Qawmi

Just another WordPress site

14894372_1149790735108115_1734114723_o

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 تشرين ثاني 2016

 

–  كلمة العدد: القانون الدولي بين قوة القانون وقانون القوة/ بشار شخاترة

–  عشرة قرارات “أمميّة” عن الصّراع العربيّ-الصّهيونيّ/ محمد العملة

–  في الموقف من ولاية القانون الدولي/ إبراهيم علوش

–  المنظمات الدولية بين شعارات موعودة وأهداف مفقودة/ صالح بدروشي

–  قانون إمبريالي لا دولي: “سيفر ولوزان” نموذجاً/ علي بابل

–  مبدأ السيادة القُطرية في ميثاق الجامعة العربية مدعاة لانهيارها/ محمود كامل الكومي

–  الشرعية الدولية في الميزان القومي الجذري/ عبدالناصر بدروشي

–  شخصية العدد: خالد أكر وميلود بن ناجح؛ نسورٌ من وطني/ إعداد: نسرين الصغير

–  الصفحة الثقافية: تجليات العروبة في القصيدة الوطنية الجزائرية/ إبراهيم حرشاوي

–  فدريكو غارسيا لوركا، شاعراً ثورياً انتمى للعرب/ معاوية موسى

–  أهمية الحوار في العمل المسرحي/ طالب جميل

–  قصيدة العدد: بيان القيامة العربية/ الشاعر يوسف الخطيب

–  كاريكاتور العدد  

 

العدد 30 – 1 تشرين الثاني 2016

لقراءة العدد عن طريق فايل الـ PDF  

tt30-4-1

للمشاركة على الفيسبوك

https://web.facebook.com/Qawmi

tt30-4-1-page-001 tt30-4-1-page-002 tt30-4-1-page-003 tt30-4-1-page-004 tt30-4-1-page-005 tt30-4-1-page-006 tt30-4-1-page-007 tt30-4-1-page-008 tt30-4-1-page-009 tt30-4-1-page-010 tt30-4-1-page-011 tt30-4-1-page-012 tt30-4-1-page-013 tt30-4-1-page-014 tt30-4-1-page-015 tt30-4-1-page-016 tt30-4-1-page-017 tt30-4-1-page-018 tt30-4-1-page-019 tt30-4-1-page-020 tt30-4-1-page-021 tt30-4-1-page-022 tt30-4-1-page-023 tt30-4-1-page-024 tt30-4-1-page-025 tt30-4-1-page-026 tt30-4-1-page-027 tt30-4-1-page-028 tt30-4-1-page-029 tt30-4-1-page-030 tt30-4-1-page-031 tt30-4-1-page-032 tt30-4-1-page-033 tt30-4-1-page-034 tt30-4-1-page-035 tt30-4-1-page-036 tt30-4-1-page-037 tt30-4-1-page-038 tt30-4-1-page-039 tt30-4-1-page-040

طلقة تنوير30: موقفنا من “الشرعية الدولية” والقانون الدولي

 

كلمة العدد: القانون الدولي بين قوة القانون وقانون القوة

 

بشار شخاترة

بعيد انهيار المنظومة الاشتراكية بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، دشّن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب مرحلةً جديدةً في العلاقات الدولية أطلق عليها لقب مرحلة  “الشرعية الدولية والاحتكام للقانون”، ومثلت عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بحقّ العراق بداية مرحلة هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم من خلال منظمة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها، وأصبحت عملية استصدار القرارات من مجلس الأمن من السهولة بحيث عانى مجلس الأمن من إسهال في عدد القرارات.

يصطلح مفهوم القانون الدولي العام على مجموعة التشريعات الدولية الناظمة للعلاقة بين أشخاص القانون الدولي والناشئة بشكل أساسي عن المعاهدات والتي تمثل المصدر الأهم  في القانون الدولي، إضافة إلى مصادر رديفة أقل أهمية لكن تبقى لها قيمتها كالعُرف الدولي، وبشكل ضئيل تعتبر اجتهادات المحاكم الدولية وقواعد العدالة من بين مصادر القانون الدولي.

وبالنسبة لأشخاص القانون الدولي تعدّ الدول أهم شخوص هذا القانون، ويُلحَق بها المنظمات الدولية والإقليمية بكافة أشكالها وبالقدر اللّازم لممارسة أنشطتها واختصاصاتها، ولحاجة الدول الماسّة لتنظيم العلاقات بينها، ولمنع انفجارالصراع بينها لجأت إلى إبرام معاهدات حفاظاً على مصالحها، وهذا من حيث الأصل، إلا أنّ الماثِل على الساحة الدولية ومنذ قرون طويلة هو أن المعاهدات كانت دائماً تعكس ميزان القوى، بحيث تؤمّن بعض الدول مصالحها مستفيدةً من ظروفها الراهنة وقت إبرام المعاهدة، أو بسبب صراع تلك الدول على مناطق النفوذ فتأتي المعاهدات على حساب دول أخرى إذا تمّ تقاسم مناطق النفوذ العالمية.

وبالرجوع إلى نشأة القانون الدولي في واقعه الحاضر بشكل عام، فإنه يجوز التصنيف على أساس أنه أوروبي النشأة والتطور، فقد ترافق وحركة الاستعمار العالمي وما سبقها أيضاً من صراعات أوروبية – أوروبية، ورغبة تلك الدول في وضع حدّ لصراعاتها الداخلية والخارجية، بحيث بدأت مرحلة مهمة من تدوين المعاهدات، وتعدّ معاهدة وستفاليا عام 1648 بدايةً  لوضع أسس النظام السياسي الأوروبي والذي أصبح لاحقاً محدِداً لقواعد هامة في العلاقات الأوروبية والدولية، وأهم نقطة أفرزتها هذه المعاهدة هي الاعتراف باستقلال الدول الموقعة عليها واحترام سيادتها واستقلالها الديني من حيث أن ديانة كل دولة يحددها ملكها.  وتلى تلك المرحلة التنافس المحموم بين الدول الأوروبية الاستعمارية التي توارثت الدور الاستعماري لاحقاً عن بعضها خصوصاً مع انطلاق الثورة الصناعية، والتي احتاجت إلى مزيد من الأيدي العاملة ومزيد من المواد الخام ومزيدٍ من الأسواق لتصريف البضائع، بحيث أصبحت الحاجة لتنظيم التسابق على الموارد تُنْذِر بحروب وكان هذا فعلاً ما يحصل، مما حدا بالطبقة الصاعدة لتطوير علاقات دولها مع باقي الدول الصناعية الاستعمارية خوفاً على مصالحها حيثما يقتضي ذلك وحيثما أمكن، وفي نفس الوقت لا توفّر فرصة للإجهاز على خصومها من الدول الصناعية الأخرى إذا كان الظرف يسمح بهذا ومن دون هوادة، الأمر الذي أدّى إلى توالي القوى الاستعمارية على مستعمرات العالم من هولندا وإسبانيا والبرتغال إلى فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية.

شكّلت المعاهدات المعقودة بين تلك الدول أساساً نظرياً وعملياً لتطوّر قواعد القانون الدولي نتيجة لهذا التزاحم في الساحة الدولية بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وبالنتيجة استطاعت تلك القوى أن ترسيَ قواعد لتبني عليها لاحقاً الصيغة البنيوية للعالم، عالم قائم على تقاسم مناطق النفوذ لنهْب الثروات وفتح الأسواق لتصريف فائض بضائع تلك الدول، وكل ذلك كان يتمّ في صيغ قانونية على شكل معاهدات شرعَنت نهب الثروات سواء بين الدول الاستعمارية فيما بينها أو بين الدول الاستعمارية وبين الدول الواقعة تحت الاستعمار.

فالمعاهدات المتعلقة بالتجارة الدولية والنقل البحري، ولاحقاً النقل الجوي وحتى البري والجمارك والمنافسة، إضافة إلى المواصفات جميعها، تطورت مع الثورة الصناعية، ليصبحَ القانون الدولي صدى للمصالح الأوروبية وتلاها من بعد ذلك المصالح الأمريكية، والتي تحمل نفس الطابع والمرجعية، فالعالم اليوم يسير وفق منظومة قانونية دولية وضعتها قوى تمكنت من أن تستحوذ على جلّ الإنتاج الصناعي والتجاري العالمي، وتفرض على دول العالم احترام تلك القواعد التي تمثّل مصالحها أولاً وتضمن تنافسية إنتاجها وتجارتها ثانياً.  وترتبط القواعد السابقة بآلية سياسية، ارتأت الدول الاستعمارية إيجادها ورسم العالم بطريقة تبقي لها الفرصة دائما للتدخل وفرض شروطها وإن لزِم باستعمال القوة.

لقد شهدت العلاقات الدولية مطلع القرن العشرين حرباً واسعةً من حيث عدد الدول المشتركة فيها ناهيك عن الرقعة الجغرافية الواسعة خارج حدود تلك الدول وعلى فترة زمنية امتدت لأربع سنوات، اصطدمت قبل هذه الحرب قواعد القانون الدولي التي كانت سارية بواقع ظهور قوى جديدة على الساحة الاستعمارية لم تجد لها مكاناً ولم تقبل بها الدول الاستعمارية التقليدية، فبعيد الحرب دخل التقنين الدولي مرحلة مهمة بانبثاق عصبة الأمم التي هيمنت عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وأنشأت تبعاً لها منظمات أرادت من خلالها تكريس نفوذها وترجمة انتصارها في الحرب إلى واقع عالمي جديد لتتسع رقعة الهيمنة الاستعمارية البريطانية الفرنسية، وكان نصيب الوطن العربي منها وافراً، حيث وقعت الشام والعراق تحت الانتداب البريطاني والفرنسي في صيغة مبتكرة لفكرة الاستعمار وللسيطرة على منافذ التجارة العالمية.

شرعنت اتفاقيات فرساي في فرنسا عام 1919 نفوذ الدول المنتصرة، ليكرّس القانون الدولي شريعة المنتصرين وأطماعهم، ثمّ تلتها معاهدة سان ريمو لتقاسم بلاد الشام والعراق ولاقتطاع أجزاء منها لصالح تركيا.  مثل هذه الأمثلة من المعاهدات تبرز الطابع العام للقانون الدولي بعد الحرب العالمية الأولى والذي كان سائداً قبلها، ولكنه ابتكر فكرة عصبة الأمم ليسيطر على طموحات الدول وتحسّباً لأي حرب جديدة، فلم تكن الحرب الأولى نزهة ولم يكن النصر فيها بالسهولة التي تتم فيها قراءة سطور أو يوميات الحرب، فقد تكبّدت الدول المنتصرة خسائر مهولة، وكان يمكن أن تختفي تلك الدول عن الخارطة الدولية لو لم تنتصر.

أصبحت فكرة القانون الدولي المستنِد إلى المعاهدات للسيطرة على العالم مهمة فقهاء القانون، والمتشرّبين للفكر الرأسمالي القائم على قانون الربح الأقصى، ولم تستطع هذه الآلية أن تتفادى الحرب العالمية الثانية التي جاءت أشدّ مرارةً وأكثر قسوةً من سابقتها، حينما لم تفلح عصبة الأمم في كبح جماح الحرب، لا بل كانت العصبة أولى ضحايا تلك الحرب بسبب ما اقتُرف باسمها بحق الدول المهزومة في الحرب الأولى وأهمها ألمانيا، فجاءت الحرب العالمية الثانية بمنتصرين جدد ولاعبين جدد على الساحة الدولية.

…ليُعاد تقاسم العالم في مؤتمر يالطا عام 1945 بين المنتصرين، ولتشهد الساحة الدولية واقعاً جديداً أشبه بالوقوف على حافة الهاوية، نظراً لتطور وسائل الدمار الشامل وأهمّها الأسلحة النووية، ومن هنا أعطيت أهمية أكبر للقانون الدولي، ولعبت منظمة الأمم المتحدة دوراً هاماً نقلت فيه الدول الكبرى صراعاتها إلى أروقة المنظمة خشية الانزلاق إلى حرب جديدة، وهذا بالقطع لم يمنع أن تجري الحروب على ساحات غير ساحات تلك الدول، وهذا النمط أخذ طابعاً ابتكارياً لتبريد جبهات الدول الكبرى من خلال خوض المعارك على أراضي حلفاء الطرفين.

لا شك أن قواعد القانون الدولي التي رسمت معالم العلاقات الدولية قد حدّدها المنتصرون في الحرب الثانية، ووضعت القواعد وأنشأت المنظمات الدولية المرتبطة بمنظمة الأمم المتحدة في سبيل أن تتمكن القوى المهيمنة من الإشراف والسيطرة على مفاصل العمل الدولي في مختلف مناحي الحياة بدءاً من الصحة إلى العمل والعمالة إلى القوانين الناظمة للبحار إلى التجارة الدولية والعلاقات الدبلوماسية والحقوق المدنية والسياسية ناهيك عن حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني الذي وضع أسساً لاحترام حقوق الإنسان في فترات الصراعات.

ولقد مثّل الاتحاد السوفياتي رافعةً هامةً في مجال استقلال دول العالم من الاستعمار، كما ساهم في الاعتراف بحركات التحرر الوطني وبحقّها في التمثيل الدولي وبشرعية دفاعها عن أوطانها في وجه الاستعمار، لكنّه في ذات الوقت ساعد على ذلك ولو بقدر ضئيل ومحدود رغبة الولايات المتحدة في الحلول محل الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا وإبعادهما عن المشهد الدولي وإلحاقهما بالقطب الأمريكي.

بالنسبة للأمة العربية لم تكن تجربتها إيجابية بتاتاً مع القانون الدولي، فكانت المعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بها تتم على حسابها، وباسم “الشرعية الدولية” وضِعتْ فلسطين تحت الانتداب البريطاني وباسم “الشرعية الدولية” اعتُرف بوجود “إسرائيل” وبحقها في الحياة، وتحت عباءتها يتم استيعاب ردود الأفعال على مثل هذه القرارات بالعمل على استيعاب اللاجئين وتشغيلهم وتسفيرهم وتوطينهم وخلق الوهم بإيجاد دولة للفلسطينيين على قدم المساواة مع دول العالم تحوز الاعتراف الدولي وتحصل على عضوية الأمم المتحدة.

ولعل أهم مظاهر القانون الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية هو الزخم والظهور للمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أو المستقلة عنها، لكنها في غالب الأحيان تتبع بشكل أو بآخر للعالم الغربي الإمبريالي، وتقع على كاهلها وظائف ومهام متخصصة، الغرض منها إبقاء الرقابة على أنشطة الدول في مختلف المجالات، لتفتحَ أبواباً ونوافذ على دول العالم لتسهيل التدخّل فيها واختراقها، وبهذا تبقي نفسها حاضرةً في كل مكان، مستغلةً قوتها الاقتصادية للضغط على الدول الأخرى، وهذا دور تلك المنظمات التي أصبحت تملك، بفعل تقاريرها المفبركة، أن تسلّط سيفاً على الدول يمكن أن تحدث معها تلك التقارير اضطرابات داخلية أو أن تزعزع اقتصاد أي دولة، فهذه الهيمنة على المنظمات الدولية أتاح أداة فعالة للاستغناء عن الحروب إلى حد ما إذا كانت تستطيع أن تفيَ بالغرض.

لا يبدو أن قواعد القانون الدولي قادرة على وضع القضايا الدولية في ميزانها الصحيح، لأنه مرآة للقوى الدولية، يعكس صورة ميزان القوى العالمي فيصبح القانون الدولي بحق قانون الأقوياء المعبّر عن القوى السائدة في المجتمع الدولي، وطالما أنها لا تعبّر عن مصالح الآخرين فهي بالضرورة لا تعنيهم إلا من حيث أنها مفروضة عليهم، وهنا يبدو واضحاً للعيان أن نصيب العرب من القانون الدولي والمنظمات الدولية تافه لدرجة لا تذكر، وإن كان قياساً بالعدد يمكن أن نحجز حصةً مهمةً في المنظمات الدولية، لكنّ الوزن الحقيقي لا يأتي من كثرة العدد بل بالوزن النّوعي الذي يمكن أن يمثله ثقل دولة واحدة، فبالنظر إلى الإمكانية الهائلة للأمة العربية لولوج المعترك الدولي كوِحدة واحدة فإن الواقع القائم يبدو بائساً أمام الواقع المنشود والذي بمقدور الأمة العربية لعبه على الساحة الدولية.

“الشرعية الدولية” التي تُنتَهك صباح مساء ولا تُحتَرم من قبل الدول القوية، ومع ذلك تصرّ نفس الدول على دور طليعي ومتقدم لتلك الشرعية ومنظماتها فإنما يدل على أن التقيّد بأحكام القانون الدولي هو من مهام الدول الضعيفة، وأنها أداة لتحقيق مصالح الدول الكبرى.

إنّ قواعد القانون الدولي التي باتت مدخلاً هاماً على الدول من حيث إلزاميتها للقاضي الوطني الذي يتصدى للقضاء في وطنه، فإنه مجبر بحكم تلك القواعد فيما يتعلق بالاتفاقية التي قبلتها دولته أن يطبق القاعدة القانونية الدولية إذا تعارضت مع قواعد التشريع الداخلي للدول، فالملاحظ أن قواعد القانون الدولي تتمدد على حساب الدول الضعيفة، ولا أدلّ من ذلك إلا المعاهدة التي انبثقت عنها المحكمة الجنائية الدولية والتي لم توقّع عليها الولايات المتحدة ولكنها تعطي لنفسها الحق في ملاحقة الدول بموجب نصوص تلك الاتفاقية حتى لو لم تكن موقِّعة عليها ومثالها السودان في الوقت الذي توقّع الولايات المتحدة اتفاقيات مع دول العالم الموقِّعة على المعاهدة الجنائية الدولية لحماية جنودها خوفاً من تسليمهم للمحكمة وهذا على فرض إمكانية حدوث هذا.

إنّ فكرة القانون والقاعدة القانونية بحد ذاتها مهمة وذات قيمة وتزداد قيمتها بوجود سلطة تنفذها لا أن تبقى نصوصاً صمّاء في قلب الكتب، ولكن الأهم أن تكون عامة ومجردة بحيث تطبق على الجميع بنفس الدرجة، ولكن الواقع الدولي يثبت أنّ تطبيق القانون الدولي ليس مجرداً وليس عاماً وليس محايداً، لذا فهذا قانون شرّعه أصحابه ليستفيدوا منه بالدرجة الأولى.

عشرة قرارات “أمميّة” عن الصّراع العربيّ-الصّهيونيّ

محمد العملة

تأسست الأمم المتحدة عام 1945 على أنقاض عصبة الأمم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لتجمع طيف المنتصرين بقوة السّلاح في تلك الحرب، وللمفارقة، اتفق هؤلاء في ميثاقهم على ضمان حقوق الإنسان والحد من انتشار السلاح.  لا عجب في ذلك، فالقرار اصطلاحاً هو الأمر الذي يُجريه من يملكه، ويَصْدر عن صاحب النفوذ دوماً.

بشكل عام تعتبر الولايات المتحدة وحلفاؤها أبرز الداعمين للميزانية العامة السنوية لهذه المنظمة، لكن في نفس الوقت تعد الولايات المتحدة أكثر الدول مبيعاً للسلاح في العالم، بل وهي أكثر من خاض حروباً منذ تأسيس المنظمة!

 تاريخ هذه المنظمة منذ تأسيسها عاصر مئات الحروب في كل قارات العالم، كان للوطن العربي نصيب الأسد منها، لعل أبرزها: احتلال فلسطين، العدوان الثلاثي على مصر، حرب النكسة، حروب العراق، احتلال ليبيا، الأزمة ومشروع تقسيم سورية وغيرها الكثير.

قائمة الحروب الطويلة هذه ترافقت مع مجموعة قرارت أصدرتها الأمم المتحدة منذ تأسيسها، بدأت بقرارات ذات رقم من خانة واحدة تسارع عدّادها مع الأيام لنصل إلى قرارات من أربع خانات، ومع ازدياد الخانات ارتفعت وتيرة الدمار وملحقاته، فهي وفرت أرضية وأساساً لبناء معاهدات واتفاقيات نعاني بسببها إلى يومنا هذا، كيف لا ومعظم السياسات الخارجية قد بُنِيَت وما تزال تُبنى عليها.

بالحديث عن القرارات، من المفيد القول بأن الأمم المتحدة تنضوي تحت مظلتها عدة هيئات تختلف في وظائفها، لعل مجلس الأمن أهمها إذ تعتبر قراراته ملزِمة وفعالة، على عكس هيئات أخرى كاليونيسكو أو الجمعية العمومية، فقراراتهما غير ملزِمة وتأتي في معظمها لإيجاد توازن معنوي أو ثقل بالمفهوم المجازي، ويمكن ملاحظة ذلك بشكل كبير خلال الفترة الممتدة من خمسينيات القرن الماضي وصولاً لنهاية الثمانينيات أيام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، حيث أوجدت الجمعية العمومية هامشاً للمناورة السياسية بينهما في المسرح الدولي عبر قرارات شكلية سأذكر بعضها في ثنايا مقالتي هذه.

كل ما سبق يطرح جملة من التساؤلات المهمة: ما الذي يجعل من قرارات الأمم المتحدة ملزِمة؟ وما مدى شرعيتّها؟ وهل تصبُّ في مصلحتنا؟ وهل علينا أن ننساق وراءها؟!

لعل الصراع العربي-الصهيوني يشكل مادة دسمة للبحث عن إجابات الأسئلة المطروحة، فالقرارات “الأممية” المتعلقة بهذا الصراع وقضاياه كثيرة جداً، والظّلم فيها بيّن، فهي تساوي بين الضحيّة والجلاد،  فيما يلي سردٌ لأهم عشرة قرارات -غالبيتها صدرت عن مجلس الأمن- عن الصراع العربي-الصهيوني لا بد من تقييمها في ميزان المصلحة القومية العربية:

  • القرار رقم 181: الذي تبنّته الجمعية العمومية، الشهير بقرار تقسيم فلسطين؛ صدر في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947، ونصَّ على تقسيم الأرض العربية الفلسطينية لثلاثة كيانات: فلسطينية ويهودية وأراضٍ تحت وصاية دولّية. هذا القرار الصادر عن الجمعية العمومية جاء محصّلة لجهود خمسين سنة متواصلة بدأتها الحركة الصهيوينة منذ مؤتمر “بال” في سويسرا لتجميع يهود العالم في كيان واحد تحت خرافة ما يسمونه “الشعب اليهودي” واعتبار الصهيونية حركة تمثل البرجوازية اليهودية تبحث عن استقلاليتها في محيط البرجوازيات الأوروبية بعد الثورة الصناعية.  كان اختيار فلسطين لتكون أرض الكيان مبنياً على اعتبارات استعمارية بحتة جرى تغليفها بخرافات أرض الميعاد التوراتية لإحلال قوة ترعى مصالح البريطانيين في منع إقامة أي وحدة بين مصر وسورية الطبيعية، ولحماية خط أنابيب نفط “الموصل-حيفا”، وللتخلص من يهود أوروبا بطبيعة الحال.
  • القرار رقم 3240: وأذكره هنا على سبيل السخرية من الفصام الذي يسيّر الأمم المتحدة، إذ جرى إعلانه عام 1975 في ذكرى قرار التّقسيم ليكون يوماً دوليّاً للتضامن مع الشعب الفلسطيني!
  • القرار رقم 273: وجاء بعد عام من احتلال فلسطين، وفيه قبلت الأمم المتحدة عبر قرارها الصادر عن الجمعية العمومية طلب قبول عضوية الكيان الصهيوني لها بوصفه “دولة محبّة للسلام”!
  • القرار رقم 252: صدر هذا القرار عام 1968 عن مجلس الأمن، وينصّ على منع تغيير وضع مدينة القدس أو مصادرة الأملاك والأراضي من أهلها العرب الفلسطينيين، لكن الكيان الصهيوني لا يقيم عرفاً لأية قوانين خصوصاً إن لم تكن في مصلحة الراعي الأمريكي الذي امتنع عن التصويت على هذا القرار ومعه كندا، فيما فعلت بريطانيا وفرنسا العكس، وعلى أية حال، القدس باتت شرقية وغربية، ومشروع التهويد فيها يسير على قدم وساق.
  • القرار رقم 497: صدر في أواخر العام 1981 بإجماع تامّ في مجلس الأمن ويدعو الكيان الصهيوني لإلغاء ضمّ مرتفعات الجولان المحتل. أذكر هذا القرار كتمثيل على عشرات القرارات الأخرى التي تكتفي بتنديد أو شجب أو دعوة الكيان الصهيوني للكفّ عن ممارساته، لكن الكيان لم ينسحب من الجولان العربي السوري حتى اليوم.
  • القرار رقم 573: يعبّر هذا القرار عن وضاعة القانون الدولي، وقد صدر عام 1985 مكتفياً فقط بإدانة للكيان الصهيوني بعد غاراته الجوية على تونس في عملية أسماها الصهاينة “الساق الخشبية” وإلحاقهم أضرار مادية كبيرة واستشهاد وجرح المئات. هذه الإدانة الخجولة لم تصوت عليها الولايات المتحدة الملتزمة دائماً بالدفاع عن حليفها الصهيوني في مجلس الأمن.
  • القرار رقم 242: صدر عن مجلس الأمن بعد بضعة شهور من حرب الأيام الستّة أو “نكسة حزيران” عام 1967 التي احتلّ فيها الكيان الصهيوني الجولان وسيناء ومساحات أخرى من أرض الوطن العربي. القصة الشهيرة تتحدث عن حذف صيغة التعريف “ال” من مصطلح “الأراضي” في النص الإنجليزي للقرار الذي نصَّ على انسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي التي احتلها خلال هذه الحرب، وإنهاء حالة الحرب، كما تضمّن وجوب الاعتراف بالكيان الصهيوني كدولة قائمة وشرعية عند حدود 1967 بمعزل كامل عن القضية العربية الفلسطينية. وكأن الكيان قام دون احتلال فلسطين مثلاً؟!! أهمية هذا القرار أنه منح المشروعية لسيطرة الكيان الصهيوني على الأراضي التي احتلها في العام 48 بما يتجاوز قرار التقسيم 181، وهي تساوي 23% من أرض فلسطين.

بجميع الأحوال، مثّل هذا القرار الأرضية التي دشنّت التطبيع الرسمي -السّري والمعلن- في معاهدات “كامب ديفيد”، “أوسلو”، “وادي عربة”، وعلاقات دول المحميات النفطية مع الصهاينة، ويحمل ضمنياً تنازلاً صريحاً عن كل الأراضي المحتلة عام 1948، ويخنق القضية العربية الفلسطينية بإخراجها من دائرة الصراع العربي-الصهيوني.

  • القرار رقم 338: جاء مكمِّلاً للقرار 242، وصدر بعد حرب أكتوبر/تشرين عام 1973، وينص على الالتزام الكامل بتنفيذ بنود القرار 242 وإنهاء كافة أشكال الصّراع والدعوة “لسلام شامل”. كلّما لمحت العدد 338 تذكرت عناق مناحم بيجن مع المأفون أنور السادات يوم توقيع معاهدة “كامب ديفيد”..

بيجن الذي قال في مذكراته أنه معارض شديد لقرار التقسيم عام 1947 -بوصفه زعيماً لمنظمة الآرجون الإجرامية-، لكنه وصف اتفاقية “كامب ديفيد” بالتاريخية.

  • القرار رقم 46/86: صدر عام 1991 لإلغاء القرار رقم 3379 الصادر عام 1975 باعتبار الصهيوينة شكلاً من أشكال العنصريّة والتمييز واعتبرها تشكل خطراً على الأمن العالمي. أرى في هذا القرار تعبيراً عن الحالة السياسية في العالم بعد غياب الاتحاد السوفيتي وإعلان أمريكا عن مشروع النظام الواحد إبّان غزو العراق عام 1990، فالكيان الصهيوني يمثل رأس الحربة لهذا المشروع الأمريكي في المنطقة العربيّة تماشياً مع تاريخية العلاقة التي تجمع الصهاينة والأمريكان منذ صعود أمريكا كإمبريالية وقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، وهو أيضاً تعبير عن قوة النفوذ الصهيوني في أروقة البيت الأبيض، ويعبّر هذا القرار الصادر عن الجمعية العمومية بعد انهيار المعسكر الشرقي عن تحوّل في السياسة الدولية ضاقت معه هوامش المناورات السياسية وصارت هذه الساحة مخترقة من أمريكا من دون وجود قطب فاعل في مواجهتها.
  • القرار رقم 1559: جاء هذا القرار -الصادر عام 2004 عن مجلس الأمن- كتمهيد للعدوان الصهيوني على لبنان، إذ ينص على نزع سلاح جميع “الميليشيات” في لبنان وحلّها.  القرار صنّف المقاومة على أنها ميليشيا مسلحة خارجة عن القانون، معتبراً سلاحها خطراً يتهدد لبنان والمناطق المحيطة به، أو يتهدد الكيان الصهيوني بعبارة أخرى، وجاء القرار ضمن حزمة السياسات الأمريكية.

مثّلت العشريّة الأولى في القرن الحالي السّوط الذي هددت به أمريكا العالم أجمع، ووفرت فيها أحداث أيلول/سبتمبر 2001 النقطة المعيارية التي انطلق فيها مشروع القرن الأمريكي الجديد تحت إدارة المحافظين الجدد خلال رئاسة سيِّىء الذِّكر “جورج بوش”، وابتدعت فيها الولايات المتحدة مفاهيم “الحرب على الإرهاب” منطلقة نحو احتلاليْ أفغانستان والعراق وتعزيز مفهوم دولة الشركات، ثم تطبيق تعاليم ميلتون فريدمان عن الرأسمالية النقية “النيوليبرالية الجديدة”، والنهم المستمر في البحث عن النفط والغاز في كل أنحاء العالم، ونشر سوق تجارة المرتزقة ودعم فقاعة القطاع التكنولوجي وإدخالها في الصناعة الأمنيّة.  خلال تلك الفترة تعرضت إيران، كوريا الشمالية، فنزويلا، سورية وغيرها لحزمة عقوبات اقتصادية أمريكية و”أممية” لتضييق الخناق عليها بوصف هذه الدول داعمة للإرهاب وراعية للشّر، وباتت سورية الهدف التالي لأمريكا بعد احتلال العراق، فبداية من “قانون معاقبة سورية” الصادر عام 2003، ومروراً بإدراج سورية على قوائم الإرهاب، بحجّة دعم المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان، جاء القرار 1559 ليكون ورقة “دوليّة” لُوِّح بها لسحب الجيش العربي السوري من لبنان بعد اغتيال “الحريري” عام 2005، ثم لشنّ الكيان الصهيوني حرب الثلاثة وثلاثين يوماً على لبنان عام 2006 بهدف تدمير سلاح المقاومة التي انتصرت وكسرت القرار 1559 خلال نفس الحرب التي نسميها “تمّوز المجيدة”.

وبعد، إن النظر في مثل هذه القرارات بعين المصلحة القومية للأمة العربية لا يدع مجالاً للشك بأنها وضعت خدمة لمن يحتل الأرض ويسعى في تقسيمها لنهب ثرواتها وتشريد أهلها والوقوف في وجه طموحاتهم للتحرر والاستقلال، أما القبول الرسمي العربي بها فيمنحنا دليلاً على نوع السياسة الخارجية المبتغاة من ورائها، سياسة يراد منها فقط تقديم تنازلات أكبر وتطبيع أوضح مع عدوٍّ جاثم على صدورنا يضرب بعرض الحائط كل القرارات الأساسية الملزِمة مهما اختلف سقفها.

لكن القرار الأهم هو القرار الشعبي الرافض أصلاً لوجود الكيان الصهيوني من أساسه، وهو نفسه قرار المقاومة التي رفضت قرار نزع سلاحها فانتصرت، ومضت في قرار تأميم قناة السويس أيام العدوان الثلاثي فانتصرت أيضاً.

الأمر بكل بساطة، إن كان جلاّدك وخصمك هو الحَكَم، اصنع قوانينك الخاصة بك، ثمَّ انْتَصِر!

في الموقف من ولاية القانون الدولي

 

إبراهيم علوش

لكل سلطة حاكمة أيديولوجيتها المعلنة أو المشتقة ضمناً من مواقفها وسياساتها، وتقوم تلك الأيديولوجية بدور وظيفي هو شرعنة تلك السلطة وتسويغ مصالحها وتثبيت قاعدة مناصريها.  غير أن الأيديولوجيا، كنظرة يفترض أنها شمولية ومتماسكة للمجتمع والدولة والاقتصاد والثقافة، وللإنسان والوجود أحياناً، لا يجوز اختزالها في دورها الوظيفي حصراً.  فتلك زاوية ضيقة جداً لتناول الظواهر الأيديولوجية تعممها النظرة البراغماتية الأمريكية التي تتعامل مع الأيديولوجيا، المعلنة خصوصاً، كمنظومة ذرائعية للسلطة والحركات السياسية، لتتظاهر كأنها هي بالذات سلطة بلا أيديولوجيا، لا بل سلطة تحتقر الأيديولوجيا وتتعالى عليها، فيما تصبح البراغماتية، أي المصالح غير المقنّعة، أيديولوجيتها الحقيقية.   غير أن وجود بُعد وظيفي للأيديولوجيا، لا يجوز أن ينسينا أنها تختزن في ثناياها أبعاداً فلسفية ومعرفية أيضاً، كما تختزن أبعاداً رؤيوية لما يجب أن يكون عليه المجتمع والسلطة، أي أنها لا تقتصر عموماً على تفسير ما هو كائن بل تبني على ذلك رؤيا لما يجب أن يكون، ولذلك فإن كل أيديولوجيا تختزن في باطنها أشكالاً عقائدية من القناعة والإيمان بما يفترض أن يكون عليه تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية وغيرها، لا من الفكر والمنطق والعقل فحسب، ومن هنا تأتي عملية “قوننة” تلك الرؤى الأيديولوجية في منظومة تشريعية تفرض رؤى الطبقة المهيمنة بما يجب أن يكون عليه الواقع بقوة القانون.

بصفتها تلك، أي بصفتها منظومة شاملة معرفية فلسفية في الباطن، موجهة ومتحيزة باتجاه “مثال أعلى” طبعاً، لا تعكس الأيديولوجيا بالضرورة المصالح الضيقة لسلطة حاكمة بعينها، مع أنها يمكن أن تستخدم هكذا، بل تعكس الوجود الاجتماعي لشرائح اجتماعية محددة في ظروف تاريخية محددة.  ويكون منتهى المشروع الأيديولوجي الوصول للسلطة، والحفاظ عليها، من أجل فرض وجوده كمنظومة قانونية تعكس رؤيته للحياة الاجتماعية والسياسية و”طريقته المثلى” في تنظيم تلك العلاقات.  ويمكن من هذا المنطلق أن نتحدث عن الأيديولوجيا الليبرالية كانعكاس للوجود الاجتماعي للطبقة البرجوازية (ضرورة استتباب حرية التعاقد الفردي: دعه يعمل، دعه يمر)، وعن الأيديولوجيا الاشتراكية بتلاوينها كانعكاس للوجود الاجتماعي للطبقات الشعبية (التحرر من الاستغلال)، وعن أيديولوجيا التحرر القومي كانعكاس للوجود الاجتماعي للأمم المستَعمرة والتابعة، وعن الأيديولوجيا الدينية المتعصبة في القرون الوسطى كانعكاس لنمط الإنتاج الإقطاعي، وعن صعود مثل تلك الأيديولوجيا الدينية المتعصبة من قبرها من جديد في بلادنا كنتاج موضوعي لتعثر وتقهقر مشروع النهضة القومية في الوطن العربي خلال العقود الأخيرة.

وعندما يتحدث التكفيريون مثلاً عن “تأسيس دولة إسلامية”، بمقاييسهم الغريبة المفرطة في التشدد طبعاً، فإن ذلك يعني فرض منظومة قوانين تسربل الحياة الشخصية والاجتماعية بناءً على تلك المقاييس.  ونلاحظ أن الأيديولوجيا الليبرالية تركز على قوننة الحياة السياسية، وأن الأيديولوجيا الاشتراكية تركز على قوننة الحياة الاقتصادية، وأن أيديولوجيا التحرر القومي غايتها السامية قوننة السيادة والوجود القوميين، وهكذا، لتتأسس بذلك علاقة الأيديولوجيا بالقانون.

بيد أن الصفة الشمولية العامة للأيديولوجيا لا تعني بتاتاً تجمدها وتحجرها في قالب واحد ساكن، مع أن كل أيديولوجيا تترك في آثار تطورها جيوشاً من المتمسكين بأصدافها القديمة، فتلك هي قوة الأيديولوجيا، غير أن ارتباط الأيديولوجيا بمرحلة تاريخية، لا بفئات اجتماعية بعينها فحسب، يفرض بالضرورة ارتقاءها وتطورها مع الزمن، أو انقراضها وحلول نسخ أيديولوجيا بديلة، مشتقة منها، محلها أكثر تعبيراً عن مقتضيات الواقع الموضوعي.  فالبرجوازية الصناعية في أوروبا الغربية مثلاً، في مرحلة صعود نجمها بعيد الثورة الصناعية، تبنّت مشروع توحيد السوق القومية في دولة مركزية واحدة هي دولة المواطنة القومية، وتبنّت الدفاع عن تلك السوق في مواجهة البرجوازيات القومية الأخرى، وهو ما تطلب قوننة سلطة تلك الدولة المركزية على أرضها وشعبها ودسترتها فوق كل سلطة محلية أخرى، كما تطلب تنظيم العلاقات الدولية على أساس مبدأ سيادة الدول فوق أي مبدأ آخر.

أما بعدما تطور نمط الإنتاج الرأسمالي باتجاه العولمة، مما تميز بصعود الشركات متعدية الحدود باعتبارها اللاعب الرئيسي في الاقتصاد الدولي اليوم، وبعدما صارت تلك الشركات تنظر للكرة الأرضية أكثر وأكثر كسوق واحدة وكمصدر واحد للخامات والعمالة والطاقة، فإن السيادة الوطنية باتت عائقاً، من وجهة نظرها، أمام التجارة والاستثمار الدوليين، كما أن اختلاف القوانين المحلية فيما يتعلق بالتجارة والاستثمار والضرائب والعمل وكل شيء تقريباً بات يُنظر إليه كمصدر كبير للإزعاج غير الضروري ووجع الرأس.  أما الدول التي لا تزال تصر على لعب دور فاعل في اقتصاداتها، فيما المطلوب إمبريالياً انسحاب الدولة من الاقتصاد واقتصارها على الوظائف غير الاقتصادية، فصار يُنظر إليها كشيطانٍ رجيم لا بد من نزع مشروعيته وإطاحته.

من هنا برز التركيز العام في العقود الأخيرة على القانون الدولي والمؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية WTO التي تهدف لتحويل العالم إلى سوق واحدة من خلال التخفيض التدريجي للعوائق الجمركية وغير الجمركية أمام التجارة الدولية، وإزالة أي تمييز محلي ضد الشركات الأجنبية (مع أن العكس، أي التمييز ضد المحلية لمصلحة الأجنبية مسموح!)، ومن هنا أيضاً التركيز على توحيد المواصفات والمقاييس العالمية من خلال الأيزو ISO، ومن هنا قيام الاتحاد الأوروبي، بعد نقل بعض سلطات وصلاحيات الدول القومية الأوروبية إليه، إلخ…

من البديهي أن القانون، والأيديولوجيا التي تقف خلفه ويقف ليكرسها، لا يقف معلقاً في الفضاء ككائن أسطوري غير منحاز وغير منتمٍ.  فمبدأ سيادة الدول الذي قامت العلاقات الدولية على أساسه على مدى قرون كان المقصود به تنظيم العلاقات بين الدول الاستعمارية “المتحضّرة” فحسب، ولم يشكل أي عائق يذكر أمام حملات الغزو والاستعمار الضارية على مدى قرون، ولم تكن المؤسسات الدولية أكثر من واجهة للاحتلال والاستعمار.   ومن ذلك مثلاً أن المشرق العربي بعد رحيل الاحتلال العثماني عنه لم يتعرّض رسمياً لاحتلال بريطاني أو فرنسي… كلا!  بل كان خاضعاً لـ”انتداب” من قبل عصبة الأمم، جددته الأمم المتحدة بعد تأسيسها.   وهذه نذكرها لدعاة “تدويل” القضية الفلسطينية اليوم.

لكن نزعة فرض أولوية القانون الدولي على القانون المحلي، وأولوية سلطة المؤسسات الدولية على المؤسسات المحلية، التي راح يسعى رأس المال المالي الدولي لفرضها بكل ما يملك من قوة خلال العقود الأخيرة، تختلف اختلافاً جوهرياً عما سبق في أنها لا تتعامل مع المؤسسات والقانون الدوليين كإطار لتنظيم العلاقات فيما بين الدول الإمبريالية ولقوننة الاستعمار والتبعية في علاقاتها مع بقية العالم فحسب، بل تذهب إلى ما هو أبعد في السعي لفرض أولوية القانون الدولي ووصاية المؤسسات ما فوق القومية على الدول الإمبريالية نفسها، كما نرى في نموذج الاتحاد الأوروبي.  وهذا بدوره لا يمرّ من دون صراعات وإشكالات حادة أحياناً ما بين القديم والجديد، أي ما بين الخطابين الأيديولوجيين السابق والحالي في الدول الإمبريالية، ومن ذلك مثلاً التصويت مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخطاب اليمين الشعبوي في أوروبا الغربية.  فما قصة الخوف من الهجرة وفقدان أوروبا لهويتها من جراء تدفق المهاجرين إليها إلا رأس حربة هجوم الحرس القديم في الدول الإمبريالية في دفاعه عن مواقعه وسلطاته ووجوده في مواجهة زحف العولمة.  وما الحملات والمناظرات الشرسة والشخصية التي أحاطت بالحملة الانتخابية الرئاسية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب في الولايات المتحدة إلا انعكاسٌ للصراع ما بين هذين التياريْن الكبيريْن، القديم والجديد، في الدول الإمبريالية، حيث ركب ترامب، كممثل لليمين الشعبوي المناهِض للتجارة غير المقيدة والمهاجرين في الولايات المتحدة، على موجة الامتعاض الشعبي لعشرات ملايين المواطنين الأمريكيين من آثار العولمة عليهم لمصلحة الحرس القديم، لا لمصلحة أولئك المواطنين طبعاً.

لكن مثل ذلك الصراع هو مسألة أقل أهمية بالنسبة لنا كشعوب وأمم “عالم ثالث” عموماً، وكأمة عربية خصوصاً، لأن السياق الذي تُفرض فيه أولوية القانون الدولي على المحلي، والمحاكم الدولية على المحلية، ليس سياقاً أممياً تحررياً مناهضاً للإمبريالية، بل سياقٌ تفكيكيٌ معولمٌ يستهدف ما تبقى من السيادة والاستقلال الوطنيين لمصلحة رأس المال المالي الدولي والشركات متعدية الحدود، أي أنه سياق يستهدف مشروع التحرر القومي مباشرة من قبل الإمبريالية في مرحلتها المعولمة، غايته قوننة “حق الانفصال” و”الخصوصيات الثقافية” ونزع صلاحيات الدول وتكريس سابقة “حق” الخارج بالتدخل في الداخل باسم “القانون الدولي الإنساني” طوراً، أو عبر منظمات التمويل الأجنبي تارةً، وأولاً وقبل كل شيء عبر “حق” الاستثمار والتجارة غير المقيدين، ومن ذلك مثلاً التدخل في يوغوسلافيا السابقة في العام 1995 وتفكيكها،  وصولاً لمدّ حدود حلف الناتو شرقاً إلى داخل جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، استناداً إلى “القانون الدولي الإنساني”، ومنه تفكيك السودان باستخدام فزّاعة “المحكمة الجنائية الدولية” ضد النظام السوداني، ومنه استهداف المقاومة اللبنانية من خلال “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” التي أنشأها مجلس الأمن لمتابعة قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومنه التهديد الماثل بمحاكمة أي رئيس أو مسؤول يخرج عن طوع بنان الإمبريالية…

المحاكم الدولية هي إذن أداة: 1) تدويل، 2) ابتزاز، 3) اختراق للسيادة، 4) مستندة لمرجعيات أيديولوجية ليبرالية معولمة.  وهي تأتي في حزمة متكاملة تغيّب الوعي بالمصلحة القومية وتهمّش مشروع التحرر الوطني وتكرّس مرجعية المؤسسات الدولية وتجعل بؤرة العمل السياسي “المنشود” هي الرأي العام الدولي، الذي يُقصد به فعلياً “الرأي العام في الدول الإمبريالية”، وفي حالتنا، “الرأي العام الصهيوني”.  وهي تغلّف مشروعها لتحقيق حرية السوق، أي حرية التجارة والاستثمار، على مستوى الكرة الأرضية، بخطاب أيديولوجي محدد عن “الإنسان” و”الحرية” و”الديموقراطية”، بالتلازم مع الاحتفاء بـ”الخصوصيات الثقافية والعرقية” الفرعية، والمستهدف دوماً هو الهوية القومية والدول المركزية، من تحت، عبر إبراز الخصوصيات المحلية، أو من فوق، عبر مقولة “الإنسان” المجرد من أية روابط قومية وحضارية، إلا حيث تكون مثل تلك الروابط الحضارية ذات طابع ما فوق قومي، كما في حالة الحركات التكفيرية مثلاً.

لذلك كان موقفنا المبدئي في “لائحة القومي العربي” ولا يزال هو: 1) رفض التدويل والتدخل الدولي، ومنه الدعوة لـ”تدويل القضية الفلسطينية”، لأن التدويل لم يأتِ يوماً لمصلحة فلسطين أو العرب أو حركات مناهضة الإمبريالية، 2) تعرية ما يسمى “الشرعية الدولية”، التي يفرزها بالضرورة توازن القوى المهيمنة في النظام الدولي والذي نبقى نحن طرفاً ضعيفاً فيه، 3) اعتبار المصلحة القومية العليا، لا القانون الدولي، مرجعية العمل النضالي الأولى، 4) التأكيد على أن تعبئة الشعب العربي وتنظيمه هو مفتاح التغيير في الواقع العربي المعاصر، لا الرأي العام الدولي، 5) الدعوة لبلورة إعلام مقاوم يحمل على كاهله مشروع النهضة القومية بدلاً من السعي للانخراط في قنوات الإعلام السائد بشروطها التي تضيّع الكليات من أجل جزئيات، 6) الإصرار على أن المقاومة المسلحة، وصولاً لمشروع التحرير، هي مفتاح تحرير فلسطين، لا الأمم المتحدة التي منحت فلسطين لليهود، وحاصرت العراق وكرست احتلاله بأثر رجعي، وارتكبت الموبقات العظام ضد شعبنا العربي وشعوب الأرض الساعية للتحرر، 7) التعامل مع المنظمات الحكومية الممولة أجنبياً كإحدى أدوات القوة الناعمة بيد الإمبريالية ومؤسساتها.

لقد تمّت بلورة الأسس المطروحة أعلاه في التعامل مع القانون الدولي و”الشرعية الدولية” والرأي العام العالمي وهلم جرا  في الفصل السابع من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي” (ص: 265-300).  وكان مما جاء في ذلك الفصل حول المحاكم الدولية والدعوة للاحتكام إليها:

“ثمة سوء فهم لمعنى التحول باتجاه المحاكم الدولية”

“فهي تعكس التحول العميق في بنية النظام الدولي الجديد باتجاه جعل النقطة المرجعية للسيادة والقضاء خارجية بعد أن كانت داخلية، كما هو دأب العولمة في تفكيك الدولة والثقافة الوطنية وإعلاء المؤسسات والقيم والمفاهيم المعولمة محلهما.”

“وهي تعطي المشروعية لمفهوم التدخل في شؤون الدول التي لا تتبنى النموذج الليبرالي الغربي في الحكم بحجج “إنسانية” الظاهر، مما يغطي الأغراض السياسية للدول المتدخِلة.”

“وهي تسوق الأوهام حول إمكانية نيل العدل من خلال مؤسسات النظام الدولي الجديد إذا تمّ العمل السياسي بناءً على منطلقاته، أي من خلال نبذ وسائل المقاومة التي “لا يرضى عنها المجتمع الدولي”. فالعرب يُقال لهم هنا أن المؤسسات الدولية، لا نضالهم ووحدتهم، هي التي تعيد الحقوق المسلوبة.”

“وهي تغطي حقيقة أن المتدخل دائماً هو الدول الأقوى والمتدخَل فيه هو دائماً الدول الأضعف، فالاستعمار هو الذي يضع نورييغا أو بينوشيه في الحكم، ثم يقرر محاكمتهما، وهو الذي يقرر متى تقتضي مصالحه محاكمة ميلوسوفيتش أو معمر القذافي أو صدام حسين.”

“وقد كانت في حالة (الدعوة لمحاكمة رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق) شارون مثلاً، حملة، المطلوب من العرب فيها أن يقبلوا بحماسة بالمرجعية القانونية للمحاكم الدولية تمهيداً لاستخدام تلك المرجعية في مشروع “تغيير الأنظمة” وإعادة رسم خرائط المنطقة، بعد أن تكون المحاكم الدولية قد اكتست بشيء من “الموضوعية” و”الحياد” في أعينهم، بعد أن تصبح محاكمة شارون، ولو أنها لم تقع، بديلاً وجدانياً عن محاكمة الصهيونية وكيانها السياسي، وبالتالي إحدى أدوات تسويق “الحل العادل والدائم في الشرق الأوسط”!”

(نهاية المقتطف من الفصل السابع من كتاب “مشروعنا”)

لقد كان رأيُنا في “لائحة القومي العربي”، ولا يزال، هو أن الملاعب الدولية المختلفة تحكمها توازنات القوى المهيمنة في النظام الدولي، وأن تلك القوى توظف المحاكم والقانون والإعلام، كما توظف هيمنتها في حلبة الاقتصاد والسياسة والثقافة كتتمة للتدخل العسكري العنيف الذي يحقق مصالحها بالقوة.  لكن أدوات القوة الناعمة باتت تكتسي اليوم أهمية أكبر من الاحتلالات العسكرية المباشرة طويلة المدى، ولذلك فإن المغفلين وحدهم هم من يدخلون تلك الميادين معتقدين أنهم سيحصلون على عدالة شاعرية غير منحازة ولا مرتبطة بالمصالح أو موازين القوى بناءً على مبادئ إنسانية سامية ما.  إنّ مثل هذا الانفصال المسكين عن الواقع، عندما يتم الترويج له في صفوف المستضعفين والأمم التابعة، يمثل نوعاً من الانتحار الناتج عن حمق سياسي مريع في حالة حسن النية، ويمثل موضوعياً نوعاً من التضليل والانقياد لمرجعيات الخطاب الإمبريالي بجميع الأحوال.  ومن ذلك مثلاً الالتزام بمرجعيات دولية تعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، وتتعامل مع المقاومة كـ”إرهاب”، بذريعة ممارسة “الحذق السياسي” في “إحراج العدو الصهيوني” دبلوماسياً بأنه لا يطبق القرار 242 القاضي بانسحاب من بعض الأراضي المحتلة في العام 67 بشروط يتم التفاوض عليها معه!  ومن ذلك أيضاً الاعتراف للعدو الصهيوني بالسيادة على غرب القدس بذريعة المطالبة بالسيادة على المسجد الأقصى والحرم الشريف!  إلخ…  ونقطة الضعف الجوهرية هنا أن نسلّم بالكثير لنأخذ القليل، ونتنازل عن الكليّات لنتفاوض على الجزئيات.

نرى إذن أن من لا يملك أسباب القوة في عالم يُسحق فيه الضعفاء سحقاً لن يحصل على عدلٍ أو إنصاف من التسليم بمرجعيات الأقوياء.  وقوتنا تكمن ببناء عناصر مشروعنا القومي النهضوي التحرري، وبالتمسك بالمقاومة بكل أشكالها ريثما تعود عجلات ذلك المشروع للتقدم للأمام، لأن البديل هو الاستسلام غير المشروط، والانخراط الانتهازي في بُنى النظام القائم لتحصيل مواقع أفضل في صفقات بيع القضية والوطن.  فمن المفهوم مثلاً أن تقوم دولة مثل الصين بمناوشة حلف الناتو في مجلس الأمن الدولي، ولكن عندما أصدرت محكمة التحكيم الدائمة (غير محكمة العدل الدولية) التابعة للأمم المتحدة قراراً في تموز الفائت يقيد حقوق الصين في بحر الصين الجنوبي، فإن الصين تعاملت مع ذلك القرار بكل الشخير والازدراء الذي يستحقه ملقيةً به في سلة المهملات، لأن الأولوية للمصلحة القومية لا للمحاكم الدولية، ولأن تلك المحاكم تستخدَم كأداة مباشرة في الصراع الجيوسياسي في محيط بحر الصين الجنوبي بين حلف الناتو من جهة والصين من جهةٍ أخرى، وكانت الصين قد قاطعت جلسات تلك المحكمة أصلاً، أي أنها لم تعترف بولايتها في القضية.  وموقفنا كعرب يجب أن يكون مع الصين في مثل هذه القضية لأن صعود أقطاب دولية وإقليمية غير خاضعة للهيمنة الأمريكية، ولو لم نتقاطع معها في كل شيء، يصبّ في جيب شعوب الأرض الساعية للتحرر من الهيمنة الإمبريالية، ويفسح حيزاً أوسع لنضالها من أجل التحرر، وحتى للعمل في المحافل الدولية عندما يكون ذلك ذا فائدة، ولا نقول ذا أولوية.

هل ندعو للانسحاب من الأمم المتحدة إذن؟  أو من المحافل الدولية؟  وهل نرفض التحدث لوسائل الإعلام العالمية؟  لا ندعو لذلك هنا والآن أو من حيث المبدأ بالطبع، من دون استبعاد أي من هذه الاحتمالات عندما تقتضي المصلحة القومية ذلك بحسب شروط اللحظة السياسية.  ما نقوله هو أن: 1) الأولوية هي لامتلاك عناصر القوة المحلية من دون اعتبار لأي مرجعيات دولية، 2) المحافل الدولية هي أطر معادية أو رمادية في أحسن الأحوال، ويجب التعامل معها على هذا الأساس، وقد كانت معادية لنا تاريخياً، 3) بالإمكان، بعد تثبيت ذلك فقط، التعامل معها كملعب ثانوي للصراع، 4) اللعب خلف خطوط العدو في المحافل الدولية، عندما يكون ذا فائدة، يجب أن يحتكم بصرامة للثوابت القومية مثل عدم التفريط بالسيادة والمصالح القومية العليا.

مثال: كل أنصار سورية يفتخرون بأداء الدكتور بشار الجعفري مندوب الجمهورية العربية السورية في الأمم المتحدة الذي حوّل موقعه بكفاءة وشجاعة إلى منبرٍ عالميٍ لإدانة الهجمة الكونية على سورية، لكن ذلك لم يكن ليتحقق لولا: 1) أداء الجيش العربي السوري والقوات الحليفة في الميدان، 2) التمسك الصارم بسيادة سورية وقرارها المستقل في ذلك المنبر الدولي.  وبعد تثبيت ذلك فقط يمكن أن ينشأ إبداعٌ فرديٌ أو جماعيٌ في وسائل خوض المعركة الإعلامية أو القانونية أو غيرها في المحافل الدولية.  ولا حيز للاجتهاد الفردي في الثوابت والأهداف القومية الكبرى، إنما الإبداع في طريقة تحقيقها أو الدفاع عنها فحسب.

روسيا، كدولة عظمى ذات ثقل ووزن معتبريْن، تحاول بالمقابل أن تستغلّ بعض الثغرات في النظام الدولي لتقييد قدرة الولايات المتحدة على التدخل خارج حدودها.  ونلاحظ بشكل عام أن روسيا تسعى لتكريس مرجعية مجلس الأمن لدى الولايات المتحدة وحلف الناتو لأنها تمتلك والصين فيه حق النقض!  فتلك استراتيجية تفيد المصالح الروسية لأنها تقيّد الولايات المتحدة عندما تنجح (وعندما لا تكون روسيا في حالة استكانة كما كانت في معظم العقدين اللذين تليا انهيار الاتحاد السوفياتي)، ولا تفيد السلطة الفلسطينية مثلاً أو مالطا بالضرورة!

وفي الحديث عن الثغرات في النظام الدولي، لا بد من العودة لما بدأنا به عن العلاقة بين الأيديولوجيا من جهة والقانون من جهةٍ أخرى.  فالأيديولوجيا، كما سبقت الإشارة، ليست أداة وظيفية مهمّتها التبرير للسلطة القائمة أو الطامحة فحسب، بل تتضمن فيما تتضمنه عنصراً عقائدياً يمثل صورة “الطريقة المثلى” لما يجب أن يكون عليه العالم الاجتماعي والسياسي بحسب رؤية الشريحة أو الجماعة التي تتبناها.  لكن مثل هذا العنصر العقائدي، بما يحتويه من مثلنة Idealization، أي بما يرسمه من صورة “مثال أعلى”، هو في الواقع انعكاس للأنا العليا الجمعية للشريحة أو الجماعة التي تحتكم لتلك الأيديولوجيا، وهو دوماً مثال أعلى مفتوح على المطلق واللانهائي.  مثلاً، حرية التعاقد والبيع والشراء في اقتصاد السوق تصبح “الحرية” الفردية بالمطلق، كمعنى للوجود الذي تنسج حوله الأيديولوجيا الليبرالية ثم الفكر ما بعد الحداثي.  والحملات الاستعمارية الأوروبية التي أثخنت العالم بالمجازر الجماعية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا تصبح “رسالة أوروبا لتمدين العالم”.  واللوثة الجنائية التكفيرية تصبح “إقامة الدولة الإسلامية” والإسلام منها براء، إلخ… ومن المهم الانتباه أن تلك الصورة المثالية العليا هنا ليست مجرد خدعة أو خطاب دعائي ذي فائدة وظيفية فحسب، بل هي ضرورة نفسية لكي يتمكن حاملو تلك العقلية من أن يشاهدوا أنفسهم في المرآة يومياً، أي أنهم يؤمنون بها حقاً، ولو بنسب متفاوتة، ويرون أنفسهم من خلالها، ويتصالحون مع ذواتهم فيها.  والنظام الأمريكي مثلاً لا يستخدم خطاب “الحرية” و”الديموقراطية” كغطاء دعائي لاستراتيجياته الكونية فحسب، بل يثقف في ذلك الخطاب وينشره داخلياً وخارجياً ويدفع دفعاً إلى اعتناقه كأيديولوجيا.

هذه النقطة مهمة جداً لفهم التناقض الذي كثيراً ما ينشأ في صفوف أي نظام أو جماعة أيديولوجية ما بين الاعتبارات المثالية، التي تمّ تكريس بعضها في القانون، وما بين الاعتبارات السياسية العملية الآنية أو الاستراتيجية التي تدفع باتجاه تجاوز الاعتبارات المثالية مما يخلق تناقضات يتوقف تماسك الجماعة على المدى البعيد على حلّها أو إدارتها أو توفيقها بطريقة مقبولة.  فإذا كانت يافطة “حقوق الإنسان” هي يافطة التدخلات الإمبريالية في الدول الأجنبية، فإن بعض المقتنعين حقاً بتلك اليافطة يبدأون بملاحظة انتهاكات لحقوق الإنسان من قبل الطرف المتدخل باسمها، ومن ذلك الاحتجاجات على الانتهاكات في سجن أبو غريب في العراق مثلاً أو غوانتنامو والسجون السرية للولايات المتحدة أو غيرها من قبل جهات وأطراف من داخل النظام نفسه.

لكن لنلاحظ أن مثل تلك الاحتجاجات تنطلق من المنطوق الليبرالي نفسه الذي يحاكم الانتهاكات المتعلقة بحقوق الأفراد، وقلما يتناول حقوق الأمم والشعوب، مثل حقها في مقاومة الاحتلال، وحقها في النهوض والتحرر، وحقها في أن تكون متحررة من التبعية أو التدخل الأجنبي.  فإذا كان الموقف المبدئي من التجاوزات الفردية واضحاً في أذهان أصحاب مثل ذلك التوجه، فإن الموقف من القضايا الجمعية يصبح مشوشاً، إن لم يكن معادياً، عندما يتعلق الأمر باحتلال (كل) فلسطين مثلاً أو غيرها.  ونلاحظ أن بعض أصحاب هذا التوجه قد يتبنّون قضايا ذات طابع فردي في فلسطين (تدمير منزل، اعتقال شخص إدارياً، إلخ…) لكنهم يصابون بما يشبه الصدمة العصبية إذا قلت لهم أن فلسطين كلها محتلة وأن من حقنا وواجبنا أن نحررها بكل الوسائل الممكنة وعلى رأسها الكفاح المسلح.

كذلك تنشأ تناقضات ضمن النظام الدولي اليوم، من لدن التناقض بين الصورة المثالية المكرسة في قوانين، وما بين بعض السياسات اليومية الناتجة عن المصالح العملية للقوى المهيمنة في ذلك النظام مما يخلق توترات حقيقية يخيل لبعضنا أحياناً أنها تشبه النضال ضد الهيمنة أو الإمبريالية.  لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.  مثلاً، ترفض الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أن يوقعا على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، مع أنهما لا يترددان في توجيه المحكمة الجنائية الدولية سياسياً، عبر أدواتهما، من يوغوسلافيا السابقة إلى السودان، في إطار مصالحهما السياسية.  ومثل هذا السعي الأمريكي والصهيوني للبقاء فوق القانون الدولي، فيما يحاولان أن يفرضاه على بقية الدول، يخلق تناقضات مع الأوروبيين الغربيين مثلاً.  ومن الطبيعي أن يسعى الروس وغيرهم لاستغلال مثل هذه التناقضات، في خضم اللعب خلف خطوط العدو، لكن ذلك لا يدفع أي شخص عاقل للتوهّم أن المحكمة الجنائية الدولية صديق للشعوب المضطهَدَة أو أنها مناهِضة للإمبريالية أو أنها لن تستخدم مراراً ضد الدول والزعامات المناهضة للإمبريالية، أو أن من الحكمة أن نسلّمها سيادتنا القومية ورِقابنا.

كذلك يلعب أي قضاء دوراً في عقلنة النظام، ومن هنا مبدأ استقلالية القضاء الضروري ليتمكن النظام السياسي من استعادة توازنه إزاء إي إفراط ينشأ من داخله.  فالنظام القضائي في الولايات المتحدة مثلاً؛ ثمة عشرات الدراسات التي تثبت أنه متحيز جوهرياً: 1) لمصلحة الأثرياء، 2) ضد الأقليات العرقية.   لكن ذلك لا يلغي أن من مهمات القضاء الأمريكي ضبط التجاوزات الكبرى أو الفاضحة من داخله التي يمكن أن يؤدي تكرارها إلى خلخلة استقراره ونزع مصداقيته، ومن ذلك مثلاً محاكمة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1974 بسبب فضيحة ووترغيت عندما تجسس على الحزب الديموقراطي في الحملة الانتخابية الرئاسية عام 1972، ثم إصدار عفو رئاسي عنه بعدها بأسابيع من قبل الرئيس جيرالد فورد…  بعد أن تمّت إعادة تأسيس مشروعية النظام.  لكن ذلك لا يعني بتاتاً أن القضاء الأمريكي يقف في فضاءٍ محايدٍ فوق المؤسسة الإمبريالية!

ومن البديهي أن قرار محكمة العدل الدولية عام 2004 باعتبار قرار جدار الضمّ والتوسّع الذي يبنيه الكيان الصهيوني في الضفة الغربية غير قانوني يدخل ضمن الإطار نفسه: منح المشروعية للنظام الدولي ومحاكمه وقوانينه.  ولا يجوز أن يفوتنا هنا أن إصرار اليمين الصهيوني المتطرف على قضم بضع أمتار من القدس أو الضفة هنا أو هناك بات في نظر بعض أرباب المؤسسة الإمبريالية عائقاً أمام بعض مشاريعها الاستراتيجية في بلادنا، ومنها إدامة وهْم التسوية السلمية، فيصبح من الضروري عندها ضبطه قليلاً، ولكن ذلك لا يعني أن المؤسسة الإمبريالية باتت مناهضة للصهيونية مثلاً!

في الخلاصة، نطمح بنشوء نظام دولي قائم على العدل والاحترام والتكافؤ وحق الأمم في تقرير مصيرها.  لكن ذلك لا يتم من دون تحرر شعوب الأرض من منظومة الهيمنة الإمبريالية ومن دون الانطلاق من حق الأمم بتحقيق وحدتها وتحررها ونهضتها.  فأساس الوجود البشري هو الانتماء القومي، أما الدعوات “الإنسانية” القائمة على نفي الوجود القومي، فليست سوى مشروع اختراق إمبريالي، خصوصاً في هذه المرحلة من تاريخنا.  ومن البديهي أن دعوتنا للتحرر القومي لا تعني الدعوة للتحول لقوة إمبريالية بديلة، لأننا دعاة تحرر قومي، لا دعاة استبدال قوة إمبريالية بأخرى، ولأننا نؤمن بأن حقوقنا كأمة تنتهي عند حدود الأمم الأخرى، وعلى هذا الأساس نرى أن نشوء نظام دولي جديد تُحَلّ فيه الخلافات بين الشعوب والأمم بشكل سلمي وتفاوضي يبدأ بالضرورة من وجود قدر من التكافؤ بينها، الذي يتطلب بدوره أن تكون كل أمة حرة مستقلة ذات سيادة، لا تابعة مقسّمة محتلَة يُقال لها أن عليها أن تنصاع لقوانين القوى المهيمنة لكي لا تكون شوفينية أو متعصبة قومياً!!

المنظمات الدولية بين شعارات موعودة وأهداف مفقودة

 

صالح بدروشي

 

على إثر الحروب الاستعمارية الكبرى المسمّاة في مجلّدات التاريخ بالحربين العالميتين الأولى والثانية، برزت الحركة الإمبريالية الحديثة بشكلها الجديد وتكتّلت الدول الاستعمارية الغربية بقيادة القطب البارز الجديد، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، في مواجهة الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي (روسيا حالياً)، وذلك بعد أن تمّ الاتفاق بين الكتلتين على تقاسم مناطق النفوذ في مؤتمر يالطا الذي عُقد في مدينة يالطا السوفياتية  في فيفري / شباط سنة  1945بزعامة كلّ من ستالين وتشرتشل وروزفلت الذين وقّعوا اتفاقية التقسيم نيابة عن كل من الاتحاد السوفيتي وبريطانيا والولايات المتحدة، ولقد ناقش المؤتمر كيفية تقسيم ألمانيا وكيفية محاكمة أعضاء الحزب القومي الألماني.

لقد تبيّنت النوايا السيئة والعدوانية ومنهجية الغدر والحيف المتأصّلة لدى الدول الاستعمارية من خلال ما قدّمته الثورة الروسية عندما كشفت للدول العربية سرّ اتفاقية تمّت بين الدول الغربية وروسيا القيصرية لتفتيت الوطن العربي ومنعه من أي تطوّر أو نموّ يضمن كرامة المواطنين العرب، وهذه الاتفاقية ليست إلا اتفاقية سايكس-بيكو.

وبناءاً على ما عانته الدول المستقلّة من جرّاء صراع القطبين وانعكاس ما سُميَ بالحرب الباردة على مسارات البناء والتنمية لدى الشعوب المتحررة، تمّ الاتفاق بين مجموعة من الدول على تأسيس حركة عدم الانحياز، وهي تجمّع دولي يضم 120 عضواً من الدول النامية، وكان أساسها عدم الانحياز لأي من المعسكريْن الغربي، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، والشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي، وكانت الحركة بمبادرة ثلاثة زعماء سنة 1954، وهم: رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، والرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس اليوغوسلافي تيتو.

وفي خضمّ هذه الأجواء المشحونة بروح الانتصار والانتقام لدى البعض والانكسار والهزيمة لدى البعض الآخر من الدول وتشكّل تكتّلات الهيمنة ووراثة استعمار جديد لاستعمار قديم، تمّ تأسيس منظمة الأمم المتحدة سنة 1945 وهي منظمة تضمّ في عضويتها جميع دول العالم المستقلة وغايتها المعلنة هي ضمان التعاون الدولي في المحافظة على السلام في العالم وتنمية العلاقات الودّية بين الأمم وحلّ المشاكل الدولية واحترام حقوق الإنسان. وللأمم المتحدة ميثاق يضبط كيفية إدارة شؤون العلاقات الدولية ومجموعة أجهزة مثل الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية إلخ.. وتسمى هذه الأجهزة منظومة الأمم المتحدة. وإذا ألقينا نظرة على نظام سير هذه المنظومة نلاحظ ما يلي:

  • الجمعية العامة، التي تتمثل فيها كل الدول، وقراراتها غير ملْزِمة ويتم اتخاذ القرار فيها بالتصويت بحساب صوت لكل دولة،
  • مجلس الأمن، وهو المسؤول عن حفظ السلام والأمن الدوليين طبقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ولمجلس الأمن سلطة قانونية على حكومات الدول الأعضاء وتعتبر قراراته ملْزِمة للدول الأعضاء، وهو متكوّن من 15 دولة، خمس دول دائمة وعشر دول متغيّرة يتم انتخابهم لمدة سنتين ولا يتخذ القرار إلّا بموافقة تسعة أعضاء على الأقلّ ويتم إلغاء كل قرار ترفضه واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية، أي أنّ هذه الدول الخمس لها ما يعرف بحقّ النقض (الفيتو) وهذا المجلس هو الجهاز الوحيد الذي يصدر قرارات إجرائية ملزِمة، وباقي الأجهزة لا تصدر إلّا توصيات للدّول.
  • الأمانة العامة، ويرأسها الأمين العام، الذي تعيّنه الجمعية العامة بناءً على توصية منمجلس الأمن الذي تتم قراراته بنظام “الفيتو”،
  • محكمة العدل الدولية، وتتألّف من 15 قاضياً، تنتخبهمالجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن،

وبما أن هذه المنظمة الأممية تمثّل شعوب العالم، كما جاء في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا – أن… – وأن… – وأن…”، فلنلقِ نظرة على تركيبة التوزيع الديمغرافي لـ”نحن شعوب الأمم المتحدة”:

عدد سكان الدول المتمتّعة بحق النقض (الفيتو) (بالمليون نسمة): الولايات المتحدة (318)  روسيا (144)  بريطانيا (65) فرنسا (64) مع إغفال الصين .. في مقابل دول أخرى لا تتمتع بذلك الحق بل هي غير موجودة أصلاً في مجلس الأمن، إلّا عرَضاً بعد عدّة سنوات، ولمدة سنتيْن فقط .. ومن هذه الدول الهند (1300 مليون نسمة) أي عشرون مرّة حجم تعداد سكان فرنسا وعشرون مرّة حجم تعداد سكان بريطانيا وأربع مرّات حجم تعداد سكان الولايات المتحدة وتسع مرّات حجم تعداد سكان روسيا، وكذلك الأمر بالنسبة لعدة دول مثل البرازيل وأندونيسيا والمكسيك ونيجيريا واليابان ومصر التي تعدّ بهذا المقياس من 4 مرّات إلى مرّة ونصف حجم فرنسا أو بريطانيا!

ولو سلّمنا بصدق تمثيل الشعوب بدولها، فإنه وبموجب هذا الواقع أصبحت الدول الكبرى (كبرى بإمكاناتها الاقتصادية والبعض منها بالثروات المنهوبة من الشعوب الأخرى) هي التي تدير الأمم المتحدة، وتحدّد سياساتها وتوجُّه قراراتها، أي أنّ 5 دول تتحكم بمصير وتدير شؤون أكثر من 190 دولة، أو 500 مليون نسمة (أو 1900 مليون نسمة باعتبار الصين 1400 مليوناً تقريباً) يقرّرون مصير أكثر من 7000 مليون نسمة في الكرة الأرضية!  وهذا بعيد عن العدالة والمساواة بين شعوب الأرض.

ونسوق فيما يلي مثال البنك الدولي كمؤسسة تمّ إنشاؤها سنة 1944 من طرف الأمم المتحدة لغاية المساعدة على إعادة بناء الدّول الأعضاء وتشجيع نموّها الاقتصادي.

يدير البنك الدولي أربعة وعشرون مديراً، منهم ثمانية يمثّلون بلداناً بحدّ ذاتها هي: الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، السعودية، الصين، وروسيا.  بقية البلدان البالغ عددها 190 يمثلها بقية المدراء الستة عشر.  تتحكّم الولايات المتحدة بـ 16% تقريباً من الأصوات في البنك الدولي، واليابان في المرتبة الثانية بنسبة 7% ، تليها الصين، ثم ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، وتتمتّع الولايات المتحدة بحق النقض “الفيتو” على القرارات الكبيرة، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية – هو الذي يُعيّن رئيس البنك الدولي.

ورغم وضعية الهيمنة المريحة للمعسكر الإمبريالي إلا أنّ هذه الكتلة لا تشبع أبداً، وتأتي شهادة جون بيركينز التاريخية لتبرزَ أبشع صور الجشع لهذه المنظومة .. جون بيركينز هو أحد قراصنة الاقتصاد الذين تخصّصوا في تدمير الشعوب النامية بتنفيذ سياسات البنك الدولي عبر الخطط الاقتصادية ومشاريع التنمية الخبيثة، بعد أن انتابته “صحوة” الضمير قدّم اعترافاته في كتابيْن أثارا ضجة كبيرة، وهما: “الاغتيال الاقتصادي للأمم: اعترافات قرصان اقتصاد أو رجل اقتصاد مأجور” و”التاريخ السرّي للإمبراطورية الأمريكية (رجال اقتصاد مأجورون، عملاء، والحقيقة حول الفساد العالمي)”، وقد قدّم شهادته مسجّلة مع قناة روسيا اليوم وهي موجودة على موقع القناة لمن يرغب في الاطّلاع عليها.. ومن هنا يتكشّف لنا جانب من ألغاز إدارة المنظومة القانونية والمؤسساتية الدولية.

وبذلك فإنّ هذا البنك هو في الحقيقة ليس بنكاً دوليّاً؛ بل بنكٌ أمريكيٌ، كما أن قرينه صندوق النقد الدولي يمكّن الشركات عابرة الحدود والبنوك والمؤسسات الدولية من أن تمليَ شروطها على الدول الوطنية والقومية.

وليس من قبيل الصدفة أن تقع كل مقرّات أجهزة الأمم المتّحدة في نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية باستثناء محكمة العدل الدولية يقع مقرها في لاهاي بهولندا.

تعد محكمة العدل الدولية الذراع القضائية للأمم المتحدة، وقد سحبت الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بالسلطة القضائية الإلزامية لهذه المحكمة، مما يعني بأنها تلتزم بما تقبله من قرارات المحكمة وتتحلّل ممّا لا تقبله منها!

كما فرضت الولايات المتحدة تحديد مجال الاختصاص الإقليمي لمحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات في حدود الأشخاص المتهَمين وهم موجودون في الدول الموقِّعة على وثيقة الانضمام لهذه المنظمة القضائية (التي رفضت أن تنضمّ للتوقيع على ميثاقها كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني) وأصبح الاختصاص الإقليمي للمحكمة كما يلي :

  • إذا كان المتَّهم مواطناً لإحدى الدول الأعضاء (أو إذا قبلت دولة المتهم بمحاكمته).
  • إذا وقع الجرم المزعوم في أراضي دولة عضو في المحكمة (أو إذا سمحت الدولة التي وقع الجرم على أراضيها للمحكمة بالنظر في القضية).
  • أو إذا أحيلت القضية للمحكمة من قبل مجلس الأمن (وهذا يمكّن أصحاب “الفيتو” من غير الأعضاء في المحكمة من الإفلات نهائياً من أيّ محاكمة).

وبالإضافة إلى كل هذه الاحتياطات مارست الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطات على عديد الدول الأعضاء لكي تبرم اتفاقاً مع الولايات المتحدة يقضي بعدم تسليم رعايا الولايات المتحدة الموجودين على أراضيها والمطلوبين للمحكمة الدولية وإعادتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية .. وهذا يؤكّد النوايا الإجرامية المبيّتة ويبرز ما تعتزم زعيمة الإمبريالية القيام به تجاه الشعوب الأخرى.

وإذا ألقينا نظرة على استخدامات حق النقض عبر مسيرة المنظمة الأممية نلاحظ ما يلي:

بخصوص استخدام حق النقض (الفيتو) فإنه كان موجّهاً بالأساس ضدّ أي قرار يمكن أن يشكل إدانة دولية لجرائم الكيان الصهيوني وضد الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية عموماً.  لقد وصل الأمر إلى استخدامه ضد موظفي الأمم المتحدة نفسها، وهي مفارقة عجيبة، حيث كان مشروع القرار المستهدَف ينتقد قوات الاحتلال لقتلها عدداً من موظفي الأمم المتحدة وتدمير مخزن تابع لبرنامج الغذاء العالمي في الضفة الغربية، وكان “الفيتو” يستخدَم لمنع قرارات تدين اغتيالات اعترف بها مرتكبوها؟!  بالإضافة لاستخدامها “الفيتو” ضد إدانة المذابح الجماعية المتكرّرة..

فمنذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، استخدم الاتحاد السوفيتي “روسيا الآن” حق “الفيتو” 12 مرة، والصين 5 مرات، وبريطانيا 32 مرة، وفرنسا 18 مرة، بينما استخدمته الولايات المتحدة 90 مرة.  وبلغ عدد القرارات التي تنتقد دولة الكيان الصهيوني في مجلس الأمن والتي أعاقتها الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 45 قراراً.  وكانت القضايا العربية العادلة وخاصة فلسطين هي الضحية الأساسية لأغلب استخدامات “الفيتو” الأمريكي والغربي مناصرة للكيان الصهيوني، مما أعاق تفعيل ما كان يمكن أن نسمّيه “الشرعية الدولية” لإنصاف المظلومين.

ومن بين أساليب الضغط، بالإضافة إلى حقّ “الفيتو”، كانت الولايات المتحدة تستعمل نفوذ دعمها المالي للأمم المتحدة والموافقة على توظيف الموظفين الكبار بها، كما كانت تستغلّ وجود مقرِّ الأمم المتحدة على أراضيها الذي ييسّر لها الاتصال والتنسيق مع كل الأطراف الدولية، وسبق أن منعت دبلوماسيين أجانب من دخول أراضيها لحضور اجتماعات الأمم المتحدة، مما يؤكّد تحكّمها وسيطرتها على المنظمة الدولية.

ونسوق فيما يلي بعض الأمثلة على استخدام حق النقض لتبيان نوع القرارات التي أبطلها “الفيتو” الأمريكي والتي تدلّل على بعضٍ من البلطجة الأمريكية:

– عام 1967 * استخدمت واشنطن “الفيتو” للحيلولة دون صدور قرار وقف إطلاق النار أثناء حرب حزيران وانسحاب القوات المتحاربة إلى خطوط الهدنة السابقة.

– عام 1976 * فيتو واشنطن يمنع قراراً ينصّ على حق الشعب الفلسطيني في ممارسة حق تقرير المصير وفي إقامة دولة مستقلة وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، وضرورة انسحاب “إسرائيل” من الأراضي المحتلة منذ يونيو/حزيران 1967 ويدين إقامة المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة.

– * وفيتو أمريكي آخر ضد قرار تقدّمت به مجموعة من دول العالم الثالث يطالب كيان الاحتلال الصهيوني “إسرائيل” بالامتناع عن أية أعمال ضد السكان العرب في الأراضي المحتلة.

– عام 1980 * فيتو أميركي ضد مشروع قرار تقدمت به تونس ينصّ على ممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.

– عام 1982 * فيتو أميركي يبطل مشروع قرار يدين “إسرائيل” على محاولة اغتيال رئيس بلدية نابلس بسام الشكعة.

– عام 1982 * استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد مشروع قرار عربي بإدانة حادث الهجوم على المسجد الأقصى.

– عام 1985 * فيتو أميركي ضد مشروع قرار يدين انتهاكات “إسرائيل” لحرمة المسجد الأقصى ويرفض مزاعم اعتبار القدس عاصمة لها.

– عام 1986 * فيتو أمريكي وبريطاني وفرنسي ضد مشروع قرار لحركة عدم الانحياز يدين الغارة الأمريكية على ليبيا.

– عام 1986 * فيتو الولايات المتحدة ضد قرار يطالبها بإنهاء مساعدتها للمتمردين في نيكاراجوا.

-عام 1987 * الولايات المتحدة تعترض بالفيتو على قرار يستنكر سياسة “القبضة الحديدية” وسياسة تكسير عظام الأطفال الذين يرمون الحجارة خلال الانتفاضة الأولى.

-عام 1989 * أوقف الفيتو الأمريكي جهود مجلس الأمن لإصدار بيان يرفض ممارسات “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويدعوها إلى الالتزام باتفاقية جنيف الخاصة بحقوق المدنيين في زمن الحرب.

– عام 1995 * فيتو أمريكي يفشل قرار يطالب “إسرائيل” بوقف مصادرة 53 ألف متر مربع من الأراضي العربية في القدس المحتلة.

– عام 2001 * الولايات المتحدة تستخدم الفيتو لمنع إصدار قرار يسمح بإنشاء قوة مراقبين دوليين لحماية الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.

-عام 2001 * واشنطن تحبط مشروع قرار اقترحته سورية لإدانة قتل القوات “الإسرائيلية” لعدة موظفين من موظفي الأمم المتحدة، فضلاً عن تدميرها المتعمّد لمستودع تابع لبرنامج الأغذية العالمي في فلسطين المحتلة.

-عام 2003 * فيتو أمريكي لإبطال قرار يوصي بحماية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عقب قرار الكنيست الصهيوني بالتخلّص منه.

– عام 2003 فيتو أمريكي يبطل قراراً يطالب بإزالة “الجدار العازل” الذي يبنيه الكيان والذي يقطّع أراضي وأوصال فلسطين.

– عام 2004 * فيتو أمريكي لوقف قرار يدين اغتيال الشيخ “أحمد ياسين”.

– عام 2006 * فيتو أمريكي أبطل قراراً بشأن منع العدوان الصهيوني على لبنان.

ونلاحظ أن كل تلك القرارات، رغم انخفاض سقفها وانطلاقها من “حق” الكيان بالوجود، وسعيها لتدويل القضية الفلسطينية تحت عباءة “الشرعية الدولية”، فإن مجرد السعي لضبط إفراط الكيان الصهيوني في استخدام القوة كان يستجر فيتو أمريكي!

بخصوص التصويت على قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة والتي ليس فيها حقّ نقض (فيتو)، لقد تسنّى لأحد الباحثين التحقق مما حول ما قامت به اللوبيات الإمبريالية:

“دفع رئيس الفلبين لكي يوعز إلى وزير خارجيته “كارلوس رومولو” بتسليم رئاسة الوفد إلى السفير الفلبيني في واشنطن وأن يعود هو إلى مانيلا، لأن الوزير كان من أبرز المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني، وهكذا صوّت السفير لصالح التقسيم.

تحريض “هارفي فايرستون” (صاحب مصانع المطاط لعجلات السيارات) ليهدّد رئيس ليبيريا بإلغاء عقود استيراد المطاط الخام إذا صوّت وفد بلاده ضدّ مشروع قرار تقسيم فلسطين، وكان وفد ليبيريا يعتبر قرار التقسيم بمثابة “تجاوز لسلطة الهيئة الأممية التي لم تنشأ لتقسيم الدول بل للحفاظ على وحدة ترابها”، وتحت هذا التهديد أذِنَ رئيس ليبيريا بأن يصوّت وفد بلاده لصالح قرار التقسيم.

أمّا وفد دولة هايتي فقد تم إغراؤه برشوة الذهب الصهيوني ليقتنع بتغيير موقفه المعارِض لقرار تقسيم فلسطين وصوّت لصالح قرار التقسيم.

وبالنسبة لوفد كوستاريكا فقد سلّم له صكّ على بياض باسم “دون بيبي” رئيس الجمهورية، فقرّر تغيير موقف وفده وصوّت مؤيِّداً لقرار التقسيم”.

ويطول شرح الأحداث التي تلت ذلك القرار، من اغتيال الصهاينة للوسيط الأممي الكونت برنادوت إلى إصدار مجلس الأمن قراراً يوقف عملية التقسيم، إلّا أن الوكالة اليهودية العالمية أصدرت بياناً يرفض قرار مجلس الأمن (وليس الجمعية العمومية) وأعلنت قيام دولة الكيان الصهيوني وطالبت بالاعتراف بها ..

علاوة على ما تمّ تقديمه من حقائق لا يكاد يخلو منها كتاب ولا صحيفة ولا منبر عن كل ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من اغتيالات سياسية وانقلابات وعدوان عسكري وتدخّلات لخنق اقتصاد الدول الصغيرة التي لا تنصاع لها ونهْب للدول التي تسير في فلكها ..  إذ تفعل كل هذا وهي زعيمة الكتلة الإمبريالية في المنظومة الأممية.. وبالإضافة إلى الدلالة الصارخة لعدد قرارات النقض (الفيتو) التي اتخذتها الولايات المتحدة لعرقلة ومنع معاقبة جرائم الكيان الصهيوني في حق الأمّة العربية وعديد الدول المتضررة من عدوانه، فنختم هذه المقالة بتفصيل مثال آخر عن تعامل المؤسسة الأممية وأدواتها يبرز بشكل واضح طابعها الحيفي والانحيازي واللاعادل واللا أخلاقي ..

وهذا المثال هو ما حصل في مجزرة جنين بفلسطين عام 2002 والتي وصَفها أحد جنود الاحتياط الذين شاركوا بمعركة جنين، في لقاء أجرَتْه معه جريدة “يديعوت أحرنوت” (19/4/2002) حيث قال: “تلقينا أوامر بإطلاق النار على كل نافذة وبتحطيم كل بيت في المخيم سواء أطلقت منه النار أم لا”، وأضاف: “قيل لنا بوضوح حطّموهم وأطلقوا النار على كلّ شيء  في أي منطقة يطلَق عليكم النار منها”، وأضاف جندي الاحتياط الصهيوني: “إن النيران كانت تطلَق على جميع المنازل من دون استثناء”.  من جهتها أجرَتْ صحيفة “الواشنطن بوست” (نقلته صحيفة “الأيام” في 27/4/2002) لقاءً مع بعض الجنود الذين شاركوا في المعركة حيث قالوا: “إن الأوامر كانت واضحة وهي إطلاق النار في كل نافذة بيت فلسطيني”، وأضاف “أن الجنود لم يتهاونوا في تنفيذ الأوامر التي صدرت وأنهم استخدموا أسلحة ثقيلة في قصف الكثير من المنازل” …

على إثر هذه المجزرة المروّعة التي قام بها جيش الكيان الصهيوني في مخيم جنين الفلسطيني وبناءً على طلب المجموعة العربية اجتمع مجلس الأمن في أفريل-نيسان عام 2002 وتمّ التصويت والموافقة على القرار 1405 الذي يدعو إلى تشكيل لجنة تقصّي حقائق للتحقيق في حيثيات المجزرة.

وخلال المفاوضات حول القرار انطلقت التصريحات من أجهزة إعلام الكيان الصهيوني بأنّ “المستوى السياسي في “إسرائيل” لن يتعاون مع أي لجنة تضمّ في عضويتها تيري لارسين (مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة)”، وشنّت عليه حملة عنيفة كشخصية غير مرغوب فيها بعد أن أعلن في أجهزة الإعلام الصهيونية أن مذابح حصلت في المخيم وطُلب منه العودة إلى النرويج، وكذلك حصل مع ماري روبنسون (مسؤولة لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة) التي  أبلغتها السلطات الصهيونية بأنها ستمنع دخولها في حالة قررت القدوم إلى فلسطين للاطّلاع على الوضع مع بيتر هانسن (المفوض العام لوكالة الغوث الدولية في فلسطين ولبنان والأردن وسورية) حيث كان هناك اتفاقاً شفوياً بين كوفي عنان ووزير الخارجية الصهيوني شمعون بيريز على تشكيل لجنة تقصّي حقائق من شخص واحد أو اثنين على أكثر تقدير.

واستقرّ الرأي فيما بعد في مجلس الأمن على قرار تعيين الرئيس الفنلندي السابق مارتي اهتيساري ليكون على رأس الفريق المؤلف من عشرين شخصاً، وتضمّ اللجنة من بين أعضائها: مفوضة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ورئيس لجنة الصليب الأحمر آنذاك وجنرال أمريكي متقاعد بصفة مراقب، .. فقام وزراء الكيان بالتشكيك في أعضاء اللجنة واتهامهم بما يسمّونه “معاداة السامية”.  ووصل رئيس الفريق والأعضاء إلى جنيف في انتظار تعليمات من المنظمة الدولية.  وفي هذه الأثناء غيّرت دولة الكيان الصهيوني موقفها بعد ذلك بقليل، وطالبت بتعديل قائمة الأشخاص المشاركين في الفريق.  وقال شارون في مقابلة على التلفزيون الأمريكي “إن إسرائيل لا تخفي شيئاً”.  وقال: “إن القوات العسكرية “الإسرائيلية” تتمتع بقيم أخلاقية عالية”!!  واتّهم الأمم المتحدة بالتحيّز ضد الكيان الصهيوني. وقال: “لم أرَ الأمم المتحدة مصرّة على إرسال فريق لتقصّي الحقائق إلى أي مكان آخر”.

 وفي أعقاب أيام من التأخير بسبب معارضة الكيان لإرسال فريق دولي إلى المخيم أكّد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة في رسالة موجهة إلى مجلس الأمن الدولي أنه يعتزم التخلّي عن فكرة إرسال فريق لتقصي الحقائق إلى مخيم جنين في أعقاب المجزرة الصهيونية في المخيم.  في الختام أعربت الولايات المتحدة عن أسفها لإلغاء فكرة إرسال الفريق إلى جنين.  ولم يخجل كوفي عنان من القول في تقريره “إنه من غير الممكن وضع تقرير كامل وشامل للأحداث الأخيرة في جنين، وكذلك في المدن الفلسطينية الأخرى من دون تعاون تام من الجانبين” !!!

ويذكر أن دول عدم الانحياز كانت قد وجّهت انتقادات لاذعة لمجلس الأمن مطالبةً بإلغاء حق النقض هذا، وعلى الرغم من أن شعوب دول عدم الانحياز تمثّل ثمانين في المائة من سكّان الأرض فإن دعوتهم هذه بقيت كصرخة في واد.

وبناءاً على كل ما تقدّم نخلُص إلى القول بأنّه لم يعد خافياً على أحد اليوم انحياز الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية في عديد المواقف والقرارات التي تخصّ عديد القضايا والنزاعات الدولية والإقليمية، لطرف على حساب حقوق الطرف الآخر والانحياز كان دوماً لصالح الدّول الإمبريالية التي تتحكّم بقدر كبير بسياسة وبتسيير شؤون الأمم المتّحدة وتوجيه قراراتها أو تلك الدول التي تدور في فلكها.. وإن لم تستطع تلك الدول المهيمنة أن تنتزع قراراً لصالحها هي وتوابعها ضد الدول الأخرى، بفعل شيء من التوازن داخل المنظومة الأممية بوجود الكتلة الاشتراكية ومجموعة عدم الانحياز، فإنها كانت دوما أو في الغالبية العظمى تمنع صدور قرار ضدّها أو ضد حلفائها .. وفي الحالات التي صدرت فيها قرارات ضد مصالح الدول الإمبريالية، فإنها إمّا أن تكون قد صدرت عن طريق الجمعية العامة للأمم المتحدة وهي غير ملزِمة، أو عن مجلس الأمن ويضربون بها عرض الحائط ولا تطبّق ..

وبحسب ما قدّمه عديد الباحثين السياسيين فإن هناك الكثير من المواقف والأحداث التي تشكّك بمصداقية الدور المَنوط بالأمم المتحدة القيام به، ومثال ذلك – “تولّي مبعوثي الأمم المتحدة وموظفيها لمناصب في دول تُحسَب على أحد أطراف الصراع التي تفصل فيها، ما يطعن بشكل مباشر في حيادية الأمم المتحدة ودورها كوسيط وحاكم في الصراعات المختلفة”، حيث يُفتَرض “أن يكون ممثلوها غير مرتبطين بأي علاقات من أي نوع مع أطراف الصراع في القضية التي تلعب فيها دور الوسيط”، فمثلاً ليس ببعيد تعيين مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا في منصب مهم لدى إحدى الدول المنخرطة في الأزمة هناك.. وكانت جريدة “الجارديان” البريطانية كشفت عن عمل مبعوثي ودبلوماسيي الأمم المتحدة لدى بعض الدول مقابل مبالغ مالية كبيرة، وهذه تعدّ إثباتات تعزّز اتّهام الأمم المتحدة بالحيف والانحياز والفساد الكامل بالمال السياسي.

فكما صارت الولايات المتحدة رمزاً للحروب وتجويع الشعوب والاغتيال السياسي والانقلابات الرجعية، كذلك أصبحت منظمة الأمم المتحدة رمزاً للحيف والزور والظلم بمواقفها المتخاذلة تجاه القضايا التي تخصّ العرب والمسلمين، من القضية الفلسطينية إلى شرعنة العدوان الإمبريالي على الدول العربية واحتلال العراق، وتدمير ليبيا وتمزيق اليمن ونشر الفوضى في سورية، والذرائع تتنوّع بين حماية الأقليات وحقوق الإنسان تارة ونشر الديمقراطية والحرية أحياناً ومحاربة الإرهاب في أحيان أخرى، واستعمال  الشعارات النبيلة لإشعال الفتن والحروب وتفكيك الدول المستقرّة التي لا تروق سياساتها الاستقلالية لدول الكتلة الإمبريالية.. حتى أن المواطن العادي البسيط أصبح يتندّر بالتساؤل حول مصداقية الأمم المتحدة وقلق أمينها العام.

إنّ كرامة وحرية المواطن العربي لن تتم استعادتها إلّا بالمقاومة وعبر العمل المسلح والعمل على إلغاء تحكّم الإمبريالية بطريقة مباشرة وغير مباشرة في أغلب الدول العربية، سواء عن طريق الاحتلال أو عن طريق السيطرة على رؤساء وحكام تلك الدول لتنفيذ سياستهم، ولا تفوتنا الإشارة إلى اصطفاف الدول الإمبريالية ضد مصلحة الشعوب الحرّة ومساعي الولايات المتحدة وحلفائها بكلّ الوسائل لدعم تولّي أمر العرب رؤساء يدينون بالولاء للولايات المتحدة أكثر من ولائهم لأوطانهم ولهويتهم العربية.. وهذه المقاومة يجب أن تتوحّد فيها جهود المناضلين العرب مع كل الشعوب الحرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية من أجل إلغاء “الفيتو” وإرساء نظام عالمي جديد عادل بين كل شعوب الأرض.

كما أن قيادات الدول الحرّة لا بد أن تنتبه إلى عودة روسيا والصين بقوّة إلى الساحة الدولية وتتحالف معها على غرار مجموعة “البريكس” والتحالف الروسي-السوري لإلغاء قوانين الغاب من علاقات البشر والعمل على إرساء نظام عالمي عادل يعيد التوازن للسياسة الدولية ويحقّق الخير للجميع ويحترم الثقافات والهويات المختلفة ويدعم مبدأ السيادة في الدول الوطنية ويشطب منظومة قوانين الهيمنة الظالمة.

وفي الختام ندعو المثقفين العرب من أنصار “الشرعية الدولية” والمتقيدين بها إلى مراجعة اعتبارهم للقوانين والمواثيق الدولية التي لا يمكن التّعويل عليها في ردّ الحق إلى أصحابه .. وأن ينتبهوا إلى أن المعتدين على الشعوب الآمنة يخترقون المواثيق الدولية التي هي أصلاً غير عادلة، وأن الشعوب المظلومة والمعتدَى عليها هي أوْلى باختراق وعدم احترام هذه المواثيق .. وعلى النخب المثقفة أن تعيَ وتدركَ أنّ التّمسك بتلابيب المواثيق والمنظمات الدولية والاحتكام إلى قوانينها لن يمكّننا من الدّفاع عن حقوق شعبنا وذلك بالنظر أوّلاً إلى القواعد والقوانين التي تسيّر هذه المنظمات وإلى المعايير الدولية الراهنة كمعايير القوى المهيمنة على القرار العالمي، ثم إلى تاريخ استخدام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لحقّ النقض (الفيتو) في محاربة الشعوب الحرّة.  كما نذكّر الجميع بأنّ من يلقي نظرة على ملف توزيع العائدات والثروات في العالم واستثمارها والانتفاع بها بين شعوب الأرض يدرك أن الشعارات والغايات النبيلة المرفوعة مثل تحقيق الرخاء والرفاه والعدل والعلاقات الودّية بين شعوب العالم ما هي إلّا خدعة تقدّمها الدول الإمبريالية التي لا تأبه بشيء اسمه الرأي العام الدولي والذي هو وهمٌ يخدعون به بعض المظلومين أنفسهم ويحبّذه دعاة مسايرة التحضّر ومحاولة كسب الرأي العام العالمي.

كما أن التاريخ القديم والحديث أثبت بما لا يدع للشك مكاناً بأنّ المقاومة المسلحة وامتلاك عناصر القوة هي السبيل الوحيد لاسترجاع الحقوق المغتصَبة وليست مواثيق الأمم المتحدة ولا قراراتها، فالقرارات التي تصدر عن فوّهة البندقية المقاومة أصدق وأدوَم من كل الحبر المسكوب على أوراق القرارات والمواثيق. وصدَقَ الشاعر العربي التونسي أبو القاسم الشابّي حين قال:

“لا عدل إلّا إن تعادلت القوى// وتصادم الإرهاب بالإرهاب.”

المراجع:

  • ملف “تقرير رئيس هيئة الأمم المتحدة بخصوص جرائم مخيم جنين” 2004 من أرشيف: شؤون قانونية لمنتديات ستار تايمز
  • المنظمات الدولية.. بين المصداقية وتأثير سياسات الدول الكبرى للباحث محمد رجب من مصر
  • موقع الأمم المتحدة على الإنترنت
  • كتاب “الصهيونية عارية هذه فلسطين” للكاتب والمناضل المرحوم الشهيد حسين التريكي.

قانون إمبريالي لا دولي: “سيفر ولوزان” نموذجاً

 

علي بابل

من البديهي أنّ القوي هو الذي يقرّ القوانين والأعراف، وهو الذي يعطي القانون حق التطبيق العملي، فكما أن الحلفاء رسموا خرائط العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية عند خروجهم منتصرين منها، فإنهم  رسموا حدود الشرق أيضاً.  ففي معاهدة سيفر “فرنسا” في 1920 التي وقعتها الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، تنازل العثمانيون عن كل الأراضي غير التركية الخاضعة لهم والتي يقطنها شعبٌ لا يتحدث التركية وأهمها أرمينيا والمشرق العربي ومصر والسودان وجزر عدة في بحر إيجه…إلخ.

هذا هو القانون الدولي الذي يتبجّح فيه البعض؛ يحرر شعباً من قبضة محتلٍ ظالمٍ ليحِلّ محلّه محتلاً آخر ليس بأفضل من سابقه.  ففي معاهدة سيفر تمّ تجاهل المكوّن العربي، وهو المكوّن الأساسي للأراضي التي قُسمت ووُزعت كأنها تِركة شخص متوفى.  فلم يكن هناك أي تمثيل للقومية العربية في هذه المعاهدة، والتي لم تستمر لأن القوميين الأتراك رفضوها بعد إسقاط السلطنة العثمانية من قبل رئيس البرلمان آنذاك “كمال أتاتورك”.  وما يهمنا من هذه المعاهدة هنا هو الأراضي العربية ومصيرها وإلى من تم “إعطاؤها”!

فرنسا سيطرت على سورية ولبنان والتي شملت لبنان الحالي وسورية الحالية إضافة إلى كل من الإسكندرون وكل الأراضي العربية السورية التاريخية جنوب الأناضول.  أما بريطانيا فقد سيطرت على العراق وفلسطين وشرق الأردن إضافة إلى إعطاء الكرد حق تقرير المصير في ولاية الموصل!  وهو ما يمثل سلْخاً لمدينة الموصل عن عروبتها.  وكما أن المعاهدة فككت الوطن العربي تحديداً إلى أقليات؛ فقد تمّ اعتبار الكلدان أقلية، لهم حق الحماية من قبل الانتداب البريطاني، وهذا مثال صغير على “عدالة” القانون الدولي.

إنّ عدم وجود دولة عربية مركزية في بداية القرن العشرين مهّد الطريق أمام الدول الأوروبية لتقسيم الوطن العربي بحسب ما تقتضيه مصالحهم الجغرافية السياسية، وساعد في ذلك المصلحة المشتركة بين الدولة العثمانية المهزومة الضعيفة والدول الأوربية التي تتلخص في أنّ تقسيم الأمة العربية يصبّ في مصلحة الجميع حتى العثمانيين الذين خسروا أغلب الأراضي التي كانت تحت دياجير ظلامهم مئات السنين.  فهم في النهاية استطاعوا تثبيت سيطرتهم على أرضهم أولاً في “معاهدة لوزان”، ثم تثبيت سيطرتهم على أراضٍ يونانية وأرمنية، والسيطرة على أراضٍ عربية تاريخياً هي مرسين، طرسوس، قيليقية، أضنة، عنتاب، كلس، مرعش، اورفة، ديار بكر، ماردين، نصيبين، وجزيرة ابن عمر.

تمّ هذا كله بعد اتفاقية لوزان الموقعة في العام 1923 التي تمّ توقيعها وإلغاء معاهدة سيفر وما نتج عنها،  بسبب “حرب الاستقلال” (اقرأ: الاحتلال) التركية التي قادها القوميون الترك بقيادة أتاتورك، والفراغ السياسي في الوطن العربي، وعدم وجود مركز عربي كما ذكرنا سابقاً.  فالأرمن واليونان لم يتضرروا كما تضرر العرب من نتائج هذه الاتفاقيات وذلك لتقاطع مصلحي نوعاً ما بين الأرمن واليونان من جهة وبين الأوروبيين من جهة أخرى، ووجود قوّة يونانية متمثلة برئيس الوزراء اليوناني “فينيزيلوس” ومن ورائه الجيش اليوناني الذي كان خارجاً من حرب مع الأتراك انتهت قبل عامٍ واحدٍ من توقيع معاهدة لوزان.  أما الأرمن فقد ساعدتهم الولايات المتحدة الأمريكية خلال المحادثات “باعتبارهم من الجنس الأوروبي”، فهذا وحده منحهم “أفضلية” لا مكان للعرب فيها.

معاهدة لوزان في العام 1923 ألغت كل بنود “سيفر” كاملةً، مما أسفر عن ضياع الأراضي العربية السورية لصالح الأتراك وعلى حساب العرب، فقد خسر العرب وطنهم العربي كاملاً لصالح الانتداب الفرنسي، والبريطاني والإيطالي طبعاً، إضافة إلى تسليم الأراضي الشمالية للجمهورية العربية السورية لتركيا، كما ذكرنا أعلاه، ليتم بعد ذلك تسليم لواء الإسكندرون لتركيا في العام 1939.  وبالرغم من عدم وجود أي تمثيل للعرب في معاهدة لوزان التي تمسنا مباشرة، يخرج علينا السياسيون الأتراك للمطالبة بتعديل بنودها لقضم المزيد من الأراضي العربية، وذلك باستخدام “القانون الدولي”!

إنّ غياب قوة عربية مركزية عن المشهد السياسي المعاصر لا يزال يسوق إلينا الويلات والأزمات المتتالية لأن الفراغ لا يبقى طويلاً، ولا بدّ من أن يجد من يملؤه عاجلاً أم آجلاً، في ظلّ ظرف تاريخي خطير تتعمّق فيه الرجعية العربية وتتغلغل في كل مناحي حياتنا العربية اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وتُكبَح جماح عجلة التقدم والتطور التي كان لها أن تنطلق وتغيّر هذا الواقع المتخلف الذي إن بقي يتجذر فلا مكان حتى للرجعية العربية في هذا الوطن، لأن الأطماع الاستعمارية أخذت بالنمو والتمدد من شمال سورية والعراق وصولاً إلى أثيوبيا.

هنا نتساءل ما هو البديل في ظل غياب القوة العربية؟

البديل هو دعم المقاومة التي تلتزم بالثوابت العربية التاريخية وتحتكم لمصلحة الأمة العربية وعلى رأسها القوات المسلحة العربية السورية التي استطاعت إلى الآن الدفاع عن الأراضي العربية السورية وهذا يمثّل في هذا الظرف الخطير أحد أهم العوامل الكابحة للمشروع التركي من جهة والصهيوني من جهة أخرى.  فكل من يقف مع الدولة السورية هو موضوعياً يقف صفاً واحداً في الدفاع عن وحدة الأمة العربية أرضاً وشعباً. والمشروع الكردي هو أحد المشاريع التي تهدد وحدة سورية والعراق، وفي تحرير الموصل على يد الجيش العراقي والسيطرة عليه من قبل الدولة العراقية نقطة بداية لتثبيت عروبة نينوى من جهة وحماية العراق وسورية من جهة أخرى. وبما أننا هنا لسنا في صدد تحليل سياسي للظرف العربي، إلا أنّ الواقع يقول بأن كل خطوة تتجه نحو التأكيد على هوية الأراضي العربية وعروبتها هي خطوة في اتجاه تدمير الأطماع التركية والكردية وغيرها من مشاريع سواءٌ كانت صغيرة أم كبيرة، فهي في النهاية مشاريع تفكيك لا بد من أن تؤخذ مخاطرها بعين الاعتبار.  فمحافظة نينوى عربية منذ النشأ البشري الأول، ولو حاول البعض تقزيمها زوراً باسم “قوميات” وهمية سميت مرة أشورية ومرة كلدانية.  وقد انطلقت هذه النزعات التفكيكية من صلب ما يسمى “القانون الدولي” الذي فصل “حقوق الأقليات” و”حق الحماية للأقليات الدينية”، التي هي أصلٌ في الأرض وجزءٌ من الهوية التاريخية للأمة العربية لم تنفصل يوماً عنها إلا بعد ما جاء المستشرقون وحقوقيو الإنسان إلى وطننا العربي حاملين معهم سموم “الإنسانية” على أجنحة حمم “الفانتوم” فوق سماء بغداد التي أتت “لكي ترسم البسمة على وجوه أطفالها المشوهين” فيما بعد!!!

إنّ القانون الدولي أثبت بشكل عام أنه وسيلة وأداة بيد الإمبريالية لا سيما عندما يستخدم في القضايا التي تخصّ دول العالم الثالث أو الدول المستعمَرة.  فهو لم يجلب لفيتنام السلام بل إنّ الثورة والمقاومة هي التي حررت الشعب الفيتنامي.  لم تنتزع إيرلندا بعض استقلالها سوى بالبندقية والدم، ولم تعرف كوبا طعم الحرية سوى بالثورة وكاسترو وغيفارا.  وكما تحررت ليبيا والجزائر من الاستعمار الوحشي، وكما كانت ثورة المهدي في السودان ضربة قاضية للإنجليز، يجب أن تكون حركة التحرر العربي الحديثة ثورة هائجة على كل قديمٍ بائدٍ من إرث العمالة والخيانة لهذه الأنظمة الرجعية وعلى كل “الدكاكين” التي أفقرت الفكر العربي بمقولات العدالة والقانون والمقاومة القانونية التي تستمد شرعيتها من “اللامقاومة”.  إنّ فرض القانون في زمن الحرب لا يكون إلا بالقوة والحرب.

إن أهم تعريف من تعريفات “الحرب” الكثيرة هو أن الحرب هي تصديرٌ لأزمة داخلية، والإمبريالية العالمية تعيش في أزمة، أو لنقل في أزمات مركبة، على كافة المستويات أبرزها نفاذ الحلول “الذكية” ومنها “الفوضى الخلاقة” بعد تكشّفها لدى أغلب دول نصف الكرة الجنوبي والشرقي وشعوب العالم، فهي لم تجلب لليبيا وفنزويلا سوى الخراب مثلاً.  لذلك نرى الإمبريالية تتوحش اليوم في الدفاع عن معاقلها المنهكة في شرق المتوسط وأمريكا اللاتينية فلا توفر جهداً في دعم المتطرفين والانفصاليين، فمرة يكون الدعم لعملائها جوياً بشكل فاضح ومكشوف ومرة يأتي على شكل دعم سياسي من خلف الكواليس بحجج “إنسانية” لإدخال مساعدة إلى هذه المنطقة أو تلك.  في حلب مثلاً، يتباكى الغرب بسبب الضحايا والمحاصرين الذين تتخذهم العصابات المسلحة دروعاً، لكنه لم يرى قطع رأس طفل بكل دم بارد!

إن الإمبريالية لا تلقي بالاً لأي قانون كان، دولياً أو غير دولي، ما دام لا يخدم مصلحتها، لذلك لا يصحّ التعويل على القانون بغض النظر عن الطرف الذي يريد تطبيقه لأنه وبكل بساطة لا وجود للقانون في زمن الحرب، فالحرب تتخذ صفة “لا أخلاقية” عادةً بين المتحاربين، والقوي هو الذي يستطيع فرض قوانينه التي تحمي مصالحه ونحن العرب هنا نقف في مواجهة حيوانات مفترسة لن ترحم فريستها إن سقطت.  فلا بد لنا من المقاومة على كافة المستويات وعلى رأسها المقاومة المسلحة التي تلتزم خط الثوابت التاريخية للأمة العربية من عروبة الأرض لرفض التطبيع مع العدو الصهيوني الذي هو أداة الإمبريالية الرئيسية في المنطقة، والتأكيد على هوية الوطن العربي وكافة أراضيه المحتلة “قانونياً” وعسكرياً من قبل الصهاينة أولاً والقوميات “الجارة”.

مبدأ السيادة القُطرية في ميثاق الجامعة العربية مدعاة لانهيارها… فهل تنقذها الحركات الشعبية؟

محمود كامل الكومي

مؤخراً صارت جامعة الدول العربية تعاني دواراً شديداً، جعلها تترنح إلى الحد الذي انتهكت فيه شرعة  تواجدها، حين اتخذ مجلسها قراراتٍ ساهمت إلى حد كبير في  تفتيت عرى البلدان العربية بديلاً عن وحدة ترابها الذى هو الهدف المرجوّ من نشأتها، وقد تمثّل ذلك في  ذلك القرار اللعين، القاضي بإحالة الملف الليبي في  مارس آذار 2011 إلى مجلس الأمن، وكان ذلك المبرر الشرعي لتدخل حلف الناتو في  ليبيا وتدمير بنيتها واستدعاء التنظيمات الإرهابية لتعيث فيها فساداً، وما تلا ذلك من قرار بتجميد عضوية سورية في  الجامعة انصياعاً لقوى خارجية، ذلك القرار الذي غدى مسماراً دُقَ في  نعش الجامعة.  وقد كان مما ساعد على قرب تشييع الجامعة إلى مثواها الأخير قرار تعيين “أبو الغيط”، صاحب أوثق العلاقات مع الكيان الصهيوني ورفيق تسيفي ليفني، أميناً عاماً لها، وهو ما استدعى البعض نشر مقولة أن عضوية “إسرائيل” في الجامعة باتت قريبة بديلاً عن سورية، عضد القومية العربية .

ما سبق من تقديم دعانا إلى البحث في جذور نشأة الجامعة وهل كانت على أسس قومية راسخة في جذور الأرض العربية، أم أنها كانت لترسيخ القُطرية وزيادة النعرة المعادية للوحدوية؟  وعلى ذلك مثّلت السيادة الوطنية خلافاً هو الأهم في النقاش الذي مهّد لإنشاء الجامعة العربية، وقد شهدت المناقشات محاولات جادة من أجل التوصل إلى نوع من المواءمة النسبية بين اعتبارات الحرص على السيادة القُطرية للدول العربية فرادى وبين مقتضيات المصلحة العربية القومية، وقد تمثّلت في التعبير عن نفسها في  أكثر من موضع فيما سُمي “برتوكول الإسكندرية”.

لكن في ختام تلك النقاشات صدر ميثاق جامعة الدول العربية الذي جاء ليعبر بوضوح عن انتصار وجهة النظر التي غلّبت الاعتبارات القُطرية على الاعتبارات القومية.  وقد وُضعت آلية لهذا الميثاق ليكون ميثاقاً لمنظمة تقوم بين دول عربية بمفهوم الفكر القانوني والسياسي لاصطلاح الدولة، رغماً عن كل الروابط العضوية الأصيلة التي تجمع بين أبناء الشعب العربية، والتي يندر أن نجدها متحققة في أي مجموعة إقليمية أخرى في العالم خاصة “الاتحاد الأوروبي” – وذلك على الرغم من أن الدافع لمفاوضات الاتحاد العربي التي سبقت إنشاء الجامعة كان التيار القومي العربي .

وبناءاً عليه فإن ميثاق جامعة الدول العربية الصادر في مارس/ آذار 1945 جاء بعيداً عن التوجّه القومي الذي استقرّ عليه الرأي في برتوكول الإسكندرية – فصدر مكرِّساً لمبدأ السيادة القُطرية في العديد من نصوصه .

في الديباجة ورد أن الاتفاق على إبرام ميثاق جامعة الدول العربية إنما جاء تثبيتاً للعلاقات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط بين الدول العربية، وحرصاً على دعم هذه الروابط وتوطيدها على أساس احترام استقلال تلك الدول وسيادتها.  المادة 2 نصّت على “أنّ الغرض من الجامعة توثيق العلاقات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها”.  المادة 8 تنص على أنْ “تحترم كل دولة من دول الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول، وتتعهد بأن لا تقومَ بعملٍ يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها”.  وهذا النص عبّر عن أهم مظاهر السيادة القُطرية، وهو عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة عضو في الجامعة من قبل عضو آخر فيها.  المادة 18أشارت إلى مضمون السيادة القُطرية حين أعطت لكل دولة عربية الحق في الانسحاب من الجامعة في الوقت الذى تريده، وقد نُصّ على الحق المذكور على إطلاقه توكيداً لمبدأ السيادة ولم يشترط تسبيب الانسحاب .

وعلى ذلك وتأكيداً لمبدأ السيادة القطرية كان الأخذ بمبدأ الإجماع، وليس الأغلبية في القرارات التي يصدرها مجلس الجامعة، وعلى ذلك صار نص المادة 7 بأنّ ما يقرره مجلس الجامعة بالإجماع يكون مُلزِماً لجميع الدول المشتركة في الجامعة، وما يقرره بالأكثرية يكون ملزِماً لمن يقبله، ونص المادة 18 يتحدث عن ضرورة الحصول على إجماع الدول الأعضاء لصحة قرار المجلس بشأن إمكان فصل إحدى الدول .

ولعل اعتماد قاعدة الإجماع هي التي شكّلت المظهر الحاد لتمسك الدول الأعضاء بسيادتها القُطرية.  وإلى جانب قاعدة الإجماع كمظهر من مظاهر تمسّك الدول العربية بسيادتها الإقليمية، فإن الميثاق لم يخوّل الجامعة أية سلطات فعلية في مواجهة الدول الأعضاء، فالجامعة لا تعدو أن تكون منظمة إقليمية تقوم على مبدأ التعاون الاختياري الذي يرتكز على الاستقلال والسيادة القطرية، وحتى حينما طُرح مشروعٌ لتعديل ميثاق الجامعة العربية في قمة شرم الشيخ 2015 تضمن نص التعديل المقترح تكريس مبدأ السيادة حين قرر وتضمن الميثاق تعهد الدول الأعضاء العمل وفق المبادئ الأساسية التي تتضمن “احترام سيادة الدول الأعضاء واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها وأنظمة الحكم القائمة فيها”، وبدت الجامعة العربية وقد ولدت من دون فعالية في مواجهة أعضائها، فقد جاء ميثاقها خالياً من التدابير والإجراءات العقابية -إلا فيما ندر- التي يجوز للجامعة اتخاذها ضد أي عضو يخالف أحكام الميثاق، ولذلك فقد افتقدت إلى نظام فعال للجزاءات على خلاف الحال بالنسبة لكل المنظمات الدولية، وصار اعتمادها على النوايا الحسنة.  ويثور التساؤل الآن في ظل التطورات في مجال القانون الدولي والعلاقات الدولية في ظل موجة العولمة وتأثيرها على مضمون السيادة الوطنية، خصوصاً وأنّ مظاهر هذا التطور قد بدت فيما يلي: 1- فالمجتمع الدولي انتقل من مجتمع الدول إلى مجتمع عالمي، وهو ما يعني أن إرادة “المجتمع الدولي” (اقرأ: المؤسسة الإمبريالية) صارت مستقلة بذاتها عن إرادات الدول التي تكوّنه، بل صارت فوقه، 2- الثورة الهائلة في عالم المواصلات والاتصالات، خصوصاً الانترنت، 3- تصاعد ظاهرة التبادل الدولي، وتداخل حلقات الاقتصاد العالمي، وترسخ التبعية للمنظومة الإمبريالية عموماً.

لقد غدت هذه التطورات تلقي بثقلها على الصعيد الدولي، وتدفع باتجاه تهديم السيادة الوطنية وبدت فكرة “العمل الجماعي” في القانون الدولي هي التي تساير منطق العالم الآن، بل أن فكرة السيادة الوطنية في ظل هذا التطور تجد مدخلاً أساسياً في ضرورة التعاون الدولي، وهو المفهوم الذي يخفي ثناياه حقيقة وجود منظومة إمبريالية ودوائر للتبعية، وحاجة ماسة للتعاون الدولي، في الآن عينه، ولكن على أساس ما من التكافؤ.  لكن الفرق هو أن الدول القومية تدخل فيه من قاعدة صلبة، أما نحن فندخله من حالة تجزئة، فلا مفر من نشوء تعاون إقليمي عربي لمواجهة استحقاقات التعاون الدولي، حين يخدم مصالحنا ولا يكون غطاءً للتدخل الأجنبي ومشاريع التفكيك، ولا مفر من التعاون الإقليمي العربي في الحالة الثانية أكثر.  لكن يبدو أن ذلك لا يجد صداه في ظل موروث جامعة الدول العربية الحكومي خاصة وقد ظللتها بعض الحكومات الرجعية التي نصّبها الاستعمار والصهيونية على عروش بعض الدول الأعضاء في الجامعة العربية “خصوصاً دول الخليج”، فصارت أثيرة عدم مسايرة الفكر الوحدوي العربي، وغدت تمارس المفاهيم القُطرية والذاتية وتشن الحروب على كل الأفكار والخطوات الوحدوية وضد هيكلة الجامعة العربية بغية تطويرها لمواجهة الاستحقاق القانونية للعولمة – وقد سخّرها الاستعمار والصهيونية لمصالحه، حين أوعز إليها بإنشاء آلية صهيونية لهدم الجامعة العربية تمثلت في “مجلس التعاون الخليجي”، وها هي قد استغلت بترودولارها في تفتيت دول الجامعة العربية، وضربت بميثاق الجامعة العربية عرض الحائط حين شنّت الحروب على ليبيا وسورية واليمن الأعضاء بالجامعة، في محاولة منها لإزهاق روح الجامعة العربية .

حين يحدثنا ميثاق العمل الوطني الذى قدمه الزعيم “جمال عبد الناصر” في باب الوحدة العربية عن الجامعة فهو لم يعول عليها في تحقيق الوحدة العربية الشاملة، إنما كان تعويله على الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، ومن هنا نستعيد درس عبد الناصر من الميثاق الناصري: “إن قيام اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية في العالم العربي أمر سوف يفرض نفسه على المراحل القادمة من النضال، إنّ ذلك لا يؤثر ولا ينبغي له أن يؤثر على قيام جامعة الدول العربية، وإذا كانت الجامعة العربية غير قادرة على أن تحمل الشوط العربي إلى غايته العظيمة البعيدة، فإنها تقدر على السير به خطوات.  إنّ الشعوب تريد أملها كاملاً، والجامعة العربية بحكم كونها جامعة للحكومات لا تقدر أن تصل إلى أبعد من الممكن؛ إن الممكن خطوة في طريق المقلوب الشامل، إن تحقيق الجزء مساهمة في تقريب يوم الكل، لهذا فإن الجامعة العربية تستحق كل التأييد، على ألا يكون هناك تحت أي ظرف من الظروف وهم تحميلها أكثر من طاقتها العملية التي تحدها ظروف قيامها وطبيعتها. إن الجامعة العربية قادرة على تنسيق ألوان ضرورية من النشاط العربي في المرحلة الحاضرة، لكنها في نفس الوقت تحت أي ستار وفى مواجهة أي ادّعاء لا يجب أن تتخذ وسيلة لتجميد الحاضر كله وضرب المستقبل به”.

 

“الشرعية الدولية” في الميزان القومي الجذري

 

عبد الناصر بدروشي

 

لطالما اعتبرنا أنّ المواثيق الدولية وقرارات “الشرعية الدولية” أقل حتى من أن ترتقيَ إلى مستوى خرقة بالية أو حتى ورق حمام.  وهو قولٌ ثقيلٌ على قلوب أنصار “الشرعية الدولية” ومرتزقة أروقة الأمم المتحدة وحقوق الباذنجان.  إن مثل هؤلاء المتعيشين من هذا النوع من التجارة السياسية لا يعنوننا بشيء، إلّا أنّ هذا لا يمنع من وجود الكثيرين ممن وقعوا في حبائل “الشرعية الدولية” عن حسن نية ولا يرون ضيراً من التوجّه للهيئات الدولية لنرفع مظلمتنا أملاً في استرجاع حقوقنا المسلوبة عبر “النضال الحقوقي” في أروقة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الباذنجان، ولهؤلاء فقط نكتب أملاً في إزالة الغشاوة التي عمَت أبصارهم.

بعيداً عن التحليل والاستقراء، فلنبدأ باستعراض بعض النتائج الحتمية التي لا يأتيها الشك لا من بين يديها ولا من خلفها، ولا يحتاج أي شخص لرجاحة عقل ولا إلى بعد نظر ولا حتى إلى قدرة على التحليل ليكتشف أنّ الاحتكام إلى ما يسمى “الشرعية الدولية” والقانون الدولي ومن ورائهما منظمة الأمم المتحدة وكل ما ينبثق عنها لم يسبق أن أعاد حقاً إلى صاحبه أو نصَرَ مظلوماً أو ردّ ظالماً.  ومن لديه دليل واحد على عكس ما نقول فليرمِنا به.

ورب قائل: حتى وإن لم يسبق أن ردّت “الشرعية الدولية” ظالماً أو أعادت حقاً مغتصباً الى أهله، فلا ضير من تكرار المحاولة!

يفترض أن تكون عقوداً من التجارب المريرة مع “الشرعية الدولية”، خصوصاً بالنسبة لنا كأمة عربية، وبالأخص فيما يتعلق بقضيتنا المركزية ألا وهي قضية احتلال فلسطين، التي عجزت الأمم المتحدة ومجلس الأمن عن إصدار قرار واحد بشأنها يقضي بطرد المحتل وإرجاع الأرض لأصحابها، يفترض أن تكون كل هذه العقود من المهازل كافية لأن نكبّر أربع تكبيرات على “الشرعية الدولية” ومؤسساتها وأن نقدّم فيها العزاء، إلا أن أنصارها ودعاتها لا يكترثون لهذه التناقضات طالما أنهم يستفيدون ويتعيشيون من ورائها.

إذا ما أردنا أن نضع “الشرعية الدولية” في ميزان الدلائل والبراهين، وأن نحاكمها محاكمة عادلة، يكفي أن نسلّط الضوء على مخلّفاتها، كتوفير الغطاء والدعم للعدوان الصهيوني على فلسطين وشعبنا العربي فيها بالإضافة إلى تقسيم السودان وتجويع العراق وحصاره لأكثر من اثني عشر عاماً، وحتى في بعض الحالات النادرة جداً )وعبارة “النادرة جدا” نضعها بالبنط العريض( التي لا تتماهى فيها “الشرعية الدولية” تماهياً كاملاً )شكلاً وليس مضموناً( مع النزوات الأمريكية أو الصهيونية فإنّ العدو الصهيوني أو الأمريكي لا يتورّع أن يضرب قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة والمواثيق الدولية عرض الحائط ببلطجته وغطرسته المعهودة، حرب العراق نموذجاً؛ فبعد أن لم يمنح لها مجلس الأمن حق توجيه ضربات عسكرية للعراق قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق وتدمير بناه التحتية والفوقية وتخريبه حضارياً وثقافياً والاعتداء على إرث حضاري لأمة ضاربة في القدم يمتد عبر مئات الآلاف من السنين عبر سرقة آثاره بالإضافة إلى قتل علمائه وتجهيل أطفاله وشبابه.  فماذا فعلت الأمم المتحدة بعد ذلك؟  قام مجلس الأمن بشرعنة الغزو والاحتلال بأثر رجعي معتبراً القوات الأجنبية فيه “قوات متعددة الجنسيات”، واعترفت بسلطة الانتداب التي أقامها الاحتلال!

فلنترك قليلاً النبش في الماضي القريب والبعيد، وبعيداً عن فتح جرح العراق وملف تمزيق السودان والأقطار العربية والعدوان على كوريا (المغطى من قِبل الأمم المتحدة رسمياً) واحتلال فيتنام ومحاولات الإطاحة بالحكم الثوري في كوبا وفنزويلا والقائمة تطول…، فلنلقِ الضوء على الحاضر ولننظر إلى ما قدمته “الشرعية” الدولية في مواجهة بعض الأعمال العدوانية؟

 *إقدام حلف الشمال الأطلسي على الاعتداء على دولة ذات سيادة ودولة عضو معترف بها في الأمم المتحدة وهي ليبيا بعد قرار من مجلس الأمن ينص على “حماية المدنيين” فيها عبر فرض “منطقة حظر جوي”!

*توفير الغطاء والشرعية لكيان إحلالي استيطاني عنصري صهيوني والسكوت عن ممارسة الإبادة الجماعية في حق أبناء فلسطين!

*إقدام تحالف عسكري برعاية أمريكية على ارتكاب مجازر في حق شعبنا العربي في اليمن!

*تسليح وتمويل جماعات إرهابية ومساعدتها على انتهاك سيادة دولة معترف بها وعضو في الأمم المتحدة تحت تسمية “معارضة معتدلة” والشروع في القيام بإسقاط نظام الحكم فيها، وهي سورية!

أما عن مهزلة معاهدات نزع أسلحة الدمار الشامل والحد من انتشار الأسلحة النووية فحدّث ولا حرج، حيث أن امتلاك هذه الأسلحة هو من حق الدول الظالمة وحدها وليس من حقنا نحن، والمثير للسخرية وللقرف في آن واحد هو أن الدولة الوحيدة التي أقدمت على استخدام القنبلة النووية استخداماً مروعاً لا يمت للإنسانية بصلة في ناكازاكي وهيروشيما هي نفس الدولة التي ترفع عقيرتها صباح مساء لتنادي بضرورة الحد من السلاح النووي ولتتوعد كل من يصبو إلى امتلاك القنبلة النووية بالويل والثبور، تماماً كالعاهرة التي تحاضر في الشرف.  فالقانون الدولي والمواثيق الدولية لم توضع إلا لقبر أي نزعة تحررية قد تنشأ هنا أو هناك.

إنّ ما يثير الأسى ليس استعمال الطرف الصهيو-أمريكي خصوصاً والغربي عموماً للشرعية الدولية من أجل انتهاك سيادتنا واستدامة حالة التخلف والاحتلال التي تعصف بنا، إنما المثير للسخرية هو مشهد بعض أبناء جلدتنا وهم يلهثون خلف جزرة “الشرعية الدولية” بينما تنهال سياط العدو الإمبريالي على ظهورنا جلداً وتقطيعاً.  فنلزم أنفسنا بما لا يلزم، ونتقيد بقوانين وقواعد لا يحترمها ولا يتقيد بها غيرنا، فالطرف الصهيو-أمريكي لا يقيم للشرعية الدولية ولا لقرارات الأمم المتحدة وزناً ولا اعتباراً إذا ما تعارضت مصالحه مع بعض مبادئها التي وضعوها هم بأنفسهم.

إنّ تفصيل القانون الدولي جاء على مقاس الإمبريالية وأعوانها فكانت مؤسسة لشرعنة الظلم والاحتلال والهيمنة على مقدرات الشعوب الأخرى، فنراها تجرّم الثورة عندما تقوم على وكلاء الاحتلال وتشرّعها وتجيزها عندما تقوم على الأنظمة الوطنية المناهضة للإمبريالية، فكانت قراراتها دائماً مرحبة ومساعدة للأنظمة التي انبثقت عن كل الثورات الملونة فيما تمنع أي قرار يمكن أن يسيء إليها، وبالمقابل كانت منكّلة بالأنظمة المنبثقة عن الثورات الحقيقية كما مصر عبد الناصر وليبيا وكوبا والعراق وإيران … وكثيراً ما تحاول القوى الإمبريالية استصدار قرارات ضدّها.

وحين تعجز الأمم متحدةً عن إصدار قرار يدين تنظيم “لواء الإسلام” وقبله “جبهة النصرة” و”الجيش الحر” ولا يمرّ مشروع قرار يقضي باعتبارها حركات إرهابية رغم القتل والتفجير والذبح الذي تمارسه على مرأى ومسمع كل البشرية، وحين تعجز هذه الأمم متحدةً عن منعها من التمويل والتسليح الأمريكي-الصهيوني الواضح وضوح الشمس والدعم اللوجستي والسياسي المباشر وغير المباشر، وحين يوصف حزب الله على أنه ميليشيا إرهابية والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة ومن قبلها جبهة التحرير الجزائرية وغيرها من حركات التحرر الوطني على أنها منظمات إرهابية من قبل الدول الغربية التي تكوّن العمود الفقري لمؤسسات ما يسمى “الشرعية الدولية”، عندها تنكشف سوأة هذه “الشرعية الدولية” والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان ويتبيّن وجهها القبيح الذي تخفيه.

إذن عن أي شرعية نتحدث؟ وعن أي أمم متحدة؟

حين نقول: لا شرعية إلا شرعية السلاح والعمل الاستشهادي، ولا اتحاد للأمم الحرة إلا بمعزل عن قوى الشر، فإنّ هذه ليست شعارات خشبية ولا هي مقولات ناتجة عن حماسة وفورة ثورجية، إنها الحقيقة التي أثبت التاريخ مصداقيتها عبر العصور، ولنا في التاريخ الحديث عبرة كما في تاريخ أجدادنا،

فلم يُعرَف أن دولة نالت استقلالها بقرارٍ من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن ولم يُعرَف أنّ وقَفَ القانون الدولي ولا “الشرعية الدولية” أو قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن حائلاً أمام النزعات الاستعمارية للعدو الصهيو-أمريكي.

لم نشاهد يوماً مجرماً أمريكياً أو صهيونياً مَثُل أمام المحاكم الدولية وتمت إدانته أو معاقبته، لا بل إننا رأيناها أسست لمحاكمة أحرار أمتنا وأحرار العالم فنصبت لنا المشانق وللغزاة السجاد الأحمر..

فلولا قوة السلاح ما كانت لتتحرر الجزائر ولا جنوب لبنان ولا فيتنام…

إنّ المعاملة السليمة التي يجب أن تحظى بها الأمم المتحدة وميثاقها وكل الهيئات المنبثقة عنها هي معاملة الزعيم الشهيد معمر القذافي حين قام بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة وإلقائه تحت حذائه، فحقيقة ما يسمى بالأمم المتحدة هي “أمم” تجتمع لتحكمها دول لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة تنفرد بحق النقض المسمى “الفيتو”، فيعتبر كل قرار تعترض عليه إحدى هذه الدول الخمس، بغض النظر عن موقف بقية الأعضاء، لاغياً.

لقد تبيّن بما لا يدع مجالاً للشّك أن منظمة الأمم المتحدة ومحاكمها الدولية ومنظماتها الحقوقية وكل مواثيقها ومعاهداتها أصبحت ساقطة بلا أدنى قيمة أخلاقية ولا شرف ولا تخجل من دموع ودماء وأشلاء الأطفال في الصومال وفلسطين والعراق وسورية وليبيا واليمن وغيرها الكثير فما هي إلّا رِمم متّحدة بلا ضمير.

فلتذهب “الشرعية الدولية” ومخلفاتها للجحيم، ولتحيا البندقية العربية المقاومة، وليحيا العمل الاستشهادي المقاوم.

 

شخصية العدد:

خالد أكر وميلود بن ناجح؛ نسورٌ من وطني

إعداد: نسرين الصغير

هما شابان عربيان، خالد أكر سوري من حلب وميلود بن ناجح من تونس، لن نتحدث عن تحصيلهما العلمي، ولا تاريخي ميلادهما ولا حالتهما الاجتماعية، بل سنتحدث عن ليلة في ألف ليلة، عن ليلة الطائرات الشراعية، الليلة التي حصلا فيها على أعلى وأنبل الشهادات التي يمكن أن ينالها الإنسان.

ميلود بن ناجح شاب عربي القلب والهوى تونسي الجنسية، نشأ وهو يتابع أخبار المقاومة والثورة الفلسطينية، والمآسي التي يعاني منها الشعب العربي الفلسطيني، قدم من تونس عازماً على القيام بعملية نوعية ليثأر لأرضه وشعبه، تابع تدريباته العسكرية بجدٍ وعزيمة، باذلاً مجهوداتٍ استثنائية لتنجح أهداف العملية التي اختير ليقوم بها.  كان أشبه بالعريس الذي يتجهز ليوم زفافه، فقد حمل روحه على كفه ليلقي بها في مهاوي الردى – متمثلاً بقول الشاعر العربي الشهيد عبد الرحيم محمود-، فداءً لقضيته العربية في فلسطين. كان ميلود ينتمي لأسرة متواضعة إلا من الكرامة والانتماء القومي، فأبوه كان فلاحاً مزارعاً، لكنه كان يمتلك قدْراً من الثقافة والحس القومي العربي، غرسها في صدر ابنه قبل أن يزرع أرضه بذاراً تنمو وتشبّ.

خالد أكر شاب صغير بالعشرينيات، دائب الحركة ينتمي لعائلة حلبية، فليس غريباً أن يستعيد خالد أكر إرث سليمان الحلبي وأن تكون حلب حاضرة في كل مشاهد الأمة العربية من مصر إلى فلسطين إلى سورية اليوم وهي تجابه العدوان العثماني الإمبريالي الصهيوني، فها هو يلتحق بصفوف المقاومة الفلسطينية منذ أن وعى القضية الفلسطينية.

كان خالد وميلود دائمي النقاش والمتابعة للأحداث والتطورات السياسية والعسكرية الإقليمية منها والعالمية.  اشتهر أكر في مقولته: ((المهم أن تزرع وليس أن تحصد الثمار، لأن مَن بعدك حتماً سيحصدها))، وكان يقصد بذلك تحرير فلسطين طبعاً.  لم يكن هدف العملية الرئيسي هو ما ينتج عنها مباشرة في ذلك الوقت، بل أن تكون إشعاعاً وتأسيساً لحالة المقاومة لما هو في قادم الأيام، وأن تكون عمليتهم النوعية شمعة وسط هذا الظلام.

من وصية خالد محمد أكر:

“أعِد كل المقاتلين، كل رفاقي بمواجهة العدو بقلبٍ لا يعرف إلا الإرادة، لا يعرف إلا رفع راية الكفاح المسلح، هذه الراية هي راية فلسطين وراية سورية وراية كل الثائرين لصنع مجد هذه الأمة في كفاحها المستمر والمتواصل ضد الصهاينة”.

من وصية ميلود ناجح بن لومة:

“لقد عزمتُ وأنا تونسي عربي مقاتل في صفوف الثورة الفلسطينية، في صفوف الجبهة الشعبية القيادة العامة، على التأكيد أنّ مشرق الأمة هو همنا جميعاً في مغربها، وأن وحدة التاريخ واللغة والمُعتَقد والدم هي وحدة متكاملة، وأنّ محاربة الصهاينة واجب قومي لا يفوقه أي واجب آخر”.

في مساء 25/11/1987 كانت تنتظر فلسطين وعطر الخالصة نسوراً اشتاقوا لرؤية هضابها واحتضان أرضها، فرغم أن الضباب كان يحجب الرؤية، إلا أن المقاوميّن رفضا العودة، فهما كانا ينتظران هذا اليوم وتلك اللحظة بفارغ الصبر.  كان الهدف هو معسكر غيبور.  ميلود عاهَدَ فلسطين على أن يطلق كل رصاصة يحملها، كانت فلسطين من تحتهم تحرسهم وتراقبهم وتنتظر احتضانهم، وحملت العملية اسم عملية قبية، وهي القرية الفلسطينية التي تعرضت لمجزرة صهيونية عام 1953 بقيادة الصهيوني المأفون آرييل شارون، مع العلم أن العملية كانت مقررة بثلاث طائرات شراعية وبسبب خلل فني في إحدى الطائرات لم يحلق صاحبها ولم يشارك في العملية المدّرب عليها مما اضطر لعدم نشر اسمه للحفاظ على حياته وأمنه.

بدأت العملية حين حلّقوا من جنوب لبنان إلى سماء الوطن، وبسبب سوء الأحوال الجوية سقطت طائرة ميلود في المنطقة العازلة التي تسيطر عليها قوات “جيش لبنان الجنوبي” العميلة، وبعد تواصل جيش الاحتلال الصهيوني مع قوات الجيش اللبناني الجنوبي عثروا على البطل الذي التوى كاحله نتيجة سقوط طائرته، لكنه لم يستسلم وبقي يقاتل حتى آخر لحظة واستمرّ بإطلاق النار حتى أسقط خمسة قتلى من العملاء ليستشهد ميلود في فجر يوم 26/11/1987.

أمّا خالد النسر المحلّق في السماء فهبط  بالقرب من معسكر غيبور في إصبع الجليل وتوجّه للمعسكر وهو يصرخ ” فلسطين عربية والموت لكم يا أوغاد”.  واشتعل معسكر غيبور  برصاص خالد من خيمة إلى خيمة تسابقه قنابله وبعد دقائق نفَذَت كل رصاصاته وقنابله وخرج الجرذان ليطلقوا عليه وابلاً من النار، لتخترق جسده الطاهر عشرات الرصاصات.  استشهد خالد  ليستفيق جنود العدو وليهرعوا لإطفاء النيران التي أشعلها خالد  في مهاجعهم وآلياتهم، وليلملموا جرحاهم وأشلاء قتلاهم. فقد أعلن التلفزيون الصهيوني عن الخسائر التي وصفها بالخسائر الفادحة، حيث قُتل وجُرح أكثر من أربعين عسكرياً صهيونياً من بينهم: ضباط وضباط صف، وتدمير ثلاثة مهاجع وحرق خمس خيم، وتدمير وإعطاب أكثر من ست آليات مختلفة، إلا أنَّ العدو الصهيوني تراجع ولم يعترف سوى بالقتلى الستة الذينَ أسقطهم المقاتل الشهيد خالد محمد أكر.

استمرت المعركة ما يقارب الـتسعين دقيقة استشهد خلالها الرفيق الحلبي البطل خالد محمد أكر قائد التشكيل المقاتل، ولم يستطيع العدو أن يتبادل النيران مع خالد قبل مضي 15 دقيقة من بداية المعركة، بسبب النيران التي تشعل المكان والقتلى والجرحى والتي امتلأ بها المعسكر وأمام بواباته، وكعادة العدو في المواقف الحرجة – التي تكشف زيفه وجبنه- استنجد بقوات من خارج المعسكر وغطّت سماء المعركة طائرات ومروحيات وقذائف الإنارة.

أكدت هذه العملية النوعية على قدرات وعزيمة شباب أمتنا العربية، حيث أتت تفاصيلها من حيث لا يحتسبها ولا يتوقعها جيش العدو الصهيوني، وسميت العملية بعملية “شهداء قِبية” و”ليلة الطائرات الشراعية”.  وهي لم تكن مجرد عملية استشهادية، بل كانت عملية نوعية وكان أبطالها يجْرُون تدريبات للخروج سالمين من أرض المعركة في نهاية العملية، لكن للأسف لم ينجح مخططهم وعطّروا الأرض بدمائهم.

فلسطين كانت البوصلة وستبقى حتى آخر رمق مهما جلبوا من قتل ودمار لوطننا العربي وربيع صهيوني، إلا أن أمثال خالد وميلود ستبقى تقاوم حتى آخر لحظة والقضية الفلسطينية ستبقى حية.

إن هذه العملية لأكبر دليل على أنّ الوحدة العربية والقومية العربية هي الباعث الجوهري لهذه الأمة، وأنّ القومية العربية هي الحلّ للخلاص من التفكيك والاحتلال والتخلّف واستبدالها بالوحدة والتحرير والنهضة.

الصفحة الثقافية:

في ذكرى ثورة الفاتح من نوفمبر: تجليات العروبة في القصيدة الوطنية الجزائرية

                                                                                                            

إبراهيم حرشاوي

تعتبر الثقافة الأدبية بشكل عام الميزان الذي تُقاس به درجة نهوض الشعوب بهويتها الوطنية في ظلّ الهيمنة الخارجية.  فبروز الثقافة الوطنية يتمّ بقدْر استعداد الخاضِع للثقافة الأجنبية نيْلَ حقوقه الوطنية المسلوبة، مستخدماً بذلك لغته القومية للتعبير عن وجدانه المكبوت عبر الشعر والنثر والمقال والخطاب السياسي وغير ذلك من وسائل التعبير.  إنّ هذا الاستخدام للّغة هو أداة من أدوات المقاومة التي يلتجئ إليها أي وطني لإثبات ذاته وذات أمته، كون اللغة لها ميزة خاصة في بقاء الأمم التي لم تحقق وحدتها أو استقلالها بعد.  ففي الوطن العربي كانت الجزائر من المناطق العربية (مثل ليبيا وفلسطين) التي ضمّها المستعمِر رسمياً لأراضيه لتصبح جزءاً لا يتجزأ من كيان غربي.  خلّف هذا الخضوع أثراً سلبياً على الانتماء العربي للجزائر التي خضعت لسياسة فرنسة عنيفة كادت أن تعصف باللغة العربية بشكل نهائي. ولهذا السبب بالذات كانت الهوية العربية والانتماء العربي أقوى بكثير في الشعر والقصيدة الوطنية الجزائرية مقارنةً مع باقي مناطق المغرب العربي. كما كان كذلك الإسلام بارزاً في الإنتاج الأدبي كونه كان مهدداً بسياسة التنصير المندرجة تحت السياسة البربرية “Politique berbère” للاستعمار الفرنسي الهادفة لشق وحدة الشعب الجزائري.  فالإسلام كان ولا يزال مكوّناً أساسياً في الهوية الوطنية الجامعة من جهة ومثّل وقتذاك أكبر عقبة أمام الفرنسة من جهة أخرى.

لعبت جمعية علماء المسلمين الجزائريين دوراً مفصلياً في الإقدام على عملية بثّ الوعي القومي في الأدب الجزائري، ولاسيّما في الشعر معلنةً بذلك الانتقال إلى مرحلة التحرر من كل ما هو فرنسي.  بالإضافة إلى هذا الأمر قامت الجمعية التي تأسست سنة 1931م بتنظيم حصص للغة العربية في مدارسها وكتاتيبها وإرسال بعثات طلابية إلى مختلف الأقطار العربية.  لقد تبنّت هذه الجمعية شعاراً يجمع بين الوطنية والعروبة والإسلام وهو: “الجزائر وطننا والعربية لغتنا والإسلام ديننا”.

ويقول رئيس ومؤسس جمعية العلماء الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهو من العرب الأمازيغ، في أشهر بيتٍ يرمز لعروبة الجزائر:

شعب الجزائر مسلم***وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله***أو قال مات فقد كذب

أو رام إدماجاً له****رام المحال من الطلب

لم يكن الشعر الجزائري فاقداً للذاكرة الوطنية، بل استحضرَ شعراء الفترة التحررية في الجزائر أمجاد وبطولات العرب عبر التاريخ محذّرين فرنسا من القوة التي يستمدّها الجزائريون من عمقهم التاريخي. فيقول أبو القاسم فخار:

نبئ فرنسا أن جدي طارق

وابن الوليد وعقبة وزناتي

وبني زيان مع الهلال الجري

وبني مزيغ بشامخ الهضبات

إن العروبة يا فرنسا، أمة

منحوتة من شعلة وقناة

ويقول محمد العيد آل الخليفة في سنة 1936 أبياتاً في نفس الاتجاه، معبراً عن ذلك على أسبقية العرب في إشعاع الحضارة قبل اليونانيين والرومانيين.  ثم يتساءل عن إمكانية استعادة ماضي العرب المفقود:

إنّ للعرب في الحضارة قدما****قدما للورى عليها استنادُ

كم دعوا للحجاز من قبل روما***وأثينا، من حكمة، وأفادوا

أيها المشرقون في ظلم التا***ريخ هل عصركم علينا يعادُ

كلما شدتم على الأرض من مج***د قديم أضاعه الأحفادُ

اتخذت اللغة العربية كموضوع مكاناً مركزياً في القصيدة الوطنية الجزائرية خصوصاً عندما قامت السلطات الفرنسية بمنع تعليم اللغة العربية، الأمر الذي جعل النخبة المثقفة تبادر إلى إنشاء منتدياتٍ لنشر الثقافة واللغة العربية كنادي الترقي الذي انطلقت منه فكرة تأسيس جمعية العلماء.  وتُوّجَت هذه المجهودات فيما بعد بتـأسيس أول معهد للتعليم الثانوي بعد الحرب العالمية الثانية الذي سُمّيَ بمعهد عبد الحميد بن باديس.

ويدعو في هذا الصدد الشاعر محمد بالعيد الشباب الجزائري إلى دراسة القرآن وتعلّم اللغة العربية لأنهما أساس التراث العربي- الإسلامي:

أنتم خلائفنا على ميراثنا***وتراثنا العربي والإسلامي

فتدارسوا القرآن فهو هدى لكم***وشفاء أنفسكم من الأسقام

وتعلّموا فصحى اللغات فإنها***عُلْوية الأسرار والأنغام.

ويقول الشاعر مفدي زكريا، الذي اعتبر معركة التعريب بعد الاستقلال معركة حياة أو موت،

 إنّ الشعب الذي لا يتحصّن بلغته هو شعب ذليل:

ذلّ شعبٌ لم يتخذ لغة الأج***داد حصنا ورام عنها انفصالا

وعقوق البنين أعظم خطب***يرهق الشعب ذلة ونكالا.

بالإضافة إلى اللغة العربية والذاكرة التاريخية، تطرّق شعراء الجزائر لقضية الوحدة العربية بحكم انتمائهم إلى الأمة العربية أولاً، ومقاومتهم لنَفَس الاستعمار الخارجي ثانياً.  وقال صالح خرفي في هذا الموضوع:

جيشنا جيشكم فما طار صوتٌ عربيٌ إلا وطرْنا خفافا

جرحنا مثخن ولكن سيغدو في سبيل الإخاء جرحا معافى

لن نطيق السلام يوما وشبر عربي نراه يشكو اعتسافا.

أما بلقاسم خمار فيطالب باستمرار الكفاح حتى تحقيق الوحدة القومية العربية فيقول:

لا بشر لي، زحفاً مواكبنا، وصمتاً يا ضجيج

حتى يوحّدنا الكفاح من المحيط إلى الخليج

وهناك يهتز النشيد ويملأ الأفق الأريج

ورحّب الشاعر صالح خباشة في قصيدة عنوانها “هلّا تضمّك وحدة كبرى” بخبر إعلان قيام الوحدة بين مصر وسورية سنة 1958م قائلاً:

كثرت دويلاتٌ لنا فكأنها الأوراق

يخلطها العدو ويلعب

هلّا تضمّك وحدة كبرى تصون

ذمارنا؟ فإلى متى نتعشب

قسّم الغزاة بلادنا لقماً فساغت

لو صمدنا وحدةً لم يقربوا

أما الحدود فزوّروها بيننا

كالشوك يدمي خطونا ويعذب

وفي المقابل كان صدى الثورة الجزائرية يتردد في الشعر العربي مجسّداً التضامن القومي مع القضية الوطنية الجزائرية. ولقد أصدر المفكّر الجزائري د.عثمان السعدي ثلاثة مجلدات تحت عنوان “الثورة الجزائرية في الشعر العربي” حيث تضم 469 قصيدة أنشدها 181 شاعراً وشاعرة من ثلاثة دول عربية مركزية هي سورية والعراق والسودان.  وتعبّر هذه القصائد عن أحداث الثورة الجزائرية، ومنها ننتقي ما قاله الشاعر العراقي عن استشهاد العقيد عميروش:

مات وفي عينيه لهيب المعركة

مات والجزائر سماء لم تزل محلوكة

في مقتليه يسكب الحريق

يحلم بالجبل.

أما الشاعر السوري سليمان العيسى ينشد قصيدة في الشهيد يوسف زيغود فيقول:

الفارس العربي

عرفته أرض المجد حدادا

في ركن حانوت

يحيا على الخشنين من ثوب ومن قوت

وسرى نداء الثأر رعادا

وفي السودان، يصف الشاعر السوداني الكبير الهادي آدم المجاهدة جميلة بوحريد فيما يلي:

وهكذا تمضين يا جميلة

لعالم الضياء في إغفاءة طويلة

لو لم تكوني حرة نبيلة

لما نمتك أرضنا الرملية القفار

لما أطلّ الفجر في بلادنا

وانبثقت أشعة النهار

فيما يخص المغرب، فلقد سجل شعراء هذا القُطر موقفاً بارزاً في كتابة الأشعار والقصائد للثورة الجزائرية.  فكل شاعر في المغرب كتَبَ عن ثورة الجزائر قصيدة أو أكثر وكانت القضية الجزائرية في طليعة الموضوعات القومية التي تناولها الشعر في المغرب منذ احتلال الجزائر في القرن التاسع عشر، وهذا الأمر يُعتبر امتداداً طبيعياً للتداخل النضالي والتاريخي والقومي- الجغرافي بين القُطرين.

يقول الشاعر المغربي الكبير أحمد المجاطي في قصيدته ” أغنية الصباح” عن الثورة الجزائرية الآتي:

حرروا المغرب يا أبطال وامضوا للجزائر

أرضنا هذي التي عاثت بها شهوة غادر

دينها، تاريخها أودت بها صفقة تاجر

نحن لا نهدأ حتى نبصر القطر المجاور

لفظ الذل وولى يملأ الكون مفاخر

يا ظلام القبر لن تغمر ساحا

بعيوني رغم أشباحك أبصرت الصبحا

يبسط اليوم من السعد على الدنيا جناحا

تثبت العينة من الأبيات المذكورة أعلاه بأنّ جذور عروبة الجزائر ضاربة في أعماق التاريخ، إنها الحقيقة المادية الموضوعية التي جعلت هذا البلد يتمترس وراءها أمام محاولة إبادة ثقافية استمرت لمدة 132 سنة. إنّ الثورة الجزائرية جمعت بين الحسام واليراع، أي بين المقاومة المسلحة من جهة والنهوض بالثقافة القومية من جهة أخرى، ولذلك يُلاحَظ ترابط شبه خطي بين مجريات أحداث الثورة والإنتاج الأدبي.  ويُلاحظ من الأبيات والقصائد – كما أشرنا أعلاه- بأنّ الأدب الجزائري شمل في مرحلة التحرر أهمّ جوانب الانتماء العربي، حيث عالَجَ مركزية اللغة العربية والديانة الإسلامية، كما تطرّق لقضية الوحدة العربية والذاكرة القومية.  فالأدب الوطني في تلك المرحلة هو مرآة ومرجعية هوياتية قد تساعد الجيل الجزائري الحالي والقادم على التمسك بمكتسبات الثورة والاستقلال.

المصادر:

– د. نور سلمان، الأدب الجزائري في رحاب الرفض والتحرير، دار العلم للملايين،1981، بيروت-لبنان.

– مجموعة من الباحثين، اللغة العربية والوعي القومي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1984، بيروت-لبنان.

– مجموعة من الباحثين، دور الأدب في الوعي القومي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1980، بيروت-لبنان

– د.نازلي أحمد، التعريب والقومية العربية في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986، بيروت-لبنان

– منير البصكري، أبعاد وتجليات الثورة الجزائرية في شعر المغربي الحديث، جامعة القاضي عياض-أسفي-المغرب.

– د.عثمان السعدي، الثورة الجزائرية في الشعر العربي، وزارة الثقافة الجزائرية، 2014-الجزائر العاصمة-الجزائر.

فدريكو غارسيا لوركا، شاعراً ثورياً انتمى للعرب

معاوية موسى

كُثرٌ هم الذين تناولوا الشاعر الإسباني لوركا في كتاباتهم، سواء الذين كتبوا عن تجربته الشعرية أو المسرحية أو الفنية، أو أولئك الذين اعتبروه رمزا ثورياً وإنسانياً مخلصاً، إذ أصبح ملهماً لكثير من شعراء وأدباء العالم، خاصة شعراء تلك الأمم التي رزحت تحت نير الاستعمار، كون لوركا لعب دوراً أساسياً في مواجهة حكم الفاشست، فانخرط في صفوف الثورة مبكراً، عبر انحيازه للطبقات الشعبية ضد حكم الجنرال فرانكو إبان الحرب الأهلية الاسبانية.  ولعل الطريقة التي لاقى فيها حتفه، كانت مؤثرة إلى حد بعيد في وجدان كل من عرف لوركا الشاعر والثوري المبادر، والفنان المتميز، الذي عبّر عن دور المثقف العضوي، المثقف الذي لم يستطع أن يجد نفسه إلا في طريق الشعب، دون تردد، وبعيداً عن الذوبان في الذات وفردية المثقف وعنجهيته.

وإذا كانت سنة ولادة لوركا معروفة، فإن اللحظة التي غادر فيها هذه الحياة ستظل سؤالاً وإدانة في آنٍ واحد، لأنّ القتلة لم يكتفوا بقتله فقط، بل أخفوا جثمانه أيضاً، لأنهم بمقدار ما كانوا يخافونه حياً، كانوا يخافونه ميتاً، وهكذا لم يتركوا له أي أثر، وكأنه كان يتوقع مثل هذه النهاية، فقد قال قبل ذلك بسنوات:

عرفت أني قتيل

 فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس

فتحوا البراميل والخزائن

سرقوا ثلاثة هياكل عظمية

 لينتزعوا أسنانها الذهبية

ولم يعثروا علي

 ألم يعثروا علي؟

 نعم لم يعثروا علي

إن الروح المبدعة لا تتجلى إن لم تتوقع الموت، وهذا جزء أساسي وأصيل في الثقافة العربية، فالتضحية والفداء والاستعداد للاستشهاد والموت هي خصوصية الأمة العربية قبل غيرها من الأمم، ومن هنا اكتسب لوركا هذه الثقافة الأصيلة، وهذا ليس استنتاجاً غريباً أو مقاربة تحتمل الخطأ، بقدر ما هي واقعاً وحقيقة، ارتبطت بنتاج وموروث شعري وثقافة عكستها أشعار غارسيا لوركا، وتحدثت عنها قصائده وأعماله المسرحية المتنوعة.

غارسيا لوركا تغنّى بالحضارة العربية الإسلامية، وافتخر كثيراً بالأندلس وفي أنه أندلسي، فقد صرح وبلا مواربة في أحد حواراته حين سأله الرسّام باغاريا: “أتعتقد يا فدريكو أنها لحظةٌ سعيدة تلك التي سلّم فيها الملوك العرب مفاتيح غرناطة إلى المنتصرين؟ فردّ عليه لوركا: غزو غرناطة العربية على يد الكاثوليك الإسبان، في العام 1492 لحظة شؤم، بالرغم من أنهم يقولون عكس ذلك في المدارس، لقد فقدنا حضارة جديرة بالإعجاب، شعراً وعلم فلك وعمارة وكياسة لا مثيل لها في العالم، لنسلّمها إلى مواطنين بؤساء جبناء وضيّقي أفق، يمثلون أسوأ بورجوازية في إسبانيا”. انظر: (لوركا الشاعر القتيل، خلدون جاموس).

والمتتبع لأعمال الشاعر لوركا يجد أنه كان يؤمن بالعرب، بل إنه أقرب إلى أن يكون عربياً من أن يكون أندلسياً، فنرى باستمرار بأشعاره المفردات العربية الكثيرة، لتكون قاموساً خاصاً به مثل القصر، ياسمين، زيتون، طلح، ليمون، خرشوف، عنبر… كذلك عناوين بعض قصائده: ديوان، قصيدة غزل …إلخ.

تشير مصادر كثيرة ومتعددة على الشبكة العنكبوتية أنّ لوركا ينحدر من أسرة عربية موريسكية بقيت في الأندلس بعد سقوط غرناطة عام ١٤٩٣م، ومن الطبيعي أن تأخذ بما يُدعى بالتقية وتمارس إسلامها سراً قبل أن تضطر لاعتناق المسيحية.  نعم، انظر إلى شكله، تجد أمامك ملامح شرقية عربية بامتياز.

لوركا لم يكن إسبانياً كأي إسباني آخر أبيض، كان من “الإسبان الحمر” إن جاز التعبير، هو عربي مسلم من قرية زراعية قرب غرناطة تبعد عنها عشرة كيلو مترات واسمها بالإسبانية محرّف من اسمها العربي “بحر البقر”، انظر بعد ذلك إلى شعره، أو في شعره. ليس شعره شعراً اسبانياً كباقي الشعر الذي نظَمه زملاؤه الشعراء الإسبان في الثلث الأول من القرن العشرين.  هو شعر مختلف لأن مصادره مصادر شعبية غرناطية، ومصادر شعرية عربية في الوقت نفسه.  (المصدر: سليمان العيسى، حول عروبة الشاعر فدريكو غارسيا لوركا)

لا تتضح عروبة لوركا وشعره تمام الوضوح إلا إذا قرأ المرء شعره وقارنه بشعر زملائه الشعراء الإسبان المعاصرين.  عندها يتأكد أن لوركا شاعر عربي مستتر في ثوب أجنبي، في لغة أجنبية، أي في الإسبانية التي يقول أهلها أنفسهم إن ربع كلماتها، على الأقل، من أصول عربية، وسنسوق بعض الأمثلة على شعرية لوركا المتمثلة في العديد من الأشعار العربية، انظر على سبيل المثال لا الحصر إلى قول أبي تمام وهو شاعر عربي من العصر العباسي، يقول أبو تمام:

لا أَنْتِ أَنْتِ

وَلا الدِّيارُ دِيارُ

 وماذا يقول لوركا:

والآن، لا أنا أنا

 ولا البيت بيتي

هل هو مجرد تخاطر فكري أم اقتباس أدبي فحسب، أعتقد أنها الروح العربية الساكنة والمتأصلة في نفس الشاعر، والافتتان الذي أبداه شاعر غرناطة فدريكو غارسيا لوركا تجاه المكون الشرقي العربي للهوية الثقافية الإسبانية.  انظر أيضاً إلى عبد الرحيم محمود الناهض بسلاحه في وجه العصابات الصهيونية، وأحد أهم شعراء البطانة الحامية لروح الثورة، والذي أسس مبدأً مفاده أن على الدم أن يواجه السيف، وحمل روحه على راحته، واستعدّ للموت في سبيل الوطن والقضية، كلوركا الذي تنبأ هو الآخر بذات الموقف والمصير، كما أوردنا سابقاً.  حظيت شخصية وأعمال فدريكو غارسيا لوركا بكمٍ هائل ونوعيٍ من الدراسات والمقالات، ولا زالت تتمتع بهذه المكانة فهو من أساطين الإبداع ومسار بحث الأكاديميين والثوار على حد سواء، لكن ما نودّ التنبيه إليه هنا، وفي هذه المقالة تحديداً، هو قضية انتماء شاعر أجنبي إلى العرب، والتي تبدأ من العنوان نفسه: “فدريكو غارسيا لوركا، شاعراً ثورياً انتمى للعرب”.

أهمية الحوار في العمل المسرحي

طالب جميل

يعتبر المسرح أحد أهم وأقدم وأعرق أنواع الفنون، ويحتل مكانةً متميزة لدى مختلف الشعوب كونه يعكس مدى الرقي والوعي الاجتماعي والإنساني والحضاري، لأن له دائماً الفضل في تثقيف وتنوير الشعوب وتنمية ذائقتها الجمالية نظراً للرسالة العظيمة التي يحملها بين ثناياه والمضامين الجمالية التي يحتويها.

والمسرحية فن مثل باقي الفنون الأدبية الأخرى كالقصة والرواية والشعر، لكن لا يمكن اعتبارها فناً أدبياً خالصاً كونها تتركب من الفن الأدبي والأداء التمثيلي والإخراج المسرحي لتخرج على شكل عرض متكامل يعرض على خشبة المسرح معززاً بكافة اللوازم والتقنيات السمعية والبصرية التي تؤدي إلى خروج العرض بصورة مكتملة وممتعة أمام الجمهور.

إن أهم العوامل والمرتكزات التي تقوم عليها المسرحية هو الحوار، فالمسرحية سواء كانت شعرية أم نثرية، وعلى شكل مأساة (تراجيديا) أو ملهاة (كوميديا) أو مغناة (أوبرا)، لا يمكن لها أن تقدَم بدون أداة التخاطب الرئيسية وهي الحوار، فالتأليف المسرحي عموماً يعتمد اعتماداً كلياً على الحوار والذي من خلاله يتم لمّ شمل جميع عناصر المسرحية.

إن الحوار المسرحي هو أحد أهم خصائص فن المسرحية، وهو العمود الفقري لأي عمل مسرحي، فالمسرحية تحتوي بالعادة على أحداث وشخصيات، ولا يمكن قصّ تلك الأحداث والتعريف بالشخصيات وطبائعها والعلاقات التي تربطها ببعضها البعض إلا من خلال الحوار، فالحوار هو وسيلة الخطاب في المسرحية وصِلة التواصل بين الشخصيات وبين الممثلين على المسرح وجمهور المتلقين، لأن موضوع المسرحية وصراعها وشخصياتها لا يمكن التعبير عنه إلا من خلال الحوار.

يقسّم الحوار المسرحي إلى حوار خارجي وحوار داخلي (المونولوج)، أما الحوار الخارجي فيكون على لسان شخصيات المسرحية، وأما الداخلي فيأخذ ثلاثة أنماط رئيسية:-

  • الحوار الأحادي أو المناجاة: وهو الذي تلقيه شخصية واحدة على خشبة المسرح لكشف دواخل الشخصية، أي أن الشخصية تفكر بصوت مسموع.
  • الحوار الجانبي: وهو الحوار الذي تخاطب من خلاله الشخصية شخصية ثانية أو توجه الخطاب إلى الجمهور بشكل مباشر.
  • الحوار الموجه للجمهور: وهو الذي توجهه الشخصية للجمهور وتنتظر من الجمهور الإجابة.

إن وجود الحوار في العمل المسرحي ضروري وهام، فالحوار هو الوسيلة التي بواسطتها يتم تطوير العمل المسرحي من خلال العقدة وبيان طريقة الارتباط بين الأحداث والكشف عن أبعاد الشخصيات النفسية والاجتماعية ومراحل تطورها، وهي الطريقة الوحيدة التي يعبّر فيها كاتب العمل المسرحي عن أفكاره، عدا عن أهمية الحوار في خلق مناخ خاص للمسرحية، والحوار يحمل عبء الصراع الصاعد حتى نهاية المسرحية فهو وسيلة التخاطب والتفاهم بين الممثلين على خشبة المسرح.

ولأنّ الحوار المسرحي عنصر أساسي من عناصر المسرحية فيجب أن يكون مركّزاً، وله غاية محددة، ومبنياً بشكل درامي مدروس، وأن يجري على نسق منظّم ومتواتر، وبعيد عن الثرثرة، ويجب أن يكون خالياً من الغموض وبعيداً عن الاستطراد، وأن يلائم الشخصية الناطقة بها من حيث طبيعتها وثقافتها، وأن يكون مطابقاً للواقع ومستوى الشخصية.

ولكي يحقق الحوار غايته لا بد وأن تناسب اللغة موضوع المسرحية، فالمسرحية التاريخية يختلف أسلوب لغتها عن أسلوب المسرحية الواقعية، ولغة المسرحية التراجيدية تختلف عن لغة المسرحية الكوميدية، وأسلوب المسرحية التاريخية التي تدور أحداثها في العصر الجاهلي تختلف عن مسرحية من العصر الحديث، مع ضرورة ملائمة الحوار مع الشخصية، فلغة الفلاح غير لغة ابن المدينة، ولغة المثقف تختلف عن لغة الجاهل.

لقد أصبح الحوار المسرحي رافعة ترتقي بالعمل المسرحي وتزيده جمالية، ويقوم الجمهور بالحكم على مدى جمالية المسرحية من خلال استمتاعهم بالحوار لأنه أوضح جزء في العمل المسرحي وأقرب إلى أفئدة وقلوب الجماهير وأسماعهم، ويُعبر به الكاتب عن الأحداث المقبلة والجارية في المسرحية وعن الشخصيات ومراحل تطورها وتطور انسجامها مع الأحداث، فالحوار أداة التخاطب والسمة التي تشيع الحياة والجاذبية في المسرحية، وهى خاصية تميز المسرحية عن سائر الفنون الأدبية.

قصيدة العدد: بيان القيامة العربية/ الشاعر يوسف الخطيب

بيان القيامة العربية

باسمِ الذي بدعَ الإنساَنَ من ألقِ

ربِّ الرؤى مستجنِّ الحلمِ في الأرقِ

….

قمِ اهدمِ العرشَ، واخلعْ ربَّكَ الصنما

أو احترقْ تحرقِ الليلَ الذي جثما

أكلَّما وثنٌ بالشرقِ هزَّ عصا الطغيانِ، أو

نبحَتْ كلابُه معشراً سيقوا لهمْ غنمَا؟!

إنَّا نسوقُ لكَ الأمثالَ عاريةً، عريَ الفضيحةِ،

لا ينجيكَ من خجلٍ أنْ قدْ تدرَّأْتَ زَيْغَ

الطَّرفِ محتشِما

ما بينَ مدَّبِرً بعْلاً، فمعتمِرٍ نعْلاً، على بُرُدِ

النُّعمى قلنسوَةً…وبينَ مُئتَزِرٍ وشْيَ النجومِ على

أسمالِهِ..فتُراكَ الآنَ أيُّهما؟

هيهاتَ، لن تُسمِعَ الموتى النداءَ ولا الصُّمَّ

الدعاءَ، ومن قد عاشَ ماتَ، ومن قد ماتَ

فاتَ، وآتٍ وحده الآتِ، ما من ذاهبٍ آبَ،

حتى يحفزَ الهمما

قُلْ لن تقومَ لكم في الدَّهرِ قائمةٌ، ما ظلَّ

سعيكمو شتَّى، ولن تصلوا يوماً

“عموريةً”، إنْ كلُّ معتصِمٍ في

قصرِه اعتَصَما

غفرانَك اللَّهمَّ، قد أخرجتَ أمتنا للناس، خيرَ

بني الإنسانِ دربَ هدىً، فلِمَ رسَمْتَ على أقدارِنا

زمراً من شرِّ خلقِكَ، لا إلَّا رَعَوا بيننا،

يوماً ولا ذِمما

العاهلُ المكتسي عرياً يتيهُ بهِ

على الجماهير..يُبكيها ويُضحكها!!

كما تلَمَّظَ قردٌ حصرماً، فترى

إذَّاكَ كيف يلوحُ القردُ مبتسِما؟!

قلْ للمذيعِ كفى هذْراً، فلا صحفٌ

سوَّتْ فسيخاً شراباً من تملّقِها، ولا

الإذاعةُ يوماً عملَقَتْ قزما

رحماكِ يا أمةً من فرطِ ما عقمَتْ

قد أزمنَتْ تتشهَّى عقمَها، وحما!!

..

قدْ عزَّ من قائلٍ من رجعِ قالَتِه: إنَّ

الملوكَ إذا ما قريةً دخلُوا، أحشاءَها

انتفلوا، وكلَّ جلدةِ رأسِ حرَّةٍ معسوا،

في الطِّينِ وانتعلُوا، وسمسروا للغزاةِ

الحِلَّ، والحَرَما…

ولا تغرَّنَّكَ _من دونِ الملوكِ_ فخاماتٌ

مُدَسْتَرةٌ حتى الجحيمِ، وأعيانٌ ولا عينَ

تستهدي، وأطقمُ نوّابٍ منابَ دمى!!!

قمِ اهدمِ العرشَ واخلعْ ربَّكَ الصَّنما

أو احترقْ تحرقِ الليلَ الذي جثما!!!

“مرسَلاً على دائرةِ (الطويل)، بمفتاح (البسيطِ)، وبلغةٍ مأهولةٍ، ومزدحمة إلى حدِّها الأقصى، بحضورِ الإنسان…

بأحفل ما في مكنوزه الحضاريِّ من استذكاراتٍ وإيحاءاتٍ، ماضياً وحاضراً، وحتى أقاصي الزمان…

يطلق –كما يقول- الشاعر العربي الفلسطيني، يوسف الخطيب، هذا القصيد، استذكاراً، واستنكاراً لمهزلة السلطان العربي على هيئة “النعمان”!!

(بيان القيامة العربية)، لتحققَ الأمةُ بنفسها، صوابيةَ “رأسِها القيادي”، قبل فوات الأوان…”

*القصيدة التي كتبت في دمشق، خلال عقد التسعينيات، بمقدار ما كانت نعياً لمؤسسة السلطان العربي الرسمية، من حكام وملوك وأمراء، وجامعة دول “عربية”، احتكم أغلبها لشرعة “القانون الدولي، والأمم المتحدة” فما كان لها إلا الذل، والهوان، بمقدار ما كانت، وما زالت، صرخة من أعماق الضمير العربي، الشعبي، أن انتفضوا..ولتذهب قرارات الاستسلام، المسماة (سلاماً)، و عرابوها إلى الجحيم..

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *