Qawmi

Just another WordPress site

15292734_1458420867521449_578267390_o

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 كانون أول 2016

– كلمة العدد: التكفير كأداة سياسية/ بشار شخاترة

– مؤتمر غروزني/ علي بابل

– السلفية الوهابية التقليدية: قراءة في الشكل والمضمون/ معاوية موسى

– عقلنة التراث الإسلامي والتأسيس للمرحلة ما بعد المذهبية/ إبراهيم حرشاوي

– التكفير: سلاح الإرهاب الإمبريالي المزدوج/ صالح بدروشي

– حركات الإسلام السياسي كمنتج للحداثة الغربية/ إبراهيم علوش

-الصفحة الثقافية: ضحايا التكفير من المبدعين العرب/ طالب جميل

– شخصية العدد: محمد البوطي.. شهيد الدين والإخلاص للوطن/ نسرين الصغير

– ما جرى مجرى التكفير/ نور شبيطة

– بين الإرهاب والإسلام/ عبد الناصر بدروشي

– قصيدة العدد: رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي/ حافظ إبراهيم

– كاريكاتور العدد

 

العدد 30 – 1 كانون الأول 2016

لقراءة العدد عن طريق فايل الـ PDF  

tt31

للمشاركة على الفيسبوك

https://web.facebook.com/Qawmi

tt31-2-page-001 tt31-2-page-002 tt31-2-page-003 tt31-2-page-004 tt31-2-page-005 tt31-2-page-006 tt31-2-page-007 tt31-2-page-008 tt31-2-page-009 tt31-2-page-010 tt31-2-page-011 tt31-2-page-012 tt31-2-page-013 tt31-2-page-014 tt31-2-page-015 tt31-2-page-016 tt31-2-page-017 tt31-2-page-018 tt31-2-page-019 tt31-2-page-020 tt31-2-page-021 tt31-2-page-022 tt31-2-page-023 tt31-2-page-024 tt31-2-page-025 tt31-2-page-026 tt31-2-page-027 tt31-2-page-028 tt31-2-page-029 tt31-2-page-030 tt31-2-page-031 tt31-2-page-032 tt31-2-page-033 tt31-2-page-034 tt31-2-page-035 tt31-2-page-036

كلمة العدد:

التكفير كأداة سياسية

بشار شخاترة

لا تبدو الحالة الهستيرية والجنونية المتوّحشة التي تتجلى في النموذج الداعشي غريبةًأو مثيرةً للاستهجان لدى تبحّر القارئ في زحمة النصوص والمؤلفات الفقهية التي تضع قواعدَ صارمة إزاء تصنيف الناس وإضفاء صفات الكفر والإيمان عليهم، الكفر والإيمان إذا كان الشخص مسلماً وحتى الكفر على درجات، ليجدَ الفقهاء مخرجاً للحكّام الذين يأتمرون بأمرهم، وإذا كان الشخص غيرمسلمٍ فله تصنيفٌ خاصٌ مثل مستأمن أو معاهد أو ذمّي.

هذا النهج في تصنيف الناس يلغي سلفاً مبدأ المواطنة والانتماء القومي، وهو ما يفسّر جانباً من مناصَبة الجماعات الدينية لفكرة المواطنة والانتماء لأمة ووطن، فاعتبروها وثناً يُعبَد من دون الله، توجِب الكفر الذي لا بد من التطهّر منه.

ابتدأت القصة معسقيفة بني ساعدة، وقد حُسِمَ الخلاف فيها لصالح شرعية مزدوجة؛ أوّلها دينية، فالخليفةيجب أن يكون مسلماً، وثانيها قبلية، فالخليفة من قريش قبيلة النبيّ. سارت الأمور على ما يراممع وجود من يرى أنّأحقيّة الخلافة لآل البيت ممثلاً بعلي بن أبي طالب، لكنها لم تكن عائقاً، ولا يمكن القول أنّ هناك صراعاً قد نشأ في العهد الأول، عهد الخلفاء الراشدين، ليكتملَ عقد تلك الفترة بتولّي الإمام علي بن أبيطالب الخلافة، ومع ما شابَها من صراع سياسي إلّا أنّها بقيت في إطار الصراع المنطقي، لأنما من خليفة من الخلفاء الأربعة إلا وكانيمتلك الشرعية التي أقرّتها السقيفة.  ويمكن القول أنّ طبيعة الصراع السياسي الذي طَبَع تلك المرحلة كان أقرب إلى خلافٍ في الاجتهاد تحت سقْف الدولة وتحت راية الإسلام، مُضافاًإليها قرب العهد بالنبي (ص) وكانت لا تزال الحالة الدينية والنفسية أبعد عن الاختلاف وأقرب إلى الائتلاف وجمْع الكلمة.

تطوّرت الأحوال السياسية إلى صراع عسكري في خلافة علي بن أبي طالب، وشهدت الأمة نوعاً جديداً من الاختلاف على يد ما سيُعرف فيما بعد بالخوارج، وهذا النوع من الخلاف يختلف تماماً عن ذلك الذي شبّ بين علي ومعاوية، فكِلا الرجلين قرشي وتحت سقف الإسلام، أمّا العنصر الجديد الذي دخل على الخلاف وهم الخوارج، فقد أصبح لديهمأيديولوجيا يؤسسون عليها خروجهم على علي، وهو يعكس شيئاً من صراع قبلي ضارب في عمق الحروب القبلية العربية قبل الإسلام  بين ربيعة التي ينتمي إليها أغلبية الخوارج، ومُضَر التي تنتمي لها قريش، فالذين تبنّوا هذا النهج كانوا يستحضرون شيئاً من الحالة القبَلية السابقة والتي لم يغيّرها الإسلام.

لقد تبنّى الخوارج مفهوماً عقدياً يمكن معه القول أنّ مقولة التكفير بدأت، فمقولة “إن الحكم إلا لله” غدَت الذريعة التي اندرجَ تحتها صراع وثورات وتكفير وإخراج من الملة لأي مخالفٍ سياسي.   ولأول مرة يستخدَم التكفير في إطار الصراع السياسي لإعطاء مبرر لشنّ الحروب وتصفية الخصوم، ومصطلح الحاكمية سيشطر الأمة والدنيا إلى ديار إسلام وديار كفر، يتلوه مصطلح الهجرة إلى الله لإقامة دار الإسلام على خطى الدعوى الإسلامية الأولى، التي يقتفي التكفيريون اللاحقون خُطاها، ولا يغيب في هذا المقام ذكْر إمام التكفير في التاريخ الحديث وهو سيد قطب والذي نظّر لهذا المنهج في مؤلفه “معالم في الطريق”.

يلفت الانتباه أّنّ الصراع السياسي بين علي ومعاوية بقي في إطار السياسة، ولم يكفّر أي فريق الفريق الآخر، وحتى عندما استتبّ الأمر لمعاوية ولبني أمية لم تتبنَ هذه الدولة سلاح التكفير في مواجهة شيعة علي، وفي سبيل تثبيت الشرعية السياسية ابتدع فقهاء الدولة الأموية فكرة القدريّة ليسلّم الناس بقدرهم بقبول الخليفة القائم في السلطة، وأن الإنسان ليس مخيّراً. بغضّ النظر عن الدعاية الأموية ومدى قبولها ورجاحتها،إلا أنها بقيت بعيدة عن جنون الإلغاء التكفيري الذي يجتثّ الإنسان من جذوره ويفتح أبواب التأويل على مصاريعها، ولعلّ العباسيين شاركوا الأمويين في الابتعاد عن تكفير خصومهم مستندين إلى شرعية آل البيت وانتمائهم الهاشمي واستمرّ هذا لغاية العصرالعباسي الثاني، إلّا أن ملامح الابتعاد عن هذا الخط بدأت في العصر العباسي الثاني.

يصحّ القول أنّه حتى نهاية العصرالعباسيّ الثاني، ومن قبله العهد الأموي وعهد الراشدين، لم تتبنَ الدولة العربية الإسلامية عقيدة التكفير، ولم يكن للتكفير منظّرون وفقهاء يقسّمون الناس بين الإيمان والكفر، وهذا مردّه إلى أنّ العربعندما بنَوا الدولة الإسلامية استندوا إلى شرعية الدين والنّسب إلى النبي أمويين وعباسيين، ولم يكن ينازع العرب في صدارة قريش لأنهم بنو جلدة واحدة وانتماء واحد، لا يشعر فيه العرب وهم سواد الدولة وعصبيتها أنهم خارج معادلة الحكم أو خارج اهتمام الحكّام، وهذا لأنهم موجودون في الدولة التي تمثّلهم وتعبّر عن طموحاتهم، لذلك انحصر التكفير في الخوارج.

ومع تغلّب السلاجقة الأتراك على السلطة، وسيطرتهم على مركز الخلافة في بغداد دخل الفكر التكفيري عصره الذهبي، فالسلاجقة ليسوا عرباً وليسوا من قريش، وإنْ كانوا مسلمين فإنهم لا يملكون تغيير القواعد التي أُرسيَت عبر أربعة قرون خلَت، لذلك أبقَوا على الخليفة العباسي وحكموا الدولة باسمه من دون أن تكون له أية صلاحية.  ولم يكن هذا التدبير كافياً لصياغة معادلة جديدة في الحكم، فكان الحلّ بالتخلّص من الخصوم بتبنّيعقيدة محددة دون سواها، تقوم الدولة على رعايتها ونشرها عبر المدارس والمعاهد وتوظيف الفقهاء والعلماء لهذه الغاية، وفي سبيل تطويع جموع الناس ناصَبوا أعداء الخلافة العباسية التقليديين العداء من فاطميين وعلويين.

أسّس السلاجقة مفهوماً دينياً احتكارياً للإسلام، وبشكل متطرف، بحصر مفهوم السنّة بالمذهب الذي تبنّوه والقائم على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري “الأشاعرة”.  وهنا تمّت صياغة العقيدة بشكلٍ استحوذَ على الدين، وبطريقةٍ يتفرّد فيها هذا المذهب بالإسلام واحتكار تمثيله، فأصبح مفهوم السنة مفهوماً عقائدياً سياسياً، وعمل الوزير السلجوقي نظام الملك على توحيد هذه الرؤية التي تخدم العسكرية السلجوقية التي لم تحترف قبل الحكم سوى القتال، خصوصاً في أجواءٍ تصاعدت فيها الحروب الصليبية، فإذا أُضيفَإليها وجودخصوم للخلافة من فاطميين وعلويين وغيرهم، فإنه يبدو مفهوماًإطلاق العنان لعلماء كأبي حامد الغزالي في تكفير المخالِفين للمعتقد الذي تتبناه السلطة، فكان الغزالي لسان حال السلطة ممثلة بنظام الملك والمدارس النظامية التي أشرفَ عليها لتوحيد المعتقد في نطاق ما تراه السلطة، وبذات الوقت وَصَمَأتباع المذاهب المخالِفة بالكفر وديارهم ديار كفْر، وهنا يظهر التبنّي الواضح والعلني للدولة لمفهوم تكفير المخالِفين لها، ولأول مرة تتبنّى الدولة عملية التكفير في مواجهة الخصوم ويخرج الصراع السياسي من دائرة السياسة إلى دائرة الدين، ويذهب الغزالي، فقيه السلاجقة، بعيداً في فتواه عندما يقرر أنّ مخالفة أهل السنة والجماعة ضلال، ومن يكفّرهم فهو كافر، وهذه النقطة تحديداً يدخل في بابها المجال واسعاً في التأويل، والضلالة مرتبةٌ من مراتب التكفير للغزالي تسبق وصم الشخص بأنه كافر.

ويستكمل النهج الجديد خطّته بتغييب العقل والتركيز على مقولاتٍ ظاهرها حقٌ وباطنها لا يخلو من المكر، فتَعمَدُ المدارس التي تعلّم المذهب إلى تعليم الفقه والحديث، وحظْر تعليم العلوم العقلية، فالغزالي ينشر مؤلفه “تهافت الفلاسفة” في جوٍ من الحرب على العقل والمنهج العقلي ويكفرهم في مواضع ومسائل عديدة، فتثبيت النهج الذي يريد أن يلغيَالآخرين ويخرجهم من دائرة الدين، وهو النهج الذي يبحث عن موطئ قدمٍ لمن تسللوا إلى السلطة وتثبيت شرعيتهم، لا بد له من أن يلغيَ العقل ويوقف فكرة الاجتهاد والتفكير وتطوير العلوم عموماً، لأنها لا تشغله مطلقاً، فهو مشغولٌ بتصفية الخصوم السياسيين بذرائع دينية، فعلى سبيل المثالبعد أن يمهّد الغزالي الأرضية في التكفير؛ يقفز إلى الحكم، ويقرر أنّ المكفّر بحكم المرتد في دمه وماله وزواجه ولا ينطبق عليه حكم الكافر أصلاً الذي يعتبر حكمه أهون.  فالأخير يمكن إطلاقه أو فداؤه أو استرقاقه أو أن يدفع الجزية، في حين أنّ الحل مع المسلم الذي حكم بتكفيره هو “قتلهم وتطهير الأرض منهم، هذاحكمُ الذين يحكم بكفرهم من الباطنية”.(الغزالي – فضائح الباطنية).وينطبق الحكم ذاته على من لم يُحكم بكفره في وقت الحرب، على افتراض أنهم سيلتحقون بالمكفَرين.

تلاعصر السلاجقة بروز المماليكوانتهاء الخلافة العباسية على يد المغول، وفي هذا العصر ظهر ابن تيمية الذي أكمَلَ مهمّة الغزالي في التكفير، ولكنّه حنبلي المذهب ودولة المماليك أشعرية، مما أدخله في صراع ومواجهة معها أدّت إلى سجنه، فقد واجه ذات العقلية التي تبنّاها وهي إلغاءالعقل وتبنّي مفهوم النقل.  لم يكن المجتمع يقبل التحول إلى مذهبٍ غير الأشعري، مما أوقعه مع المماليك الذين تحالف معهم في البداية أبان مواجهتهم مع المغول، وقدم لهم فتواه في مواجهتهم مع المغول “المسلمين” أيضاً.

أوجَد ابن تيمية ثنائية جديدة وهي ثنائية رجل الدولة ورجل الملّة، وذلك عندما برز في ذروة الحرب مع المغول، وشعور المماليك بذلك وخوفاً من منافستهم على السلطة، فقدّم فتواه هذه التي سيتبنّاها بعد قرونٍ طويلة الوهابيون وآل سعود؛ الحكم في يد آل سعود، والسلطة الدينية في يد آل الشيخ “محمد بن عبدالوهاب”.

حدّد ابن تيمية خطاب التكفير في أنه يخضع وفقاً لما تحدده سياسة الدولة، فمن تحكم الدولة عليه بالكفر فهو كافر كونها تمثل أهل السنة والجماعة، وهنا يجري على نهج الغزالي بتطرّف أكثرعندما يوكل الأمر تماماً للسلطة السياسية في التكفير.

وضع ابن تيمية أرضية لتكفير الأشاعرة وهو مذهب الدولة السائد في عصره، ولكن بحذرٍ شديد، فهو حنبليُ المذهب ويرد الأصل إلى أن القاعدة تقوم على اتّباع نهج السلف واقتفاء أثرهم، ويضيف أن المرجع في تحديد هذا يعود إلى القرون الثلاثة الأولى من عمر الإسلام،لأنهم الأقرب إلى العهد النبوي واتصال أبناء تلك القرون المتواتر بالعهد النبوي يجعل منهم الأقرب إلى الفهم الصحيح للإسلام، وعليه فإنّ مذهب ابن حنبل هو الأقرب إلى العهد النبوي والأدق فهْماً للإسلام، والأشعري جاء في عصرٍ تلاتلك القرون ذات الأفضلية.

العنوان الذي تمسّك فيه ابن تيمية هو الاقتداء بالسلَف، وهذا ما سارت عليه الوهابية أيضاً، وفي تزاحم الفقهاء وآرائهم عبر العصور تغلّب النقل وفتاوى الفقهاء على أساس النص وهو من حيث المبتدأ القرآن الكريم، وتجاوزوا عن القاعدة القائلة بتغيّر الأحكام بتغيّر العصور والأماكن، ومثل هذه الحالة السلفيّة الجامدة أسّس لها ابن تيمية لكن لم تجد لها صدى في عصرها وفيما لحق من عصور إلّا بتبنّي آل سعود لها لتفتحَ الباب واسعاً على موجة من التكفير في العصر الحديث.

لقد أدّت فتاوى ابن تيمية إلى مجازر في أهالي كسروان في لبنان على يد المماليك الذين طلبوا منه الفتوى بكفرهم كونهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، فأمعنوا في القتل وسبي النساء والذراري وحرق وهدم البيوت والشجر، في مشهدٍ يشبه واقعنا الحاضر على يد “داعش” وأخواتها.

التكفير يشبه كرة الثلج المتدحرجة، فكلّما تلقّفها “فقيهٌ” زادت دائرة التكفيراتساعاً وازدادت تطرفاً، وفقهاء التكفير الأوائل وضعوا حجر الأساس ليصلَ التكفير في عصرنا إلى حالةٍ هستيرية تخرج أبناء المذهب الواحد من الملة ويحكم عليهم بالكفر، ناهيك عن أبناء المذاهب الأخرى أو غير المسلمين، ليصلَ الصراع أحياناً إلى ارتكاب مجازر مروعة بين أتباع الشيخ ألف والشيخ باء وهما ينتميان إلى ذات المذهب.

خطاب التكفير خطاب ينافي العقل أساساً، ولمواجهة هذا الخطاب لا بدّ من إعمال المنهج العقلي في التعليم والتفكير، وكسر صنم التكفير الذي أخرَجَ الإسلام عن معناه ومبتغاه إلى شيء لا يشبه الأصل النبوي الذي جاء بالرسالة، وحملها القرآن وحفظها في آياته.

مؤتمر غروزني

علي بابل

إنّ جمع شتات أمة أو جماعة ما لا يمر بربيع مزهر بتاتاً، بل إنالوحدة والسعي إلى جمع شتات هذه الجماعة أو تلك لا يكون إلا بدخول مركز العاصفة أو التناقض فيها، وهذا المركز في حالتنا هو “الطائفة السنية”.  إن الأغلبية من المسلمين تتبع هذا المذهب أو تدور في فلكه شئنا أم أبينا، والصراع الآن في الإسلام كأيديولوجيا فكرية تتغلغل في عقل كل مسلم، بغض النظر عن مذهبه أو المدرسة التي يتبعها، تحوّل من نزاع وجدال فكري قديم موجود منذ الفترة الراشدية إلى صراع دموي طاحن بين أفراد المذهب نفسه “السنة” من جهة والمذاهب الأخرى المنبثقة من رحمه من جهة أخرى. لذلك كان يجب منذ البداية أن يتم إيجاد حل ما أو حلول للمسألة الفكرية التي أصبح الجدال فيها عبرالرصاص والقنابل.  مثل هذا الحل كان صعباً لعدة أسباب منها الفراغ السياسي في العالم الإسلامي والوطن العربي من جهة، وتمركز المرجعية الطائفية “للسنة” في مملكة آل سعود التي تقوم أساساً ككيان سياسي على عدة ركائز، أهمها الركيزة الوهابية الرجعية والتي ترتكز بدورها على التكفير والتقوقع على نفسها كطائفة منزهة عن بقية الطوائف، وذلك لتكفيرها أغلب الجماعات الإسلامية بحسب شيخها محمد بن عبد الوهاب.

هنا جاء مؤتمر غروزني في شهر آب الفائت صيف هذا العام والذي جمع أغلب علماء أهل السنة من “المعتدلين”  من أزهريين وصوفيين….إلخ.  وقد تمّ وصف المؤتمر من قبل الوهابيين والجماعات السلفية بأنه مؤتمر سياسي الطابع بسبب انعقاده في غروزني عاصمة الشيشان وتحت رعاية الرئيس الشيشاني، أي أنه مؤتمر “روسي” كما وصفه البعض. إن الإخوان المسلمين والسلفيين، على تعدد مدارسهم واتجاهاتهم، هم من أدخلوا أنفسهم والإسلام من خلفهم ساحة المعارك السياسية عبر “الإسلام السياسي”، وبالتالي “لا يفل الحديد إلا الحديد”، وقد جاء المؤتمر كمحاولة لسحب “بساط أهل السنة” من تحت العباءة السعودية، وقد جاء الحضور المصري الكثيف رسالةً في وجه السعودية بأن الأزهر لن يبقى متقوقعاً على نفسه.  فمصر دولة إقليمية كبرى في المنطقة وفي القارتين الآسيوية لامتدادها العربي والتاريخي والإفريقية لموقعها الجغرافي. إنّ مخرجات مؤتمر غروزني بالتالي، والتي أخرجت التكفيريين وعلى رأسهم الوهابية من الطائفة “السنية”،  أو أهل السنة والجماعة، قد أحرجت آل سعود ووضعت النقاط على الحروف في واقع عربي وإسلامي يشتعل من جراء الفتن الطائفية التي يُعدّ المؤتمر خطوة أولى في “حلحلة” عقدها.

بالنظر إلى أن التكفير ظاهرة مرفوضة لكل صاحب عقل بغض النظر عن فكره وتوجهه، فإنّ المؤتمر لم يأتِ ليقسّم الأمة الإسلامية كما يدّعي علماء السلفية والمدارس التكفيرية، بل على العكس جاء ليفصل بين الحق والباطل، وكنت أتمنى لو كان هذا المؤتمر كما كان “مجمع نيقيا” الذي عقده الإمبراطور قسطنطين في العام 325 ميلادية للبتّ في الصراع الديني بين الطوائف المسيحية، أي بين ما سمي “الأريوسية” Arianism وبين المسيحية التقليدية، والذي بقيت مخرجاته هي المتبعة إلى الآن بين الطوائف المسيحية فكرياً أو عقائدياً، لكن الفرق هو عدم وجود مركز إسلامي قوي يستطيع لمّ شمل الطوائف الإسلامية على اختلافها رغم أن المسيحية لا تزال تعاني من الاختلافات، ولكن هذا أمر طبيعي أن يكون هناك اختلاف إلا أن حدة الاختلاف عند المسلمين قد أحرقت أرض الإسلام وأهله.

يجب التأصيل لهذا المؤتمر والسعي قدماً وتبنّي فصل التكفيريين عن جسد الأمة الإسلامية والعربية من خلال العمل بشكل عملي وتبنّي مخرجات مؤتمر غروزني عملياً، وإلا فإنّ المؤتمر سيكون حبراً على ورق. فلا حرج من القول بأن الأزهر الشريف، “وإن اختلفنا معه”، هو المخوّل والقادر على حمل العالم الإسلامي عقائدياً لموقعه في مصر ولتاريخه العريق إسلامياً وعربياً، لأن في نجاح الطائفة السنية في فصل وإخراج كل ما هو تكفيري من عباءتها ما يحرج أي جماعة أخرى تتبنى منهجاً تكفيرياً وإن لم تكن “سنية”، وهذا يؤسس لمستقبل معتدل بل ومتقدم أيضاَ، لأن حصر الإسلام بالوسطية والاعتدال في الأمور العقائدية والدينية البحتة يعني فتح الباب أمام الإسلام التنويري الذي سيحمل الوطن العربي والعالم الإسلامي إلى عصر العلم والتقدم.

ردود الفعل من قِبل الجماعات التكفيرية كانت بالمستوى السيىء كما هي العادة، فالهجوم على المؤتمر ومن حضره يبين لنا الخوف الذي استطاع القائمون على المؤتمر إيصاله لهؤلاء التكفيريين، فقد رأينا شاشات التكفير والإسلام السياسي تزدحم بشيوخ الفتنة للهجوم على المؤتمر وما نتج عنه من إخراج للوهابية وأخواتها من أهل السنة والجماعة. وها هو مؤتمر الكويت قبل عدة أيام انعقد للرد على مؤتمر غروزني من خلال تبنيه الوهابية وشيخها ابن تيمية!

إنّ تعميق الصراع بين الحق والباطل واجب على كل صاحب قضية عادلة، وما حصل من إخراج للوهابية من “الطائفة السنية” ما هو إلا فصل بين الحق والباطل وتنظيف للثوب الإسلامي من الدنس الوهابي الرجعي التكفيري. لا بد للمسلمين على اختلاف طوائفهم من الإجماع على أن التكفير ظاهرة دموية رجعية لا بد من التخلص منها إلى الأبد لأن الإقصاء الفكري سيتحول إلى عمليات قتل جماعية طائفية كما نرى في سورية الآن وكما حصل في العراق وغيره ولا يزال.

السلفية الوهابية التقليدية: قراءة في الشكل والمضمون

معاوية موسى

السلفية ليست أمراً محدثاً،من هنا يمكن أن نبدأالحديث عن تيار عريض في الوطن العربيّ له تراثه الفقهي والدعوي، ويعبّر اليوم عن حالة معاصرة لها حضورها القوي الملحوظ في كافة الأوساط وبمختلف مناحي الحياة العربية، وهو تيار فرض نفسه ووجوده شئنا أم أبينا، ليحتلّ مساحة كبيرة من التأثير، فأصبح لزاماًعلينا التوقف عند امتدادات هذه الحالة وتاريخها ومحاولة دراستها وقراءة خطابها، لاسيما الأزمة الراهنة التي نَمَت بها.

إنّ تناول الحالة السلفية بمختلف تلاوينها ومكوناتها وتفرعّاتها يعبّر عن زخمٍ نظريٍ قد يحتاج إلى كتابة العديد من الأوراق حولهانظراً للعديد من الظواهر التي عبّرت عنها الحالة، أو تلك التي تدور في فلكها، إذ تتوافر على كثير من المعضلات التي ما زالت تواجه الباحثين لا سيما أن الظاهرة فضفاضة جداً وتعبّر عن مساحة من الانشطار والتداخل تاريخياً وواقعياً.  لذلك سنحاول في هذه المادة أن نقدم إجابة على تساؤلات محددة، والتركيز على موضوعة السلفي الوهابي، ومن هو سلوكياً ومعرفياً، أي الاقتراب من المجتمع السلفي التقليدي، أو السلفية الوهابية كما تقدّم نفسها.

إنّ الرحلة السلفية قد تبدأ لدى البعض من غواية العلم الشرعي، والاجتهاد في تعلّم علوم الحديث والعقيدة وتعلّم النصوص الشرعية،والاهتمام بالجانب الطقوسي والتعبّدي،أي الحالة التي تعبّر عن الالتزام الديني الظاهري أو الشكلي،وصولاً لمرحلة النقاء الديني اللاملتبس بالاعتبارات السياسية والتنظيمية، وهذه حالة أساسية ضمن التيار السلفي، فالالتزام والتدين سبب من الأسباب الرئيسة التي جعلت الكثير من هؤلاء يجد نفسه في أحضان السلفية وقواعدها الأساسية.ويمتاز أفراد هذه التجربة أو الحالة بالبساطة والوضوح والضحالة والسطحية.  فنحن أمام هوية محسومة تلتزم بالطقوس والشعائر الدينية وتقديس النصّ والالتزام بظاهره، والتقليل من أهمية العقل والتأويل، بل يسخر هؤلاء من التفكير وأهميته في المعرفة العلمية الدينية، لينسحبَ الاهتمام بالمظهرعلى اللباس والهيئة كإطلاق اللحية وحفّ الشوارب ولبس الثوب القصير (الأفغاني)ومحاكاة التلاميذ للشيوخ في حركات الجسد وترديد العبارات والسلوكيات.

إنّالركيزةالأساسية والمطلقة التي ساهمت في جذب الأفراد للتيار السلفي هي أنه لا يصطدم بالدولة والسلطات،ولا تترتب عليه تبعات وملاحقات أمنية ولا يشعرأفرادهأنهم مهددون في لقمة عيشهم ووظائفهم، ففعاليته تنحصر في المشاركة السياسيةوالاجتماعيةغير المرتبطةبتقديم التضحيات سواء على المستوى الشخصي أم الجمعي، وهذا هو حال أغلب الحركات الإسلامية اليوملتقتصر على الجانب الدعوي والخيري ورحلات الحج والعمرة.  وهذا يقودنا بالضرورة إلى سؤال مهم ومفصليوهو سهولة توظيف هذه الحالة من قبل الأنظمة والحكومات نظراً لتدنّي سقفها، وسهولة اختراقها، ولاحقاً توظيفها واستقطابها وتوجيهها، خصوصاًأن هذا النوع من السلفية يحرّم ويجرّم العمل السياسي والتنظيمي والنقابي، والمشاركة في التظاهرات والاعتصامات والفعاليات، ويعتبر أي حالة معارضة هي خروج على ولي الأمر وطاعته.

لقد أسست السلفية التقليدية قاعدة مسلكية وحالة ثقافية ومنهجية للعديد من السلفيات، بالأخص للسلفية الوهابية التي هي أيضاًنضجت ضمنها السلفية الجهادية، فهي تُعتبر البيئة الحاضنة التي مهدت للخروج من السلفية الآمنة إلى مرحلة الوهابية السياسية، فدورة حياة السلفي تبدأ بالاهتمام الكبير بمفهوم الالتزام الديني، وإضفاء القدسية على النص، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، والتأثر بالتراث وعصر الصحابة، هذا في العموم، لكن سرعان ما تبدأ التحولات، لننتقل لدائرة الارتباك وتبدل المواقف وعدم الاتفاق بين السلفيين، والسبب في هذا حالة الارتباك الهوياتي في المجتمع السلفي، وتحولات الواقع، خاصة في الموقف من العمل السياسي والانخراط في العمل العام، وهنا نسوق مثال مشاركة حزب النور السلفي في الانتخابات التشريعية بعيد ثورة يناير في مصر، والتي تمثل حالة انقلاب مفاجئة في الموقف من الانتخابات والقضايا السياسية عموماً.

في الانتقال من السلفية التقليدية إلى الوهابية، نجد أن الأخيرة أكثر وضوحاً وتماسكاًمن الهوية السلفية العامة، فمن البساطة والحسم، إلى التدخل والمشاركة والمواجهة مع ما تعتبره انحرافات في المجتمع من جهة، ومع الأنظمة من جهة أخرى.

إنّ السلفية الوهابية لا تعترف اليوم بقيم الحداثة والتطور الإنساني، بل تعتبرها خطراً داهماً يهدد الهوية الإسلامية برمتها،وهي ترفض قراءة التحوّلات الاجتماعية والتغيرات الكبيرة، وتعدم عامل الزمن وما يرتبط به من تغيرات هائلة في مسار المجتمعات.فالفكر السلفي الوهابي هو فكر ماضوي، يعتبر الماضي جوهره الثابت، وعلاقة الحاضر به هي علاقة تابع، أيأننا في حاضرنا خاضعون لتلك العلاقة مع الماضي.

إنّ الهوية السلفية تلك، هوية منغلقة ومتعصبة، غير متسامحة ومتقوقعة، وتعبّر عن حالة من الجمود الفكري والعقائدي، وترفض الآخر رفضاً مطلقاً، ولا تنظر له من باب التنوّع بل من منظور الاختلاف،شخصية مشدودةإلى الماضي وإلى العصور الجميلة، تنظر إلى المستقبل بعيون الماضي، وليس المقصود هنا بحث السلفي عن جذور هويته طبعاً، ولكن سجنها في حدود الماضي وأوهامهوالانخراط في عبادة البدايات، كما يسميها داريوش شايغان في بحوثه الاجتماعية عن أوهام الهوية والتي تنظر لكل ما هو حديث ومعاصر بوصفة مؤامرة.  بالنتيجة نحن أمام شخصية هروبية مصابة بناستولوجيا مرعبة، وبحالة من الاستسلام لإغواء سحر العودة إلى ثقافة فولكلورية وإلى الرغبة في حياة هادئة بعيداً عن التغيرات التي تعصف بالعالم، شخصية خصوصيتها الوحيدة الخوف والقلق ليس لديها سوى العزلة، لا تثور أبداً،تتحاشى غالباًالمتاعب والسأموتعيش خارج التاريخ على وقع القوافي المسكر.

إنّ المذهب الوهابي يكفّر فرقالإسلام قاطبةً ويصنّفها في خانة الشرك والضلال،ويعتبر نفسه فقط الإسلام الصحيح القويم،وغير المسلمين أيضاًمن مسيحيين وصابئة وإيزديينوغيرهم، باعتبار مذهبه وحده الفرقة الناجية، بدون قرينة أو دلالة، أوأي سند أو نص ديني.  وهي تعتمد على فقه شيخٍ عاش قبل سبعة قرون، هو أحمد بن تيمية، الذي يُعتبر فكره اليوم منهلاً لكل ما تقوم به المنظمات الإرهابية كالقاعدة وداعش والنصرة وأخواتها.

بالإضافة إلى فتاوى العديد من “مشايخها” كمحمد بن عبد الوهاب وناصر الدين الألباني وأبو اسحق الحويني، وعبد العزيز بن باز ومحمد بن صالح العثيمين(صاحب فتوى تحريم إهداء الزهور للمريض، والفتوى الشهيرة له بعدم نصرة حزب الله لأنه من الشيعة)، وهناك مجموعة غريبة عجيبة من فتاوى التحريم التي أطلقها السلفيون الوهابيون، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • تحريم الصوفية وطرقها، القديمة منها والحديثة، والطعن فيها والافتراء عليها، وتكفير كبار رموزها من أمثال محي الدين بن عربي، وابن عطاء السكندري، وعبد القادر الجيلاني.
  • تكفير الشيعة وتحقيرهم بألقاب مختلفة كالروافض والمجوس وغيره.
  • تكفير المجتمع في صورته المدنية، وتحريم الاحتفال بالمواسم الدينية والأعياد الوطنية والقومية، والأعياد الاجتماعية والشخصية.
  • تحريم الغناء والموسيقى والرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي وكافة أنواع الفنون، وحظر اقتناء التماثيل والصور المرسومة أو الفوتوغرافية في المنازل والمكاتب، وبالتالي تحريم إقامة المعارض الفنية، وتحريم نصب التماثيل في الميادين وإنشاء المتاحف وزيارة الآثار.
  • تحريم الانتماء الوطني والقومي، فحب الوطن لديهم فكرة مستوردة من الغرب وتشبّه “بالنصارى”.
  • تحريم المنطق والفلسفة وعلم الكلام وقراءة وتعلم السير الشعبية.
  • فرض القيود على المرأة وتجريم عملها في عدة مواقع، وتحريم قيادتها للسيارة ودراسة العديد من التخصصات.

إنّ حالة التمدد والانتشار للفكر السلفي الوهابي، ما كانت لتكون لولا توفّر العامل السعودي والمال السعودي، إذ ساهمت السعودية منذ منتصف القرن الماضي في نشر الفكر السلفي الوهابي ومحاولة تعميمه، في مواجهة المدّ القومي واليساري آنذاك، وصرفت العربية السعودية أموالاً باهظة في سبيل ذلك عبر نشر الكتب والأدبيات السلفية الدينية، وإقامة المؤسسات والجمعيات الدعوية، وتأسيس القنوات والمحطات الفضائية كقناة الأثر ووصال والرحمة والناس والرسالة والمجد وغيرها من البرامج التي تبنّتها من أجل تثبيت الدعوة السلفية.

ما سبق هو مجرد ملاحظات تعبر عن شرط ضروري لفهم الحالة السلفية العامة والسلفية الوهابية، كمقدمة ضرورية للولوج للحالة السلفية والتأسيس لدراستها وتناولها.

المصادر والمراجع:

  • أوهام الهوية، داريوش شايغان-ترجمة محمد علي مقلد، دار الساقي- بيروت: لبنان، الطبعة العربية، الطبعة الأولى، 1993 م / الفصل الرابع ص 75+76+80
  • بحث في الهوية الواقعية والمتخيلة لدى السلفيين، محمد أبو رمان، الطبعة الأولى/ عمان 2014 م
  • نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد / بتصرف
  • الوهابية مذهب وسلطة، مقالة ليوسف تليجي – 1/3/ 2016
  • ما هي الوهابية (الوهابية-السلفية) مقالة لديانا أحمد/ 2008 بتصرف

عقلنة التراث الإسلامي والتأسيس للمرحلة ما بعد المذهبية

إبراهيم حرشاوي

 

شهدالوطن العربي في الفترة المعاصرة دعوات مختلفة لتجاوز الشرخ الطائفي، الذي تمتدّ جذوره إلى القرن الأول الهجري مع اندلاع الانقسامات السياسيةبسبب الخلافة، ثم تسللت هذه الخلافات فيما بعد إلى الفرق الكلامية،واستتبعت بعد ذلك بمرحلة تحوّلت فيها هذه الخلافات اللاهوتية إلى مذاهب عقائدية شمولية تتّسم بعلاقة متوترة فيما بينها.

لقد كانت هناك محاولات جدّية في فترة النهضة العربية لتجديد الخطاب الديني مع إشعاع المبادئ الليبرالية، حيث أن روّاد تلك الفترة حاولوا استقراء مبادئ وقيم هذه الفلسفة الأوروبية عبر قراءة انتقائية للتراث بغرض استخراج مفاهيم وأفكار تراثية قابلة لللبرلة لمزجها مع ما كان الفكر الليبرالي يروّج له من مبادئ كالحرية والعقلانية وسيادة الشعب والديمقراطية. وقد تكررت نفس السيرورة في فترة المدّ اليساري في الوطن العربي مع انتشار أدبيات تحاول، من خلال قراءة انتقائية للتراث الديني، إثبات اشتراكية الإسلام. وتكمن إشكالية هذه المقاربة في عدم تماسك قراءتها للتراث، حيث أنها تعكس صدمة التخلّف المادي والمعنوي التي جعلت من التراث غلافاً لطرحٍ مستوردٍ بدلاً من جعله مرجعيةً لخلق حداثة من الداخل. وشهدت تلك الفترة ترويجاً لفكرة الوحدة الإسلامية والتقارب المذهبي، وكان من بين أبرز دعاتها جمال الدين الأفغاني وشكيب أرسلان. فمثل هؤلاء دعوا لتجاوز الخلافات المذهبية من دون التطرّق للأبعاد المعرفية والعقائدية المختلفة لهذه الإشكالية التي تنبع أساساً من عدم صلاحية مثل تلك المنهجية لقراءة التراث الديني. ويمكن أن يُضاف إلى هذه المحاولات تجربة دعاة الدمقرطة والعلمنة والتغريب الذين حاولوا عبر تهميش وإقصاء الدين من المجال السياسيي تأسيس منظومة ليبرالية. إنّ هذا التيار راهَنَ على تلاشي البنية التقليدية من تلقاء نفسها، وهو الأمر الذي فشل فشلاً ذريعاً لأنه بكل بساطة أُقيم من دون مراعاة للشروط التاريخية والموضوعية التي تأسست من خلالها الأنظمة الليبرالية الأوروبية المختلفة.

بناءً على هذه الخلفية، فإن الإشكالية المذهبية لا تعالج من خلال آليات سياسية، كإقامة منظومة سياسية حداثية أو عبر سياسة دينية تنشر شعارات التسامح والتقارب بين المذاهب فحسب، بل ينبغي إخضاع الإشكالية المذهبية إلى قراءة نقدية-علمية شاملة تكون محصّلتها إعادة تأسيس مفهومية التراث الديني برمته. إنها مقاربة تتجاوز القراءة الانتقائية خدمةً لطرح إيديولوجي معاصر، كما أنها لا تُختزل في إعادة إحياء التيار العقلاني في التراث العربي التي تمثّله أدبيات وأطروحات الكندي ومدرسة المعتزلة وابن رشد على سبيل المثال.  فالمطلوب إذن هو تبنّي مفهوم “القطيعة المعرفية” التي دعى إليها المفكر المغربي محمد عابد الجابري في معالجة كل ما لدينا من تراث وفي المقدمة التراث الديني في صيغته المذهبية-العقائدية. وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ مفهوم “القطيعة المعرفية” كان قد نقله الجابري من المفكر الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير، الذي استخدمه في وصف القطيعة المعرفية التي حصلت بين المادية الماركسية والمثالية الهيغلية. لقد وظّف الجابري هذا المفهوم كذلك في تفسير القطيعة التي أقامها ابن رشد مع “الفلسفة الإشراقية” لابن سينا، والتي أدّت إلى قيام عقلانية برهانية ترتكز على المنطق الأرسطي. فالمقاربة التي اعتمدها الجابري في قراءة جانبٍ من التراث تعتمدإجمالاً على تحليل التكوين التاريخي والبنيوي للإطار المعرفي للعقل العربي. وبرغم تطرّقه إلى علوم ظهرت في التراث كعلم الكلام والفلسفة وتفسير القرآن إلا أنه لم يتطرق لنصوص وعلوم أساسية في الإسلام تلزمها المراجعة كعلم الحديث والسيرة النبوية وعلم التاريخ.

إلى جانب محمد عابد الجابري، قد يكون المسلك الذي سلَكَه بعض المفكرين أمثال الإيراني د.عبد الكريم سروش والجزائري د.محمد أركون والمصري د.نصرحامد أبو زيد وغيرهم من بين النماذج الجريئة التي قد تؤسّس لـ”قطيعة معرفية”تحوّل الفهم التراثي للتراث إلى فهم معاصر له.  فهؤلاء يتقاطعون في الطرح الذي يرمي إلى إعادة تأسيس علاقة الإنسان العربي-المسلم بتراثه الديني والفكري من خلال إنتاج وعي حداثي للتراث قد يساعد في شق الطريق نحو تجاوز المذهبية وفِتنتها. إنّ طرح نصر حامد أبو زيد مثلاً يتصف أكثر بالاعتماد على المناهج اللغوية لتحليل نصوص طالت مصادر تأسيسية  للإسلام وعلى رأسها القرآن الكريم في كتاب “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”.إنّ الأدوات العلمية لمقاربة النصوص الدينية الأساسية لا تعادل إطلاقاً الدعوة للإلحاد أو عدم الإيمان بالمصدر الإلهي للنص القرآني أو مصادرأساسية أخرى للإسلام.  إنّ مراد هذا الطرح العقلاني ليس التغريب والانسلاخ عن الانتماء الهوياتي والحضاري، بل هومحاولة لتحقيق “التواصل الخلّاق”. فالتواصل الخلّاق هو مفهومٌ روّجه نصر حامد أبو زيد لوصف عملية إخراج التراث الديني من “التقليد الأعمى” وإعادة إنتاج الماضي تحت اسم “الأصالة”، كما أنه يعني الخروج من دائرة التبعية الفكرية والسياسية الشاملة باسم “المعاصرة” و”الحداثة”. فالمقصود بهذا المفهوم هو نشر وعي علمي للتراث الديني، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى مرحلة تأسيسية لـ “مابعد المذهبية” بدون أن يفتقدَ الدين الإسلامي بُعْدَه الإيماني أو الأخلاقي أو الهوياتي.

ومن البديهي أن تحولاً مثل هذا لا يتمّ عبر مجهود فكري وأكاديمي خالص لمثقف عربي أو مسلم هنا أو هناك، بل ينبغي أن يكون هذا الطرح ركناً أساسياً من أركان أي مشروع نهضوي يسعى لتغيير الوضع القائم بشكل عام، وفي المقدمة منه البنية التراثية والمذهبية للإسلام. فالتهميش والقضاء على الانتماء المذهبي لا يتمّ من خلال اقتراحات عقلانية تكون بديلةً للخطاب الديني فحسب، بل يتطلب الأمر أن يكون هناك دعاة ومبشرون ضمن رافعة سياسية تطرح نفسها كمشروع وطني أو عربي متكامل. إنّ الدعوة إلى بلورة مثل هذا المشروع لا تخفي بين طيّاتها بالضرورة دعوة لمشروع إسلامي عقلاني يطرح نفسه بديلاً للإسلام السياسي المذهبي الذي تمثله الحركات والجماعات الإسلامية الحالية بشقيّها “السني” و”الشيعي”،  مع أن هناك محاولات تصب في هذا الاتجاه. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلىروّاد مجلة “أهل العدل والتوحيد” الذين يطلقون على أنفسهم تسمية “المعتزلة الجدد”. فمثل هذه النواة التي تسعى مبدئياً إلى التخلص من الرواسب الفاسدة للتراث الديني، المتجسدة في التعصب المذهبي والخرافة والفهم التقليدي للإسلام تُعتبر من الظواهر الناشئة التي قد تتطور يوماً ما إلى مشروع ديني قائم بحد ذاته.  ويُلاحظ كذلك في هذا الإطار ظهور بعض التوجهات داخل النظام العربي الرسمي تلوّح بهذا التوجه فيما يتعلق بالسياسة الدينية. ومن الأمثلة الملفتة على سبيل المثال الخطاب المهم الذي ألقاه الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس من العلماء السوريين يوم 23 نيسان سنة 2014م، حيث دعا إلى ضرورة اعتماد منهجية عقلانية وعلمية لفهم الإسلام، وقد سَبَق له أن صرّح في لقاء مماثل سنة 2011م بأنه “مسلمٌ محمدي لا ينتمي إلى أي مذهب”. فليس مُفاجئاً أن نرى دولاً مثل سورية تنحو هذا المنحى، خاصة وأنّ أحد الأبعاد الداخلية والإقليمية للأزمة سورية تتسم بالمذهبية في أبشع تجلياتها.

خلاصة القول أنّ ظاهرة التكفير والتطرف الديني لها منبع يرجع إلى التركيبة المذهبية داخل الديانة الإسلامية، مما يجعل معالجتها على المدى البعيد لا تكتفي بآليات إخماد النيران المذهبية كنشر مبادئ الحوار والتسامح بين المذاهب الإسلامية، بل إنّ أزمة تاريخية من هذا الحجم تحتاج إلى معالجة شاملة ترتكز على إعادة إنتاج التراث بقراءة تجعلنا على حد قول الجابري “كائنات لها تراث بدلاً من كائنات تراثية”.

التكفير: سلاح الإرهاب الإمبريالي المزدوج

صالح بدروشي

إنّ الدافع وراء كتابة هذه المقالة هو كثرة الخلط الذي عمّ كلّ المفاهيم والمسائل السياسية والفكرية المتداولة، وكثرة المنعرجات السياسية التي مرّت بها أمتنا والمنزلقات التي تسببت بضياع بوصلة الكثيرين، بالإضافة إلى نشوء عدة ظواهر طفَت على السطح على إثر كارثة “الربيع العربي” الذي انطلق بقوّة بعد “ربيع العراق” الدموي المدمّر.

هذا الخلط في المفاهيم وضبابية الرؤيا وضياع البوصلة ناتجٌ عن عمل دؤوب لأصحاب المشروع الإمبريالي ومراكز البحوث والدراسات المعدّة سلفاً بهدف تدجين الرأي العام عبر أشباه المثقفين والأكاديميين من الانتهازيين، كل هذا أدّى إلى سقوط عدد كبير من السذّج المتابعين للشأن العام حتى في صفوف التيارات القومية واليسارية من المتهافتين على التحاليل السياسية والمواد الإعلامية بدون مصفاة أو بوصلة قادرة على تصفية المواد التي تبثّهاالإمبريالية بترسانتها الإعلامية الضخمة المتحكّمة في مصدر المعلومة والتي تعتمد سياسة استغباء وتضليل الشعوب بتزييف الحقائق مثل الفوكس نيوز والبي بي سي ورويترز وكل مؤسّسات مردوخ الإعلامية الصهيونية… وهذا الخلط واللغط الذي نتحدث عنه بشكل رئيسي هو حول مصدر الإرهاب التكفيري والغموض المحيط به، خاصة بعد انتشار وباء الحركات التكفيرية وانتشار بلاء الإرهاب الذي عمّ أرجاء العالم بأسره وليس وطننا العربي فحسب، وأصبح حديث الساعة.

فمنذ ظهور حركات الإرهاب التكفيري، بدأ سجالٌ حول الدور الأمريكي في تأسيسها. وذهب العديد من المفكّرين والباحثين إلى القول بأن “داعش” هي صناعة أمريكية صرفة مثل ما كانت “القاعدة” التي تمّ إنشاؤها بهدف إسقاط النظام وإخراج القوات السوفيتية من أفغانستان.  كما نَزَع آخرون إلى اعتبار الحركات الإرهابية حركات ظهرت طبيعياً كتيار إسلامي، يستمدّ مقوّمات وجوده ذاتياً، وإن كان يصبّ في جيب الإمبريالية إلّا أنه ليس صناعة غربية. ولكلٍ أدلّته وتحاليله، يستمدّها من التاريخ القريب والبعيد، كما أنّ الموضوع محاطٌ بالكثير من خلط الأوراق والالتباس والضبابية في الرؤية بسبب صعوبة كشف خيوط جرائم الدولة المنظّمة لقدرتها على التخفّي وافتعال أحداث للتشويش والمراوغة والتضليل كما حصل مع الثورات الملونة التي كانت في يوم من الأيام لغزاً لدى الكثيرين وكشَفَ التاريخ ملابساتها فيما بعد، ولكننا سنحاول من خلال هذه المقالة تسليط الضوء علىبعض الملابسات بتجميع الأحداث معاً ومقابلتها ببعض الوقائع والقرائن بهدف تقريب الصورة والوصول إلى إجابات شافية عن الكمّ الهائل من التساؤلات حول المصدر الحقيقي للإرهاب التكفيري:

 

  • هل هو ناتج عن خللٍ في الدين الإسلامي والثقافة العربية المشرّبة بالتشاريع والقيم الأخلاقية القديمة والحديثة أم هل هو نتاج خللٍ في التشاريع والتعاليم الدينية الإسلامية والمسيحية المشرقية أو عن واقع التخلّف الاقتصادي والاجتماعي لوطننا العربي؟
  • أم أن الإرهاب منتج إمبريالي صرف، تمّ تهجينه في مختبرات المخابرات الغربية والصهيونية بالاعتماد على ما أنتجته الأبحاث التي قامت بها البعثات الاستشراقية منذ عهد صفقات الإمبراطوريات الاستعمارية، خاصة البريطانية مع ابن عبد الوهاب وآل سعود إلى غاية التسهيلات التي قدّمها الاحتلال البريطاني في مصر لنشوء وبناء حركة الإخوان المسلمين بعمل وأفكار المودودي وحسن البنا ومن بعدهم سيد قطب وأتباعه، وكذلك بالاستفادة ممّا توفّره مكاتب الدراسات المركزية ذات الاختصاصات المتعددة في الأنثروبولوجيا وعلم الأديان والحضارة والتاريخ وغيرها من المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والتي يعمل فيها جيشٌ عرمرم من المثقفين والجامعيين العرب المرتزقة، عن وعي وعن غير وعي .. كما عبّر أحد الصهاينة “لنجعل من الإسلام خنجراً في قلب العرب والمسلمين”عملاً بمقولة “لكلّ شيء آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد”، علماً وأنّ التكفير والتطرّف والإرهاب الديني، أو بالأحرى تلبيس الإرهاب بثوب ديني، قد عرفته كلّ الثقافات والديانات وكلّ أنواع المجتمعات الغنية والفقيرة، وبخاصة في أوروبا وأمريكا وأفريقيا المحتلّة عندما أرادت الطبقات الغنية المهيمنة والمتنفّذة استعمال الدين لإخضاع الفقراء في بلدانهم وإخضاع الشعوب المحتلّة في البلدان الأخرى والسيطرة على مقدّراتها الطبيعية والبشرية.
  • هل أن الدواعش وأخوانهم التكفيريين من “نصرة” و”جيش الإسلام” و”فتح الشام” ومختلف التفريعات الإخوانية وكل المجاميع الإرهابية المسلّحة والمعارضات “المعتدلة” المسلّحة هي صناعة أمريكية-“إسرائيلية” بتمويل قطري سعودي ورعاية لوجستية تركية؟ أم هي إنتاج ذاتي موّل نفسه بنفسه وفجأة انطلق بأموال خيالية وأسلحة متطورة بكميات مهولة وأرتال بعشرات آلاف السيارات رباعية الدفع الجديدة والمجهّزة بالأسلحة الحديثة وبإمكانيات لوجستية للتخفّي وسرعة التنقّل عبر البر والجوّ والبحر والأنفاق داخل الدول وبين الدّول بشكل “أذهَل” و”أعجَز” الإنتربول الدولي والمخابرات الصهيونية والمخابرات الأمريكية والغربية مجمّعة؟!
  • أليست القاعدة حليفة، إن لم نقل أداة، للولايات المتحدة الأمريكية في إخراج القوات العسكرية الروسية (السوفييت) من أفغانستان؟؟ وأليست دول الخليج العربية وعلى رأسهم آل سعود هي من جنّدت وموّلت الشباب العربي للالتحاق بأسامة بن لادن في أفغانستان لتشكيل تنظيم القاعدة واستنفار من أسموهم بالشباب العربي والمسلم الغيور على دينه والمحبّ للجهاد؟؟
  • لماذا تمّ على الصعيد السياسي الميداني ضخّ أموال البترودولار القطري والسعودي بمباركة أمريكية في تونس ومصر وليبيا لدعم نجاح كاسح للإخوان المسلمين في انتخابات العمليات السياسية التي أنتجها “الربيع العربي”؟؟
  • داعش تنظيم تكفيري إرهابي، يفجّر ويقتل ويهدم بيوت الله وبيوت الناس والآثار التاريخية ويستهدف البشر والشجر والحجر، وأينما نزلت جحافله حلّ بتلك الديار الخراب والدمار والفساد والقتل والانتهاكات وقطع الأرزاق، يرفع أتباعه راية الإسلام والجهاد ضد أعداء الأمة الأمريكان والصهاينة وإقامة الخلافة الإسلامية، وفي ممارستهم على الميدان نجدهم في أغلب الأحيان لا يقتلون إلا المدنيين والعزّل المسلمين والجماعات المقاومة للنفوذ الأمريكي والصهيوني مثل سورية، في حين لم يوجّه أي تنظيم منهم سلاحه صوب الكيان الصهيوني أو أي يهودي أو أمريكي، إلا في حالات نادرة غالباً ما تكون مشبوهة، فهل هذا من الإسلام في شيء؟؟ !
  • لماذا تصدر السعودية فتاوى النكاح والقتل والتخريب في سورية والعراق ولم تصدر أي فتوى لدعم فلسطين؟؟ ولم لا تقدّم لها أيّ دعم لا بسلاح ولا بفتوى ولا بغذاء ولا أي مساعدات من أي نوع؟
  • من مميّزات دين الدواعش هو قتل المسلم قبل غير المسلم فهل هذا من الإسلام؟
  • هل أنّ “داعش” مجرد خدعة أمريكية لضرب البلاد العربية؟ لاضطهاد الشعب العربي، وإعادته لحظيرة الاستعباد وبيت الطاعة لدى الحكام؟
  • هل أنّ إعلان “40 دولة تشكّل تحالفاً لمواجهة داعش” هو الطُعْم الذي تقدّمه لنا الإمبريالية والغرب الذين أرادوا إيجاد شر أكبر منهم يعمينا عن حقيقتهم ويجعلنا نفضّلهم على تنظيم شرّاني خرج من بيننا؟؟

لمحة مختصرة عن نشوء تنظيم  داعش وإمكانياته

 

خرجت من رحم القاعدة “جماعة التوحيد والجهاد” بقيادة أبي مصعب الزرقاوي،  وبعد  مقتله عُيّن أبو  حمزة المهاجر زعيماً للتنظيم، وبعد أشهر أُعلِنَ عن تشكيل “دولة العراق الإسلامية” بزعامة أبي عمر البغدادي، الذي قتلته القوات الأميركية في 2010 هو ومساعده أبي حمزة المهاجر، فاختار التنظيم”عواد إبراهيم عواد القريشي الحسيني”المعروف باسم “أبي بكر البغدادي” خليفةً له، وهو من مساجين أبو غريب.

أما جبهة النصرة فهي منظّمة تمّ تشكيلها أواخر سنة 2011 بتمويل سعودي وتسليح أمريكي، سرعان ما نمت قدراتها بالتدريبات لتصبح فيغضون أشهر من أبرز قوى المجاميع المسلّحة وأقساها في القتال.  وتضمّ  جبهة النصرة عناصرَ عربية من سورية وغيرها، وأتراك وأوزبك وشيشانيين وطاجيك أوروبيين من الذين قاتلوا سابقاً في أفغانستان والعراق والشيشان، وتمرّسوا على محاربة الجيش الروسي في أفغانستان بدعم من الجيش والمخابرات الأمريكية.

ومن خلال امتلاك الأسلحة المتطورة مع التفجير اليومي للسيارات وعمليات التفجير المتعدّدة واسعة النطاق وانتشارها بسرعة مذهلة في العراق وسورية وليبيا وسيناء واليمن، يتّضح أنّ تنظيم “داعش” يحظى بتمويلات ضخمة، فعملياته الكثيرة على كل هذه الجبهات، تكلّف الكثير من الأموال، إضافةً إلى قتالها المتواصل منذ ستّ سنوات ضدّ الجيش العربي السوري وضدّ الجيش المصري، ناهيك على الانتشار والترويج الدعائي السريع. كل هذا إلى جانب الاقتتال الداخلي ضدّ “الجبهة الإسلامية” و”أحرار الشام” و”الجيش السوري الحر”. فهذه العمليات مجتمعةً، تقتضي إنفاق مليارات الدولارات. فمن الذي يسدد الفواتير يا ترى؟ ومن الذي يوفّر التغطية اللوجستية؟؟ علماً أننا لو تأمّلنا فيما يتطلبه تجهيز الدواعش بأحذية عسكرية وبزّات ودروع وذخيرة فقط فهذا يتطلب إمكانيات دولة، وليس مجرّد تمويل ذاتي لعصابة، فما بالنا بالصواريخ الحرارية والسيارات الرباعية الدفع والأسلحة الثقيلة والذخائر التي يحصلون عليها بلا حساب، ناهيك عن الاستفادة من الرادارات ومعلومات الأقمار الصناعية الغربية التي تساعدهم على الإفلات من قبضة الجيش العربي السوري في أحيان كثيرة.

عديد التسريبات تؤكّد أن أبا بكر البغدادي خضع، على أيدي عناصر في الموساد، لدورات تدريب عسكري في فنّ الخطابة وفي علم اللاهوت …إلخ، علاوة على ما أكّده إدوارد سنودن، موّظف وكالة الأمن القومي الأمريكي السابق، حول تعاونهم مع المخابرات البريطانية والموساد في إنشاء “داعش” كتنظيم إرهابي قادر على استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد في عملية يرمز لها بـ “عشّ الدبابير”… وهي خطّة بريطانية قديمة تقضي بإنشاء تنظيم شعاراته إسلامية، يتكون من مجموعة من الأحكام المتطرفة التي ترفض أي فكر مغاير، وهو ما يعبّر عنه بالإسلام المعدّل جينيّاً.  كما راجَ حديثٌ مفاده أن القوى الإمبريالية وضعت خطّاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه كشرط لتغطية نشاط المجموعات الإرهابية، وهو الامتناع عن تنفيذ أي عملية إرهابية داخل الكيان الصهيوني، وهو ما يتأكد لغاية اللحظة، علماً وأنّه في كل مرحلة من المراحل تقوم الإمبريالية الأمريكية بصنع وترويض الوحش لتقتل به أعداءها، وبعد أن تتمكّن من أعدائها تقتل الوحش الذي صنعته. ولا يكبر في عينهم أحد من عملائهم؛ فالسعودية وباكستان اللتان تتهمهما الإمبريالية اليومبأنهماوراء دعم الإرهاب لغاية ابتزازها، كانتا مخلب الولايات المتحدة وحلف الناتو في الحرب على القوات السوفياتية في القرن الماضي!!.

كل هذا قد يعدّه البعض من قبيل الهوس بنظرية المؤامرة التي نرى بأنها نظرية أثبتَ الواقع صحّتها بعد أن خبِرنا الإمبريالية لعقود، ورأينا المؤامرات التي قامت بحياكتها وأدت إلى انقلابات أو محاولات لقلب أنظمة الحكم، سواء في وطننا العربي أم في دول الاتحاد السوفياتي السابق وأمريكا الجنوبية، بل لقد ذهبت الإمبريالية إلى أبعد من استخدام الدين الإسلامي عن طريق مسلمين، ووصلت إلى حدّ تجنيد جواسيس من أبنائها يدّعون الإسلام مثل الضابط البريطاني الجاسوس هاري فيلبي، الذي ساعد آل سعود و”الإخوان الوهابيين” على تأسيس المملكة السعودية، والذي أعلن إسلامه وخطَب في الجمعة وأصبح اسمه عبدالله فيلبي، أو مثالٌ آخر هي الكاتبة والرحّالة البريطانية روسيتا فوربس، والتي قالت في مذكراتها أنها رفضت السفر إلى مكة بسبب أنها شعرت في آخر لحظة بتأنيب الضمير لقبولها فكرة الادّعاء بالإسلام، ولكنها كثيراً ما مارست هذا الادّعاء المُخادِع في سفرات كثيرة سابقة .. فأمثال هؤلاء درسوا وعرفوا المذاهب والأفكار الإسلامية وأفادوا مخابرات بلادهم في استخدام الدين بأبشع الصور اللاأخلاقية واللا-إنسانية، وهذه هي الإمبريالية.

ألغاز بحاجة إلى تفسير:

الولايات المتحدة الأمريكية قالت (بالإضافة إلى ما تبيّن أنّه كذبة أسلحة الدمار الشامل) أنها ستحارب الشهيد صدام حسين لأنه يدعم تنظيم القاعدة و”إرهاب الإسلام المتطرف”، ولكن الحصيلة الغريبة جاءت في نقطتين:

  • الأولى كيف استطاعت القضاء على الشهيد صدّام حسين وكامل نظامه وتفكيك جيش العراق بأكمله ولم تتمكّن من التنظيم الذي ليس له لا دولة ولا أرض ولا مال والذي هو أصل المشكل على حدّ ادّعائهم؟!علماً وأنّ نظام طالبان وتحالفه مع تنظيم القاعدة في أفغانستان انهار بشكل سريع، وهو ما بيّن أنها حركات كرتونية تمّت هزيمتها بسهولة في حين تطلّب إسقاط النظام في العراق اثني عشر عاماً من الحرب والحصار وتحالف دولي إمبريالي جبّار،
  • والثانية كيف أنه بعد ما تمّ الانتهاء من إسقاط النظام العراقي، الذي كان يدعم الإرهاب على حدّ زعمهم، وبعد تفكيك جيشه ودولته، انتشر الإرهاب وتنوّع وتفرّع بشكل غير مسبوق..؟؟ وأصبح أكثر انتشاراً بعد أن تمّ إسقاط “الداعم” الآخر للإرهاب وهو النظام في ليبيا؟؟ ونرى داعش تحرّك قواتها في مجال واسع وغير مأهول وبطوابير طويلة من العربات، من دون قيام أي دولة إمبريالية بقصف مقاتليه بشكل فعّال أو تعقّبهم كما فعلت روسيا في الشمال السوري !والقوات الأميركية تستخدم طائرات بدون طيار لقصف مواقع القاعدة في اليمن، وفي الصومال، وفي باكستان، وتمتنع عن قصف “داعش” التي تفجّر المدن العراقية يومياً منذ سنوات، وهي قادرة عبر أقمارها الصناعية على تحجيم قدراتها وحتى إنهائها! ولكن الرئيس الأمريكي أوباما رفض دعم العراق ضد داعش إلا بعد أن تجاوزت الخطوط الحمراء المرسومة لها، فأمر بضربها بالقوة الجوية بعد أن توجهت داعش لاحتلال أربيل وهو ما يمثّل تهديداً لمصالح الشركات الأمريكية فيها، بالإضافة إلى حاجة الأمريكان لقيام كيان كردي مستقل تمهيداً لتفكيك المنطقة. وما امتناع الولايات المتحدة عن تسليح الجيش العراقي إلّا لتسهيل مهمة داعش.

إنّ ما نلاحظه بكلّ وضوح هو أن الدول الغربية أتاحت الفرصة لتوسع التنظيمات الإرهابية وتتعامل معها بأريحية ومن دون انزعاج منها، سوى بعض اللغط الإعلامي الذي لا قيمة له وذلك على الرغم من بعض التفجيرات التي تحصل في البلدان الأوروبية، والتي تشير عديد الدلائل أنها بتواطؤ المخابرات الأوروبية ذاتها حسب تحليلنا للمعطيات (خاصة الاختفاء الغريب والمريب للفاعلين وكل من يهرب منهم يقتل ولا يمسك) من أجل كسب الرأي العام لديهم في تدخّلاتهم في أراضي غيرهم في سورية والعراق وليبيا لعدة مآرب، من نهب ثروات بالاحتلال وترويج تجارة الأسلحة وتدمير البنى التحتية وتفكيك الدول واستكمال المخططات عبر تحريك النّعرات الطائفية والعرقية واللعب بملف الأكراد وغيره والسعي لاستدامة الصراع والاقتتال داخل المنتمين لدين واحد من أجل تحطيم صورة هذا الدين، وهو الإسلام السمح، وإبرازه كدين قتل ودموية وظلم وتخلّف وتدمير وامتهان النفس البشرية التي كرّم الله وبخاصة العمل على كسر جسم وصورة حاضنته العربية التي اختارها الله سبحانه وتعالى كأصل لنبيه محمّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، وكلغة لقرآنه العظيم، وكذلك بهدف تحويله إلى أداة لضرب الأمة العربية، وهو الذي لطالما شكّل عامل قوة لها وسبباً في تماسك نسيجها. ويتّضح غرَض الإمبرياليين هذا من خلال تمسّكهم وترويجهم لاسم “الدولة الإسلامية” بدلاً عن “داعش” وكل وسائل الإعلام الرجعية العميلة للإمبريالية تحاول إعطاء هيبة لداعش باستعمال وترويج مصطلحات مثل: “تنظيم الدولة” و”الدولة الإسلامية” إلخ…

صدق من أطلق على الإمبريالية الأمريكية تسمية الشيطان الأكبر:

إن الحركات الدينية المتطرفة موجودة في كل الأزمنة وفي كل الديانات والمذاهب والأوطان، والنصوص الدينية التي تبرّر بها الحركات الإرهابية جرائمها كانت موجودة منذ أكثر من 1400 سنة، ولكن هذه الحركات لا تمتلك القدرة على التطوّر إلى مستوى الفعل المؤثّر لولا دعم الإمبريالية العالمية لها والتي توفّر لها التمويل والدعم الشامل بعد أن يقوم باختراقها بعناصر قيادية تابعة له، ورغم أنّ أفراد هذه الحركات الأصليين  ليسوا بالضرورة مرتزقة، وقد يكون هدفهم الجهاد وحور العين ويعتبرون قتلهم شهادة، ويغذّي هذا عمليات الشحن الديني الذي تقوم به آلاف المؤسسات الدينية والإعلامية، وبالإضافة إلى هؤلاء أصحاب عقيدة الإيديولوجية الدينية، وبعد توريط هذه الحركات في معارك قاسية تقوم المخابرات بدفعها إلى الانتداب من داخل الأوساط الفقيرة والإجرامية عن طريق ضخّ الكثير من الأموال. وإنه وإن كان لا يخفى على أحد أن الجهات المتورّطة مباشرة في تشكيل ودعم داعش وكل تنظيمات الإسلام السياسي الإرهابية هي السعودية وقطر وتركيا وباعتبارها دولاً إسلامية، فإن هذا لا يعود إلى الدين الإسلامي في شيء، والجميع يعلم أن هذه الحكومات تحت السيطرة الأمريكية ولا يمكنها أن تقوم بهذه الأعمال الخطيرة بدون موافقة ومباركة أمريكية. كما لا ننسى اعترافات مرشحة الرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون في إحدى جلسات الاستماع الموثقة بالفيديو بأنهم من أنشأ تنظيم القاعدة. السعودية دولة إسلامية قبلت طوعاً تخفيض سعر نفطها إلى أقلّ من ربع سعر السوق من أجل خدمة مصلحة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لتحطيم اقتصاد روسيا والصين وفنزويلا وإيران حلفاء سورية .. فهل هذا من الإسلام باعتبار السعودية دولة إسلامية أم هو من تعاليم دين الرجعية والعمالة للإمبريالية؟! فهذا ما كان يفعله الشاه في إيران وكارلوس أندريس بيريز في فنزويلا وباتيستا في كوبا، وكذلك معظم حكّام أمريكا الجنوبية الذين لا علاقة لهم بالإسلام ولكنهم جعلوا بلدانهم حدائق خلفية للإمبريالية الأمريكية ودعّموا الإرهاب في بلدانهم ضدّ شعوبهم مثل عصابات الكونترا الإرهابية التي شكّلتها الولايات المتحدة في الثمانينيات في نيكاراغوا لدعم صنيعتهم الرئيس سوموزا ضدّ الثورة الساندينية. قال وليام كيسي رئيس المخابرات الأمريكية ورئيس أركان الجيش الأمريكي سابقاً: إن رجال الكونترا مقاتلون من أجل الحرية، ولما سُئل عن الفدائيين الفلسطينيين ولماذا لا يعاملهم بالطريقة نفسها قال: هناك فارق كبير؛ الكونترا يدافعون عن وطنهم، والفلسطينيون ليس لهم وطن” !..إنّ ما فعله ذلك الإرهاب لا يقلّ ترويعاً عمّا تقوم به الدواعش باسم الإسلام أوعمّا قام به الإرهاب الاستعماري الفرنسي في الجزائر الذي سبق الدواعش في قطع الرؤوس والتمثيل بها أو البريطانيين الذين ابتدعوا سلخ رؤوس الهنود السكان الأصليين لأمريكا لبيع فروة الرأس للغزاة الذين يريدون إبادة المواطنين الأصليين.. أو المنظمات ذات المرجعية المسيحية مثل الـ”كو كلوكس كلان” kkk التي كانت تقوم بحرق الأمريكيين السود على الصليب!! وإذا كان ثمّة ديانة يمكن أن ينسب لها الإرهاب فهي الديانة اليهودية التي تعتمد كتاب التلمود الذي يبيح، بل يأمر بقتل وتعذيب كل من هو ليس يهوديّاً .. ولكن لا أحد يتحدّث عن هذا!! ومن لا يزال يقول أن تنظيم داعش ليس صناعة أمريكية وإنّما صناعة إسلامية خالصة، وهو نتيجة طبيعية للخطاب الديني المتطرف، نذكّره بأن مثل هذا الخطاب ظلّ موجوداً على الساحة لسنين طويلة، ولم يصل أصحابه إلى مستوى الخروج بمشروع عملي ميداني وتفعيله إلى أن جاء مشروع الشيطان الأكبر، الإمبريالية والجيل الرابع من الحروب وشَحَنَهم وموّلَهم وجهّزَهم ودفع بهم إلى حيث يشاء بعد أن أحكم اختراقهم.

إنّ وضعنا بين فكّي كماشة أو خياري الإسلام السياسي أوالإمبريالية هو مرحلة أو طور من أطوار الهيمنة الإمبريالية الأمريكية التي تستخدم اليوم التهديد الإرهابي التكفيري، كما استخدمت في السابق تهديد الاستعمار المباشر لفرض الاستقلال في ظلّ الحماية الإمبريالية، وبعد ذلك دعّمت الأنظمة الرجعية الفاسدة الظالمة لشعوبها، والتي بسلوكها برّأت ساحة الاستعمار القديم والإمبريالية الحديثة معاً.. وسبق ذلك الاستعمار القديم لمّا استخدم تهديد الاحتلال التركي العثماني لفرض قبول الاحتلال تحت عباءة “الحماية” الغربية.. واليوم جاء دور استخدام الإمبريالية للحركات التكفيرية والإسلام السياسي الذي فجّروه في وجوهنا على شكل “ربيع عربي” سرعان ما أغرَقنا في الدماء، ولأجل ذلك نقول أن المعالجة الفكرية لمعتقدات الحركات التكفيرية يجب أن تتمّ داخليّاً بيننا وبدرجة ترتيب في سلّم الأولويات تسبقها معالجة مسألة كيفية محاربة الإمبريالية، أصل الداء والانتصار عليها لتحجيمها والقضاء عليها كنظام معيق لنهضة وتحرّر الشعوب وتقدّمها. فمعالجة الأفكار الرجعية في مجتمعنا مهمّ جدّاً لأنها تعيق عملية التقدم وهي عنصر معطّل لأي مشروع نهضة، ولكن هذه الأفكار لا تتحوّل إلى وحش يهاجم ليدمّر من الداخل إلّا بفعل الفاعل الإمبريالي الخارجي، وكل مسارات التاريخ المعاصر تؤكّد ذلك.

كانت حركات الإسلام السياسي تتمتع دائماً بمراكز لتنسيق نشاطها وتمويلها في عواصم الغرب الإمبريالي وخاصة لندن، والكثير من كوادرهم تمّ تدريبهم وتكوينهم في الأطر الأمريكية مثل فريدوم هاوس ومركز الإسلام والديمقراطية ومراكز التدريب على نمط التفكير الفردي في مواجهة الوعي الجمعي، المدعو سمير ديلو أحد قيادات الإخوان في تونس اعترف بتلقيه تدريبات في مؤسسة فريدم هاوس في إحدى البرامج التلفزية على المباشر وغيره من القيادات الإخوانية في عدة دول عربية كما أوردت الصحف التونسية (الصحافة والتونسية) والفجر الجزائرية خبر تكليفه بتدريب مائة شاب إخواني من الجزائر (تلبية لرغبة برنار ليفي في إشعال “ربيع الجزائر”)، إذ كان لمركز “الإسلام والديمقراطية” دورٌ كبيرٌ في التواصل بين القياديين الإخوان وكل من السفارتين الأمريكية والبريطانية في بلدانهم ناهيك عن أولئك الذين كانوا مقيمين في بريطانيا وعواصم الغرب لسنوات. وتحاول هذه الحركات إخفاء تعاملها وارتمائها السابق الطويل في أحضان المخابرات الغربية، كما تحاول الدوائر الإمبريالية الادّعاء بأنها فوجئت بالفكر السياسي التكفيري وقدراته الإرهابية، وهي التي موّلته ودرّبته. وربما المفاجأة الوحيدة بالنسبة لها هي مدى فاعلية الإرهاب التكفيري ورخْص تكلفته وما يوفره عليهم من أرواح أبنائها وعتادهم الثقيل.

إنّ التحالفات الانتهازية التي قامت بين معظم أطراف الإسلام السياسي وحكومات الغرب الإمبريالية ومخابراتها هي حقيقة مؤكّدة واضحة للجميع وهي من ناحية تدلّل على وهن وضعف هذه الحركات التي ارتهنت بالكامل للإمبريالية على الرغم من انخراط وتعاطف أعداد جماهيرية ضخمة معها .. علماً وأنّ هذه الإمبريالية لا تريد رؤية أي مشروع إسلامي ينجح على الأرض، لا متطرّف ولا معتدل، ولكنها تستغلّ هؤلاء المغفّلين والانتهازيين من أجل تعميم الفوضى وإبقاء بلدان الوطن العربي متشرذمة ومقطعة الأوصال وغارقة في الإحباط وانسداد الأفق، لترى أن أفضل السبل هي اتّباع المشروع التقسيمي الإمبريالي الذي يخضعها لهيمنته ويمنّ عليها بشيء من الأمن والاستقرار ولقمة العيش التي أصبحت مفقودة بفضل بركات “الربيع العربي” التكفيري.

فالإمبريالية الأمريكية التي تدّعي اليوم محاربة الاستبداد و”الأنظمة الظالمة لشعوبها” قدّمت المساندة والعون والحماية والتشجيع لكل الأنظمة المتخلّفة في الخليج العربي، وفتحت كلّ الأبواب في وجه أصحاب الدعوات المتطرّفة بالسفر والإقامة وفتح القنوات الإعلامية وطبع وترويج الكتب التي تعمل على نشر الفكر المتطرف… وكانت تغضّ الطرف طيلة القرن الماضي عن الأنظمة العربية الظالمة لشعوبها والتي تعتمد الأفكار الدينية المتخلّفة والمتطرّفة مثل الوهابية السعودية وكانت ترعاها طالما هي باقية تابعة طيعة لها، فكانت السعودية تزعم دوماً بأنها الراعية للإسلام وتقوم بتقريب الرموز والشخصيات الإسلاموية ودعم حركات الإسلام السياسي ومنها الإخوان المسلمون بالأموال والتعاطف، طبعاً خارج أرض المملكة، أي من دون أن يسمح بفتح فروع للجماعة في المملكة، وكان ذلك التعاطف بارزاً عندما غدرالإخوان بثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر وتمّت محاكمتهم بسبب التآمر، فقدّم آل سعود كل الدعم لجماعة الإخوان وفتحوا أبوابهم لأعضائها الهاربين من مصر… ومنحت الجنسية السعودية لعدد كبير من رموزها، وكانت السعودية قد أعلنت اعتراضها على أحكام المحكمة المصرية في حق قيادات الإخوان عام 1965 كما قامت المملكة بإعطاء الأولوية في العمل والوظائف لعدد كبير من الإخوان؛ الشيء الذي دفع كثيرٌ من المصريين للانجذاب نحو حركة الإخوان للحصول على فرصة عمل فى السعودية .. فكانت عمليّة تمكين لجماعة الإخوان للتواجد بأعداد كبيرة داخل مصر … وكان كل ذلك بمباركة أمريكية استعداداً لمشروع وضع الدين في مواجهة الشيوعية في إطار نظرية إحاطة الشيوعية بجدار الدين التي تعتمدها الولايات المتحدة.. حيث وجدت الإمبريالية في الإسلام السياسي حليفاً شديد الحماس في معاداة الفكر الشيوعي ومحاربة روسيا من ناحية، وشديد الاندفاع باتجاه معاداة وتهديم المشروع القومي العربي ومعارضة حركات التحرر الوطني من ناحية أخرى، ومن هنا وجد الإمبرياليون في الإسلام السياسي بكل فروعه خير حليف لهم في هذا الظرف.

وكان الهدف من تثبيت تلك الأنظمة الدينية المتخلّفة إبعاد فكرة وضع الثروة النفطية في خدمة النمو العربي، وفي خدمة ترجيح كفة النصر للعرب في الصراع مع العدو الصهيوني. كذلك استعملت الإمبريالية الحركة الإخوانية لمحاربة الأنظمة التي تحمل مشروع نهضة وطنية … فعلى صعيد حربها على روسيا السوفياتية، قامت الولايات المتحدة بجلب وتجنيد مجاميع مسلّحة من مختلف البلدان العربية والإسلامية وتكليف تنظيم القاعدة وطالبان بتأطيرها. ولمّا خلصت مهمّة إخراج روسيا من أفغانستان كانت الولايات المتحدة تستعدّ لتوسيع استثمار شعار الإرهاب الذي رفعته كسيف فوق رقبة كل من يشذّ ويخرج عن العباءة الأمريكية. ومن ثمّ، وبعد أن تمّ اختراقها من عدة أجهزة استخبارات عالمية وإقليمية تحوّلت القاعدة من حليف لضرب الاتحاد السوفياتي إلى كومبارس يلعب دور الإرهاب الذي يجب مطاردته، وكان ذلك واضحاً في كل من أفغانستان والجزائر والعراق، وتعرّت هذه اللعبة تماما في مسرحية “الربيع العربي”.

بعد أن تمكنت الإمبريالية من إنجاز جزء كبير من مشروعها بتفجير “الربيع العربي” طلبت من حلفائها الإسلامويين الكفّ عن استخدام تقية شيطنة أمريكا والكيان الصهيوني فاستجابوا لها فوراً، وأصبحت زيارات رموزهم إلى الأيباك والمعاهد الصهيونية متعدّدة، بل حتى الخطابات أصبحت ودّية تجاه الكيان الصهيوني وصديقهم العزيز شمعون بيريز.. واعتبروا موضوع تجريم التطبيع لعباً صبيانياً لا لزوم له.

 

خلاصة:

 

على الرغم من انكشاف السياسة الأمريكية الساعية إلى التفوّق المطلَق، وفرض سطوتها على كل شعوب العالم، وإلى خلق عداوات وبؤر توتّر خارج أرضها لإشعال الحروب لتشغيل مصانع السلاح من ناحية، ولتشغيل شركاتها الكبرى في مشاريع إعادة إعمار ما تهدّمه الحروب والسيطرة على مقدّرات الشعوب من خلال تكبيلها بقروض البنك الدولي المشروطةمن ناحية أخرى.

وإذا عدنا للقديم نذكر تصريحاً لموشي ديان وزير الحرب الصهيوني فى فترة الزعيم جمال عبد الناصر قائلاً: إذا استطعنا إسقاط عسكر عبد الناصر، وتصعيد الإخوان إلى سدّة الحكم في مصر، فسنشتم رائحة الموت والدماء في كل بقعة من أراضي مصر، فلتكن تلك هي غايتنا وحربنا بمساعدة أصدقائنا الأمريكان.

فمن خلال الترويج للأفكار الإرهابية الداعشية على أنها من ديننا وتراثنا يسعى الإمبرياليون إلى إخفاء فكرة المؤامرة الغربية على الأمّة العربية، وتأكيد أن كلّ الشر على العرب والمسلمين هو من العرب والمسلمين أنفسهم، محاولين بذلك تشويه تاريخنا الذي هو فعلاً صفحة مشرقة من تاريخ البشرية، شهدت خلاله تطوراً حضارياً لا ينكره إلا جاحدٌ على الرغم من كل المحطات السوداء التي قد لا نرتضيها، والتي مرّت بها كل الأمم والحضارات وليست حكراً علينا، والتاريخ يشهد بأنّ العرب كانوا في ظلّ الدولة الإسلامية متميزين في العلوم والاختراع والطب والأدب .. وكانت بغداد على سبيل المثال مركزاً وقبلة للعلماء من كافة أصقاع الدنيا.  كما أن صمود سورية الأسطوري أمام أعتى الهجمات الكونية الظالمة ما كان ليحصل لولا قوة وصلابة وسلامة جوهر العروبة والإسلام الحقيقي الذي تغلّب على التزييف التكفيري الإمبريالي.

كثيراً ما يروَّج لنا أنّ “الهيمنة الأمريكية واضحة للجميع ولكن حقيقة وواقع مشروع الإسلام السياسي هو الذي يجب أن ننتبه إليه”.  وهذا في اعتقادنا إمعانٌ في تغييب الخطر الإمبريالي عن الأنظار وإبعاد الشبهة من حوله أو صرف الأنظار عنه. فعندما نرى مندوب الأمم المتّحدة يصعد إلى الحافلة في حماة ويطلب من المسلّحين الذين أرادوا الصلح بأن لا يتصالحوا مع الدولة السورية! وعندما نرى مثلاً أن المجاميع المسلّحة في حلب تستعمل المواد السامة لقتل المدنيين وتطلب السلطات الروسية والسورية من المنظمة الأممية التحقيق في ذلك ويرفض الخبراء الأمميون حتى مجرّد التحقّق من الموضوع، نفهم بما لا يدع مجالاً للشّك مدى تورّط الولايات المتحدة الأمريكية وما يسمّى المجتمع الدولي في تحالفهم مع الجماعات الإرهابية، ولا تعليق على رفض الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، منذ أشهر قليلة، طلب قرار من مجلس الأمن لتصنيف حركتي أحرار الشام وجيش الإسلام حركتين إرهابيتين كانت تقدّمت به روسيا !!…

 

المختصر المفيد من هذه المقالة هو أنها دعوة لكل الوطنيين العرب والأحزاب السياسية العربية للخروج من حبال المؤامرات الإمبريالية والانتباه لما يدبّر ويخطَط ويحاك ضد أمتنا في دهاليز المخابرات الأمريكية والصهيونية، ولتجاوز خلافاتهم الفكرية والسياسية (ما لم تكن هذه الخلافات حول السيادة الوطنية والموقف من الخيانة) فالكل سيُزَجّ به إلى المهلكة الصهيو-أمريكية ولن ينقذنا إلّا بلورة وإنجاز مشروعنا القومي العربي. ونذكّر بما أسلفنا ذكره أعلاه بأنّ المعالجة الفكرية لمعتقدات الحركات التكفيرية يجب أن تتمّ داخليّاً بيننا، وهي مهمّة لتحصين شبابنا من حملات التضليل وغسل الأدمغة، ولكن الحلّ الأساسي يكمن في محاربة الإمبريالية التي تمتلك دوماً القدرة على استنباط وسائل تضليل مختلفة طالما لم ننتصرعليها بمشروعنا النهضوي الشامل.

 

 

حركات الإسلام السياسي كمنتج للحداثة الغربية

 

إبراهيم علوش

يقول روبرت درايفوس في الصفحة الأولى من الفصل الأول من كتابه “لعبة الشيطان: كيف ساعدت أمريكا على إطلاق العنان للإسلام الأصولي” (2005) أن جمال الدين الأفغاني التقى في لندن في العام 1885 بعددٍ من مسؤولي الخارجية والمخابرات البريطانية ليعرضَ عليهم الفكرة التالية: “هل يمكن أن تكون بريطانيا مهتمّة بتنظيم تحالف إسلامي ما بين مصر وتركيا وفارس وأفغانستان في مواجهة روسيا القيصرية؟” (ص. 19).   وينسب درايفوس قصة ذلك اللقاء، الذي يشكّل برأيه باكورة مبدأ التوظيف الاستراتيجي للإسلام السياسي من قبل الغرب، إلى كتاب بالإنكليزية صدر في نيويورك عام 1933 بعنوان “الإسلام والحداثة في مصر” لكاتبه سي. سي. آدامز.   وقد استندت استراتيجية تشكيل حاجز جغرافي-سياسي في مواجهة نزوع روسيا القيصرية للتمدد جنوباً، عماده الإسلام السياسي، إلى الصراع المستعر بين الإمبراطورية البريطانية والقيصرية الروسية آنذاك.

وبحسب درايفوس، فإن البريطانيين لم يتبنَّوا الفكرة مباشرة بحماسة، لكنهم لم يستبعدوها، وراحوا يختبرون صيغاً مختلفة من الإسلام السياسي على مدى عقود يمكن أن تحقق مشروع الحاجز الاستراتيجي، لا في مواجهة روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفياتي فحسب، بل في مواجهة حركات التحرر القومي والحركات اليسارية في الوطن العربي وفارس وتركيا وباكستان وغيرها، ويشكّل كتاب “لعبة الشيطان” محاولة لتوثيق تلك الاختبارات المتعاقبة، التي تولّاها الأمريكيون عن البريطانيين فيما بعد، والتي تمخّضَ عنها التيار التكفيري المعاصر بشكل خرج حتى عن سيطرة من سعَوا جاهدين لاستغلاله وتوظيفه في سياق مصالح الإمبريالية الجيوسياسية، وفي سياق محاربة حركات التحرر القومي على مدى القرن العشرين.

يتميز درايفوس في كتابه المذكور أعلاه بأنه حرص منذ البداية على التمييز بين موقفه من الإسلام كديانة، وكثقافة لشعوب عدة أمم، وبين موقفه من الإسلام السياسي كحركات ذات وظيفة سياسية نتجت عن عوامل حديثة ومعاصرة يرى بأنها غريبة عن روح المجتمع الإسلامي الأول، وأنها لم تصبح مهيمنة في الزمن المعاصر إلا لعوامل معاصرة، أحدها الدعم الذي تلقّاه من الغرب ضمن حسبة يرى درايفوس أنها كانت محكومة باعتبارات براغماتية قصيرة النظر، بمعنى أنها لم تحسب جيداً، كحسبة استراتيجية، مخاطر ارتداد ربيبها الغولي عليها.   وكما يقول درايفوس في مقدمة كتابه: “على عكس المعتقد الديني الذي يقف خلفه أربعة عشر قرناً من التاريخ، فإنّ الإسلام السياسي محصولٌ أحدث عهداً.  فهو معتقدٌ سياسي تعود أصوله لنهايات القرن التاسع عشر كفلسفة مكافِحة شمولية قد تبدو مبادؤها غريبةً أو مهرطِقة لمسلمي العصور السابقة، ولا تزال تبدو كذلك للكثير من المسلمين المثقفين اليوم.  وسواءٌ أسميناها الحركة الإسلامية أم الأصولية الإسلامية أم الإسلام السياسي، فإنها تبقى صنيعة مختلفةً تماماً عن التفسير الروحاني للحياة الإسلامية المتضمنة في أركان الإسلام الخمسة.  إنها، في الواقع، تحريفٌ للإيمان.  تلك هي الأيديولوجية المشوّهة التي شجّعتها الولايات المتحدة ودعمَتها ونظّمتها وموّلتها” (ص. 2-3).

قلنا أن درايفوس يبدأ من جمال الدين الأفغاني الذي نقلته سفينة بريطانية من الهند للسويس، حيث زار القاهرة ليسافرَ بعدها إلى تركيا ويعود منها إلى القاهرة ليبقى هناك برعاية رئيس وزرائها رياض باشا المعروف برجعيته وعدائه للحركة الوطنية المصرية الصاعدة.  وقد اتّخذ الأفغاني من محمد عبده مساعداً أو نائباً حلّ محله بعد مغادرته القاهرة في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، ليتابع العمل الذي بدأه الاثنان معاً في تأسيس حركة إسلام سياسي دولية.  وكان عبده مناهضاً للمقاومة ضد البريطانيين ولقادتها من أمثال عرابي باشا، وكان الاثنان قد تركا مصر ردحاً من الزمن ليعملا على تأسيس شبكة سياسية ذات شعار إسلامي في الهند والجزيرة العربية والشام ومصر والمغرب العربي.  وقد أقام الأفغاني في باريس فترة أصدرَ خلالها، بالتعاون مع عبده، أسبوعية “العروة الوثقى”.  وعندما انطلقت ثورة المهدي في السودان كتب الأفغاني ناصحاً البريطانيين في إحدى مقالاته: “أخاف، كما يفعل كل العقلاء، أن انتشار المهدية وتزايد مريديها سوف يضرّ بإنجلترا وكل من له حقوق في مصر”، مضيفاً في مقالة أخرى أن المهدية لا تمكن مواجهتها إلا بتحدٍ معاكس يستند للإسلام كمبدئه المنظم: “إنّ قوة الوعظ الإسلامي لا تمكن مقابلتها إلا بحزم إسلامي، ولا يستطيع إلا رجالٌ مسلمون أن يناضلوا ضدّ هذا المدّعي وأن يحجّموه إلى مكانته المناسبة” (ص. 29).

لكن البريطانيين لم يكونوا قد أخذوا الدعوة بجدية بعد…  غاضباً، يذهب الأفغاني إلى روسيا، ليعود بعدها بفترة إلى لندن بعد أن رضي.  أما عبده فذهب إلى تونس، ومنها ذهب متخفياً إلى عددٍ من الدول لتقوية التنظيم الذي كان قد بدأ بتأسيسه مع الأفغاني.  وفي نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر، تحوّل محمد عبده علناً لدعم البريطانيين في مصر، وألقى بأوراقه مع اللورد كرومر وإدارة الاحتلال البريطاني، وفي عام 1899، بعد عامين من وفاة الأفغاني، تم تعيينه مفتياً عاماً لمصر بدعم من كرومر.  وقد اتّخذ محمد عبده مساعداً أو نائباً أول يخلفه هو محمد رشيد رضا القادم من طرابلس.  واتخذ محمد رشيد رضا مساعداً أو نائباً بدوره هو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.

لكنّ تجربة الثلاثي (الأفغاني-عبده-رضا) في الطرح الفكري والتنظيم والعمل السياسي كانت مجرد مراحل اختبارية في بلورة المشروع الكبير الذي حقق قفزةً نوعيةً من خلال طفرتيْن حقيقيتين يرى درايفوس أنهما تفاعلتا على مدى عقود لتنتجا الحركة التكفيرية المعاصرة في القرن الواحد والعشرين: 1) تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية عام 1928، و2) سيطرة الحركة الوهابية، تحت عباءة آل سعود، على معظم شبه الجزيرة العربية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى.

بدأ الدعم البريطاني المنتظم لآل سعود في العام 1865.  وكانت الرياض قد سقطت بأيدي ابن سعود عام 1902، الذي كان قد أسس خلال تلك الفترة قوّاته الضاربة التي اجتاحت معظم شبه الجزيرة بعد ذلك والمعروفة باسم “الإخوان”.  وكان اللورد كرزون، حاكم الهند البريطاني، قد اقتطع محمية الكويت من البصرة عام 1899 وجعلها قاعدة بريطانية، ثم دعا ابن سعود والوهابيين إليه فانطلقوا منها لاكتساح شبه الجزيرة.  وكان ذلك العام هو عام شيوع أنباء جلوس شبه الجزيرة والخليج العربي على النفط، ليتحوّل مركز الثقل الاستراتيجي البريطاني تدريجياً من السويس والهند إلى دول الخليج العربي.  وقد وُقّعت أول معاهدة بين بريطانيا والسعودية في العام 1915، لتدخلَ الولايات المتحدة وتستولي سياسياً على السعودية من بريطانيا ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين.  والطريف أنّ مكتب القاهرة في التاج البريطاني تولّى العلاقة مع الشريف حسين والهاشميين، بحسب درايفوس، فيما تولّى مكتب الهند العلاقة مع آل سعود.

أما فكرة تأسيس مملكة سعودية فبغَرَض عدم تحوّل تلك الصحراء الشاسعة إلى مصدرٍ لعدم الاستقرار يهدد المصالح الإمبريالية، النفطية والاستراتيجية، في مثل تلك المنطقة الحيوية.  وكان الضابط البريطاني المكلّف بالعلاقة مع ابن سعود هو هاري فيلبي الذي كان يسلّمه 5000 جنيه استرليني شهرياً ابتداءً من شهر كانون الثاني 1917.   ويقول درايفوس اعتماداً على مصادر مختلفة أنّ حملة آل سعود والإخوان الوهابيين للسيطرة على شبه الجزيرة العربية، ضمن الحدود التي رسمتها بريطانيا لهم، جرّت في آثارها 400 ألف قتيل وجريح، و40 ألف إعدام على الطريقة الوهابية، و350 ألف حالة قطع للأيدي والأرجل.  وكان هذا ما ضَمِنَ لبريطانيا سلسلة ممتدة من الدول التابعة بين البحر المتوسط والهند.   ومع أن ابن سعود حلّ الإخوان في نهاية عشرينيات القرن العشرين، إلا أن الوهابية كمذهب ظلّت العقيدة الرسمية للدولة التي باتت قاعدة لنشر ذلك المذهب بعيداً خارج شبه الجزيرة والوطن العربي، إلا أن ذلك لم يؤذن بنشوء الإسلام السياسي بصبغته المعاصرة بعد، إنما منَحَه نكهته الدوغمائية وحاضنته الرسمية وحسّه الدموي وجذوره العقائدية، ولا نقول الفكرية، لأنّ الوهابية، حتى بأكثر المقاييس تساهلاً، لم تنتِج شيئاً يشبه الفكْر.

في مصر، رحّبت مجلة “المنارة” التي كان يصدرها محمد رشيد رضا بصعود الوهابية قائلةً “أنّ نجماً جديداً من الأمل ظهر مع صعود سلالة آل سعود الوهابية”!   ودأبت “المنارة” في الآن عينه على مهاجمة الوطنيين المصريين بذرائع شتى، منها “ابتعادهم عن الدين”، معتبرةً إياهم “ملحدين وكفاراً”، فيما أسهَمَ أتباع رشيد رضا وعبده بتأسيس “حزب الشعب” في مصر، بدعم من بريطانيا، وكان حزباً دعم الاحتلال البريطاني لمصر علناً.  وقد كان والد حسن البنّا تلميذاً عند محمد عبده، وكان البنّا يقرأ “المنارة” بنَهَمّ.  وقد قال في سيرته الذاتية عن محمد رشيد رضا بأنه كان أحد أعظم التأثيرات في خدمة الإسلام في مصر.   وقد كان البنّا تلميذ رشيد رضا الأبرز، وعندما تلقّى دعماً مالياً بريطانياً لتأسيس مسجد أصبح قاعدة لعمله السياسي والدعوي في الإسماعيلية في نهاية عشرينيات القرن العشرين، كانت الإسماعيلية مركزاً ليس فقط لقاعدة عسكرية بريطانية، بل لمكاتب شركة قناة السويس، ولنزعة تأييد بريطانيا في مصر.

وعندما كانت حركة الاستقلال المصرية تنادي برحيل الاحتلال البريطاني وبدستور ينظّم الحياة السياسية في البلاد، كان الرد الديماغوجي لحركة الإسلام السياسي هو: “القرآن دستورنا”!  مما برح جزءاً من الهتاف الإخواني حتى اليوم…  وقد وصف حسن البنّا دعوة الإخوان المسلمين بأنها “دعوة سلفية، وطريقة سنّية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”، أما عملية وهْبَنة التنظيم والبرنامج الإخواني وتلاقحهما، فكان عليها أن تنتظر سيد قطب وأباالأعلى المودودي في باكستان.   فهنالك اجتمعت العناصر المتفجّرة التي انفلتت من رحمها جذوة الحركات التكفيرية المعاصرة فعلياً.

لكن جماعة الإخوان المسلمين كانت، حتى قبل الوصول إلى تلك النقطة الوهابية، عاملاً من عوامل استقرار النظام الملكي في العشرين عاماً التي سبقت ثورة 23 يوليو في مصر، كما كانت من أهم عوامل كبح جماح الوطنيين واليسار.  وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، بدأت حملة مكافحة الشيوعية وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، فتلقّى الإخوان دعماً مالياً من النظام الملكي، وفُتحت لهم معسكرات التدريب  برعايته، أي بموافقة بريطانيا.  وعندما بدأ توازن النظام الملكي يختلّ، بعد احتلال فلسطين مباشرة، توترت علاقتهم معه.  لكن حسن البنا ظلّ على تواصل منتظم مع السفارة البريطانية، ومن ثم الأمريكية، في مصر.

بعد ثورة 23 يوليو، تحوّل الإخوان إلى أداة مباشرة بيد النظام السعودي الذي كان يدعمهم قبلها، وبيد الغرب، لمحاربة عبد الناصر والناصرية حرباً شعواء بكل المقاييس.  واللافت للنظر أن سعيد رمضان، صهر حسن البنا، ومسؤول القسم الخارجي في جماعة الإخوان، تمّ استقباله في البيت الأبيض في نهاية صيف عام 1953 من قِبل الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، بناءً على توصية من السفارة الأمريكية في القاهرة، مع أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن قد دخل في صراع مفتوح مع الأمريكيين وقتها، ولم يكن قد كشف لهم أوراقه بعد.  وكان سعيد رمضان في السابعة والعشرين من عمره في ذلك الوقت، وقد دُعيَ للمشاركة في ندوة عن الثقافة الإسلامية في جامعة برينستون نظّمتها، في الحقيقة، وكالة المعلومات الأمريكية، مع زيارة جانبية خاصة لواشنطن.   ويعتبر سعيد رمضان المنظّم الرئيسي لفروع الإخوان المسلمين خارج مصر، وقد انتقل إلى باكستان فترةً بعد بدء الصراع بين الإخوان وعبد الناصر، حيث تمّ ترتيب بَثّ خُطَب له عبر المذياع لمصر والدول العربية مرتين أسبوعياً، وقد استقرّ رمضان في سويسرا في النهاية، وقد أشرف في البداية على تأسيس فروع الإخوان في الأردن وسورية والكويت وغيرها.

تلاقُحْ نمط التنظيم الدولي الإخواني مع النزعة الوهابية الدموية الشاملة، وتأصيلها فكرياً عبر سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، أنتَجَ المنظومة التي تناسلت منها حركات إسلام سياسي أكثر فأكثر تشدداً وصولاً للحركات التكفيرية الراهنة.  والبقية ليست إلا تاريخاً معاصراً.  ومحور تلك المنظومة هو بالضبط محاربة الحداثة، بكل أشكالها، ولهذا وجدت فيها الدول الإمبريالية أداة قابلة للتوظيف في مواجهة الحركات القومية واليسارية قبل الحرب الباردة وخلالها، فهي بشكلٍ من الأشكال إحدى منتجات الحداثة الغربية.  وقد عملت تلك الدول الإمبريالية بشكل حثيث، بالتعاون مع الأنظمة الرجعية العربية، وعلى رأسها مملكة آل سعود، على نفخ الحياة في تلك الحركات كأدوات وظيفية.  لكن للأيديولوجيا حياة خاصة بها، مستقلة عمّن أسهَمَ بإنتاجها.  ولهذا نرى السحر يرتدّ على الساحر، أحياناً بصيغة إرهاب أو وحشية موجهة ضد الغرب والغربيين، لكن العبء الأكبر للتكفير حمَلَه الشعب العربي تاريخياً، وشعوب المنطقة، وحركات التحرر والنهضة في الدول الإسلامية، وبدرجة أقل، الاتحاد السوفياتي، خصوصاً في حرب أفغانستان التي مثّلت نقطة الانقلاب في ارتقاء الحالة التكفيرية إلى الشكل الفرانكشتيني الذي عرفناه في القرن الواحد والعشرين.

وإذا كانت النظريات التي تتحدث عن “حروب الجيل الرابع”، بصفتها حروباً غير مباشرة تستخدم أدوات سياسية واجتماعية وفكرية وإعلامية واستخبارية، إلى جانب الأدوات العسكرية، في استنزاف الخصم إلى درجة الشلل، تعتبرها من مميزات حروب الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين ضد الدول المستقلة، فإن دور بريطانيا خصوصاً في تنمية الحالة الوهابية ودعمها، وحركات الإسلام السياسي، منذ احتلالها لمصر بالذات، كترياق ضد النزعة القومية العربية تحديداً، لإجهاضها في المهد، هو في الواقع أحد أقدم أشكال استخدام حروب الجيل الرابع في العصر الحديث.   وقد كان يمكن لحياتنا السياسية العربية أن تذهب باتجاه آخر مختلف تماماً عن اتجاه الأسلمة الذي ذهبت إليه، كما كان واضحاً خلال الخمسينيات والستينيات مثلاً.  ويشكّل استخدام حركات الإسلام السياسي ضدّ ليبيا من قبل الناتو في العام 2011 وضدّ سورية حتى اليوم، مجرد تطوير لتجربة تاريخية عريقة اكتسبتها الإمبريالية في إجهاض حركات النهضة والتحرر القومييّن لدى الشعوب.  وبمقدار ما تتجدد الحاجة الإمبريالية لتطويق روسيا بحزام إسلاموي، وبمقدار ما تبقى الحاجة لتدمير الدول ذات النزعة القومية المستقلة من الداخل، وللحفاظ على التوازن الداخلي في الأنظمة الرجعية من خلال ثنائية العرش-الإخوان، كما في المغرب والأردن مثلاً، فإنّ الحاجة لضخّ الحياة في النزعة الإسلاموية وتوظيفها في الواقع السياسي العربي تبقى قائمة، مع محاولة احتواء أعتى أشكال ارتداداتها ضد الغرب والغربيين بين الفينة والأخرى.  أما الحركات إسلامية الخطاب التي تتخذ منحىً وطنياً أو قومياً أو تحررياً، كما حركة المهدي في السودان مثلاً في القرن التاسع عشر، أو حركات عمر المختار وعبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي، فلها حسبة أخرى طبعاً، لأنها تعد من حركات التحرر الوطني والقومي فعلياً.

الصفحة الثقافية:

ضحايا التكفير من المبدعين العرب

طالب جميل

من البديهي أن يكون العدو الأول لأصحاب الفكر التكفيري بشكل عام هم المفكّرون وأصحاب الفكر التنويري والفلاسفة والأدباء والفنانون، لأنّ حملة هذا الفكر المتطرف لا يؤمنون أصلاً بمبدأ الحوار ولا يتقبلون الرأي الآخر، ولا يعتبرون العلم مرجعية أو أرضية للنقاش، فقد دخلوا في مواجهات كثيرة مع مثقفين وفلاسفة وأصحاب فكرٍ تنويريٍ أو تقدمي، ولم تؤدِّ تلك المواجهات إلا إلى القتل والنفي والمصادرة.

إنّ ظاهرة التكفير ليست جديدة، فتاريخنا العربي والإسلامي حافلٌ بالفتاوى التي كفّرت وأباحت سفْك الدماء ضدّ كثيرٍ من أصحاب الفكر والمبدعين وعبر مختلف العصور، ولا تزال قائمة حتى يومنا هذا وقد ذهب ضحيتها كثيرٌ من المبدعين، وصودرت وأحرقت كثيرٌ من المراجع والكتب والمدوّنات التي لو بقيت لساهمت في إثراء البشرية بالعلم والمعرفة.

ويبدو أن فتوى الخوارج بتكفير علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ومن وقف معهما من الصحابة في صراعهما قد فتحت شهية من جاء بعدهم ليكفّروا كل من خالفهم الرأي أو جاء برأي يتعارض مع ما ألِفوه أو لا يتوافق مع مصالحهم أو يخالف خطابهم لسبب أو لآخر.

ومن اللافت للنظر أن قيام بعض السلاطين والخلفاء بمعاقبة بعض أصحاب الفكر من المثقّفين والعلماء والفلاسفة والمبدعين كان يستند بالضرورة إلى فتوى من رجال الدين، وهذا النهج لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، فما زالت دور الإفتاء الرسمية هي التي تعطي الشرعية للحاكم بتكفير كاتب أو مثقف وبالتالي معاقبته.

على هذا النهج قُتل غيلان الدمشقي بأمرٍ من الخليفة هشام بن عبد الملك تنفيذاً لفتوى الإمام الأوزاعي؛ أما ابن المقفع فاتُّهم بالزندقة وتمّ تقطيع جسده وأُجبر على أكله مشوياً حتى مات ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره، وذلك لمجرد كتابة رسالةٍ قدّم فيها رؤيته للإصلاح؛ والحلّاج الشاعر المتصوّف تمّ تكفيره وصلبه وقتله بطريقة سادية تنمّ عن عقلية مريضة؛ أما أبو حيّان التوحيدي صاحب كتاب (الإمتاع والمؤانسة) فقام بإحراق كتبه نتيجةً للإحباط بعد اتّهامه بالزندقة والإلحاد.

وقد تعرّض أيضاً نخبةٌ من العلماء والفلاسفة الذين أضافوا للحضارة العربية كثيراً من العلم والمعرفة والإنجازات العلمية للتكفير.  فالذي حرّض على قتل الطبري، والذي حبس أبا العلاء المعري، ونفى ابن المنمر، هو نفسه الذي كفّر الفارابي والرازي وابن سينا والكندي وابن الفارض وابن عربي وقتل السهروردي وذبح الجعد بن درهم وعلَق رأس أحمد بن نصر ودار به في الأزقة وخنق لسان الدين بن الخطيب وحرق جثته، لأن تلك العقلية لا تستهويها الحياة بقدر ما تستهويها صناعة الموت.

أما ابن رشد الذي يُعتَبر أفضل فيلسوف أنتجته الحضارة العربية الإسلامية فحكايته لا تختلف كثيراً عن سابقيه، فقد اتُّهم من قِبل شيوخ الفقه بالأندلس في عهد ملوك الطوائف بالكفر والإلحاد، وحُرقت جميع مؤلفاته الفلسفية ومُنِع من الاشتغال بالفلسفة ثم أُبعِد من الأندلس إلى مراكش وتوفي بها غريباً.

هنا يجب التنويه إلى أنّ الأحكام التكفيرية التعسفية ذات النزعة الإجرامية التي صدرت في تلك الحقب من التاريخ العربي الإسلامي كانت تتطابق من حيث الشكل والمضمون مع قرارات محاكم التفتيش في أوروبا التي كفّرت غاليلو ونيوتن وديكارت وفولتير وغيرهم من رجال العلم والفلسفة الذين كانوا ضحية للتكفير.

لم يتوقف التكفيرعند تلك العصور واستمرّ حتى يومنا هذا يلتهم المبدعين وأصحاب الفكر التنويري والفلاسفة والمشتغلين بالعلم بنفس التهم التي تتمحور حول الإلحاد والزندقة والخروج عن الدين، وظلّ القلم يُعاقَب بالسلاح، والرأي يُعاقَب بالسجن، واستخدام العقل والمنطق يُعاقَب بالنفي.

لذلك اضطر كثير من المبدعين العرب لدفع ثمن باهظ مقابل إنتاجاتهم الإبداعية والفكرية التي لا تتوافق مع آراء أصحاب النهج التكفيري. فالكاتب والقاضي المصري علي عبد الرزاق صدرت ضده فتوى بالكفر والردة بسبب كتابه (الإسلام وأصول الحكم) في العام 1925، والمفكّر فرج فودة اغتيل من قبل منظمة متطرفة ووصف بالمرتد، أما طه حسين فتمّ تكفيره بفتوى رسمية بسبب ما ورد في كتابه (في الشعر الجاهلي)، أما الباحث الأكاديمي نصر حامد أبو زيد فتمّ اتهامه بالردة والإلحاد والتفريق بينه وبين زوجته قسراً بحجة أن المرأة المسلمة لا يجوز لها الزواج من غير المسلم مما اضطره للعيش بالمنفى.

المفكر والفيلسوف اللبناني حسين مروة صاحب كتاب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) اغتيل ايضاً عام 1987، ومُنعت رواية (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر بحجة إساءتها للإسلام، كما لم يسلَم بعض الشعراء والمفكرين الآخرين مثل نزار قباني، علي الوردي، محمد عابد الجابري، علي شريعتي، بدر شاكر السياب، محمد أركون وغيرهم من تهمة الكفر والردة.

أما آخر الضحايا فكان الكاتب والباحث اليساري الأردني ناهض حتر والذي تمّ إطلاق النار عليه أمام محكمة قصر العدل في عمان أثناء قدومه لحضور جلسة على خلفية إعادة نشر كاريكاتير يسخر من بعض الجماعات الإرهابية على صفحته في أحد مواقع التواصل الاجتماعي مما أثار جدلاً واسعاً واعتبر مسّاً للذات الإلهية.

يبدو أن معركة السيف والقلم ستظل قائمة إلى أجلٍ غير مسمّى في بلادنا، فيما تتواصل فتاوى التكفير بشكل مستمر ضد المثقفين والمفكرين والأدباء، خصوصاً في عصر سيطرة أتباع المدّ الوهابي المتأهبين دوماً لتكفير وإدانة إي ظاهرة ثقافية تتعارض مع منهج الخرافة والشعوذة، خصوصاً أن أغلب تلك الفتاوى تخدم مصالح سياسية لأنظمة وجماعات وتيارات موجودة لخدمة مصالح أعداء الأمة والكيان الصهيوني.  لذلك يتم تجنب تكفير كثير من المطبّعين والمهرولين باتجاه الكيان الصهيوني من كتّاب ومثقفين وفنانين، وهذا مؤشر حقيقي على أن هذه الموجة موجّهة ومدروسة وتصبّ في مصلحة خندق العمالة والتخاذل والتفريط والتآمر على الأمة العربية.

شخصية العدد:

 

محمد البوطي: شهيد الدين والإخلاص للوطن

نسرين الصغير

ولد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي عام 1929، وتوفي على يد الغدر في سورية قلب العروبة النابض عام 2013.  ولد البوطي في قرية جيلكا التابعة لجزيرة بوطان في تركيا، وكان والده الشيخ المتصوف متخصصاً في العلوم الإسلامية،وقد هاجر الشيخ البوطي لدمشق وهو في الرابعة من عمره.  تأثره بوالده معلمه الأول جعله يحفظ ألفية ابن مالك في النحو بأقل من عام، تزوج وهو ابنالثمانية عشر عاماً وله من الأولاد ستة أولاد وبنت.

بدأ رحلته العلمية وهو ابن السادسة على يد إمرأة فاضلة كانت تعلمه القرآن، وكان البوطي الطفل مثابراً حيث ختم القرآن في ستة أشهر، وانتقل إلى المدرسة الابتدائيةالتي تقع قرب سوق ساروجة في دمشق،فتعلم فيها الدين ومبادئ اللغة العربية والرياضيات، واستمر بتلقيه التعليم النظامي والديني في مدارس دمشق، حيث انَهى دراسته الثانوية في معهد التوجيه الإسلامي في دمشق أيضاً، وفي عام 1953 انتقل للدراسة في الأزهر في مصر في كلية الشريعة وبقي فيها حتىحصل على شهادة عالمية عام 1955، كما نال الدبلوم في التربية في نهاية العام نفسه.

انتقل البوطي بعدها للمرحلة العملية فبدأ مُعيداً في كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1960 وأوفدته الجامعة بعدها مجدداً لجامعة الأزهر في مصر للحصول على شهادة الدكتوراة في أصول الشريعة الإسلامية وحصل عليها عام 1965، وعاد لدمشق وعين مدرساً في كلية الشريعة في نفس العام ثم وكيلاً لها، ثم عميداً.

لم يكتفِبالتدريس الأكاديمي، فبدأ بإلقاء المحاضرات الدينية في مساجد دمشق ومحافظات سورية، وكانت محاضراته تستهدف جميع الفئات العمرية ومن النساء والرجال.

اشترك باستمرار في المؤتمرات والندوات العالمية، فهو يعد عالماً وباحثاً في الفقه والشريعة الإسلامية ويعتبر واجهةً للدين الإسلامي في كل بقاع الأرض.  كتب في عددٍ من الصحف والمجلات في القضايا الإسلامية المستجدة، وله برامج تلفزيونية مختلفة وحلقات مسجلة في أكثر من محطة،بالإضافة للبرامج الإذاعية، وله أكثر من ستين كتاباً.

أما المجامع والمجالس التي كان عضواً فيها، فهي:

  • المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في عمّان.
  • المجلس الأعلى لأكاديمية أكسفورد.
  • المجلس الاستشاري الأعلى لمؤسسة طابة بأبوظبي.
  • نال البوطي لقب شخصية العالم الإسلامي في الدورة الـ 18 لجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم.

البوطي مسلم العقيدة عربيّ الهوى، كان شيخاً وعالماً بالدين، لكنه لم يكن متعصباً،بل كان يحذر دائماً من خطر الفكر التكفيري، وكان مثالاً لقول الله تعالى: “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”، لذلك جذب عدداً من الشباب لحضور ندواته ومحاضراته وحوارياته التي كانت تقربهم من الإسلام الحقيقي. كانت كتبه التي يصدرها تثير الجدل وخصوصاً عند المتشددين في الدين والذين نسميهم اليوم بالتكفيرين، فعند إصداره لكتاب “الجهاد في الإسلام” خرج الكثير ليعارضه وكان مضمون الكتاب عدم جواز الخروج عن الحاكم الذي يعمل لمصلحة الوطن والدين وقد صدر هذا الكتاب عام 1993.

كان يتميز البوطي بهدوئه وقوة حجته في آنٍ واحد، وموضوعيته ومنهجيته، يناقش جميع الاحتمالات والأفكار من دون تحيز أو تأثر برأي مسبق، ويعتبر من المهتمين بالعقائد والفلسفات المادية، وكانت رسالته في الدكتوراة في نقد المادية الجدلية.تميز بدفاعه العنيد عن الفقه الإسلامي المذهبي التقليدي والعقيدة الأشعريةفي وجه الآراء السلفية، وله كتبٌ في ذلك. لم يكن على وفاق مع جماعة الإخوان المسلمين في سورية أو مع جماعة الإخوان المسلمين العالمية، كان صريحاً في موقفه منهم وكان يوجه لهم نقده دائماً على أسلوبهم وطريقتهم في استخدام الدين نابذاً توجهاتهم السياسية والعنف الذي يمارسونه فقط في بلاد المسلمين، وهو سبب ظهور كتابه الذي ذكرناه سابقاً “الجهاد في الإسلام”الذي عارضته جماعة الإخوان المسلمين.

كانت علاقته معأركان ورجالات الدولةالسورية متميزة وقوية حيث دعم سياسات الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكان للبوطي دورٌ مهمٌ وتأثيرٌكبيرٌفي المحافظة على سورية الوطن وربط الدين بحب الأرض وتراب الوطن، وقد لعب دوراً مهماً في سياسة سورية في دعمها لحركات المقاومة المسلحة.

لم تكن كتبه سهلة القراءة بل كانت صعبة على البسطاء والعوام الذين يقرأون الكتبمن دون أن يستمعوا للبوطي ليعرفوا أسلوبه وطريقته في الحوار والنقاش وإثباته للحجج.

كان دائمالتلقي للانتقاد، رغم أنهذلك العلامة الذي كان الشباب ينتظر دروسه وندواته لكسب العلم منه،فبعد أن كانت المساجد شبه خاوية، أصبحت تعم بالشباب الذي ينتظر أن يطل عليهم ذلك الشيخ الطيب، العالم القريب من كل الفئات العمرية.  كانت كلمته كالرصاصة تخرج من فمه لتستقر في عقول الشباب وخصوصاً بعد المؤامرة الكبرى على سورية قلب العروبة النابض، فدعى الشباب لحمل السلاح والوقوف بصفٍ واحد مع القيادة السورية والجيش العربي السوري، رافضاً ما سُميّ زوراً بالحراك الشعبي في سورية.  لم ينجر البوطي لخرافات الدين والحرية، كما انجرت معظم الأحزاب السياسية الدينية التي كان  بعضها معدوداً على محور المقاومة كحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي كان يدعو البوطي الدولة السورية لدعمها دوماً للوقوف في وجه الكيان الصهيوني،ففلسطين كانت قبلته دائماً، والكيان الصهيوني وحلفاؤه هم العدو الواضح والصريح.دعا دوماً لعدم استخدام المساجد واستغلالها لاثارة الفتن والفوضى في سورية ووصف المظاهرات ضد الدولة السورية بأنها “باتت تؤدي أخطر أنواع المحرمات”.انتقد القرضاوي وقال أنه اختار الطريقة الغوغائية التي لا تصلح الفساد وإنما تفتح أبواب الفتنة، وصرح دائماً أن الدولة السورية تواجه مؤامرة خارجية تقودها “إسرائيل”.  لم يتردد بدعم الجيش العربي السوري الدعم المطلق من دونأي ضبابية في الحديث، رغم هذا إلا أنه في أكثر من مرة صرح برفضه لقتل النفوس حتى لو كان ذلك جبراً.  وصفه التكفيريونبأنه من فئة علماء السلطان وقام المتظاهرون في سورية بحرق كتبه، واتهمه البعض بالخوف من النظام لأنه يهدده،وبالطبعفإنهذه الحجة باطلة، لأن البوطي كان بإمكانه أن يفعل كما فعل بعض المرتزقة،أي أن يخرج من سورية ويتلقى بدل ذلك أموالاً طائلة كما فعل غيره، لكن غيرته على وطنه وحبه له ووقوفه مع وطنه وقفة حقيقية نابعة من عقائدية البوطي لم تدعه يفعل هذا أبداً.

التكفيريونالذين حاربوا البوطي بكل الطرق لم يبقَ لهم إلا الطريقة التي اعتادوا عليها وهي القتل والاغتيال.  ففي يوم 21 آذار وخلال درس للشهيد الشيخ البوطي في جامع الإيمان في حي المزرعة بدمشق، خرج من بين الصفوف انتحاري لا ليفجر نفسه في الكيان الصهيوني، بل ليفجر نفسه في جامع الإيمان الذي كان الشيخ البوطي يلقي فيه درساً بعد صلاة العشاء كان يستمع إليه شباب وفتية. راح ضحية هذا العمل الإرهابي التكفيري الشيخ الجليل العلامة الشهيد محمد سعيد البوطي ومعه 42 شهيداً ومن ضمنهم حفيد الشيخ البوطي الذي أبى إلا أن يرتقي مع جده، وجرح 84 من حاضري الدرسفي الجامع.  وقع الانفجاربالقرب من منبره الذي كان يلقي منه الدرس ضد الفكر الظلامي والتكفيري ولم يكن يعلم أنه سيكون أحد ضحايا هذا الفكر وشهدائه.  خرجت “المعارضة” واستنكرت الحادث وقالت أنه كان يجب قتله بإطلاق النار عليه لا بتفجير المسجد.  استشهد البوطي ومصحفه معه وكانت أثار دمائهعليه. ذكر بعض التكفيرين أن الشيخ القرضاوي حرض على قتل البوطي وذلك عندما قال بإحدى تصريحاته: “يجب قتل جميع من يعملون مع السلطة من عسكريين ومدنيين وعلماء دين” فيما نفى القرضاوي هذا الكلام.

شُيّع الشهيد البوطي يوم السبت الموافق 23 آذار 2013 من الجامع الأموي، ودفن بجانب قبر صلاح الدين المحاذي لقلعة دمشق قرب المسجد الأمويوأعلنت سورية يومها حداداً رسمياً عليه وعلى من استشهد معه.

مثّل البوطي الإسلام الذي يرفع العرب والمسلمين وأهل البلاد، وبالضرورة لن يتماهى هذا الإسلام الحق مع الأمريكان والبريطان والناتو، بل سيتعارض معهم، ومع أدواتهم بالمنطقة، لذلك نرى أن الوهابية ترى في البوطي أحد أكبر أعدائهاإذ يقول عبدالرحمن السديس (إمام وخطيب) المسجد الحرام في مكة المكرمة -بعد استشهاد البوطي- أن محمد سعيد البوطي“من أئمة البدع والضلال وبموته يخف الشر”. إن المعركة التي يخوضها الجيش العربي السوري، بأحد أهم أبعادها، هي معركة الحضارة ضد الظلامية، معركة التقدم ضد جمود المجتمع وركوعه لصالح أعداء الأمة، معركة الإسلام المتنور الذي يخدم أهل الشرق كله- بل والعالم كله أيضاً- مع (الإسلام) الوهابي الذي لا يخدم إلا أعداء الأمة، مع كل ما تمارسه هذه الوهابية من شراسة، وحرق لكل أدوات الحضارة وآثارها، ومحاولة طمس كل ما يتعارض مع هذه الغمامة السوداء الثقيلة. . رحم الله الشهيد الشيخ محمد سعيد البوطي، فقد كان أحد عناوين الصراع، وقد أثبت استشهاده أن معركة النصر قادمة لا محالة لتطال الوطن السوري، بل الوطن العربي كله.

ما جرى مجرى التكفير

نور شبيطة

في مصر يسمى الحقل كَفْراً، وثمة تسميات مشابهة لهذه التسمية في بلدان عربية أخرى، ومنها كُفر في فلسطين، وهذه التسمية فصيحة على عكس ما يظنه الناس، فالجذر كفر يعني غطى، والكافر هو من يغطي البذور، وقد نطق به القرآن عندما قال: (أعجب الكفار نباته) أو على الأقل هكذا فهمها المفسرون، فقالوا: الكفار هم الزراع. والحقيقة أن المعنى يمكن أن يحمل على غير محمل، لكن الذي نريده من هذا كله أن الكفر هو التغطية، وقد نقلت الكلمة إلى لغات أخرى، منها الإنكليزية فكانت كلمة كڤر المشهورة.

الكلمة لم تبقَ على معناها المتصلّ بجذرها، ولأنها استخدمت قرآنياً نقيضاً للإيمان، فقد حُمِّلت معنى دينياً، فبدأت تنتقل في المعاني وتنزاح لتطابق نقيض الإيمان، إذ إن كلمة الإيمان ذاتها انزاحت كثيراً عن معناها، ولكي ندرك المعنى القرآني للجذر كفر، لابد لنا من الإحاطة بمعنى الفعل آمن، والفعل أسلم، فالقرآن يضع الكفر نقيضاً للإيمان والإسلام.

المعاني الحديثة لهذه الكلمات (الكفر، الإيمان، الإسلام) هي معانٍ اصطلاحية مستمدة من كتب التفسير والفقه، وهي كتب متأخرة النشأة، وليست حُكماً على فهم القرآن، بل إنها لا تباري شعر المجون والخمريات الجاهلي، فهو حكم على لغة القرآن أكثر منها، بل وإن هذه الكتب لا تحمل قيمة لغوية حقيقية في هذا المجال.

البحث في معاني هذه الكلمات عند العرب إبان بعثة محمد يوصلنا للآتي:

الإسلام: هو كفّ الإنسان أذاه عن الناس، وقد نطق به الحديث الشهير “المسلم من سَلِم الناس من لسانه ويده”، وقد ورد في الرواية عن رسائل محمد “أسلم تسلم”، ولا يمكن تحميل الكلمة في الاستعمالين أي حمولة عقدية، حول التصديق بالغيب أو ممارسة الشعائر، فكيف برسول أن يطالب ملكاً بالتصديق بشيء أو يحاربه، على الأقل دون أن يرافقها شرح للفكرة التي يراد التصديق بها.

الإيمان: هو كفّ الإنسان أذى غيره عن آخرين هم قومه، وقد نطق به الحديث الشهير “المؤمن من أمِنه الناس، لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه”، فالمؤمن هو من يعاهد قومه على حفظ الأمن، أو يحفظ أمنهم، وقد نطق به القرآن أيضاً(وآمنهم من خوف)، ومنه اسم الله (المؤمن)، وقد اختلط فعل الإيمان على الناس بالحمولة العقدية بسبب إلحاقه قرآنياً أحياناً بلاحقة (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، فعدَّه الفقهاء بمعنى التصديق، والحقيقة أن القرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله…) وهذا يظهر أن الباء هنا بمعنى “من أجل”، أي اجعلوا ميثاقكم على الأمن الذي تواثقتم عليه من أجل الله، أو اجعلوا قسمكم هذا قسماً بالله.

بعد أن عرفنا أن الإسلام والإيمان لا علاقة لهما بالحمولة العقدية، ولا يعنيان التصديق، أو لم يكونا يعنيان ذلك وقت البعثة، فمن المنطقي أن نسأل عن معنى الكفر في ظل هذا، وكيف تكون مفردة من جذر يحمل معنى التغطية نقيضاً للإيمان، فهم قد برروا من قبل تضاده قرآنياً مع الإيمان حين فهموا الإيمان بمعنى التصديق، بكون الإنكار تغطية للحق ورفضاً له، وقبلوا هذا التبرير على علّاته وضعفه الواضح، فما معنى الكفر إذًا؟

الكفر قرآنياً هو نقض ميثاق الإيمان، فهو ألّا تؤمن الناس بالله أو بأي ميثاق غليظ، فهو إنكار للميثاق بعد عقده، وهو طغيان على الناس، تحاول فيه أن تكفرهم، أي تغطيهم وتعلو على إرادتهم، فالحكم الظالم كفر من هذا الباب، ولذلك قال القرآن عمّن لم يحكم بإرادة الله: (فؤلائك هم الكافرون)، والله هو الرمز الجامع للعرب، فمن استبدّ وطغى على الناس فقد كفرهم حقهم، ومن خان قومه وتعاون مع عدوهم فقد كفر ونقض ميثاق الأمن بينه وبينهم، ومن أعلى رمز قبيلته أو فئته على رمز الجماعة فقد كفر.

وهكذا نرى، من منظور حداثي يقارب مقاصد القرآن لا ألفاظه حسبُ، أن خيانة الوطن كفر، وأن الطغيان على المواطنين كفر، وأن ترويع الآمنين كفر، ولهذا أبيح دم الكافر إسلامياً، بينما أمر القرآن الرسول أن يدع المنكرين لحسابهم في اليوم الآخر، فما يعتقده الإنسان عن الغيب يخصّه وحده، ولا يخصّ أحداً سواه.

أما سؤال المقالة فهو يدور حول التكفير، وهو الحكم على أحدهم بالكفر، مما يبيح دمه، وهذا متعلق بسلوكه المضرّ بأمن الناس، ويشترط لذلك أن يكون خالف عقداً اجتماعياً واضحاً، فالتكفير اليوم بمعناه القديم غير متاح إلا في حالة خيانة إنسان لوطنه، وهذه الخيانة لها عقوبتها الرادعة في دول العالم كلها.

لكن ما يزال في وطننا العربي الكبير، وفي الدول الإسلامية، وفي العالم طراً، من يحمل الكفر على معناه الفقهي، ويستبيح دم من يخالفه في اعتقاده عن الغيب، وهذا يصفه الناس بالتطرف، لكن ثمة من يتقاطع معه في فهمه للكفر، بكونه إنكاراً لمعتقده، لكنه لا يبيح الدماء، مستعيناً بالآيات والمرويّات، التي تؤكد على أن التصديق أ‏مرٌ إرادي فردي لا سبيل لفرضه على أحد، ولأن هذه المقاربة تَعِدُ بسلام أهلي ما، وتتواءم مع الطرح الليبرالي الغربي الذي يسود عالم اليوم، فهي تجد طريقها لقلوب الناس على أنها معلولة في جانب فهمها للإسلام.

وإن التكفير له صورته الحديثة أيضاً، فالتخوين الذي يمارسه عددٌ كبيرٌ من المشتغلين بالسياسة، وحمَلة الهمّ العام، يعدّ فرعاً عن التكفير بمعناه الأصيل، وأكبر مظاهره هو مهاجمة الدهماء المرتهنين للإعلام البترو-دولاري لكل من لم ينجرّ خلفهم في دعوى “ثورات الربيع العربي” المزعومة، أو لم يؤيد حركات “الإسلام السياسي” الإرهابية.

يبقى أن سلوك التكفير أو التخوين، كفعل أو كردَّة فعل، شاعَ كثيراً، فقلة من الأحزاب تنظر لضحايا التضليل من أبناء الوطن العربي بوصفهم مجرد مواطنين مضلَّلين، يجب توعيتهم بالحسنى، والنظر إليهم بإشفاق والغيرة على مصالحهم، وهؤلاء يحصدون ثمار ما زرعوه من خطاب جامع لجماهيرهم كالتفافٍ عقائدي حولهم من المواطنين، ونرى بالمقابل من ينكص إلى معجم السلفية الإسلامية والمسيحية في كل خذلان يواجهه، فهو على بعد خطوة أو أقل من أن يكون تكفيرياً، وهذه الخطوة هي العقلانية، فإن فقد العقلانية وابتعد عن النقد الذاتي، ورمى كل خذلان على شماعة التخوين، فهو قد بات سلفياً وإن لعن السلفية ليل نهار، وإن بذل الدم ضدها.

 

بين الإرهاب والإسلام

عبدالناصر بدروشي

اختلف الدارسون للظواهر الاجتماعية والمفكرون والمهتمّون بالشأن العام حول منبت الإرهاب الذي استشرى كالطاعون، ليس فقط في وطننا العربي وإنما في مشارق الأرض ومغاربها، منهم من ذهب إلى القول بأنّ الإسلام بريء من الإرهاب والتكفير وأن الظواهر المتطرفة التي نراها اليوم ليست من الإسلام في شيء، ومنهم من يرى بأن الإسلام دينٌ دمويٌ بطبعه وأنّ الساعين إلى دفع تهمة الإرهاب عن الإسلام إنما يحاولون تغطية عين الشمس بالغربال كما يُقال عندنا.

بعد مرور ما يزيد عن خمس سنوات متلحّفة بالسواد، مخضبّة بحمرة دماء شعبنا منذ اندلاع أحداث ما يسمى بالربيع العربي، كما يحلو للبعض تسميته، وبعد كل ما رأيناه من أهوال ومشاهد غاية في الدموية واللاإنسانية تقشعر لها الأبدان وتشيب لها الولدان من حركات الإسلام السياسي بكل تفريعاتها من داعش ونصرة وإخوان وأكناف بيت المقدس إلخ …، آنَ الأوان لتشريح ظاهرة التكفير والإرهاب تشريحاً موضوعياً دقيقاً بعيداً عن التحامل والتشنج العاطفي لفهم هذه الظاهرة، ومحاولة معالجتها معالجةً جذريةً أو طرحِ رؤىً عمليةً لحلٍ جذريٍ على الأقل تنطلق من أرض الواقع بعيداً عن التنظير الأجوف.

ومن هنا جاءت فكرة موضوع هذا العدد من طلقة تنوير، ونأمل أن يكون هذا العدد وغيره من الأعداد طلقةً تنير الدرب لشباب أمتنا في ليله الذي طال واشتدّت ظلمته.

هل إنّ الارهاب فعلاً نتيجة طبيعية وحتمية للدين الإسلامي؟ أي هل أن الدين الاسلامي هو دين “إرهابي” بالضرورة وبالتالي فإن داعش ومشتقاتها من الحركات التكفيرية هي الممثل الحقيقي والشرعي للإسلام؟ وهل أنّ الإرهاب وسفك الدماء وتقطيع الرؤوس ثمرةٌ طبيعيةٌ للموروث الإسلامي من قرآن وسنة واجتهادات فقهية؟

أليست الآثار الإسلامية مليئة بالفتاوى المفخخة والأحكام المتطرّفة التي تحثّ على سفك دم المخالِف؟

أم أنّ الدين الإسلامي بريءٌ من الإرهاب براءة الذئب من دم يوسف؟ وأنّ نسبة الدواعش للإسلام تقَوُّلٌ وافتراءٌ عليه؟

هل يصحّ القول بأنّ داعش وما شابهها من الحركات الدموية المتطرفة هي صناعة غربية لتخريب الوطن العربي وهدم الإسلام كأحد مقوّمات العروبة؟ أم أنّ هذا الرأي عارٍ عن الصحة ويندرج تحت هوَس نظرية المؤامرة؟

كل هذه التساؤلات وغيرها باتت مشروعة في ظلّ شلالات الدم المهرقة ومشاهد أكل الأكباد وضرب الرقاب ومئات بل وآلاف الرؤوس المقطوعة التي بتنا نراها بشكل شبه يومي.

سنلخّص كل التساؤلات المطروحة في تساؤلين رئيسيين وهما:

  • ما حقيقة نسبة الإرهاب للإسلام، وإلى أي مدى يمكن اعتبار أن الحركات الإرهابية تمثّل الإسلام، استناداً على التحليل والاستقراء؟
  • هل أنّ الإرهاب والدموية حكرٌ على الحركات الإسلاموية فحسب؟ وهل أنّ الأديان الأخرى لا يمكن أن يخرجَ من تحت عباءتها إرهاب بنفس البشاعة التي نراها اليوم من قبل المنتسبين للإسلام؟

1| في العلاقة بين الإرهاب والإسلام ومدى ارتباط كلا المفهومين ببعضهما:

رغم اعتقادنا بأنّ الإسلام يعتبر رافداً أساسياً وركيزة من ركائز العروبة، ورغم اعتزازنا به كمكوّن رئيسي لثقافة أمتنا العربية، إلا أنّ هذا الاعتقاد لن يجعلنا ننحاز عن الموضوعية، ولن يدفعنا بأي شكلٍ من الأشكال لليّ عنق الحقيقة.

فلسنا من الذين يميلون لدسّ رؤوسهم في التراب هرباً من مواجهة الحقيقة، بل إنّ نبْش الماضي بهدف تنقيته وإخراج مرجع مستند يصلح للحاضر والمستقبل هي مهمة كل المتنورين، على أن يكون بحثاًمبنياًبنيّة سليمة وليس بهدف التصيّد في المياه العكرة لنقض التاريخ وهدم التراث بكل ما يحمله من إيجابيات.

لا يخلو الموروث الفقهي الإسلامي من الفتاوى المفخخة والتفاسير التي يمكن أن تكون أصلاً من أصول الإرهاب، كما أنّ السنة النبوية، أو بلغةٍ أدق، الكتبَ التي صنّفت وجمعت الأحاديث المنسوبة للنبي العربي- صلى الله عليه وسلم- لا تخلو من نصوصٍ يمكن أن تكون مستنداً ومرجعاً لأي عمل إرهابي وعدوانيّ.

مثال: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداًرسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى) متفق عليه

هذا الحديث المنسوب إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا ما اعتُمد مرجعاً بعيداً عن القرآن الكريم يقود إلى الفهم التالي:

مشروعية قتال غير المسلمين “الناس” حتى يسلموا، وأنّ حرمة دمائهم وعصمتها غير مكفولة.

هذا النص يتناقض جذرياً مع أحد المفاهيم الأساسية التي رسّخها القرآن الكريم في عدد من الآيات وهو مفهوم الحرية العقدية وحرية الاختلاف، لا بل إنّ الاختلاف سنّة كونية أرادها الله ومن يسعى لإنهائها، من منظور إسلامي، فهو يحارب سنّة الله، والآيات التي تدلّ على ذلك كثيرة، نذكر منها:

“وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (سورة الكهف الآية 29).

“ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين” (سورة يونس الآية 99).

“ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم.. ” (سورة هود الآية 118-119).

“فذكّر إنما أنتَ مذكّر(21) لست عليهم بمسيطر” (سورة الغاشية الآية 21 -22).

ومعلومٌ لدى عموم المسلمين أنّ القرآن هو المرجع الرئيسي والكتاب الوحيد الذي لا اختلاف فيه بينهم، فإذا ما اختلف حديث ما حتى وإن نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع آية صريحة أو أكثر فإنّ الغلبة تكون للقرآن وكل ما يخالفه باطل.

كما أنّ القرآن الكريم إذا ما تمّ إخراجه من سياقه وقُرِأ بمعزلٍ عن السياق العام الذي جاء فيه يقود حتماًإلى الزيغ والشطط، مثال على ذلك الآية الكريمة:

“فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق” )سورة محمد الآية 4(

إذا ما قرئت بمعزل عن السياق العام للآية ستُفهم أنّ غير المسلم حلالُ الدم، وأن على المسلم أن يضرب رقبته، مع العلم أنّ تكملة الآية”فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ”.

أي أنّ سياق الآية هو “حالة الحرب” التي قامت بين المسلمين والمشركين الذين بادروهم بالعدوان وأخرجوهم من ديارهم في مكة وغيرها.

كما أنّ المنطق القرآني دائماً ما يأمر بالرفق بالمخالِف المسالِم، وفرّق بين المحارِب والمسالِم ولكلٍ حكمٌ يختلف عن الآخر:

“لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” )سورة الممتحنة الآية 8(.

إلا أنّ القول بأنّ فهم التكفيريين للإسلام هو فهمٌ معوقٌ وشاذ وأن الدين الاسلامي ليس ديناً يدعو للعنف وتصفية المخالِف قد يدخلنا في دوامة جدال لا مخرج منها خاصة مع المتأثرين بدعاة الحداثة من التيارات الليبرالية وبعض التيارات اليسارية المنسلخة عن هوية قومها والتي تكنّ مشاعر العداء والكراهية للعروبة قبل الإسلام.

إن مربط الفرس في تحليل الظاهرة التكفيرية والحركات الإرهابية الإسلاموية وفكّ شيفرتها ومعرفة سبب انفلاتها من عقالها هو تحديد من يدعمها ومن ثم تحديد المستفيد الأول من وراء أعمالها الدموية.

سنبتعد عن التحليل قدر الإمكان وسنرتكز على معلومات واضحة لا ينكرها منصف:

إنّ الحركات التكفيرية بمختلف تلويناتها يمكن حصر مرجعياتها أساساًفي فكر محمد بن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية، ومن هنا يمكن أن نستدلّ أن الموروث الفقهي الإسلامي بمجمله بما له وما عليه لم ينتج ظواهر إرهابية كما أنتج لنا الفكر الوهابي، لم نر اليوم مجموعات أشعرية مثلاً تقوم بقتل الناس وسبي النساء وقتل المخالفين كما يفعل الدواعش. إذن يمكننا القول بأن النقاط المظلمة في الموروث الفقهي الإسلامي والفتاوى المفخخة والأحاديث المكذوبة والموضوعة واجتهادات الأئمة لوحدها لم تنتج إرهاباً، وهذا يدعونا للبحث في العامل الرئيسي وراء انفلات الظاهرة الداعشية وما شابهها.

إنّ تصاعد المدّ التكفيري وتغلغله في عقول شباب الأمة كان مسبوقاً بعقدين، شهد فيهما نفوذ آل سعود تعاظماً بسبب عشرات القنوات الدعوية التي عملت على استقطاب الشباب لسنوات في صمت، وبثّت سمومها في كل البيوت تقريباً، وكان إلى حدٍ ما المرجعَ الوحيد لكل من يريد التعرف على دينه في ظلّ إهمال الجهاز الرسمي العربي للمناهج الدينية، وغفلتها عن إنتاج مناهج وبرامج توعوية دينية تخضع لرقابة صارمة تحول دون انتشار السموم التكفيرية من جانب، ومن جانب آخر قامت بعض الأنظمة العربية بمحاربة الإسلام وحاولت سلخ المجتمع الذي تحكمه عن دينه وقامت بمحاربة كل مظاهر الإسلام من سنّ قوانين تجرّم ارتداء الحجاب ومنع الدروس الدينية والتضييق على الدعاة والأئمة المعتدلين والمتطرفين على حد سواء (تونس أيام حكم بن علي مثلاً).  كل هذا التضييق أنتَجَ تعطّشاً استغلّه الوهابيون لسدّ الفراغ الحاصل وبثّ سمومهم، فالأموال السعودية التي أغدِقت على إنتاج القنوات والكتب والمجلدات والندوات والمؤتمرات والجمعيات التي تعمل على نشر الفكر الوهابي لا تحصى ولا تعدّ، بالإضافة إلى سيطرة آل سعود على البيت الحرام والحجّ وتوزيعهم لملايين الكتب مجانياً بجودة طباعة عالية.

الحركات الإرهابية التي نشأت في الشيشان كانت مسبوقة بنشاط كبير للدعاة الوهابيين وجمعيات تحفيظ القرآن المنفَق عليها سعودياً، بالإضافة إلى الدروس التي كانت تحت إشراف دعاة سعوديين.

نشأة الحركات التكفيرية كانت دائماً تصب في جيب الإمبريالية، بدءاً من شقّ وحدة صفّ حركة التحرر الهندي على يد أبو الأعلى المودودي والإفتاء بحرمة القتال إلى جانب الهندوس “الكفّار” لإخراج المحتلّ “الكتابيّ” ومن ثمّ أدّى هذا إلى تقسيم الهند والباكستان، وصولاً إلى تشتيت المقاومة العراقية وإلهائها عن الهدف الرئيسي وهو قتال المحتلّ الأمريكي لتقوم بتفجير وإذكاء الصراع الطائفي؛ السني-الشيعي، وإشعال فتنة لا نزال نعاني منها حتى هذه اللحظة.

بالإضافة إلى إفتاء مفتي آل سعود بحرمة القتال إلى جانب حزب الله ضدّ الاحتلال الصهيوني بتعلّة أن قتال الشيعة أولى من قتال الصهاينة، كما أننا لم نرَ الدواعش يرمون حجراً واحداً في وجه الاحتلال الصهيوني رغم كل ما يملكون من أسلحةٍ نوعيةٍ ودعم لوجستي وقدرة على اجتياز الحدود، فنرى الداعشي بقدرة قادر ينتقل من تونس إلى ليبيا ومن ليبيا إلى سورية ومن سورية إلى مصر ومنها إلى ليبيا مرة أخرى، كل هذا والأقمار الصناعية وأجهزة الرصد والطائرات بدون طيار والرادارات الحديثة الغربية والإمبريالية عاجزة عن تحديد حركاتهم، بالإضافة إلى الصواريخ الحرارية الأمريكية والأسلحة الخفيفة والثقيلة والأموال التي تجوب العالم لتصل إلى أيديهم!!

تحرّكات الإرهابيين العنيفة كانت دائماً وأبداً تستهدف كل من يقف ضد الإمبريالية “الاتحاد السوفياتي، مصر عبد الناصر، سورية الأسد، حزب الله، والتشديد من قِبل كل المرجعيات التكفيرية على أن حركات التحرر اليسارية والشيوعية في كوبا والاتحاد السوفياتي وفنزويلا أشدّ خطراً على الإسلام من الأمريكان والصهاينة، بحجّة أنّ أهل الكتاب أقرب إلينا من الملاحدة!!

ومن هنا نخلص إلى استنتاجيْن:

أولاً: أن الإرهاب هو سليلُ العقيدة الوهابية وحدها لا شريك لها، وأنّ كل الموروث الإسلامي بما له وما عليه لم يسبق له أن أنتجَ ظاهرةً تضاهي الدواعش في إجرامهم.

ثانياً: أنّ إرهاب الحركات التكفيرية لم يشكّل يوماً خطراً على الإمبريالية وأدواتها بل كان دائماً يخدم الأجندات الغربية ومشاريع التقسيم وإبقاء فتيل الفتن الطائفية مشتعلاً بين أبناء الوطن الواحد.

2| هل أنّ الإرهاب والدموية حكرٌ على المنتسبين للإسلام؟

إنّ القول بأنّ الإرهاب بأبشع صوره، كما نراه اليوم، حكرٌ على المنتسبين للإسلام هو قولٌ عارٍ عن الصحة تماماً، ومن يروّج لهذا الإفك عن حسن نية فهو ضحية الآلة الإعلامية الليبرالية الساعية إلى ضرْب العروبة عن طريق ضرب أحد مقوماتها وهو الإسلام.

إنّ كل الأديان وكل العقائد السماوية أو الوضعية يمكن أن تنتج إرهاباً يفوق بأضعاف الإرهابالداعشي الذي نراه اليوم، بل وسبق لها أن أنتجت إرهاباً مقيتاً شبيهاً إلى حد كبير بالإرهاب الداعشي الذي ندينه ونتبرأ منه طبعاً وندعو إلى محاربته بكل الطرق والوسائل، ذلك أن قراءتنا للدين تعكس حقيقتنا وماهيّتنا، فكل إناء بما فيه ينضح، ولطالما استندت الحركات الإمبريالية إلى الدين لتبرير جرمها كما يفعل الدواعش اليوم.

  • المسيحية:

إن ظهور جماعات مسيحية متطرفة عرفت في يوم من الأيام باسم “كو كلوكس كلان” عمدت إلى تعذيب وقتل وإحراق الأفارقة على الصليب لا يجعل من المسيحية ديناً إرهابياً، كما أنّ الحملات الصليبية التي أتت باسم الصليب لنهب ثرواتنا واحتلال أرضنا وقامت باضطهاد شعبنا لا يجعل من المسيحية ديناً يحثّ على الظلم والعدوان ويشهد تاريخ إخواننا في الدم والعروبة من المسيحيين المشارقة أنهم وقفوا وقفةً مشرفةً ضد الاحتلال الصليبي، أي ضد الذين ينتسبون لدينهم مع إخوانهم العرب المسلمين.

  • اليهودية :

التعاليم اليهودية التي يقوم اليهود بتلقينها لأبنائهم جيلاً بعد جيل تعتبر أن اليهود هم خير الأمم وأنّ ما عداهم خُلقَ ليخدمهم، ويستخدمون مصطلح الأغيار “الغوييم” ليطلق على كل من هو غير يهودي،

إنّ الديانة اليهودية ترى غير اليهود عبيداً لهم وخدماً وأنّ الله خلقنا على هيئةبشر لكيلا يشعر اليهودي بالقرف من شكلنا الحقيقي، وسنورد بعضاً مما جاء في التعاليم التلمودية التي يمكن للقارئ الكريم التوسّع والاطّلاع عليها في التلمود والتي توضّح حجم العنصرية والتطرف:

ـ من يقتل مسلماً أو مسيحياً أو أجنبياً أو وثنياً، يكافَأ بالخلود في الفردوس وبالجلوس هناك في السراي الرابعة.

ـ يجوز لليهودي أن يقسم زوراً ولا جناح عليه إذا حول اليمين وجهة أخرى.

  • اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض الأجنبية، فإنّ عقود الزواج عند الأجانب فاسدة، لأن المرأة غير اليهودية بهيمة ولا تعاقُد مع البهائم.

إن الإرهاب الصهيوني الذي يعاني منه شعبنا في فلسطين وعانى منه شعبنا في لبنان ومصر، وعمليات القتل التي مارسها الصهاينة في حق مئات آلاف الأطفال والرضّع والعجز والنساء والشيب والشباب يستند إلى نصوص دينية يهودية، كما أنّ مجازر صبرا وشاتيلا ومجزرة قانا وبحر البقر وغيرها من المجازر البشعة التي تعدّ الوجه الأخر لداعش في ثوب يهودي!

ونورد هنا فصلاً من مقالة مهمة تحت عنوان “الجذور اليهودية للفكر التكفيري” للدكتور إبراهيم علوش في نفس السياق توضّح ارتباط الفكر الداعشي بالفكر اليهودي وهي متوفرة على الإنترنت لمن يرغب بقراءتها:

كذلك جاء في التلمود: «إذا ضرب غير اليهودي يهودياً فكأنه ضرب العزّة الإلهية… إذا ضرب أمي إسرائيلياً فالأمي يستحق الموت (سنهدرين ص 2 و58 )، وجاء في تلمود القدس ص 94 أن النطفة التي خلق منها غير اليهود هي نطفة حيوان. فمفهوم «نجاسة» الأغيار هو مفهوم تلمودي بالأساس، «لأن الأرواح غير اليهودية هي أرواحٌ شيطانية شبيهة بأرواح الحيوانات» ص 43 من كتاب «الكنز المرصود في قواعد التلمود»، ونلاحظ هنا مدى التشابه بين الفكر اليهودي والفكر التكفيري في التعامل مع الخارجين على «الدين الصحيح» كأنهم من غير البشر، واقتصار مفهوم البشر على أصحاب «الفرقة الناجية»، وهي عند اليهود من يولد لأمٍ يهودية أو يؤمن بالعقيدة اليهودية، وينسحب مفهوم النجاسة وفقدان الصفة الإنسانية في التلمود على اليهودي المرتدّ، الذي يقرر الحاخامات أنه خرج من الملّة، فيُعتبر مثل هؤلاء خنازير نجسة، كذلك يعتبرون أنّ غير اليهود هم حيوانات خُلقوا لخدمة اليهود، إنما خلقهم الله على هيئة البشر ليكونوا لائقين لخدمة اليهود الذين خلقوا لأجلهم. أما الحكم على المرتدّ بالرجم والصلب، فهو حكم يهودي بالأساس… وكان مما جاء في التلمود:

من حقّ اليهودي أن يقتل بيديه غير المؤمنين، لأن الذي يهرق دماء غير المؤمنين يُقدّم قرباناً لله.

اقتل الصالحين من غير اليهود.

أفلا يشبه هذا القتل والتمثيل غير المقيدين اللذين تمارسهما القوى التكفيرية اليوم بحق من تعتبرهم كفاراً؟!

…. أليست هذه هي نفسها فلسفة «داعش» في التعامل مع أهل المناطق التي يدخلها؟! ” (انتهى الاقتباس)

  • إرهاب الرجل الأبيض:

إنّ المجازر البشعة التي ارتكبها الرجل الأبيض الذي عبر من أوروبا إلى القارة الأمريكية وأباد شعوبها، والذي كان يقدم مكافآت مالية مقابل كل فروة رأس أحد السكان الأصليين يتمّ سلخها لا تكفي أي عبارات للتعبير عن بشاعتها ودمويتها.  فالرجل الأبيض الذي عبَرَ بسفنه صوْب أفريقيا وقام بنهب ثرواتها وكنوزها وقام بتشريد شعوبها وسفْك دمائهم وطاردَ سكانها وأسرهم في أقفاص والذي احتلّ الجزائر وأبادَ ما يزيد عن المليون ونصف المليون من شعبها واستخدمَ ضدهم أبشع أنواع التعذيب والتنكيل بدأَ بحزّ الرؤوس وإصدار طوابع بريدية توثّق تباهي جنود الإحتلال بقطع رؤوس المقاومين وصولاً إلى استخدام القنبلة النووية ضد إخواننا هو الوجه الآخر لداعش.

عمليات الإبادة التي قامت بها القوات البلجيكية في إفريقيا وعمليات قطع الرؤوس والأيادي والصلْب على جذوع الأشجار هي الوجه الآخر لداعش.

إجرام الفرنسيين في حق تونس العربية وسورية أكبر من أن يُنسى ولا أقل من أنْ يوصَف بأنه إرهابٌ “داعشي” الشكل والمضمون حتى قبل أنْ تتمّ صناعة داعش ومشتقاتها.

إرهاب الإنجليز في مصر والهند وأستراليا وفي كل الاراضي التي وطئتها أقدام جنودهم هو نفس الإرهاب الداعشي.

إرهاب الأمريكان والفرنسيين في فيتنام وفي العراق هو إرهاب من نفس السلالة التي ينحدر منها الإرهاب الداعشي.

إنّ الأصوات التي تنعق صباح مساءوتحذر من خطر الإسلام على الإنسانية ولا تنبس ببنت شفة حول الإرهاب اليهودي الذي يمارسه الصهاينة أو إرهاب الرجل الأبيض الأوروبي والأمريكي في حق البشرية عموماً وأمتنا العربية خصوصاً، هي أصوات بتراء ومشبوهة.

إنّ الساعين إلى تحويل الإسلام إلى خنجر مسموم في خاصرة أمتنا العربية وحصْره في دائرة التفجير والتدمير والقتل والتكفير عبر تجييش شباب الأمة المسلم وشحْنه، والساعين إلى ضرب الإسلام ومحاولة سلْخه عن جسده، ألا وهو العروبة، هما وجهان لعملة إمبريالية واحدة، باعتبار الأصل واحد والمستفيد من كلا الفريقين واحد.

إنّ الأموال التي صبّت لتحويل المسلمين وتحريفهم لو أنفقت على تحريف البوذية وتحويل البوذيين إلى إرهابيين لرأينا من عباءة بوذا من يفجّر باسمه ويقتل باسمه.

الإرهاب صناعة إمبريالية سواء تلبست بلبوس محمد أو عيسى أو موسى.. والله وأنبياؤه براءٌ من كل من يسفك دماً باسمهم، إلا أن يكون ثائراً مقاوماً..

قصيدة العدد:

رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي/ حافظ إبراهيم

رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني
وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة ً
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً
أيُطرِبُكُم من جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ
ولو تَزْجُرونَ الطَّيرَ يوماً عَلِمتُمُ
سقَى اللهُ في بَطْنِ الجزِيرة ِ أَعْظُماً
حَفِظْنَ وِدادِي في البِلى وحَفِظْتُه
وفاخَرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ
أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقاً
وأسمَعُ للكُتّابِ في مِصرَ ضَجّة ً
أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ
سَرَتْ لُوثَة ُ الافْرَنجِ فيها كمَا سَرَى
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعة ً
إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ
فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى
وإمّا مَماتٌ لا قيامَة َ بَعدَهُ
  وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي
عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَات
يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي
بما تحتَه مِنْ عَثْرَة ٍ وشَتاتِ
يَعِزُّ عليها أن تلينَ قَناتِي
لهُنّ بقلبٍ دائمِ الحَسَراتِ
حَياءً بتلكَ الأَعْظُمِ النَّخِراتِ
مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناة ِ
فأعلَمُ أنّ الصَّائحِين نُعاتي
إلى لغة ٍ لمْ تتّصلِ برواة ِ
لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ
مشكَّلة َ الأَلوانِ مُختلفاتِ
بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي
وتُنبِتُ في تلك الرُّمُوسِ رُفاتي
مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يُقَسْ بمماتِ

يعتبر حافظ إبراهيم من أشهر شعراء العصر الحديث، ولد في القاهرة عام 1872، توفي وهو يبلغ من العمر ستين عاماً. صُنّف حافظ إبراهيم من الشعراء البارزين الذين تركوا إرثا كبيراً من القصائد القيّمة، خصوصاً قصائده التي تدافع عن اللغة العربية، باعتبارها لغة القرآن الكريم، فقد كان شِعره سخيّاً في الدّفاع عن اللغة، وتناول العديد من الموضوعات الأدبية في الغزل، والحب، والوطن، وغيرها.

دافع العديد من الشعراء بقصائدهم عن اللغة العربية، وتحدّثوا بلسان اللغة لمقاومة التطورات التي تهدف إلى تخريبها، وقصيدة اللغة العربية لحافظ ابراهيم تعتبر من أهم تلك القصائد على الإطلاق.

تميّزت اللغة العربيّة عن غيرها من اللغات باعتبارها تحتوي على مفرداتٍ في شتّى المجالات مهما كانت اختلافاتها؛ فهي لغة تخاطب المشاعر والأحاسيس من خلال شعرها ونثرها وأدبها، بأساليب مختلفة ومتعدّدة، حيث يمتدح حافظ إبراهيم في قصيدته “اللغة العربية” جمال مفرداتها وتراكيبها ومعانيها.

a

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *