن بلا نفسه.

 

يقول بن بلا عن هذه الثورة إنها لم تكن حصيلة نضال عفوي، بل ثمرة نضال بدأ سنة 1926 قاده “حزب النجم الشمالي الأفريقي” الذي تأسس في فرنسا في العشرينيات، ثم تسلّم راية النضال حزب الشعب في الثلاثينيات، هذا الحزب الذي عمّق مفهوم الثورة ولاقى الاضطهاد الشديد وتصدّر المطالبة باستقلال الجزائر الذي سبق أن وعدت فرنسا به إذا ما انتصر الحلفاء على ألمانيا النازية. وكانت فرنسا قد جندّدت أعداداً ضخمة من الجزائريين والمغاربة للقتال في صفوفها بفضل هذا الوعد.

 

وافقت فرنسا على الترخيص لحزب الشعب سنة 1947، بعد صدامات واسعة مع الجزائرين قُتل في إحداها أكثر من خمسة وأربعين ألف جزائري (أيار 1945) أثناء تظاهرهم مطالبين بالاستقلال.

 

رحّب الحزب بالترخيص له للعمل علناً، ولكنه حافظ على كوادره السرية التي أكملت عملها “تحت السطح”.

 

جاءت الانتخابات وسيطر حزب الشعب على كل الأصوات في جميع المدن والبلديات مما أزعج فرنسا فخططت لضرب الحزب بدءاً بتفجير التناقضات التي كانت تظهر بين حين وآخر داخل الحزب، فاستمالت الركن الأساس في “فرع الحزب العلني” مصالي الحاج بينما بقي “الفرع السري” على عدائه للمستعمرين، مؤمنا بالثورة طريقاً لتحرير الجزائر.   وكان هذا الفرع قد أسس “الكشافة المسلمين الجزائريين” فعمل على تصعيد التدريبات العسكرية داخل إطار الكشافة.  كان هذا التنظيم، الذي ترأسه في تلك الفترة آيت أحمد، قويَ التركيب منضبطاً ملتزماً دينياً، فكانت أناشيده إسلامية والصلاة إجبارية.

 

انفجرت الثورة الجزائرية في تشرين الثاني 1954، واتُخِذَ قرار اعتماد الكفاح المسلح في 25 تموز1954 في “كلو سالمبيه” في مدينة الجزائر.  وكانت اللجنة التي اتخذته تتألف من اثنين وعشرين زعيماً بينهم محمد بو ضياف، العربي بن مهيدي، يوسف زيغوت، ومراد ديدوش وسواهم. وكان بن بلّا يومها في الخارج يتنقل متخفيا بجواز سفر مزور يحمل اسم مزياني مسعود.

 

انتُخب بن بلا بعد انتصار الثورة كأول رئيس للجمهورية الجزائرية، وانتهى حكمه على إثر انقلاب عسكري قاده العقيد هواري بومدين في 19 حزيران 1965، وأودع بن بلّا وبعض رفاقه السجن، وظل معتقلاً حتى عام 1980.  وبعد إطلاق سراحه أنشأ الحركة الديمقراطية في الجزائر وأطلقها من فرنسا، وعاد للجزائر 29 كانون الأول عام 1990.

 

تزوج أحمد بن بلا وهو في السجن عام 1970 من صحفية جزائرية اسمها زهرة كانت معارضة له.  وبعد مقابلته في السجن انقلبت إلى مؤيدة له ولقضيته وبقيت معه في السجن سبع سنوات أنجبا خلالها ابنتيهما مهدية ونورية.  أما ابنهما علي فقد أنجباه خارج السجن.

 

كان بن بلا من أشد المعجبين بالرئيس المصري جمال عبد الناصر وكان على تواصل معه من بعد ثورة تموز، وكان الرئيس عبد الناصر من الداعمين بل المساهمين الرئيسيين في إنجاح الثورة الجزائرية والتاريخ يشهد له أنه بقوميته كرئيس دولة عربية قدّم كل ما باستطاعته لإنجاح الثورة الجزائرية؛ ثورة المليون ونصف شهيد.  ويُذكر أن بن بلّا توجه بعد حرب الخليج عام 1991 إلى العراق وقابل الشهيد صدام حسين رئيس الجمهورية العربية العراقية.

 

من أبرز مواقفه:

 

  • حول موقفه من اللغة العربية والبربرية، يقول بن بلا: أعتبر أنه من العيب أن نأتي بعد ربع قرن لنسأل عن موقفنا من اللغة العربية، أنا ضدّ من يطرح أي لغة أخرى مهما كانت، فعلى مستوى اللغة العربية فهي لغتنا الوطنية، ولا يمكن التخلي عنها أو تشجيع أي لغة أخرى منافسة لها، أنا بربري في الأصل وتراثي البربري تدعيم لأصالتي العربية والإسلامية ومن ثمّ لا أسمح بوجود لغتين وطنيتين: عربية وبربرية، إنّ اللغة الوطنية الوحيدة هي اللغة العربية، أما البربرية فتدخل في حيّز التراث الذي يتطلب منا إثراؤه ودعم الإيجابي منه.

 

  • عن وفائه لجمال عبد الناصر يقول: أنا وفيّ لفكر جمال عبد الناصر لأنني أعتبره رجلًا عظيماً ساهم في دعم الثورة الجزائرية أكثر من أي شخص آخر في الوطن العربي الذي تحكمه أطراف متناقضة ومتباينة، باستثناء عبد الناصر الذي كان يمثل الوفاء للثورة الجزائرية في مختلف مراحلها، والجزائريون مدينون لهذا الرجل وأظن أنّ خروج الشعب الجزائري إلى الشارع يوم وفاته كان دليلاً على وجوده في وجدانهم وضمائرهم .

 

 

من أهم أقواله:

  • أرفض حكم الفقهاء وأنا مجرد مواطن جزائري.
  • كل جزائري هو مقاوم محتمل إذا استطاع الحصول على سلاح.
  • عقيدة الجزائر السياسية ونشاطها الدبلوماسي موجّهان من أجل تصفية الاستعمار بشكليْه الكلاسيكي والمُقنّع.

 

 

سلسلة قواعد المسلكية الثورية

الجزء السابع: الجدية

 

عبد الناصر بدروشي

 

فليسمح لنا القارئ الكريم أن نستعين في تقديمنا للقاعدة السابعة من سلسلة قواعد المسلكية الثورية بالانطلاق من مسلّمة لا يمكن أن يختلف حولها قوميان جذريان وهي أن جذور مشكلات واقعنا العربي تتلخص في ثلاث، وهي: التجزئة والاحتلال والتخلف، ولسنا الآن بصدد تناول هذه الآفات الثلاث وإنما سنقوم بتسليط الضوء على بعض مخلّفاتها التي تعيق طريق النضال في سبيل تحرير أمتنا وتوحيدها والنهوض بها.

 

لا شك في أن حالة التخلف، التي تسود مجتمعنا العربي وغيره من المجتمعات المتخلفة بفعل قوى الهيمنة الخارجية التي تسعى لإبقائنا كمجتمعات ضعيفة خاضعة لسيطرتها ونفوذها، تنتج قيما متخلّفة، مما ينجر عنه بالضرورة ضرب القيم الحضارية التي يجب أن يتسلح بها المناضل في مسيرته نحو الثورة، فيحلّ الكسل محل العمل والإهمال بدل الحرص والاستهتار بدل الجدية.

 

بما أن التنظيم الثوري ابن بيئته، وبما أن كوادره ومناضليه هم من أبناء المجتمع الذي ينتمي إليه ويناضل في سبيل خلاصه وتحريره، فالنضال في سبيل بناء وترسيخ القيم الإيجابية البنّاءة داخله لا بد من أن يحتل أولوية أولى على لائحة الأولويات حتى نضمن فعالية التنظيم، فالثوري الحقّ هو من يثورعلى نفسه التي بين جنبيه أولا حتى يخلّصها من الشوائب والأدران، فتستقيم.

 

إنّ فعالية الحركة الثورية وانضباطها وحسن أدائها مرتبط بمدى جدية أعضائها وتفانيهم في قيامهم بواجباتهم، إن الجدية تقتضي أن يسخّر المناضل كل إمكانياته لخدمة القضية التي يؤمن بها ويجتهد في القيام بواجباته التنظيمية بجدّ وعزم من دون إهمال أو تقصير، بغض النظر عن الحالة النفسية أو المادية أو الاجتماعية التي يمرّ بها.

 

تُعتبر الجدية الخيط الفاصل بين الفعالية والعطالة..  بين الانضباط والتسيّب..  بين النجاح والفشل..

باختصار تمثّل الجدية الفارق بين المحترفين والهواة..  لهذا يجد المسؤولون التنظيميون أنفسهم دوماً أمام حرب ضروس في وجه القيم المخربة التي من شأنها إضعاف التنظيم وتخريبه بل وحتى الإجهاز عليه.

 

 

دائما ما يضع المناضل الجادّ الأمور في نصابها، فهو دائم الحرص على رفع مستوى الانضباط في صفوف تنظيمه وهو يؤمن بقداسة الواجب، وهو حركي ودؤوب، وسعيه لا يفتر في سبيل تعميق روح الانتماء والارتباط المصيري بالثورة… فهو يرى أنّ وجوده مرتبط ارتباطا وثيقا بالثورة.. وأنّ روحه مرهونة باستمرار الثورة وبانتصارها وبقدرتها على تحقيق مصالح الجماهير، وأن شرفه من شرفها.

 

تفرض الجديّة على المناضل أن يكون جادّا في أقواله وبعيدا عن السخافات والتفاهة فلا يخلط الهزل بالجدّ… وأن يبتعد عن اللامبالاة، وهو مطالَب بالتصدي لمظاهر الاستهتار والتفاهة التي قد تبدر من غيره من الأعضاء.

 

في الختام نسوق هذه الفقرة كما وردت في كتيب قواعد المسلكية الثورية كونها موجزة وبليغة :

“إن تعميق المسلكية الجادّة لدى المناضلين، هو تعميق للثورة في صفوف الجماهير.. وللثقة المتبادلة بين أعضاء الثورة أنفسهم. وفقدان هذه المسلكية هو تغييب للروح الثورية من العمل النضالي، مما يوقِعُ العمل الثوري في أفخاخ المزاجية الفردية، التي تقوم بالمهمات حسب أهوائها وتعالج القضايا وتطرحها حسب الحالة النفسية الشخصية التي تمر بها.. فهي متحمسة حينا ولا مبالية أحيانا.. مما يفقد المناضل الثوري صفة الثائر القدوة للجماهير..”

 

 

 

قصيدة العدد:

 

موشح (جــادك الغيــث) لأبي عبدالله ابن الخطيب

 

اعداد أيمن الرمحي

 

جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى           يــا زمــان الــوصل بــالأَنـدلــسِ

لـــم يكــن وصْـلُــك إِلاّ حُــلُـمًــا         فــي الكــرى أَو خِلسـة المخـتَلِسِ

إذ يقــود الدّهــرُ أَشــتاتَ المُـنـى         ينـقــلُ الخــطـوَ عـلى مـا يرســمُ

زُمَـــرًا بـيـــن فُـــرادى وثُـــنـــاً        مثــلـمــا يدعـو الوفـودَ الموْســـمُ

والحيــا قــد جـلَّل الـرّوض سـنا         فــثغـــور الـزّهــرِ فـيــه تبـســـمُ

….

وروى النُّعمـانُ عـن مـاءِ السّـما         كــيـف يَــروي مـالِـكٌ عـن أنَـسِ

فكـســاه الحُـســن ثـوبًــا مُعلـمــا         يـــزدهـي منـــه بــأبـهى مَــلبـسِ

فــي ليــالٍ كــتَمَتْ ســرَّ الهــوى         بــالدُّجـى لــولا شــمـوس الغُـرَرِ

مــال نجــمُ الكـأس فيهـا وهـوى         مـســـتـقيـمَ الـسّــيرِ سَــعْدَ الأَثَــرِ

وطَـرٌ مـا فيـه مـن عيـبٍ سـوى         أَنّـــه مـــرّ كَـــلـمْــح الــبــصَـــرِ

….

حــين لــذّ الأُنس شــيئًا أَو كمـا         هجــم الصّبــحُ هجــومَ الحـرَسِ

غــارت الشــهْبُ بنــا أَو ربّمـا         أَثّــرت فينــا عيــون الـنرجـــسِ

أَيّ شــيءٍ لاِمْــرئٍ قــد خلُصـا         فيكــون الــرّوضُ قـد مُكِّـن فيـهِ

تنهــب الأَزهــار منـه الفُرصـا        أمِـنَــت مــن مكــره مــا تـتّقـيـهِ

فــإذا المــاء تنــاجى والحـصى        وخـــلا كـــلّ خــلـيــلٍ بـأخــيــه

….

تـبـصــر الـــوردَ غــيـــوراً بَـرِمـــا     يكتســي مــن غيظـه مـا يكتسـي

وتَـــرى الآس لـــبـيــبـــاً فــيــهِــمـا    يـســرقُ الـســمْع بــأذنيْ فــرَسِ

يـا أُهـيْـلَ الـحـيّ مـن وادي الغـضـا     وبـقــلـبـــي ســـكَـنٌ أَنـتـــم بــهِ

ضاق عـن وجـدِي بِكُم رحْبَ الفضا       لا أبــالى شــرقَه مــن غـربـــهِ

فــأعـيـدوا عَهْــدَ أنــسٍ قــد مـضــى       تُعْتِقـــوا عــانـيكـمُ مــن كرْبـــهِ

….

واتّقــوا اللــه وأَحــيوا مغـرمَــا            يتــلاشــــى نَفـَسًـــا فـــي نَفَـسِ

حـــبَس القلــب عليـكــم كَرمــا            أفـــتـرضـون عــفــاءَ الحــبَـس

وبـقــلـبــــي مـنـكـم مـقـــتـربُ           بأحــاديث المنــى وهــو بـعـيــد

قمـــرٌ أَطـلــع مـنــه الـمغــربُ          شَــقْوة المُغــرَى به وهـو سـعيد

قــد تســاوى محســنٌ أَو مـذنبُ           فــي هــواه بيــن وعْـدٍ ووعـيــد

….

سـاحر المقلــة معســول اللّمـى           جــال فــي النّفس مجــالَ النّفَسِ

ســـدّدَ السّــهمَ وســمّى ورمــى           فــفـــؤَادي نــهـبـــة المفـــتـرسِ

إن يـكــن جـاء وخــاب الأمــل         وفـؤاد الصَّـبِّ بالشــوق يــذوب

فــهــو للنـفـــس حـبـيــب أولُ           ليـس في الحب لمحـبوب ذنوب

أمــــره مــعــتمـل مــمـتـــثــل         في ضـلوع قــد بـراهـا وقـلوب

….

حــكـم اللـحـظ بهـا فاحـتـكـما           لم يراقب في ضـعاف الأنفــس

منصـف المظلوم ممن ظـلـما         ومـجازي الـبَـرَّ منها والمُـسِـي

مـا لـقلـبي كلـما هـبّـت صـبـا         عـاده عـيدٌ مـن الـشـوق جـديـد

كـان فـي اللـوح لـه مكـتـتـبــا         قــولـه: “إن عـذابـي لــشــديــد”

جــلـب الـهـمّ لـه والـوصــبــا          فهـو للأشـجان في جـهدٍ جهـيـد

….

لاعـجٌ في أضـلعي قـد أضـرمـا       فهـي نـارٌ في هـشــيـم الـيــبـس

لم يــدع في مـهـجـتـي إلاً ذمـــا     كــبقـاء الصــبح بـعـد الغــلــس

سـلّمي يا نفـسي في حـكم القضا        واعمُري الوقت برُجعى ومتاب

دعك من ذكرى زمان قد مضى        بين عُـتبي قـد تقضـت وعـتـاب

واصرفي القول إلى المولى الرضى    ملـهـم التـوفـيـق في أم الـكـتـاب

الــكـريم المـنـتهـى والـمـنـتمـي         أسـد الـســرج وبـدر الـمجـلــس

يـنـزل الـنـصـر عـلـيـه مـثـلـما          يــنــزل الـوحـي بـروح القُــدس

مـصطـفى اللهُ سَـمِيّ المصطفى        الــغـنــي بــالله عــن كــل أحــد

مـن إذا مـا عَــقـد الـعـهـد وفــى         وإذا مــا فـتــح الــخطــب عـقـد

مـن بني قيـس بن سـعـد وكـفى        حيث بيت النصر مـرفوع العَمَد

….

حيث بيت النصر محمّي الحمى        وجَنى الفضل زكـيّ الـمغــرس

والـهـوى ظـل ظــلـيــلٌ خـيّـمـا       والـنـدى هـبَّ إلـى المـغـتــرس

هاكـها يا سِــبطَ أنـصار العُـلا        والـذي إن عــثـر الدهـر أقــال

غـادةً ألـبــسـها الحــســن مُلا       تبهـر الـعـيـن جـلاءً وصــقـال

عارضت معنىً ولفظاً وحـلى         قـول من أنطـقـه الحـب فـقـال:

هل درى ظبي الحمى أن قد حمى    قـلـب صـب حَـلَّه عن منـكــس

فهـو في خـفـقٍ وحـر مثـلـمـا         لعبـت ريـح الـصـبا بالـقـبــس

 

أبو عبدالله ابن الخطيب: من الوشاحين المشهورين بالأندلس، تولى الوزارة بغرناطة، وعرف بذي الوزارتين: الأدب والسيف، وتعتبر موشحته هذه من أشهر الموشحات، وأغناها بالفكرة والصورة والإحساس والتلوين الكلامي.  وقد توفي أبو عبدالله ابن الخطيب سنة 1374م.

 

ويمكن تعريف الموشح على أنه كلامٌ منظوم على وزن مخصوص بقواف مختلفة، وهو تجديد في شكل الشعر العربي لا في مضمونه.  يضم الموشح عادةً ثلاثة أقسام، دورين وخانة كل منها بلحنٍ مختلف والختام بالخانة الأخيرة غالباً ما يكون قمة اللحن من حيث الاتساع والتنويع. قد تتعدد أجزاء الموشح لتضم أكثر من مقطع لكلٍ منها شكل وترتيب وتتخذ تسميات مثل المذهب، الغصن، البيت، البدن، القفل، الخرجة.

 

ازدهر فن الموشحات في الأندلس، وبرع في هذا الفن عديدون، منهم: عبادة بن ماء السماء، يحيى بن بُقّي، والأعمى التُطَيْلي، وأبو بكر بن زهر، وأبو بكر بن باجة، وابن سهل، ولسان الدين بن الخطيب. وكان سبب ازدهار الموشحات في الأندلس حياة الترف والطرب وتقدير الفنون. تناول الوشاحون في موشحاتهم أغراض الشعر العربي المشهورة من مدح ووصف وغزل وهجاء ورثاء وزهد، ولكن أشهر الموشحات نظمت في الغزل واللهو ووصف الطبيعة.

 

 

 

[1]  للكاتب د.إبراهيم علوش على ص.37  يوجد المقال  باللغة العربية  في كتاب “الرسالة السياسية لهوليود: تفكيك الفيلم الأمريكي”.







Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *