Qawmi

Just another WordPress site

1 

 

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 كانون ثاني 2017

كلمة العدد: حروب ما بعد الحداثة/ بشار شخاترة

الحرب بالوكالة/ محمد العملة

حروب جيل رابع، أم ثورات مضادة معاصرة؟/ إبراهيم علوش

صناعة الوهم/ عبد الناصر بدروشي

الحرب الثقافية/ علي بابل

الحروب العسكرية الأمريكية، من التدخل المباشر إلى الحرب على الإرهاب/ معاوية موسى

أفكار حول المرحلة المقبلة/ توفيق شومر

شخصية العدد: خـــوســيــه ريـــزال – البطل القومي موحّد الفليبين/ إعداد: فؤاد بدروشي

الصفحة الثقافية: حادثة النصف متر (الفيلم السوري)/ طالب جميل

قصيدة العدد: لا يمتطي المجدَ من لم يركبِ الخطرا/ صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي

كاريكاتور العدد

العدد 32 – 1 كانون ثاني 2016

لقراءة العدد عن طريق فايل الـ PDF

tt-32

للمشاركة على الفيسبوك

tt32-1-1-page-001

tt32-1-1-page-002

tt32-1-1-page-003

tt32-1-1-page-004

tt32-1-1-page-005

tt32-1-1-page-006

tt32-1-1-page-007

tt32-1-1-page-008

tt32-1-1-page-009

tt32-1-1-page-010

tt32-1-1-page-011

tt32-1-1-page-012

tt32-1-1-page-013

tt32-1-1-page-014

tt32-1-1-page-015

tt32-1-1-page-016

tt32-1-1-page-017

tt32-1-1-page-018

tt32-1-1-page-019

tt32-1-1-page-020

.tt32-1-1-page-021

tt32-1-1-page-022

tt32-1-1-page-023

tt32-1-1-page-024

tt32-1-1-page-025

tt32-1-1-page-026

tt32-1-1-page-027

tt32-1-1-page-028

كلمة العدد:

حروب ما بعد الحداثة

بشار شخاترة

تطورت مفاهيم الحروب كثيراً عبر العصور كما تطورت أدواتها، ومع هذا بقي العنصر البشري العامل المشترك فيها جميعاً.  فالحرب كانت وسيلةً بحد ذاتها، ليحقق أحد أطراف النزاع ما لم يحققه بالوسائل السياسية، ولكن المفارقة في حروبنا الحديثة أنها أصبحت غاية بحدّ ذاتها علاوة على كونها وسيلة، فالنمط العصري من الحرب بدأ يستخدم هذه الوسيلة كغاية لخلق نزاع لا ينتهي وغاية من يشعلها هو أن تستمر، في عملية استنزاف لا تنتهي، حتى في دول يفترض أنها “صديقة” للإمبريالية، وهذا بالنظر لخصائص هذا النوع من الحروب.

في حقيقة الأمر تطوّرت مفاهيم الحرب بصورةٍ تختلف البتة عن بدايتها وتطوراتها اللاحقة قبل أن تصلَ ذروة تطورها في العصر الحاضر، ففي حين كانت الحرب التقليدية، تقوم أساساً على الانضباط والتزام الخطة العسكرية من حيث توزيع أدوار فروع الأسلحة العسكرية في الجيوش، فقد وصلت الحالة الراهنة لمفهوم الحرب على الفوضى، فكلما كانت الفوضى عارمة بين أطراف الصراع المتعددة بطبيعة الحال كانت الحرب تنسجم مع طابعها “الحداثي” وابتعدت عن الحرب الكلاسيكية، فإن النتائج المرجوة منها تتحقق تلقائياً بمجرد تحقق هذه المقومات.  لماذا؟

الإجابة تستند إلى التقييم الإمبريالي لفكرة الحرب والقائمة ضمن مفاهيمها على الاستعمار والتوسّع على حساب شعوب العالم.  ففي مواجهة الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة لشعوب العالم، تبيّن لها أن فكرة الحرب التي تقوم على الغزو المباشر مكلفة جداً من الناحية البشرية والمادية خصوصاً في مواجهة الثقافة القومية للشعوب التي ثارت في وجه الاستعمار وتكبّد فيها الغزاة خسائر جسيمة، إضافةً إلى تنامي النزعة القومية وانتشار الفكر التحرري من الاستعمار، فلم يعد بمقدور القوى الإمبريالية دفع الكلفة العالية للاستعمار والتوسع، فقد شهد القرن العشرين خروج أكبر إمبراطوريتين استعماريتين من الحلبة السياسية الدولية ومن دائرة التأثير الفعّال وهما فرنسا وبريطانيا، ومع صعود الإمبريالية الأمريكية إلى الساحة الدولية عقب الحرب العالمية الثانية استوعبت الدرس البريطاني والفرنسي جيداً فكان لا بد من مراجعة فعلية لمفهوم الحرب في سياق السعي لفرض الهيمنة على دول العالم.

فنظراً للكلفة العالية للحرب ونظراً للتحدي الذي يخلقه الغزو العسكري للدول في مواجهة الثقافة القومية للشعوب، استندت الحرب الحديثة في مواجهة الأعداء المحتمَلين إلى تجويف المحتوى القومي للأمم ثقافياً وسياسياً واجتماعياً بحيث تسقط الدول كحبة الفاكهة الناضجة ليتلقّفها المستعمِر بأقل الاثمان ودونما خسارة قطرة دم واحدة.

لم تنتهِ الحرب النظامية التقليدية بين الجيوش، لكن ظهرت حروب العصابات بشكل أكثر نضجاً، وأتقنت حركات التحرر هذا النوع نظراً للفارق بين قدرتها وطبيعتها وظروفها مقارنة بالجيوش النظامية، فقد أخذت الحروب من هذا النوع نصيباً هاماً من مجمل الحروب التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية، ولعل إثارة الصراعات/”الفتن” في الدول بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية كانت حاضرة وبقوة استثمرتها في الهيمنة على كثير من الدول.

باتت النظرية التي تقول بالحرب الناعمة أو القوة الناعمة التي بشّر بها جوزيف ناي هي النظرية الرائجة في حروب القرن الواحد والعشرين، علماً أنّ ظهورالنظرية جاء في تسعينيات القرن الماضي لكن جذورها تعود إلى مرحلة الحرب الباردة.

ظهرت الحاجة الماسة لهذه الحرب بعد الكلفة القاسية التي دفعتها الولايات المتحدة في حربها على العراق وأفغانستان، ففي ظلّ الصعود القوي لدول كالصين وروسيا والهند وغيرها وتراجُعْ القوة الأمريكية قياساً على صعود الآخرين، علماً أنها لا تزال القوة الأكبر عالمياً، إلا أنّ علامات الوهن بدت واضحة عبر لملمة إدارة أوباما لما خلّفته إدارة بوش الابن، فمواجهة العالم المعاصر لم يعد مجدياً بالحرب القاسية، فلا بدّ من الحرب البديلة التي لا تطيح بالإمبراطورية الأمريكية عبر حروب جديدة.

عرّف جوزيف ناي الحرب الناعمة على “أنها القدرة على الجذب لا عن طريق الإرغام والقهـر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، كما كان يجري في الاستراتيجيات التقليدية الأميركية، بل عن طريق الجاذبية، وجعل الآخرين يريدون ما تريد”. على أساس هذه النظرية خطّت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما طريقها، وبدأت في مسار إعادة تشكيل الثقافة والمعتقدات وإعادة النظر في الموروث القومي للأمم المستهدفة عبر وسائل تقليدية خارجية كالسينما وشبكات الاتصال التكنولوجي كالفيس بوك والتويتر وغيرها، كما تمّ توظيف المنظمات المدنية الممولة أجنبياً لاختراق البنية الاجتماعية للشعوب، ووسائل داخلية تقوم على الاستفادة من الواقع الاجتماعي والثقافي والديني بالإضافة إلى اختراق الإعلام المحلي وتوظيفه في خدمة الهدف.

الجاذبية التي يتحدث عنها جوزيف ناي ليست بالجديدة، فالحقيقة أنها كانت من ضمن عناوين الحرب الباردة، فالجاذبية الأمريكية التي كانت تسوقها الدعاية تقوم على أنّ أمريكا بلد الحرية والرفاه والوفرة، مقابل العالم الشيوعي الديكتاتوري وأنه عالم الندرة، هذا النوع من الدعاية كان يترك أثراً في نفوس الكثير من الشعوب، ولذلك اعتقد كثيرٌ من شعوب أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي أنه بمجرد التخلُّص من الشيوعية ستزهر الدعاية الإمبريالية رفاهً ورخاءً وحريةً في سماء بلدان تلك الشعوب، ولكن لم تلبث الحقيقة المرّة أن ظهرت بانهيار تام للمؤسسات في كثير من الدول، وسقطت كثير من دول الكتلة الشرقية في اليد الأمريكية التي وصلت إلى حدود روسيا.

الحرب الناعمة تجلّت بأبشع صورها في الواقع العربي، وعبر مزيج خطير من الأفكار المتناقضة، استطاعت إدارة الحرب الناعمة في المركز الأمريكي أن تدير هذا الكم الهائل من الفوضى والدمار في بلادنا، وارتكزت على ثنائية الدين والليبرالية، فمن جهة الدين استطاعت الإدارة الأمريكية توظيف قوى الإسلام السياسي في سياق سني-شيعي، وبدا هذا الشعارالجذاب للملايين بتبني الولايات المتحدة للإسلام السُّني بطريقة تقسيم العالم الإسلامي إلى “سنة أمريكا وشيعة إيران”، وبطريقة لم يعِ معها أكثر المسلمين أنهم في خانة أمريكا عدوتهم، ولكن التسلل الناعم لهذا الوباء الفكري والعقائدي أدّى إلى استساغة الموضوع في اللاوعي في مواجهة وعي مزيف يقوم على الانشقاق المذهبي، تراجَعَ فيها العداء الحقيقي للكيان الصهيوني .

وفي سياق تزييف الوعي وتغيير المفاهيم، عملت المؤسسات الدينية والإعلامية الخليجية على غسل الأدمغة العربية وخلق بعبع التشيُّع، وأما بالنسبة لليبرالية فقد تولّت المؤسسات الإمبريالية عبر المنظمات المدنية التابعة لها عملية التدريب والحشد انتظاراً للفرصة المناسبة.  الخطّة كانت معدّة لسقوط الأنظمة والسيطرة على السلطة السياسية في تلك الدول ليعتليَ عملاء أمريكا السلطة وبذلك تتحقق النتيجة المرجوّة من دون تدخل إمبريالي عسكري مباشر.

إنّ استجابة العدو للحرب الناعمة ترتكز أساساً على نقطتين: إمّا الغفلة أو نقاط الضعف لدى ذلك المجتمع، ومن تفاعل هاتين النقطتين تنشأ الثغرة التي يبدأ منها الاختراق، ومع تركيز إعلامي لخلق الوهم، تبدأ النار التي تحت رماد المجتمعات بالاشتعال، ومن أهم حيثيات هذه الحرب إسقاط هيبة الدولة في عيون مواطنيها، ومع دعم سياسي وإعلامي خارجي تبدأ متوالية من الصدام الذي يبدأ سلمياً ولا يلبث أن يتحوّل إلى حالة حرب أهلية حقيقية، يدير القطب فيها الحرب على عدوه بشكل متصاعد ويزيد من تشابك وتعقيد الحالة سقوط الضحايا، بحيث يتمّ تضخيم الأخطاء والتركيز عليها والتركيز على توافه الأمور بهدف بلبلة الرأي العام .

تركّز الحرب الناعمة على المدنيين، فهم أداتها ووقودها، وفعلياً أنهَتْ احتكار الدول للحرب فلم تعد هناك قواعد ناظمة للحرب، ففي هذا النوع من الحروب تخرج القواعد القانونية الدولية من التداول فيما يتعلق بالقانون الدولي الإنساني والتي يُطلب من الدولة-الهدف مراعاتها ويترك أمر القوى المتمردة من دون رادع لترتكب أفظع الجرائم، علاوة على أنها تستبيح كل شيء، وتصبح الحدود بين الدول لا قيمة لها من الناحية الفعلية بحيث أصبحت الحدود قواعد خلفية لأدوات الحرب الناعمة.

ليس مهماً إحراز النصر على الدولة-العدو التي تتعرض للحرب الناعمة، بل المهم استمرارها واستنزاف العدو لدرجة تتحول معها تلك الدولة إلى دولة فاشلة، وبهذا تتحق أهداف جيوسياسية تخدم الهدف من خلق تلك الحرب، عبر تحييد نقاط القوة (الجاذبية) التي تمثّلها تلك الدولة على غيرها، وبالنتيجة تخرج تلك الدول من التداول الجيوسياسي إقليمياً ودولياً، فتحطيم البنية التحتية للدول وتفريغ الهوية القومية من مضمونها، والنيل من التوجهات العقائدية للجماهير، يحوِّل وبشكل شامل الجاذبية لتلك الدولة من حالة إيجابية تجعل منها دولة ذات تأثير فعال إلى خواء مجذوب نحو جاذبية أمريكية أو غير أمريكية، فهذا النوع من الحرب وإن كانت أداة أمريكية بامتياز، إلا أنّه لا يمنع من ممارستها من قبل باقي الدول وهو ما يحدث فعلياً في الواقع السياسي.

مواجهة هذا النوع من الحرب يتلخّص بتمتين البنية الداخلية للدولة، وذلك عبر إبراز الجاذبية للدول في مواجهة عوامل الجذب الأخرى المعادية، وتحصين الفئات العمرية اليافعة لأنها الأكثر عُرضة للجذب، وتقليص نقاط الضعف وسدّ الثغرات في بنيان المجتمع وتعظيم الهوية القومية الجامعة على حساب أي هوية ثانوية، والأهم أن تنتقل هذه الحالة من الدفاع إلى الهجوم بحيث تتحول أدوات الحرب الناعمة من مرحلة الهجوم إلى الدفاع.

الحرب الناعمة ستحتلّ حيزاً مهماً من حروب المستقبل، لذا ينبغي أن تدرس في الكليات العسكرية في الجيوش، لا بل يجب أن تعيد الجيوش النظر في عقيدتها العسكرية من دون أن تتنازل عن كلاسيكياتها، فجزءٌ مهمٌ من الحرب الناعمة يعتمد حرب العصابات ويعتمد الإرهاب وسيلة سهلة من دون قيود أو حساب.

هذه الحرب وسيلة أمريكية للاحتيال على قوانين التاريخ، التي أخرجت إمبراطوريات من صدارة العالم بسبب كلف الحروب الباهظة باستخدامها للجيوش والغزو، فالحل يكمن بهزيمة فكرة الحرب الناعمة بتحصين الجبهات الداخلية في الحين الذي تتراجع فيه فرص الغزو الأمريكي من دون أن يعني عدم قدرتها على خوض الحروب والتدمير إلا أنها تعني نهاية كارثية، فالسياسة الأمريكية تنتهج هذا النوع من الحرب وهي قوية ولكنها على حافة الهاوية السياسية.

 

الحرب بالوكالة

محمد العملة

في وثائقي بعنوان “الحروب القذرة”، يبدأ جيريمي سكاهيل -وهو صحفي في الجارديان- قصته من منطقة “غارديز” في أفغانستان باحثاً عن معلومات تفيد بوقوع مذبحة بحق عائلة كاملة أثناء احتفال كانت تقيمه. بدأ جيريمي بجمع الأدلة ومن ضمنها صورةٌ أثارت انتباهه تجْمَعُ الأدميرال الأمريكي “وليام ماكريفن” مع بعض قادة الشرطة الأفغانية مكان وقوع المذبحة، مع أن ويليام هذا لا يعمل في أي من القواعد العسكرية في غارديز ولا حتى أفغانستان نفسها.

لاحقاً في مكان آخر، وقعت مذبحة بحق عشيرة صغيرة تسكن منطقة “المَعْجَلة” في محافظة أبْيَن اليمنيّة، حيث كانت صواريخ كروز الأمريكية تملأ مكان الجريمة التي لم يعلن الأمريكيون تنفيذها، وقيل وقتها أن القوات اليمنية هاجمت فيها مركز تدريب لجماعة القاعدة، لكن اتضح أن لا قاعدة تدريب هناك ولا أسلحة. المثير بالنسبة لجيريمي سكاهيل كان صورة نشرتها إحدى المواقع التابعة للحكومة اليمنيّة بعد وقوع حادثة المعجلة، وهي للقاء جمع علي عبدالله صالح مع مسؤول أمريكي مهم، لم يكن سوى الأدميرال “وليام ماكريفن”.

تتبّع خيط المعلومات قاد جيريمي فيما بعد إلى الكشف عن مسؤولية وحدة قيادة العمليات الخاصة الأمريكية، المعروفة اختصاراً باسمها الإنجليزي J-SOC بتنفيذ كلا العمليتين في أفغانستان واليمن، أما الأدميرال ماكريفن فلم يكن سوى قائد هذه الوحدة، وهو نفسه من ظهر على شاشة التلفاز مستمتعاً بمديح الصهيوني الجمهوري “جون ماكين” الجالس بجانبه بعد أن كان مسؤولاً عن عملية اغتيال من وصفته أمريكا بالمطلوب رقم 1، أسامة بن لادن في باكستان.

تأسست J-SOC عام 1980 كوحدة تدخل عسكرية واغتيالات في كل أنحاء الأرض، تعمل بشكل منفصل عن وكالة المخابرات المركزية ولا تخضع لمساءلة رئيس الولايات المتحدة، وتنشط في بلدانٍ تصفها أمريكا بأنها نقاط تحتمل وقوع حروب فيها، نفّذت فيها J-SOC خلال الفترة الممتدة من تأسيسها وحتى يومنا هذا عمليات مختلفة في الجزائر والأردن والعراق واليمن ودول جنوب شرق آسيا ومالي وأمريكا الجنوبية والفيليبين وغيرها، لكن الجديد في نشاطات J-SOC هو تعاونها مع شركات تأمين المرتزقة، تحديداً Black Water “بلاكووتر”.

خلال عام 2002 وما بعده تعاون الطرفان على تنفيذ هجمات طائرات بدون طيار وبعض العمليات الخاصة المشتركة في باكستان، وهو ما أكّده مؤسس بلاكووتر “إريك برنس” في مقابلة أجريت معه وقتها، ذكر فيها أن شركته تعمل مع القوات الخاصة الأمريكية في تحديد الأهداف والمهام والتخطيط لها، ومؤخراً كشفت بعض المقالات الصحفية عن تواجد الطرفين معاً في سورية لوجستياً من خلال غرفة عمليات مشتركة تقع في قطر. أيضاً يقع المقر الرئيسي لكلا الطرفين في كارولينا الشماليّة، والعقود الموقّعة بينهما لا تخضع لمراقبة وزارتيْ الخارجيّة والدّفاع الأمريكيّتين.

شراكة بلاكووتر مع J-SOC ليست اعتباطية أو محض صدفة، بل مبنيّة على مشروعٍ قادَه المحافظون الجدد الذين استولوا على البيت الأبيض في مطلع القرن الحالي… أتحدث هنا عن “مشروع القرن الأمريكي الجديد”.

تأسّس المشروع عام 1997 على يد أشهر المحافظين الجدد ويدعى “وليام كريستول”، وفي عام 2000، نشر مشروع القرن الأمريكي الجديد تقريراً أطلق عليه “إعادة بناء دفاعات أمريكا”، تكشف صفحاته عن رؤية لإصلاح آلة الحرب الأمريكية. يتحدث التقرير عن عملية الإصلاح هذه بالقول: “أنه من المتوقع أن تكون عملية التحول حتى لو أحدثت تغييراً جذرياً، عملية طويلة في غياب حادث كارثي أو محفّز”.

بعبارة أخرى، المعادلة التي ينطلق منها هؤلاء تقوم على عاملين مهمين: الأول، إيجاد حدث كارثي -طبيعي أو مفتعل- يسرّع العمليّة، والثاني إدخال الخصخصة على كل القطاعات العامّة بما فيها القطاع العسكري؛ إذ أن البنية الأيديولوجية للمحافظين الجدد تقوم على مبادئ الليبرالية الجديدة (مدرسة ميلتون فريدمان) التي لا ترى في الدولة إلا كياناً مُفرغاً من كل أداة عامّة، يقتصر دوره على جمْع الضرائب من المواطنين لشراء عقود خدماتية من شركات خاصة.  على هذا الأساس امتلأ البيت الأبيض أيام بوش الابن بأمثال دونالد رامسفيلد، ديك تشيني، جون ماكين وغيرهم، وعلى هذا الأساس أيضاً شكّلت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الحدث الكارثي المحفّز للبدء بعملية الإصلاح التي تحدّث عنها “مشروع القرن الأمريكي الجديد”، وتحت شعارات “مكافحة الإرهاب و”حماية الأمن القومي” بدأ المحافظون الجدد -من مبنى البنتاغون نفسه- بتنفيذ خصخصةٍ واسعة النطاق للقطاع العسكري، كان “رامسفيلد” -وزير الدفاع آنذاك- قد تحدّث عنها عند وقوفه في مبنى البنتاغون قبل أحداث أيلول/سبتمبر بيوم واحد قائلاً: “هذا الخصم هو أحد آخر معاقل التآمر المركزي! وهو يحكم من خلال فرض خطط خمسيّة، ويخنق باطّراد وحشيّ الفكرَ الحر، ويسحق الأفكار الجديدة.  إنّ هذا الخصم أكثر قرباً من الديّار، إنه بيروقراطية البنتاغون”.

محافظون جدد، أعضاء مجالس وهيئات إدارية في كبرى شركات السلاح والمعدات الأمنية والأدوية، رجال أعمال، أيديولوجيا كالفينيّة، وزراء وسفراء سابقون وحاليّون، رؤوس أموال… هي التوليفة التي كانت بحق الأفعى التي نشرت سمّها في كل أصقاع الأرض.

بدأ الأمر في أفغانستان، ثم العراق ليصبح تدخّل المرتزقة منهجيّاً في كل حرب شاركت فيها أمريكا بشكل مباشر أو غير مباشر. العراق أكثر من غيره كان الكنز الذي انفتحت خزائنه على مصارِعها لطغمة الأوغاد هذه.

قانون -الحاكم بأمر الاحتلال الأمريكي- “بول بريمر” أبعد شركات المرتزقة عن الشبهات والمساءلة، وشرّع لها العمل داخل العراق تحت بند حماية شخصيّات دبلوماسيّة، وتأمين الحماية لشركات ما يسمى بإعادة الإعمار مثل “هاليبرتون”، وبعد بضعة سنوات على احتلال العراق، بلغت نسبة المرتزقة المقاتلين إلى عدد الجنود النظاميين 1:1. مرتزقةٌ تمّ تجنيد معظمهم من عسكريين متقاعدين في تشيلي وكولومبيا والسلفادور وجنوب إفريقيا عبر ضبّاط ارتباط ينشطون في مكاتب افتتحتها الشركة في إسطنبول ودبي وعمّان.

لاحقاً تدخلت قوات المرتزقة في أماكن أخرى لعل أبرزها:

  • دارفور قبل تقسيم السودان عبر تدريب قوات الجنوب الانفصالية.
  • إنشاء قواعد عسكرية في جورجيا وأذربيجان لحماية خطّ الطاقة “يوناكال” في بحر قزوين، ونفّذت برنامج “الحارس القزويني” لتدريب وحدة المغاوير الخاصة في أذربيجان.
  • تدريب وحدات قتالية أوكرانية في سلافيانسك خلال أزمة جزيرة القرم مع روسيا، بهدف شنّ ما يشبه حرب عصابات تخريبية.
  • تدريب وحدة كوماندوز أردنيّة على الاستطلاع والطيران الليلي، وأُعلِن عن الصفقة خلال نسخة معرض سوفكس للمعدات العسكرية المُقام في الأردن قبل ست سنوات.
  • إعلان الإمارات منذ خمسة أعوام عن تواجد مرتزقة “Academi” -الاسم الجديد لبلاكووتر- لتطوير القدرات العسكرية للجيش الإماراتي. الجدير بالذكّر أن “إريك برنس” مؤسس بلاكووتر ومالكها السابق يقيم حالياً في أبو ظبي درءاً لشبهات فساد وإرهاب لاحقته بعد تسجيل حوادث قتْل قام بها مرتزقته في أماكن انتشارهم.
  • المشاركة في العدوان على اليمن؛ فخلال العام الماضي استخدمت الإمارات 800 كولومبي من مرتزقة بلاكووتر يرتدون الزي الرسمي للجيش الإماراتي، أرسِلوا للقتال في محافظة “تعز” جنوب غرب اليمن، وفي خضم المعارك الدائرة هناك، لقيَ أكثر من 150 مرتزق حتفهم وعلى رأسهم قائد عملياتهم المكسيكي “ماسياس باكنباه” وآخرون من بريطانيا، فرنسا، جنوب أفريقيا، أمريكا، والأرجنتين.
  • ثلاث وثمانون جنسيّة، وأكثر من مئة فصيل مسلّح يحترف القتل لا القتال، كلها تشكّل عنوان الحرب على سورية، وتمثل وجهاً آخر للمرتزقة، وجهاً مغطّى بلثام “الجهاد”.

أكاد أجزم أن أمريكا قد تدخّلت في كل حرب أو أزمة قامت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع ارتفاع وتيرة التّدخل ودخول الاقتصاد الأمريكي في أزمات متلاحقة، لم يعد استخدام المرتزقة مجرد خيار استراتيجي، بل أصبح منهجياً وموجوداً في كل حروب أمريكا وأعوانها، وهو وجهٌ من وجوه التدخل الإمبريالي الأمريكي، تعضده في ذلك منظمات التمويل الأجنبية ووسائل الإعلام، والإنترنت والاستخبارات وصولا للتدخل العسكري المباشر المرافق للعقوبات الاقتصادية، وهنا تكتمل حلقة السيطرة على الدولة المستهدَفة.

استخدام المرتزقة -وإن كان مفضوحاً- يكفل لأمريكا وغيرها أن تلعب في الخفاء، مبقيةً الأمور خارج دائرة المراقبة، متنصّلةً من كل مسؤوليّة، كما يتيح لها دخول الحروب بشكل أسهل، فهي ليست بحاجة لموافقة معارضي الحرب ولا أن تلجأ للتجنيد الإجباري، ويمنحها فرصة شنّ حروب أكثر خلال وقت واحد، بحثاً عن مصادر الطاقة وتدمير حكومات ودول تسعى لاستقلال حقيقي.

تغيّرت ديناميّة الحروب بشكل واضح منذ مطلع القرن الحالي، لكن الحرب بالوكالة ترتبط بوفرة المال ولا مكان فيها للانتماء أو الهوية عند منفّذيها، لذلك تخرج مهزومة في نهاية المطاف.

حروب جيل رابع، أم ثورات مضادة معاصرة؟

إبراهيم علوش

حروب الجيل الرابع… الحروب بالوكالة… والحروب اللامتكافئة أو اللامتناظرة… هي بعض المفردات التي راجَ تداولها في السنوات الأخيرة لوصف الحروب غير التقليدية المستعِرة في بلادنا، فهي ليست حروباً بين جيشين لدولتين يتواجهان في حيزٍ جغرافيٍ واضح المعالم، إنما هي حروبٌ تتميز بتعدد الجبهات وسيولتها وهلاميتها، كما تتميز بتعدد أطرافها، وبأن أطرافاً أساسية فيها ليست حتى من الدول، وبأن أدواتها ليست عسكرية بالأساس، إذ يتداخل فيها الحيز العسكري مع المدني، والاستخباري مع الجماهيري، والسياسي مع الإعلامي، ويتداخل فيها الحيز الحقيقي مع الافتراضي، والحيز المحلي مع الإقليمي والدولي، لتتمخضَ كل هذه التداخلات عن لوحةٍ سورياليةٍ من الفوضى والتوحش والدمار المنظم كأنها شُكلت بريشة فنانٍ عبقريٍ مجنونٍ سَرَقت أصابعُه، على غفلةٍ من الزمن، مفاتيحَ الوجود والعدم.

نتعامل إذن مع ظاهرةٍ جديدة، فهي حربٌ تخاض بأدوات واستراتيجيات غير تقليدية ولو أن حواياها تشتمل على عناصرَ مألوفةٍ من حروبٍ سلَفَت.  فالقتل هو القتل، ولطالما تداخلت العوامل العسكرية مع العوامل غير العسكرية منذ الميدان الأول، فهل جديدها ليس إلا مزيجاً محدثّاً من عناصرها القديمة؟  أم أن تطوُّر تكنولوجيا الاتصالات والتكنولوجيا العسكرية هو ما يُلبِس “مارس”، إله الحرب، درعاً جديداً فوق لحمه وعظمه التليد؟ أم أن في النمط الجديد ما يكفي من العناصر الجديدة لكي تُصنَف في فئةٍ مختلفةٍ نوعياً عمّا سبقها من حروب؟

“فكتوريا: قصة عن حرب الجيل الرابع” هو عنوان الرواية التي وضعها الكاتب الأمريكي وليم ليند في العام 2014 عن ثورة مضادة في الولايات المتحدة نفسها ضدّ ما اعتبره “تأثيرات ماركسية” تسرّبت للثقافة والمؤسسة الحاكمة الأمريكية، ما يشبه خطاب دونالد ترامب الرئيس الأمريكي المنتخَب.  لكن ليند ليس روائياً بالأساس، بل هو مستشار سياسي منذ السبعينيات لعدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي وهو كاتب متخصص بالشأن العسكري، وقد كان مع عدد من الضباط الأمريكيين أحد واضعي نظرية الجيل الرابع من الحروب.  وهو واضع كتاب “دليل حرب المناورات” (1985)، مع أنه يحمل درجة الماجستير في التاريخ، ولم يدخل الكلية العسكرية أو يلبس البزّة العسكرية أو يدخل قتالاً في حياته.  لكن من المهم أن نعرفه لأن نظرية حروب الجيل الرابع التي أسهَمَ بوضعها مع بعض استراتيجيي المؤسسة العسكرية الأمريكية يبدو أنها هي التي تحكم حياتنا العربية المعاصرة اليوم.  وكان ليند يوقّع مقالاته بالمناسبة، كما وقّع رواية فكتوريا أعلاه، باسم مستعار هو “توماس هوبز”، الفيلسوف الإنكليزي المحافظ الذي ولد في نهاية القرن السادس عشر وعاش وكتب في القرن السابع عشر، وخرج بنظرية العقد الاجتماعي وهو واضع التعبير اللاتيني المشهور في الفلسفة السياسية Bellum omnium contra omnes الذي يعني بالعربية “حرب الجميع ضد الجميع”!

المرة الأولى التي ظهر فيها تعبير “حروب الجيل الرابع” إلى حيز الوجود كانت في العام 1989 على يد وليم ليند وعدد من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين.  وقد نُشرت دراسة صغيرة في مجلة قوات المارينز Marine Corps Gazette في عدد شهر تشرين أول 1989 باسم وليم ليند أولاً ومن ثم أسماء أربعة ضباط أمريكيين تحمل عنوان “الوجه المتغير للحرب: نحو الجيل الرابع”.  والفكرة بسيطة: كسر احتكار الدولة على الحق في ممارسة العنف وامتلاك القوات المسلحة من خلال لاعبين غير رسميين، مما يعيد أشكال النزاع المسلح إلى مراحل ما قبل الحداثة (أي إلى مراحل همجية، مع أنهم لم يقولوا ذلك صراحةً).  وملّخص تلك الدراسة لا يزال معروضاً للبيع عبر موقع المجلة على الإنترنت بالمناسبة مقابل أربعة دولارات: تباً للرأسمالية!

ويبدو أن الاستراتيجيين الأمريكيين عكفوا ملياً على استخلاص دروس حرب فيتنام وغيرها من حروب التحرير الشعبية في العالم الثالث التي فشلت فيها الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، أو تكبّدت وجيوشُ الأنظمة التي دعمتها خسائرَ غيرَ محتملة جعلت تحقيق تلك الأهداف غير مجدٍ، فقررت أن تسطو على خطاب واستراتيجيات وتراث العمل التنظيمي والجماهيري والنقابي للحركات القومية واليسارية المناهضة للإمبريالية، من جنوب شرق آسيا إلى أمريكا اللاتينية مروراً بالوطن العربي وأفريقيا، لتوجهه الإمبريالية ضدّ خصومها.  وهو ما بتْنا نرى ملامحه بوضوح من حولنا، من الحديث عن “المقاومة” في اليمن، المدعومة من العدوان السعودي، إلى الحديث عن “الثوار” في ليبيا وسورية المدعومين من حلف الناتو والأنظمة الرجعية العربية، إلى تبنّي الإعلام الإمبريالي والرجعي العربي لـ”الاحتجاجات الجماهيرية” ضدّ “الطغيان والاستبداد”!  وكما تنبأ شاعرنا مظفر النواب:

من أين سندري؟! إنّ الردة تخلع ثوب الأفعى
صيفاً وشتاءً تتجدد
أنبيك تلوثَ وجهُ العنفِ
وضجَّ التاريخُ دعاوىً فارغة
وتجذمنَ لياليه
يا ملك الثوار
أنا أبكي بالقلب لأن الثورةَ يزنى فيها
والقلب تموت أمانيه
يا ملك الثوار أنا في حِلٍّ
فالبرق تشعب في رئتيَ
وأدمنت النفرة
والقلبُ تعذر من فَرطِ مراميه

 

فكأنهم قرأونا وقرأوه وطبقوه معكوساً، وحيث قصّرنا عن اجتراح العدالة الشاعرية لأمّتنا ولذّاتنا المقاوِمة، لم يكتفوا بإجهاض ثوراتنا الحقيقية وسحْقها، بل لوّثوا وجه العنف الثوري وأطلقوا دعاوىً فارغةً وزنوا بالثورة فأضحى التاريخ جُذاماً تتساقط الدول والمجتمعات على أطراف لياليه بسيوف الرِدّة، لكيلا يجرؤَ أحدٌ منا بعدها يوماً أن ينشدَ عدلاً أو يطالبَ بالثورةِ الحقّة أبداً.  إنها الفتنة العمياء، تراها حيثما جال ناظراك من الشام لبغدانِ ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوانِ.  وقد كنّا أمةً وسطاً لنكونَ شهداء على الناس فبتْنا على نحْرنا شهداء، وبات شهداؤنا إرهابيين وبات إرهابيونا هُمُ الشهداء!

 

هي ليست نظرية مؤامرة يا سادة… لكننا لا نقرأ!  فهم يناقشون خياراتهم علناً في مجلّاتهم ومراكز أبحاثهم قبل أن تصبح سياساتٍ واسراتيجيات، أما خطط العمل التفصيلية فهي التي تبقى في حيّز السريّة.  ونحن أمة اقرأ مشكلتنا أننا لا نستيقظ إلا بعدما تصيبنا مثل تلك الخطط التفصيلية في مقتل.  يسجل للكاتب وليم ليند مثلاً أنه عارضَ تورّطَ الولايات المتحدة في احتلال العراق من منطلق أن الحرب غير المباشرة، حروب التفكيك، هي الأجدى.  وفي عام 2006 توسّع العقيد في سلاح المارينز الأمريكي توماس هامز في شرح مفهوم حروب الجيل الرابع في كتابه الشهير “المقلاع والحجر”The Sling and The Stone .  وهو كتاب يضع أسس نظرية الحروب اللامتناظرة، أو حروب الجيل الرابع، بقلم عقيد من قوات المارينز أسهَمَ منذ العراق بتدريب كثيرين على خوضها ميدانياً، شارحاً حدود القوة العسكرية التقليدية ونقاط ضعفها.  وأهمية العقيد هامز أنه متخصص بحروب مكافحة التمرد Counter-insurgency warfare.  وقد استخلص في كتابه “المقلاع والحجر” دروس الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987 ضدّ العدو الصهيوني، ووضع بناءً عليها مفهوم “قوة الضعف”، حيث يتم استخدام المتظاهرين العزّل مقابل قوة الدولة على مرأى من الكاميرات ووسائل الإعلام لإسقاط خطاب الدولة ومصداقيتها إعلامياً وسياسياً بصفتها “القوة الغاشمة التي تقتل الأطفال في الشارع” (درعا 2011 نموذجاً؟)!  ومن الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000 ركّز هامز على دراسة “حملة العمليات الاستشهادية” التي اعتبر أنها تسقِط قانون “قوة الضعف” التي تحققت في انتفاضة عام 87، لتفتح مسار مواجهة عسكرية شاملة هي غير مباشرة بالتعريف.  وبعد ذلك درس هامز وحلل تجارب مقاومة الاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان، ومن ثم أدخل الإنترنت على المعادلة، معتبراً أنّ الشبكات الأفقية غير الهرمية وغير المركزية هي الأنسب لشنّ حروب الجيل الرابع.

 

ليس هنالك أدنى شك إذن أنّهم درَسونا وتعلّمونا ليسرقوا أدوات الثورة الحقيقية ضدّ الإمبريالية والصهيونية، العربية الفلسطينية بالذات، ليحولوها إلى أدوات للثورة المضادة.  ويبدو من حروب الجيل الرابع أن مزيج “المتظاهرين السلميين الذين يُقتَلون في الشارع” و”حملة العمليات الانتحارية في كل وأي مكان” والشبكات غير المركزية على الإنترنت، بات معْلَماً شبه ثابت لحروب الجيل الرابع. لا بل أن الشبكات غير المركزية من “الثوار” في الفضاء الحقيقي، غير المرتبطة بهرمية مركزية سياسية أو عسكرية واحدة، باتت بدورها معلماً من معالم تلك الحروب.  وقد اعتبر هامز أن ممارسة حروب الجيل الرابع بدأت مع الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، ومن هنا فقد جّير هامز وأقلَمَ كل تكتيكات حروب العصابات في التاريخ الحديث، ضدّ الاحتلالات بالذات، في بلورة نظريته الاستراتيجية في الحرب اللامتناظرة أو اللامتكافئة، أي بين طرفين قوي وضعيف أو بين طرفين أحدهما ليس دولة أو الإثنين معاً.

 

يصف منظّرو حروب “الجيل الرابع” بهذا الاسم باعتبار أن الجيل الأول من الحروب الذي درَجَ بين عامي 1648 والحرب العالمية الأولى كان يتقابل فيه جيشان بخطوط منظّمة متراصّة يتبادلان خلالها إطلاق النيران من البنادق والمدافع المحشوة يدوياً بشكل مباشر.  أما حروب الجيل الثاني التي دخلت على الخط في مستهلّ الحرب العالمية الأولى فقد تضمنّت مفهوم القصف غير المباشر، مع تطور الأسلحة، المدفعية خصوصاً.  ومع ظهور البنادق الآلية والمدفع الرشاش باتَ الاصطفاف بصفوفٍ متراصة متقابلة أشبه بالانتحار المجاني، ومن هنا بدأ البحث عن استراتيجيات جديدة لخوض القتال تبلورت في حروب الجيل الثالث على يد الاستراتيجيين الألمان في خضم الحرب العالمية الثانية حيث يتم الالتفاف على العدو واختراقه ومهاجمته من المؤخرة على غرار ما كان يجري في حروب الصاعقة Blitzkrieg.  والفكرة برمتها تتمحور حول الانتقال من المواجهة المباشرة إلى المواجهة غير المباشرة في شنّ الحروب، وصولاً لحروب الجيل الرابع التي تعتمد المبدأ غير المباشر وتجنب المعارك العسكرية الكبرى الحاسمة والفاصلة كأساس جوهري لعملها.

 

لكن ثمّة إشكالية كبرى في اعتبار حروب الجيل الرابع شكلاً أرقى من المواجهة غير المباشرة ما بين خصمين فحسب، لأن كل منطق حرب العصابات عبر التاريخ يقوم على المواجهة غير المباشرة، وتجنّبْ المعارك الكبرى الفاصلة إلا بعدما يكون الطرف الضعيف قد بدأ بتحقيق نوعٍ من التوازن الاستراتيجي مع الطرف القوي الذي لا قِبل له بمواجهته.  وحروب العصابات ضدّ محتل أجنبي، والثورات الشعبية المسلحة ضد الإمبراطوريات، ثورة سبارتاكوس في روما القديمة وثورة الزنج جنوب العراق نموذجاً، قديمة قِدم الاحتلالات والإمبراطوريات.  ولعل ما يميّز المفكر الاستراتيجي وليم ليند عن العقيد توماس هامز هو التقاط مثل هذه النقطة تحديداً.  فالثاني ركّز على أقلَمَة تكتيكات حرب العصابات وحروب التحرير الشعبية منذ ماوتسي تونغ إلى فلسطين والعراق لمتطلبات الثورة المضادة استراتيجياً، وبالتالي كان أكثر تركيزاً على البعد العملياتي، وعلى تطبيق المفهوم عملياً، أما وليم ليند فأشار في مراجعته الإيجابية عموماً لكتاب هامز (المقلاع والحجر) إلى ثغرة جوهرية فيه هي أنه لا يميز بما فيه الكفاية ما بين حروب الجيل الرابع وتكتيكات حروب العصابات عبر التاريخ، مضيفاً أن الفرق لا يتعلق بطريقة خوضها، بل بهوية من يخوضها، وبأهدافه السياسية.

 

هذه الثغرة، أيّ الضبابية في رسم المعالم المميزة للمواجهات غير المباشرة في حروب العصابات وحروب التحرير الشعبية عن حروب الجيل الرابع نلمسها أيضاً في كتاب “حروب الجيل الرابع/ الحرب بالوكالة” لمجدي كامل، الصادر عن دار الكتاب العربي عام 2016.  وهو كتاب ممتع، ويقدم الموضوع بصورة جيدة للقراء العرب، ومن الواضح أن كثيراً من الجهد قد بُذل في وضعه، لكنه يغرق في توصيف تجليات حروب الجيل الرابع وأبعادها في الدول العربية في مجالات الإعلام والإنترنت والمنظمات غير الحكومية والدّين والاقتصاد والإرهاب وغيرها، وهذا مهمٌ جداً بالطبع، لكنه يترك القارئ، على مستوى التعريف، في حيرة من أمره عما يميز حروب الجيل الرابع عن غيرها من وسائل المواجهة غير المباشرة التي يخوضها الضعيف ضد القوي المتجبّر كحرب عصابات ميدانية أو سياسية أو إعلامية أو اقتصادية أو غير ذلك.  ومع أن ذلك الكتاب يربط بوضوح ما بين حروب الجيل الرابع وما بين الإمبريالية، باعتبارها حروباً بالوكالة، ومع أنه يظهر تكراراً كيف أن هدف حروب الجيل الرابع هو الاستنزاف لا القضاء على الخصم في معركة نهائية مبرمة، وأنه دفع مؤسسات الدولة للانهيار والمجتمع للتفكك، لا إسقاط نظام الحكم واستبداله بآخر فحسب، فإن ذلك لا يظهر على مستوى التعريف والتنظير لماهية حروب الجيل الرابع، بمعنى أنّ ذلك الكتاب يقدم تلك الفكرة عبر الكثير من الشواهد والأمثلة والتفاصيل، ولكنه لا ينقلها إلى مستوى تنظير المفهوم.  وهذا مهمّ لكي نلتقط مسألة الفرق بين الثورات المضادة المعاصرة وحركات المقاومة، والفرق لا يكمن في أن حركات المقاومة تتمتع بسوية أخلاقية أعلى بكثير فحسب، أو أنها لا تدمر وطنها أو تستهدف شعبها مثل الثورات المضادة.  فأحد أهداف الثورات المضادة المعاصرة هو تشويه المقاومة المشروعة من خلال تبنّي بعض تكتيكاتها واستخدامها ضدّها.

 

لذلك نقترح أن حروب الجيل الرابع، إن صحّت مثل هذه التسمية، وربما يكون من الأفضل أن نسميها “حروب الثورات المضادة المعاصرة”، هي حروبٌ تُخاضُ ببعض أدوات حروب العصابات وحروب التحرير الشعبية، بعد تشويهها إلى درجة البشاعة لتكفّر الناس فيها، من قبل قوى مرتبطة بالإمبريالية، لتحقيق هدف الاستنزاف والانهيار وتحويل الدول إلى دول فاشلة.

 

لكن حتى مثل هذا التعريف لا يكفي!  لأنّ عصابات الكونترا في نيكارغوا في الثمانينيات مثلاً التي كانت ثورة مضادة ضدّ النظام السانديني في البلاد كانت تستخدم أساليب حرب العصابات أيضاً، وكانت تؤججها ضدّ الناس، وكانت مرتبطة مباشرة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكانت تهاجم المدارس وتحرق الحقول وتغتال العناصر البارزة من المواطنين، لكنها كانت حركة مركزية هدفها إسقاط النظام السانديني ووضع نظام بديل موالٍ للإمبريالية محلّه.

 

كذلك نجحت الثورات الملونة في أوروبا الشرقية، بدعمٍ من الإمبريالية، في استخدام وسائل الحشد الجماهيري والتظاهر لإسقاط دول المنظومة الاشتراكية وإحلال أنظمة بديلة لها.  أما حروب الثورات المضادة المعاصرة المعروفة باسم “حروب الجيل الرابع” فإنها تمزج كل تلك الأدوات، بعد تكثيفها ورفعها للأس العاشر، وإضافة عنصر الإنترنت والفضائيات عليها، لتتميز بأنها: 1) لا تتمتع ببنية مركزية موحّدة أو شبه موحّدة تنظيمياً أو سياسياً أو عسكرياً، 2) لا تطرح برنامجاً سياسياً أو عقائدياً واحداً يتّصف بالحد الأدنى من الإجماع، 3) ليتمخض ذلك عن نشوء حرب الكلّ ضدّ الكلّ بعد كسر احتكار الدولة على الحق في تأسيس قوات مسلحة أو استخدام القوة العسكرية، 4) من دون وجود قوة بديلة متماسكة تستطيع أن تحلّ محلها، و5) ومن دون وجود أي إمكانية للتفاهم مع كل هذه المجموعات على “حلّ سياسي” مستقر طويل المدى.

 

فهي إذن مجموعات لا تعمل بأجندة محلية، ولو كانت متواطئة مع الإمبريالية، بل تعمل ضمن أجندة تفكيك الدول والمجتمعات إلى ما لا نهاية، فمركز ثقلها خارجي لا داخلي في الأعمّ الأغلب، أو أن الإمبريالية تتلاعب بها في سياق لعبة أكبر منها بكثير، فهي مبنية أو مجيّرة لإنتاج الخراب وإعادة إنتاجه لحساب أجندة خارجية موظِّفة كل التناقضات المحلية في تحقيق مثل ذلك المشروع.

 

وربّ قائل أن السطور أعلاه تتغاضى عن الأخطاء والمظالم والانتهاكات المحلية.  ولكن باستثناء “المدينة الفاضلة” التي تخيّلها أفلاطون أو الفارابي، ينْدر أن تجدَ مجتمعاً لا يعاني من تناقضات أو انقسامات من نوعٍ أو آخر، طبقية أو مناطقية أو عرقية أو طائفية، كما يندر أن تجد دولةً ليس لها أي مشاكل حدودية أو توترات جغرافية-سياسية مع غيرها… حتى قصّة الفساد والاستبداد، تجدها في الولايات المتحدة بصيغ مرتبطة بالمؤسسة الحاكمة الأوليغاركية (وليس بأفراد بالضرورة)، وتجد توترات عرقية حادة وتاريخاً من العبودية والإبادة الجماعية وسرقة الأراضي من السكان الأصليين أو المكسيك (كما في حالة تكساس وأريزونا وكاليفورنيا مثلاً.  السؤال الحقيقي هو: هل هناك أطرافٌ خارجية تستثمر في تلك التناقضات وتوظّفها في سياقات تحويل الدول التي تعاني منها إلى دول فاشلة؟ وهل هناك نخب محلية وطنية واعية تسعى لمعالجة تلك التناقضات بطريقة ملتزمة بسقف الوطن حتى وهي تعارض وتطرح قضايا ومشاكل مشروعة تريد أن تحلّها حقاً لا أن تبقيها جرحاً مفتوحاً برسم التوظيف؟ فعندما توجد مثل تلك النخب، يضعف دور الخارج في الداخل، وعندما لا يكون للخارج مصلحة أو قدرة على توتير الداخل، يمكن أن تجد تناقضات متفاقمة لا تتحول بالضرورة إلى مجتمعات منقسمة وحرب أهلية، وإذا تحولت، فإن النخبة الحاكمة تكون قادرة على احتوائها (الباسك في إسبانيا والجيش الجمهوري الإيرلندي نموذجاً). أمّا القول أنّ وجود مظلمة مشروعة أو مشكلة حقيقية هي وحدها سبب تدمير دولة وتفكيك مجتمع، فينمّ عن سذاجة وسطحية بصراحة، إذا افترضنا حسن النية…

صناعة الوهم

 

عبد الناصر بدروشي

 

اكتشف الإنسان قديماً أنّ بإمكانه أن يخدع العقل البشري والعين البشرية، واستعمل ذلك منذ آلاف السنين في عدة ألعاب وحيل بغرض التسلية تُعرَف باسم الخدع البصرية أو الوهم البصري أو فنّ الوهم، كلّها مسميات لفنٍ واحدٍ يعتمد على خداع العين وتضليل عقل المشاهد من أجل إيهامه بصورة لا أساس لها من الصحّة تتشكل نتيجة تجميع صور ومعلومات تجري معالجتها في الدماغ بطريقة توصل إلى نتائج غير صحيحة ومغايرة للواقع، إلّا أنّ المشاهد يتوهّم أنّ ما يراه حقيقي.

قديماً تمّ استخدام هذا الفن من قبل السَّحَرة في السيرك وفي المهرجانات للتسلية والمتعة، أما اليوم فقد تمّ تطوير هذا الفن من خلال نفس المبدأ، مبدأ “الوهم” و”التضليل”، لتتم السيطرة على الشعوب والمجتمعات وإيهامها بأشياء منافية للواقع وتحريكها في هذا السيرك الكبير الذي نعيش فيه بما يخدم مصالح اللاعبين الأساسيين.

والمعركة تدور في قسمٍ كبيرٍ منها بين صنّاع الوهم وبين المتنوّرين الذين لم تنطلِ عليهم الخدع والتضليل الممارَس، حيث تسعى الإمبريالية لتضليل الجمهور بينما يناضل الثائر في سبيل نزع الغشاوة عن بصيرة الجمهور وكشف زيْف الصورة التي يحاول أنْ يقنع بها الجماهير بأنّها حقيقية.

ليس من المبالغة توصيف أنّ كل ما يجري اليوم من أحداث سياسية محكومٌ في جزء كبير منه بنفس قوانين “فنّ الوهم” والخداع البصري، حيث أدركت الإمبريالية أنّ التفوق التكنولوجي في مجال تصنيع الأسلحة لا يكفي لإخضاع الشعوب والسيطرة عليها، خاصةً بعد تلقّيها دروساً مؤلمةً في الجزائر وفيتنام والعراق وغيرها من الدول التي تصدّت بإمكاناتها البسيطة للهيمنة الاستعمارية، وكبّدت العدو خسائرَ لا قِبَلَ له بتحمّلها.

إنّ الفكرة الرئيسية التي تحوم حولها فلسفة الحرب الناعمة أو الجيل الرابع من الحروب هي تحويل نقطة قوة المقاومة وحركات التحرر الوطني إلى نقطة ضعف، أو الاستيلاء على هذا السلاح وتوجيهه ضدّ المقاومة، وبما أنّ السلاح الاستراتيجي للمقاومة هو الجماهير، فالفكرة التي تفتّقَ عنها ذهن الإمبريالية هي السطو على هذا المخزون الهائل وهذا السلاح الفعّال وتجييش الجماهير واستعمالها في تخريب أوطانها.  فعوضاً عن تحمّل التكاليف الباهظة للحرب من دماء وضحايا وملايين أو تريليونات الدولارات وترسانات الأسلحة، تقوم الإمبريالية بتحريك الشارع وتوجيهه في إطار صراعٍ تناحري وعملية تآكل ذاتي، فيصبح الدم المهرق عربياً 100% والأرض المحترقة عربية 100% والمصاريف المنفقة عربية 100%.

وبدأ ذلك فعلاً في مخابر وكالة المخابرات الأمريكية، وتجنّدَ لأجل ذلك عدد من الباحثين والاستراتيجيين من أمثال توماس بارنات وماكس مايوراينگ وغيرهم الكثير، وخلَصوا إلى فكرةٍ مفادها إعادة تقسيم الوطن العربيّ على أسس عرقية وطائفية ومناطقية، وإدخاله في حالة من الفوضى والدموية.

إنّ التحليل الذي تقدّم ليس فصلاً من فصول نظرية المؤامرة، ولا هو من بنات أفكار كاتب السطور، بل بإمكان القارئ الكريم الاطّلاع على العديد من الدراسات التي أعدّها العدو بنفسه، وهي مُتاحةٌ لمن يرغب بالمناسبة وليست دراسات سرية ولا هي بالتسريبات، حيث بلغ استخفاف العدو بنا بمكان يسمح له بالإفصاح عن خططه المستقبلية، كما أنّ الدراسات التي قام بها مفكرو العدو المعتَمدين لديه متوفرة على النت لمن يرغب، سيجدها إما مكتوبة أو بالفيديو بدءاً بموقع ويكيبيديا حيث جاء:

(الحرب الجديدة حسب تعريف أول من أطلقها في محاضرة علنية وهو البروفيسور الأمريكي “ماكس مايوراينگ” في معهد الأمن القومي الإسرائيلي حيث عرّفها بنقاط مختصرة كالآتي: “الحرب بالإكراه، إفشال الدولة، زعزعة استقرار الدولة ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية”.)

بعيداً عن التنظير والدراسات التي كتبت حول حروب الجيل الرابع، وحتى لا نغرق في البحث عن الأسس النظرية لهذا النوع من الحروب، سننطلق من الواقع العربي المشاهَد بالعين المجردة:

استند صنّاع الوهم على بعض الحقائق والصور الحقيقية ليتوصلوا فيما بعد لتركيب الصورة المزيفة التي تمكنوا من خلالها من إقناع الجماهير بأنها حقيقية:

إذا ما راجعنا شريط أحداث ما سمي بالربيع العربي والذي أوصلنا إلى مزيدٍ من التبعية والتخلف والدماء والفتن الطائفية والعشائرية ومزيدٍ من التطبيع مع العدو الصهيوني، نجد أنّ الإمبريالية أو صنّاع الوهم انطلقوا من واقع الفساد الذي استشرى في دولنا العربية وواقع التهميش والفقر والبطالة والذي لا تخلو منه دولة، فسلّطوا الضوء على فساد المسؤولين في دائرة السُّلطة، ومن ثم دعوا الجماهير عن طريق قنوات إعلامية أنشأت سلفاً ناطقة بالعربية، كالجزيرة وفرانس 24، وكوادر إعلامية شبابية تمّ إعدادها في مراكز أعدّت لهذا الغرض مثل “فريدم هاوس” الصهيو-أمريكية، و”أكاديمية التغيير” في إمارة قطر التابعة للصهيونية أمثال سليم عمامو ولينا بن مهنى في تونس ووائل غنيم في مصر، الذين عملوا كمدونين في صفحات التواصل الاجتماعي والذين أتيح لهم المجال للظهور الإعلامي، بالإضافة إلى إعداد كوادر سياسية عاشت لسنوات في حضن الغرب وسبق أن ساهمت في التآمر على الأمة أمثال البرادعي والأتاسي والمرزوقي الذي شغل منصب رئيس جمهورية تونس بعد أحداث مؤامرة 14 جانفي/ كانون الثاني، والذي ساهم في استكمال مشروع ربيع الصهيونية وتخريب ليبيا وسورية، واحتضان مؤتمر أعداء الشعب السوري..

تمّ الإعداد لكل هذا من قبل صنّاع الوهم، وانطلقوا من مظلومية الشعب وحقّه في العيش بكرامة ليصلوا به إلى نتيجة “عبقرية” وهي أن مشكلتنا الرئيسية تكمن في الفساد والاستبداد وغياب الديمقراطية أساساً وليس الاحتلال والتبعية! هكذا قطعوا حلقة الوصل بين حالة التخلّف والفساد التي نعيشها ودور الإمبريالية في تجذير وتأبيد واقع الفساد لدينا، واستخدمت في المعركة قنوات إعلامية أنفقَ عليها بسخاء ورجال دين ووعاظ وجيوش من المحللين السياسيين المرتزقة الذين يطلّون علينا صباح مساء من شاشات التلفاز من أمثال الصهيوني عزمي بشارة، كل هذه الأدوات استعملت لتوصل الصورة التالية إلى أذهان شبابنا وإقناعهم بها، وهي أن مشكلة الأمة العربية هي مشكلة ديمقراطية وأن محاربة الاستبداد أولى من محاربة الاحتلال، فبدل أن يتم تثوير الشارع على الصهيونية والهيمنة الغربية نجدهم يثوّرونه على نفسه وعلى قوى المقاومة وانطلقت الفتنة الطائفية من عقالها، فأصبح مشكلنا الأساسي كأمة عربية هي بين شيعة وسنة وبين درزي وعلوي وبين مسلم ومسيحي وأصبحت مقاومة الصهيونية حراماً وحركات المقاومة مستهدفة كونها كافرة، وحزب الله حزب “رافضي” كافر وحزب البعث حزب كافر والنظام المقاوِم في سورية نظام شيعي “نصيري” بينما اليهود هم أهل كتاب وأمريكا أقرب إلينا من روسيا الشيوعية الملحدة.. وأصبح التقييم لا يقوم على أساس الموقف من الاحتلال والصهيونية بل على أسس طائفية، فيعبر “الثائر” من أرض فلسطين من دون أن يطلق رصاصة واحدة على الصهاينة ليقاتل إخوانه المقاومين في سورية لا بل ويتداوى في مشافي الصهاينة في صفد وغيرها كما هو حال جبهة النصرة.

بالإضافة إلى الحملة الإعلامية المضللة لا يخفى على أحد اليوم أسلوب تركيب الصور والفيديوهات المؤثّرة على مشاعر الجماهير واستعمال صور ضحايا الكوارث الطبيعية وحوادث الطرقات المريعة وصور ضحايا الحروب القديمة كأحد أهمّ أدوات الإيهام والتضليل في ليبيا والعراق ومصر وسورية .. وعلى الرغم من قوّة وفاعلية هذه الأساليب في التآمر الذي يقوم بصياغة أكاذيب بشكل منظم، لإخفاء الحقيقة فإنّ التضليل والخداع لم يطل الجميع، لذلك تفتقت أذهان الإمبرياليين والصهاينة عن حيلة جديدة.

اخترعوا مرضاً نفسياً جديداً وأعطوه اسم “نظرية المؤامرة” … وذلك عندما عجزوا عن خداع القلّة الواعية من المناضلين واتجهوا نحو محاولة إسكات أصواتهم، وذلك أوّلاً بتوجيه رأي “المشاهدين السلبيين” إلى أن ما يقوله هؤلاء المستنيرون ما هو إلا هوس وجنون وأعراض لمرض نفسي معروف ومألوف يسمى “نظرية المؤامرة”، وثانياً بدفع الكثير من المستنيرين إلى التردّد في الإدلاء بآرائهم خشية اتهامهم بهوس المؤامرة.

وباختراع هذا “المرض” الجديد، حقق المتآمرون جزءاً كبيراً من نجاح مؤامراتهم ضدّ الشعوب الحرّة والدول المستقلّة..

فالفرق بين المؤامرة ونظرية المؤامرة هو أنّ المؤامرة أمرٌ واقعٌ بالفعل وأنت قمت بكشفه وإدراك خطّته الخفية بوصفك من القلة المستنيرة.  أما نظرية المؤامرة فهي مصطلح اخترعه هؤلاء المتآمرون لكي يصرفوا الناس عن الإصغاء لك حين تحاول إقناعهم بوجود مؤامرة واقعة بالفعل.  باختصار، “نظرية المؤامرة” هي مؤامرة تهدف لصدّك عن كشف المؤامرة وتحويل عموم المواطنين إلى “مشاهدين سلبيين”.

ولنضرب مثلاً بسيطاً على ذلك بتحليل الانقلاب الذي قام به الجيش بقيادة بينوشيه في تشيلي المدعوم أمريكيّاً ضد الرئيس المنتخب سالفادور أليندي وحكومته، والمؤامرة في هذه الحالة ذات أركان ثلاثة هي: المخابرات المركزية الأمريكية، والمجلس العسكري التشيلي، وممثلي الرأسمالية التشيلية الكبيرة، وهي أطراف كانت متضرّرة من سياسات ألليندي الاجتماعية التي جعلت تشيلي خارجة عن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية والرأسمالية العالمية، فدبّروا المؤامرة للتخلص من ألليندي في انقلاب عسكري عام 1973 وسياساته ليتولى بينوشيه قيادة البلاد ويعود بها من جديد إلى حظيرة التبعية ويعود لتبنّي سياسات الاقتصاد الحر التي تخدم المصالح التقليدية للولايات المتحدة والجنرالات وكبار رجال الأعمال.  ولإخفاء معالم الجريمة المؤامرة كان الإعلام الغربي يحرّك جوقة إعلامية كبرى لنشر أكاذيب ومعلومات خاطئة إلى جانب بعض الحقائق عن مظلوميات أو أخطاء هنا أو هناك وإخفاء كل الإنجازات والإيجابيات لنظام ألليندي وتصوير ما حدث على أنه في مصلحة التشيلي على “المدى البعيد”، ورغم وضوح المؤامرة في هذه الحالة إلّا أننا نجد من يشكّك بأنه ثمّة مؤامرة أجنبية تمّ تدبيرها من الخارج.

باتَ واضحاً أنّ “الثورات الملونة” هي عبارة عن تقنيات يجري تصويرها وبنجاح على أنها عملية عفوية. ولكنها في واقع الأمر تتميز بمستوى عالٍ من الدراما المسرحية.

وتحاول مراكز الديمقراطية الليبرالية بين الحين والآخر، استخدام هذا السيناريو في الدول التي ترغب أمريكا في قلب نظام الحكم فيها كمحاولة منها للنيل من سيادة هذه الدول وضرب مصالحها القومية وللقضاء على الأنظمة الوطنية والثورية المتبقية في العالم، ويترافق ذلك مع ضغوط خارجية لا سابق لها من جانب من يسمون بـ” الشركاء” في الغرب وأدعياء الديمقراطية.

وكمثال على هذه الثورات الملونة، حوّلت مثل هذه الثورات في أوكرانيا في 2014 – والتي أطلق عليها اسم “الميدان الأوروبي” – هذه الدولة من بلد مستقر إلى أطلال … كما تشهد البرازيل في الوقت الراهن، ثورة ملونة وتستخدم الولايات المتحدة هذه التكنولوجيا الناجحة للإطاحة بالرئيسة الوطنية والشرعية ديلما روسيف الرافضة للسير وراء نهج واشنطن. ونفس هذه التقنية نشاهدها اليوم أيضاً في الأرجنتين وفينزويلا أيضاً وفي وطننا العربي.

ولئن استطاع الأمريكان والقوى الإمبريالية تحريك شبابنا الذين يفترض بهم أن يكونوا وقود ثورتنا ضدّ التجزئة والاحتلال والتخلف عبر الوهم، فإنّ مهمة القوى الوطنية تقتضي التصدّي لهذا الوهم وتجييش شباب أمتنا في سبيل الحق ونصرة المستضعفين وتحرير فلسطين وتحرير كل الأراضي العربية المغتصبة،

ولئن واجَهَنا العدو بحرب ناعمة نعومة جلد الثعبان، فلزام علينا أن نجهّز لحربٍ خشنةٍ تردع العدو وتعيد لأمتنا مجدها السليب، فالتصدّي للحرب الناعمة لا يكون عبر كشفها فحسب والبكاء على الأطلال، وإنما بالانخراط الإيجابي في هذه الحرب والاصطفاف في خندق المقاومة… خندق الجيش العربي السوري ومن حالفه.

الحرب الثقافية

علي بابل

لكي تكون هناك حرب يجب وجود عدو ما توجّه هذه الحرب ضده من قبل عدو آخر، وفي العقدين الأخيرين وجّهت أمريكا حربها نحو عدو وهمي مصطنع لضرب عدوها الحقيقي في الماضي والحاضر والمستقبل.  العدو الوهمي هو “الإسلام”، أما العدو الحقيقي فهو الوطن العربي أو لنقل الوطن العربي المحتمَل أن تقوم له قائمة في أي وقت وبشكل مفاجئ بحيث لا يستطيع أحد الوقوف في وجهه.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تحديداً، وجّهت أمريكا كل ما تملك لسرقة الوعي العربي وتوجيهه لمسارات مرسومة من قبل الإمبريالية الأمريكية الشمالية، لنقل حرب باردة بين الوعي العربي والولايات المتحدة الأمريكية لسحق أي فرصة أو حركة لقيام أحد أقدم وأعرق القوميات في تاريخ البشرية للقيام بواجبها التاريخي في التقدم البشري والنهوض بالبشرية إلى الأمام.

الحرب الثقافية الموجَّهة من قبل جهاز الـ”CIA” استطاعت ترويض الآلاف من اليساريين والشيوعيين، إما السابقين أو المنشقّين، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبعد تكشّف حقيقة منظمة التحرير الفلسطينية التي وصلت لمكانها الذي خُطّطَ لها أن تكون فيه من مفاوضات خيانية مع العدو الصهيوني، أصبح هؤلاء الشيوعيون  وخلال سنوات قليلة ضمن اليسار “الديموقراطي” الذي “خُلق” في أوروبا قبل أن يُصنع هنا في الوطن العربي من قبل الإمبريالية الأمريكية الشمالية للوقوف في وجه اليسار الثوري وفي وجه الاتحاد السوفيتي للتخفيف من التناقض الطبقي والظلم الاجتماعي الذي حلّ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

استطاع جهاز الـCIA فتح عدة معارك في ساحات مختلفة من الوطن العربي على المستوى الثقافي، ففي السياسة استطاعت الأنظمة الرجعية كبْح جماح اليسار العربي والقوميين بعد حرب الخليج لمصلحة التيار الإسلاموي والتيار الليبرالي المدعوم بشكل علني من قبل الكومبرادور التابع بدوره للإمبريالية.  وعلى المستوى الأدبي والنخبوي تمّ تلميع وإبراز كل مثقف يتماهى مع الثقافة الاستهلاكية والليبرالية وذلك عبر الجرائد والمجلات وكافة وسائل الإعلام.  أحلام مستغانمي مثلاً على المستوى الأدبي والكثير من الشعراء الذين انحدروا من كتابة القصائد الثورية والقومية إلى نَظْم قصائد غير مفهومة ولا تلامس الواقع الحقيقي للجماهير العربية.

وكل ذلك كان يتم تحت إشراف منظمة الحرية الثقافية “Congress for cultural freedom” التي كانت في كثير من الأحيان تمنح رواتب لهؤلاء “النخب” للترويج للخط الأمريكي ثقافياً، وبالتالي السيطرة على الوعي الاجتماعي للجماهير العربية. وكان ذلك يتم أيضاً من خلال تشجيع الحرية الفكرية التي هي في الحقيقة تفكيك للوعي الجمعي للجماهير من خلال إبراز الثقافة الأمريكية من فن تراجيدي، ديسكو، أفلام، إباحية جنسية، الفن من أجل الفن نفسه كما قالت الكاتبة سوندرز في كتابها “من الذي يدفع للزمار” الذي كشف الكثير من أساليب الحرب الباردة في أوروبا في تسعينيات القرن الماضي.

الحرب الثقافية التي شنّتها الإمبريالية الأمريكية الشمالية استطاعت تجنيد عشرات الآلاف من المواطنيين العرب من خلال الجميعات الممولة أجنبياً ومنظمات الحقوق الفكرية و”الحيوانية” وفككت وعيهم، حيث أصبح الكثير من هؤلاء الجنود يفتقدون للهوية الحقيقية ولا يعرفون هويتهم الوطنية أو القومية، وهذا بحد ذاته مرض مجتمعي كانت آثاره ظاهرة تماماً من خلال عملية “الربيع العربي” التي شنّتها الولايات المتحدة من خلال الطابور الخامس في صفوف جماهيرنا العربية في تونس، ليبيا، مصر، سورية.

في أوروبا استطاعت الولايات المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، السيطرة ثقافياً، إلى حد كبير، على أغلب العواصم والمدن الأوروبية من باريس إلى برلين “ألمانيا الغربية” وصولاً إلى أوروبا من خلال السينما والأدب وحتى الفن السوريالي المزيِف للوعي.  سيطرت على الإعلام الغربي تماماً، وفي النهاية نرى اليمين المتطرف يتقدم على الداعين إلى العولمة بعد الإرهاق الذي أصاب الطبقة الوسطى من تأثيرات العولمة!

وهنا في الوطن العربي تمّ تشويه رموز القومية العربية والوطنيين العرب، من العراق وسورية وصولاً إلى مصر والمغرب العربي، من خلال الأدب السياسي والروائي المشوّه الذي لا يزال يسيطر على المكتبة العربية منذ عقديْن من الزمان، إضافة إلى السيطرة على التلفاز والراديو والصحف العربية الرسمية والخاصة.  وهذا أدى في النهاية إلى تهميش أغلب الجماهير العربية لأنها غير قادرة على إدراك الحقيقة، فهي “هُزِمت معنوياً” بالمصطلح الحربي، وإما أن تكون قد تمرّدت ولكن تمردت على ذاتها وتحولت إلى “إرهاب” يقتل نفسه كما حدث في ليبيا وسورية والعراق.

ما تعرّضت له الجماهير العربية من تشويه للوعي الجمعي كان يمكن أن ينهي وجود أي أمة أخرى، وما منع حدوث ذلك هو تاريخية العقل والوعي العربي رغم الفصام الذي يصيبه الآن، فهو حقيقةً وعي يملك ملايين الذكريات والأحداث، وعي تمرّس على التكيّف مع التغيير رغماً عنه.  فالحرب المعنوية التي تشنّ على أمتنا العربية حديثاً، منذ أن بدأ مصطلح “الجيش الذي لا يقهر” جيش الصهاينة بعد حرب 1967 وصولاً إلى احتلال بغداد، كانت شرسة بحيث أنها أفرزت جماهير غير واعية لمصلحتها ولا هي مدركة للحقيقة، حقيقة الحرب التي تُشَنّ ضدها.  ورغم ذلك بقيت فئة صغيرة من هذه الجماهير متمسّكة بالهوية العربية في وجه كل التشويه الذي لحق بها خلال العصر الحديث والنكسات التي حلّت به.  حرب 1967 مثلاً، وبالرغم من ثقل الهزيمة، إلا أن الجماهير لم تعترف بالهزيمة وبقيت متمسكة بحتمية النصر وانطلقت في معركة ثأرية بشكل سريع مع حرب الاستنزاف.  وفي لبنان ورغم كل العوائق الداخلية والخارجية التي فُرضت على الجغرافيا اللبنانية، استطاع حزب الله شن حرب عصابات طويلة أمّنت له مركزاً استطاع من خلاله شنّ عمليات هجومية، انتهت بالتحرير عام 2000م.

وفي الجمهورية العربية السورية، استطاع العقل العربي التكيّف مع المتغيرات السياسية والعسكرية في العالم وقاوم الحرب الثقافية والاستخباراتية عليه من خلال حرب ثقافية مضادة بالرغم من عدم كفايتها في كثير من المجالات، إلا أنها استطاعت إخراج طليعة جماهيرية صمدت في وجه الحرب المختلطة التي تشن ضده بشكل مباشر منذ ستة أعوام، ومن خلال شنه معارك غير مباشرة ضد الأداة الإمبريالية في المنطقة، أي الكيان الصهيوني، ونقل المعركة إلى أرضهم في غزة وفي جنوب لبنان، وهذا عسكرياً يُحسب للعقل العربي في ظلّ تردّي الوضع الجيو- سياسي في الإقليم منذ احتلال بغداد.

الجمعيات الممولة أجنبياً، الندوات التي تعقد بإشراف هذه الجمعيات أكانت أكاديمية أم أدبية، هي جزء من الحرب الثقافية على الأمم المستقلة.  السينما والتلفاز هما أيضاً جزء من هذه الحرب.  محاولة التدخل في المناهج التعليمية في الدول العربية والدول النامية هي معركة أخرى تشنها الإمبريالية ضد الجماهير الكادحة في جنوب وشرق الكرة الأرضية.  لذلك لا سبيل إلا من خلال حرب مضادة شعواء، تشنها القوى الثورية في الوطن العربي ضد الإمبريالية وأدواتها التي تتمثل في الأنظمة الرجعية والليبراليين والإسلاميين، حرب لا هوادة فيها يكون فيها كل فرد طليعي هو رأس الحربة في مواجهة الثقافة الاستهلاكية، حرب تُضرَب فيها المصالح الإمبريالية أينما كانت في وطننا العربي، حرب تستهدف الروح المعنوية للعدو والمراكز العصبية التي لن تصمد في وجه الضربات التي توجهها له القوى الثورية باستمرار بلا كلل أو ملل، حرب يكون عنوانها طول النفس، والنصر أو الفناء.

الحروب العسكرية الأمريكية، من التدخل المباشر إلى الحرب على الإرهاب

معاوية موسى

من المأثورات المعروفة التي يتناولها كثيرٌ من المؤرخين في العالم والوطن العربي، تلك القصة الشهيرة التي رواها ذاتَ يوم القديس أوغسطين عن قرصان أسرة الإسكندر الأكبر، عندما سأله كيف تجرؤ على الاعتداء على الناس في البحار؟ فأجاب القرصان: وكيف تجرؤ أنت على الاعتداء على العالم بأسره؟ ألأنني أقوم بذلك بسفينة صغيرة فحسب، أًدعى لصاً، ولأنك تقوم بالشيء نفسه بأسطول كبير يدعونك إمبراطوراً؟!

فثنائية الحرب والسِلْم، اللص والإمبراطور، هي نفسها اليوم الإرهاب والمقاومة، الاحتلال والتحرير مع الاختلاف في التعبير والمسميّات فحسب، وهو تصنيفٌ يحتمل حالتين لا أكثر تكون فيه النتيجة حروباً ظالمةً يخوضها المستعمِر القوي ضد الشعوب والدول المستقلّة، يدمَّر فيها البشر والحجر والشجر، طمَعاً في خيرات تلك الشعوب والسيطرة عليها، عبر مصادرة سيادتها واستقلالها.  ولقد عرفت شعوب العالم عبر التاريخ حروباً بدأت ولم تزل مستمرة، إلا أنّ أعنف تلك الحروب وأشرسها وأقذرها هي تلك التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية مذ تأسيسها إلى اليوم والتي بدأتها بإبادة “الهنود الحمر”، سكان الأرض الأصليين، فكانت تلك المواجهة الدامية من أولى المجازر التاريخية التي ارتكبها الأمريكي في تاريخه، والتي سيؤسس لاحقاً سياسته الوحشية بدءاً من هناك.

في دراسة فريدة له بعنوان أمريكا والكنعانيون الحمر في مجلة أخبار الأدب (عدد حزيران 2002)، كتب منير الحمش عن الفظائع التي ارتكبها الأمريكيون إبّان قيامهم بالمواجهة الدامية مع سكان الأرض الأصليين. حيث تمّت إبادة ما مجموعه 112 مليون إنسان كانت ترتسم على وجوههم ضحكة الحياة وذلك ببساطة من أجل قيام “العالم الجديد”، وتمّ تسجيل 93 حرباً جرثومية شاملة خاضها الأمريكيون بغرض إبادة ذلك الشعب البريء، أما تلك القلة الضئيلة المشاغبة من الهنود فقد حفروا قبورهم بأيديهم في حروب متكافئة شريفة شفافة “مبرَرة” وفق المنطق الاستعلائي الأمريكي، وأن الهنود الآثمين كانوا هم المسؤولين عن إضرام نارها وحصد أضرارها، أو أنهم ماتوا قضاءً وقدراً بالأمراض التي حملها الأوروبيون معهم من دون قصد.

إنّ دراسات محايدة غير قليلة تشير إلى أن الهنود كانوا ينتشرون في مساحة تزيد على مساحة أوروبا بنصف مليون ميل، وأن المؤرخ الأمريكي قام باختزال العدد عن سابق إصرار وتصميم مما يزيد عن مائة مليون إلى مليون أو مليونين على أكثر تقدير عند وصول الغزاة الأوروبيين.

لقد وصف الإعلام الأمريكي المضلِّل والمخادِع للعالم أجمع هذا الموت القدري بأنه مأساةٌ مشؤومة (يؤسَف لها)، غير مقصودة، ولا متعمّدة، ولم يكن تجنّبها ممكناً تماماً كما جرى في (هيروشيما وناغازاكي)، حين اضطر “نسور” سلاح الجو الأمريكي إلى إفراغ شحنات قنابلهم النووية فوق رؤوس الأبرياء بدافع “شريف” يهدف إلى إيقاف الحرب العالمية، وأن ما جرى من مقتل مئات الآلاف في ساعة واحدة وخراب الأرض والحرث والنسل هو في الواقع مجرد أضرار”هامشية”، تواكب انتشار الحضارة وطريقة حياتها، وليس لك هنا بالتالي أن تلوم، إذا أردت أن تلوم، إلا القضاء والقدر، وبانتفاء النية والقصد والمسؤولية عن فَناء هؤلاء “الأشقياء” يصبح الحديث عن “الهولوكوست” الأمريكي متحاملاً متهوراً، سلبياً، غير مسؤول، وينبع من روح الكراهية للحضارة وطريقة حياتها.

إنّ الكتابة عن الحروب الأمريكية، أو تلك التي خاضتها حكومات الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر أو غير مباشر، تحتمل الجانب التوثيقي المباشر، التي لا بد من الإشارة إليها ومحاولة تذكير الأجيال الجديدة في وطننا العربي بمدى وحشيتها، عبر تقديم مادة روائية وتفصيلية لتلك الحروب وتداخلاتها وظروفها وأسبابها، وهي لا شك أنها جميعاً قامت على منطق العدوان والاحتلال فحسب، فالجانب التوثيقي هنا ربما يفوق أو يتفوق إن جاز التعبير على الجانب التنظيري، كون الحروب العسكرية المباشرة تنتمي إلى الحقب التاريخية التي كان فيها منطق الصراع مختلفاً كلياً عنه اليوم، وإن كانت نتائجه واحدة.

إذن سنستمر وسنحاول في هذه المادة أن نقدم ونأتي على ذكر أهم تلك الحروب، مرة أخرى بالمنطق التوثيقي، والذي بدأناه هنا بحرب إبادة “الهنود الحمر”، أي السكان الأصليين للولايات المتحدة الأمريكية، ومن هذه الحروب الحرب الأمريكية على فيتنام في ستينيات القرن المنصرم، وتدخّلها ضد حكومة هو شي منه في هانوي ومنع توحيد شطري البلاد الشمالي منه والجنوبي، بعد أن قدّمت الدعم العسكري المباشر لحكومة ديم الجنوبية، لقمع الفيت منه (عصبة استقلال فيتنام المسماة زوراً الفييت كونغ) وهم ثوار فيتنام الجنوبية، سرعان ما تحول ذلك الدعم بشكليْه المادي والعسكري إلى إرسال قوات أمريكية إلى الجنوب الفيتنامي، الذي بدأ بـ 200 ألف جندي واستمر ليصلَ في فترات لاحقة إلى أكثر من نصف مليون، وقد قامت تلك القوات بالقصف الوحشي والهمجي لعدة سنوات، واغتالت واعتقلت عشرات الآلاف، وحرقت العديد من القرى والأرياف والغطاء النباتي للغابات، عدا عن التجميع القسري للسكان وتصفية الأسرى والقصف الشهير بقنابل النابالم.

لم ينفع الترهيب مع الفيتناميين ولم تجبرهم هجمات الولايات المتحدة المتكررة وقصفها المتواصل على الاستسلام، كما لم تغْرِهم دعوات الأمريكان للتفاوض، ولاحقاً ظهرت دعوات أميركية مكثّفة لوقف الحرب وعمّت المظاهرات المدن الأميركية وارتفعت الحمَلات الصحفية، وازدادت قوة الدعوة المطالِبة بإيقاف الحرب عندما نشرت وسائل الإعلام الممارسات البشعة واللاإنسانية التي عامل بها الجيش الأميركي المواطنين الفيتناميين، وقبل أن تضع الحرب أوزارها، وتعلن فشل العدو الأمريكي، كانت نتيجة تلك الحرب وفاة مليوني فيتنامي وثلاثة مليون جريح واثني عشر مليون لاجئٍ.

ومن أشهر الحروب المباشرة والعسكرية التي خاضتها الولايات المتحدة هي الحرب الكورية، عندما قامت كوريا الشمالية، مدعومةً من جانب الاتحاد السوفيتي، بالهجوم على جارتها الجنوبية، ما أدى إلى دخول أطراف أخرى في الصراع كالولايات المتحدة والصين وغيرهما.  وهنالك الحرب الأمريكية الإسبانية، وهي الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة لاجتثاث النفوذ الإسباني من القارة، في عام 1898، حيث شعرت الولايات المتحدة بأهمية كوبا في مشروع حفر قناة بين المحيطين في أمريكا الوسطى، وكان من أهم نتائجها استقلال جزيرة كوبا.  نذكر أيضاً الحرب الأمريكية المكسيكية واستمرت تلك الحرب عامين، وقد بدأت في عام 1846 واستمرت حتى عام 1848، واندلعت المعركة نظراً لرغبة الولايات المتحدة في ضمّ أراضي ولاية تكساس إلى أراضيها، بعد عشر سنوات من استقلال الولاية عن المكسيك، وهو ما تمكّنت الولايات المتحدة من تحقيقه فعلاً.

وإذا ما انتقلنا إلى حصّتنا نحن العرب من حروب العم سام، سنجد أنها الحصة الأكبر من الشرّ الأمريكي الذي طالَ العالم أجمع بقاراته الخمس، فهو قديم، بدأ ولم ينتهِ إلى يومنا هذا، وقد اتخّذ عدة أشكال، سنذكر منها الحروب المباشرة فقط بما أن المادة مخصصة لهذا الفرع من الحروب فحسب، ولعل أبرزها هي حرب الخليج، كانت حرب الخليج هي أقصر الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها، على الرغم من تكلفتها الكبيرة التي زادت عن 100 مليار دولار، واشتعلت تلك الحرب عندما قام الجيش العراقي بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين بضمّ الكويت في عام 1990، ما دفع إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الأب إلى تشكيل تحالفٍ دولي “لتحرير” الكويت في ما عُرفَ باسم عملية “عاصفة الصحراء”. سرعان ما عقبها فرض للحظر الجوي وحصار ظالم استمر طيلة ثلاثة عشر عاماً استشهد خلاله ما يزيد عن مليوني عراقي.

بعد ذلك سنشهد عصراً جديداً وحقبةً أخرى من الحروب الأمريكية، وهي ما يُعرف اليوم بالحرب على الإرهاب، فالحرب على ما يسمى الإرهاب، لم تكن حرباً واحدة، لكنها شملت الحرب على أفغانستان في 2001، ثم الحرب على العراق في 2003، حيث جاءت تلك الحروب في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث دخلت القوات الأمريكية أفغانستان بذريعة البحث عن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، باعتباره العقل المدبر لتلك الهجمات، ثم قامت بالهجوم على العراق بدعوى امتلاك الرئيس العراقي صدام حسين أسلحة دمار شامل.

التاريخ الأمريكي زاخرٌ بالحروب، ولو تخيّلنا انفوغرافيك خاص بالحروب المتعددة التي خاضتها آلة الشرّ والدمار الأمريكية لاتسعت لعدة حقول وأيقونات، يصعب حصرها بتاتاً.  وعلينا أن نفهم جيداً أن سرّ التقدم الإنساني لم يكن مرتبطاً على الدوام بأفعال خيّرة، بل بالجريمة كذلك، والتاريخ البشري اليوم يسرد لنا صوراً ووقائعَ مأساوية عن الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء “التقدم الحضاري”، بل إنّ تاريخ البشرية المعاصرة يكشف عن البعد الحقيقي للحضارة، فهي ترتبط بشكل مأساوي بتدمير شعوب وجماعات بشرية وبجرائم مخزية.

أفكار حول المرحلة المقبلة

 

توفيق شومر

ترافقت الثورة المعلوماتية في بداية التسعينيات من القرن الماضي مع مجموعة من التغيرات السياسية المهمّة في العالم، قد يكون أهمّها انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وتحوُّل العالم إلى سياسة القطب الواحد. أمّا على المستوى الطبقي فإنّ هذه الثورة دفعت برأس المال المالي إلى واجهة الحكم في الدول الإمبريالية وبدأت هذه الطبقة تغير، بشكلٍ جذريٍ، بُنْية الدول التي تحكمها من دولٍ تعتمد بشكل رئيسي على الصناعة إلى دول تعتمد على الخدمات، وشهدنا تضخّم قطاع الخدمات فيها على حساب الزراعة والصناعة، وتحوُّل النواة الصلبة للصناعة إلى الصناعات الثقيلة والصناعة العسكرية بالإضافة إلى الصناعة المرتبطة بالتطور العلمي والتكنولوجي. بينما تمّ نقل الوزن الأساسي للصناعة الخفيفة إلى دول العالم مما أتاح للصين مثلاً أن تطورَ مشروعها التنموي لتتحول إلى قوةٍ اقتصادية كبرى، وذلك لم يكن متاحاً لو أنّ هذا التحول الأساسي في البنية الصناعية الإمبريالية.

ونتَجَ عن هذا التحول أن الكثير من المدن الصناعية في الدول الإمبريالية بدأت تفقد طابعها الصناعي، تاركةً وراءها سيلاً من العمال الذين لا يملكون مؤهلات تسمح لهم بدخول الأنماط الاقتصادية الجديدة.

تميّزت هذه المرحلة أيضاً بنموّ متسارع “لصناعة” تكنولوجيا المعلومات وتحوّل هذا النمط الخدَمي ليكون نمطاً اقتصادياً محورياً في البنية الاقتصادية للدول الإمبريالية.  وقد حاولت هذه الدول أن تحتكرَ العامود الفقري لهذه الصناعة، بينما أتاحت تطبيقات تكنولوجيا المعلومات إلى العالم كله وبشكل مجاني. وهنا نتساءل: كيف لرأس المال أن يتيح أي شيء بشكل مجانيّ؟ هل تحوّلَ رأس المال إلى منظمة خيرية؟ الجواب هو بالنفي إذ أنّ ما تقدمه برجوازية رأس المال هو الطُعْم الذي يمكن من خلاله السيطرة على العالم بأشكال جديدة تختلف عمّا كانت تضطر إليه هذه القوى الإمبريالية سابقاً.

ولكن قبل أن ندخل إلى ما آلت إليه الأمور اليوم، لا بدّ من أن نعرّج قليلاً على التأثير المباشر لهذه الثورة المعلوماتية على الكثير من المفكرين في العالم وعلى الاتجاهات الفكرية التي سادت تلك المرحلة. فنرى أن الكثير من القوى اليسارية “المتيتمة” من انهيار المنظومة الاشتراكية بدأت تتحول نحو الليبرالية.  ونرى أن كثيرين بدأوا بالحديث عن مرحلة “ما بعد الدولة- الأمة” (يورجن هابرماس 1998) وعن ضرورة التحوّل من النهج الثوري إلى “الفعل التواصلي” (هابرماس 1984)، ونرى أن التجمّعات الاقتصادية الكبرى تتجه نحو مزيد من الوحدة، وعلى الأخص نموذج الاتحاد الأوروبي بما يوحي بالفعل أن التوجهات القومية أصبحت “شيئاً من الماضي” … وقد انعكس ذلك على الدول التابعة أيضاً.  فبدأ كثيرون بالحديث أن من لديهم توجهات قومية هم مجموعة من المنعزلين الذين لا يدركون التحوّلات المهمة في العالم وأنهم ما زالوا “يعيشون على أمجاد الماضي”.

وقد كنّا نقول في المقابل أنّه حتى ولو كان التوقع بانتهاء المرحلة القومية حادِثٌ بالفعل (بالرغم من أن التاريخ أثبَتَ عكس ذلك)، فإنّ هذا منوطٌ فقط بالدول الرأسمالية المتطورة، أمّا الدول التابعة والدول الساعية للتحرر، فإنّ النهج التحرري يستلزم اللُّحمة القومية، ويستلزم دمج النضال التحرري مع النضال من أجل الوحدة القومية.

لكن الأحداث في عام 2016 أثبتت أن توقعات التسعينيات بدأت بالتخلخل.  وبغضّ النظر إن كان هذا التخلخل سيتّجه إلى أن يستقر بشكل يقلب توقعات الماضي أم أنّه تخلخل آني، إلا أن هذا التخلخل لا بد أن تكون له جذوره العميقة في الوعي الجمعي للمجتمعات التي حدثت فيها هذه التخلخلات.  فقد رأينا أن الشعب البريطاني قد صوّت لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في أول مؤشر على أن شعار “ما بعد الدولة- الأمة” هو شعار متعجل لم يحن وقته بعد.

ثم جاءت الانتخابات الأمريكية، وجاء نجاح دونالد ترمب مفاجأة مدوية للكثيرين، ولكن كيف يمكن أن نفسرَّ مثل هذه المفاجأة؟

  • من الواضح أن قوى رأس المال المالي، والمؤسسة السياسية والعسكرية كانت تدعم هيلاري كلينتون.
  • أمّا عن منافسها في الحزب الديمقراطي بارني ساندرز، وهو الرجل العجوز الذي أشعَلَ الشباب من حوله، فقد دُعِمَ بشكل أساسي من “طبقة عمّال الخدمات” من موظفي البنوك والمثقفين وممن يُسمّون جزافاً “الطبقة الوسطى”. وقد كان على وشك الفوز على كلينتون لولا تدخل “كبار الحزب” لصالحها.
  • أما ترمب فقد كان من يحاربوه من الحزب الجمهوري أقل قليلاً فحسب ممن يحاربونه من الديمقراطيين، وعلى الأخص ما يسمى بـ”كبار الحزب”. ولكنه، وبشعاراته الشعبوية، تمكن من الانتصار.

قضية فوز ترمب أعقَدْ من مجرد شعارات شعبوية.  فإذا أردنا التحليل الاقتصادي هنا نجد أن ترمب يمثّل الشريحة المتضررة من البرجوازية الأمريكية، فمع سيطرة رأس المال المالي على مقاليد الحكم في الولايات المتحدة وما نتَجَ عنها من تحوُّل في البنية الاقتصادية ومن إهمالٍ للصناعة التقليدية، أدى إلى بروز شريحة من البرجوازية الصناعية التي فقدت امتيازاتها السياسية وفقدت القدرة الاقتصادية التي كانت تتمتع بها قبل حقبة التسعينيات.  وللمقارنة هنا نجد أن أرباح الصناعة التقليدية تدرّ الملايين لأصحابها، بينما رأس المال المالي وقطاع الخدمات يدرّ المليارات لأصحابه. هذا بالإضافة إلى جيشٍ من الذين تضرروا من إغلاق العديد من المصانع في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية. ومع الضربة التي تلقّاها قطاع العقار عام 2008 والإجراءات التي اتخذتّها الدولة لدعم البنوك وإهمال أصحاب العقارات، تشكّلت أيضاً فئة من المتضررين من السياسات الحكومية والتي بدأت بالتحرك نحو ضمان حقوقها.

الفئة الأخيرة التي بدأت بالتبلور سياسياً بشكلٍ مستقلٍ هي فئة برجوازية قطاع تكنولوجيا المعلومات.  وهذه البرجوازية تجد أن قطاع رأس المال المالي (البنوك والتأمين) المتحالف مع الصناعات العسكرية، يتغول على كل القطاعات الاقتصادية ولا يسمح بحوار حول إمكانات السياسة الأمريكية بعيداً عما يفكر به هذا التحالف للمحافظة على نفوذه الداخلي والعالمي.

إذن وضمن هذه التركيبة الطبقية في الولايات التحدة الأمريكية ونظراً لعدم وجود تعددية حزبية حقيقية في السياسة الأمريكية، نجد أن الفئات والطبقات المتضررة من الإمبريالية قد توزّعت في ولاءاتها على النحو التالي: فئة العمال الذهنيين التي دعمت ساندرز ومن ثم تمّ إلحاقها بكلينتون على أرضية “الخوف من ترمب”، بينما فئة العمال المهرة والعمال المسحوقين دعموا ترمب.

أي أن هذا التحليل يوضّح أنّ من دعم ترمب هم: 1) البرجوازية الصناعية والزراعية المتضررة من رأس المال المالي، 2) قطاع العقارات المتضررة من سياسة الحكومة التي دعمت البنوك وأهملت القطاع، 3) قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي يحاول أن يخترق اللعبة السياسية الأمريكية، 4) العمال المتضررون من إغلاق المصانع والمناطق الصناعية، 5) العمال المسحوقون الذين يعتقدون أنّ وضعهم المسحوق ناتج عن وجود أيدي عاملة بديلة من المهاجرين غير الشرعيين (مع أنّ معظم العمال المسحوقين هم من أصول مهاجرة ولكنهم “قانونيون”).

فكيف يمكن أن نرى مستقبل السياسات الأمريكية في هذه المعادلة؟

السياسات التي ينادي بها ترمب تعكس هذا التحالف: 1) فهو يطرح إعادة بناء البنية التحتية للولايات المتحدة وإعادة الصناعة إلى مواقعها، وهذه السياسة تخدم بشكل أساسي البرجوازية الصناعية التقليدية والبرجوازية الزراعية من ناحية، وتخدم المتضررين من العمال من ناحية أخرى. وبالتأكيد فإن ذلك سيؤثر بشكل إيجابي على عودة قطاع العقارات للازدهار، 2) وهو يطرح نوع آخر من العلاقات الدولية، فهو يريد الاتفاق مع روسيا على الكثير من السياسات في العالم، وقد اتّجه نحو تحسين العلاقات مع موسكو باختياره لوزير خارجية معروف بعلاقاته الإيجابية معها. وهذا متوَقع إذْ أنّ دول البريكس هي الدول التي تدّعي تمثيل البرجوازية الصناعية التقليدية والتي لم تتمكن من دخول لعبة رأس المال المالي العالمية، 3) وهو يعتقد بأنّ السيطرة في القرن القادم لن تكون للعسكرة والحرب ولكن للسيطرة المعلوماتية، وهو يطرح ذلك انطلاقاً من دعم برجوازية تكنولوجيا المعلومات له. أي أن هذه البرجوازية  تسوق للقول بأن أمريكا يمكنها السيطرة والهيمنة عالمياً من دون الحاجة للقوة العسكرية، وذلك من خلال القوة الناعمة الجديدة: أي من خلال السيطرة على الاتصالات وعلى المعلومات بحيث تتمّ فبركة ما يقتنع به الجمهور من دون الحاجة للقمع والإرهاب، 4) سياسة “حمائية” للعمال من خلال طرد المهاجرين غير الشرعيين وإغلاق الحدود.

من الواضح أن رأس المال المالي لن يترك الساحة من دون معركة، فنجد أنه وفي الأيام الأخيرة للإدارة الحالية وبتحالف سافر بين “كبار الحزب” في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بدأوا بلوم روسيا على مخرجات الانتخابات كي لا يروا الواقع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية، فها هم يطردون 35 موظف في السفارة الروسية بتهمة التدخل في نتائج الانتخابات الأمريكية. وأعتقد أن هذا التحرك لن يتوقف مع استلام ترمب لمفاتيح البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني، إذْ أنّ رأس المال المالي والصناعة العسكرية تستشعر خطر السياسات المقترحة من قبل ترمب وحلفاءه على إمكانية بقاء هيمنتها على السياسة الأمريكية.

لا أعرف إنْ كان ما تخيله البعض من إمكانية أن يتم الإطاحة بترمب عبر “انقلاب عسكري” هو ضرب من الخيال أو أنه ممكن في الواقع إذا ما كانت السياسات التي سينهجها ترمب، وعلى الأخص في علاقات التقارب مع كل من روسيا، ستكون، من وجهة نظر التحالف الحاكم الحالي، سياسات “تدميرية” تحتاج إلى تدخل عسكري للحفاظ على “المصالح القومية الأمريكية”.

ولكن بالنسبة لمنطقتنا فإنّ تصريحات ترمب لا تنذر بالخير: فهو يريد نقل السفارة إلى القدس، ويريد التراجع عن الاتفاق النووي مع إيران …. ويريد ويريد …. ولكن برأيي أن هذه السياسات المعلَنة سيتمّ وضعها على الطاولة في حال بدء الحوار والمفاوضات بين حكومته وبين كل من الصين وروسيا. ولذلك فأعتقد أننا لا يجب أن نركز على هذه التصريحات لأنّ المنطقة لم تعد ضمن دائرة الاهتمام الأولى للإدارات الأمريكية الحالية أو التي ستأتي مع ترمب.

الواضح أنّ ما سيحدث خلال الأشهر القادمة يعتمد بشكل أساسي على طبيعة الصراع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى مدى تفاعل نجاح ترمب في الرئاسة الأمريكية على أوضاع السياسة العالمية. ولكن وبما لا يدعو للشك إن نجاح ترمب يصبّ في النهر نفسه لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي … أي في نهر عودة الشعور القومي. ولذلك فإننا نرى أن فرنسا كانت أول من استشعر هذا التحول في العالم، فنرى أن شعبية الحزب القومي الفرنسي بقيادة ماري لوبان قد ارتفع بشكل ملحوظ بعد نجاح ترمب. كما أن اليمين الفرنسي متمثلاً بالحزب الجمهوري اختار لقيادته القادمة شخصاً ذا توجهات محافِظة هو فرانسوا فيون لمواجهة لوبان. والملفِت للنظر أنّ فرص فيون قبل نجاح ترمب كانت معدومة وكانت المنافسة بين ساركوزي وجوبيه، وفجأة وبعد نجاح ترمب انتقل فيون للمرتبة الثانية منحّياً جوبيه وثم تمكّن في 27/11 من أن يكون ممثل الجمهوريين في الانتخابات القادمة. هذا يعني أنّ ظهور مثل هذا التوجّه في فرنسا بعد بريطانيا ينذر باحتمال استمرار تفكك الاتحاد الأوروبي والعودة إلى الدول التي تعرف بأنها دول “الدولة – الأمة”.

هذه بعض القراءات في التطورات على الساحة العالمية …. لكنها قراءات أولية يبقى أن نرى مدى انطباقها على المرحلة المقبلة.

شخصية العدد:

خـــوســيــه ريـــزالالبطل القومي موحّد الفليبين

إعداد: فؤاد بدروشي

أثناء مطالعتي لرواية “ساق البامبو” (للكاتب سعود السنعوسي) استرعت انتباهي شخصية شاب يدعى خوسيه ريزال وهو بطل من أبطال التاريخ العظماء فوددت أن أقدّمه لشبابنا العربي.

خوسيه بروتاسيو ريزال ميركادو ي ألونسو ريالوندا ولد في 19 يونيو/ حزيران 1861 وتوفي في 30 ديسمبر /كانون الأول 1896.

هو عالمٌ ومفكرٌ وطني فلپيني، وكان الشخص الرئيسي الذي ساهم في تأسيس الفليپين وتوحيد جزرها وقبائلها أثناء عهد الاستيطان الإسباني.  يعتبر بطل الفليبين القومي ويحتَفل بعيد وفاته كعيد وطني يطلق عليه اسم “يوم ريزال”.

خوسيه هو سابع أطفال عائلةٍ غنية تقطن في كالامبا، محافظة لاغونا، حيث حصل على درجة الإجازة في الفنون. سافر خوسيه بمفرده إلى مدريد حيث تابع دراسته في جامعة الكمبلوتنسي بمدريد وحصل على درجة الإجازة في الطب.  انتسب إلى جامعة باريس ومن ثم حصل على شهادة دكتوراه ثانية من جامعة هايدلبرغ.  كان ريزال طليقاً في عشر لغات على الأقل، كما كان شاعراً، كاتباً، ومحرراً صحفياً وقام بنشر العديد من الروايات.

أما الروايات التي كان يكتبها ريزال فلم تكن كأية روايات، بل كانت كتابات تحثّ على الثورة ضدّ المحتَل الإسباني وتعرّيه أمام الجميع، كما كانت تدعو إلى تكاتف الجهود بين مختلف مكونات الشّعب الفلبيني. كتب روايتين هما “لا تلمسني” و”المخرب”، حازَ بهما على أول اهتمام عالمي، تعرّض فيهما إلى مساوئ الاستعمار الإسباني وتطرّق للانتهاكات التي يتعرّض لها الفلبينيون من قبل قوات الاحتلال، إلى أن أحدثت روايته الأخيرة ضجّة كبيرة أراد من خلالها أن يوقظ الفلبينيين من خضوعهم لإسبانيا، إذ أودِع بسبب روايته في السجن.  لقد حرّض ريزال عبر رواياته ومقالاته وقصائده – مواطنيه ليدركوا قيمتهم الإنسانية وحقوقهم ويواصلوا النضال لبلوغ أهدافهم.

وصلته رسالة من مجهول تهدده بالقتل لأنه ناكر لجميل الإسبان على بلاده، وكتب أحد أساقفة (جامعة سنت توماس) مقالة اتهامية قال فيها: “ريزال كاتب “مهرطق” وتنطوي روايته على التجديف والموقف الفضائحي في جانبها الديني، وهي مشحونة بمشاعر مضادة للوطن وتهدم التراتبية القائمة في المجتمع وتتنكر للإدارة الإسبانية وخدمتها لشؤون البلاد ولا بد من حظر الكتاب وملاحقة كاتبه”، غير أن ردة الفعل الشعبية كانت مناقِضة لتوقعات الأسقف – إذ أثار الاتهام فضول الجميع لقراءة الرواية واشتعل غضب الإسبان في مدريد على الكاتب، وأصدرت إحدى المحاكم حكماً يصِف الرواية بأنها (ضد الكثلكة وتنطوي على نَفَس بروتستانتي وإشتراكي).

عاشت الفليبين تحت الاحتلال الإسباني ما يقرب من ثلاثمائة عام، فأصبحت الكاثوليكية هي الديانة الأولى، بها استغل الإسبان فيها سلطة الكنيسة لإخماد صوت الشعب حتى أتى ريزال وجعل من الفليبين بلداً واحداً فلم يعد قبائل متفرقة، الإيلوكان والبابانغو والفيسايان والمسلمين، ولم تعد الكاثوليكية عماد هويتهم بل صاغوا أمةً واحدة اسمها الفليبين.

أُعدِم ريزال أو اغتيل في باغونغ باين رمياً بالرصاص وهو في الخامسة والثلاثين من عمره. كانت الفليبين أول بلد يخرج من تحت نير الاستعمار في آسيا والفضل في هذا لريزال، وقد جعل ريزال من الفلبين بلداً واحداً موّحداً.

يُعدّ خوسيه ريزال اليوم أهمّ بطل قومي في الفلپين، حيث تملأ صوره ونصبه التذكارية الشوارع والميادين في الفلپين.  وتدخل قصائده ونصوصه في المناهج الدراسية، ويطلَق اسمه على عدد كبير من الجامعات وتحتل تماثيله الساحات العامة.  لقد فتح دكتور خوسيه ريزال عقول شعبه الفلپيني على فكرة الحرية والتمرّد على الاستعمار الإسباني والسعي لتحقيق استقلال بلاده.

  • من أقوال ريزال:
  • ما بُنيَ على الرمال سينهار إن عاجلاً أم آجلاً.
  • لا يوجد مستبدون حيث لا يوجد عبيد.
  • ماذا ننال من الاستقلال إذا كان عبيد اليوم سيصبحون مستبدي الغد؟
  • كل شخص يكتب التاريخ حسبما يناسبه.
  • تسلّط البعض لا يمكن حدوثه إلا عن طريق جبن الآخرين.
  • حياة ليست مكرّسة لهدف، حياة لا طائل من ورائها، فهي كصخرة مهملة في حقل بدلاً من أن تكون جزءاً من صرح.

الصفحة الثقافية:

حادثة النصف متر (الفيلم السوري)

طالب جميل

حادثة النصف متر أكثر من فيلم يروي حادثةً تعرّض لها شابٌ في مقتبل العمر أو أزمةَ مواطنٍ عربي منكسر ومهزوم ومثقل بخبيات الهزيمة التي تعرّضت لها الجيوش العربية عام 1967، بقدْر ما هو وثيقةٌ تاريخيةٌ ترصد حالةَ مجتمعٍ من المجتمعات العربية هو المجتمع السوري خلال فترة الستينيات، وترصد بعض التناقضات التي كان يعيشها خلال تلك الفترة.

الحادثة التي تعرّض لها المواطن الدمشقي (صبحي) الذي يقيم في حيٍّ شعبي، والذي يعمل في إحدى الدوائر الحكومية، حين تعرّفت عليه فتاة في حافلة، فيدخل معها في علاقة عاطفية تدْخِله في كثيرٍ من الأسئلة التي لم يسبق له أن تناولها، ليدور في دائرة من الارتباك والحيرة تزيد من عدم قدرته على التفاعل مع مستجدات الواقع من حوله بالشكل المطلوب.

ينتاب (صبحي) كثيرٌ من القلق والتوتر ويعشعش بداخله خوفٌ يقوده في كثير من الأحيان إلى الهروب من كثيرٍ المواجهات التي يتعرّض لها في حياته، ويستسلم لقيود المجتمع بروح انهزامية عالية، لدرجة أنه فكّرَ في محاولة انتحار، وتبدو أزمة العاطفة والحب ظاهرةً على شخصيته منذ بداية الفيلم من خلال اهتمامه بقراءة المشاكل العاطفية التي يطرحها القرّاء عبر صفحات المجلات والصحف، ويلاحَظ هروبه من المشاركة في الأحاديث السياسية التي يتناولها زملاؤه في العمل.

يتناول الفيلم في كثير من محطاته بعض مظاهر الانحدار الأخلاقي في المجتمع مثل الرمي المتكرر للقمامة من الشرفة، والتي تسبب لبطل الفيلم عقدةً يجعل منها ذريعةً كافيةً لعدم مشاركته في الحرب إذا تعرّض الوطن للخطر في مشهدٍ لا يخلو من بوْحٍ ساخر، إضافة إلى بعض مظاهر الفوضى التي تسود المجتمع بشكل متكرر.

تحاول (ندى)، وهي الفتاة التي تعرّف عليها (صبحي) في الحافلة، إقحامَه ضمن مجموعة من أصدقائها المهتمّين بالعمل السياسي والمتابعين للعمل الفدائي، ويصبح من المهتمّين بالشأن السياسي والمطالبين بمقاطعة (إسرائيل) والمحذرين من مخطّطها الاستراتيجي بالتوسّع من النيل إلى الفرات، ويتحوّل من شخصٍ يفضّل قراءة جريدة اليوم السابق إلى شخص يفضّل قراءة جريدة اليوم نفسه، إلا أنها تبعده عن تلك الأجواء وتسير معه باتّجاه عاطفي حميم يجعل العلاقة تتطور بشكل متسارع، وفي نهاية المطاف تقف موقفاً حازماً منه بعد أن تخلّى عنها من دون أن تعيرَ اهتماماً للمجتمع وعواقب تصرّفها، فتقوم بممارسة ما تشاء من دون أن يكون هناك تفسير لسلوكها فيما إذا كان ينبع عن رغبة شخصية أم أنه سلوك يهدف إلى التمرّد على عادات وتقاليد المجتمع.

تبدو أخبارُ المقاومة والعمليات الفدائية والتأميم وحرب التحرير والأحداث التي سبقت ورافقت وتلَتْ حرب عام 1967 وخطاب التنحي للرئيس جمال عبد الناصر وهدير الجماهير هي عناوين الخطاب السياسي السائدة في الفيلم، وهي التي كانت تعبّر عن المزاج الشعبي العربي في تلك الفترة، ويتزامن مكوث (ندى) في المستشفى مع أحداث الحرب، حيث يحاول (صبحي) زيارتها إلّا أنّ ظروف الحرب تمنعه من زيارتها، وعندما يتمكّن من زيارتها تصدّه بشكل غريب، ويواصل (صبحي) عمله كمتطوع في مجال الدفاع المدنيّ خلال فترة الحرب.

يعاني الفيلم من فقر إنتاجي ملحوظ مثل أغلب الأفلام السورية، ولا يخلو من رتابةٍ في بعض الأحيان يتمّ كسرها بطرح بعض الأسئلة الإشكالية التي ما زالت تُطرَحُ في الشارع العربي لغاية يومنا هذا، ولا يسير الفيلم بالشكل السرديّ التقليديّ للقصة بل يسير باتّجاه تشكيل صورةٍ عامةٍ عن طبيعة المجتمع السياسية والاجتماعية في حقبة الستينيات من القرن الماضي.

ورغم طول مدة الفيلم غير المبررة فقد تميّزَ بأداءٍ متزنٍ لأبطاله جعلَه يبدو أكثرَ واقعيةً، ويمكن اعتباره وثيقةً تسجيليةً للواقع الاجتماعي والسياسي الذي مرّت به أغلب الأقطار العربية خلال فترة الستينيات من خلال تناوله لأزمات المجتمع العربي وانعكساتها النفسية على المواطن العربي التقليدي.

الفيلم تمّ إنتاجه من قِبَل المؤسسة العامة للسينما في سورية عام 1980، وهو من سيناريو وإخراج سمير ذكرى، ومأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب المصري صبري موسى، ومن بطولة عبد الفتاح مزين، جيانا عيد، ومجموعة من الممثلين السوريين، وقد نالَ الفيلم الجائزة البرونزية لمهرجان فالنسيا 1984.

قصيدة العدد:

لا يمتطي المجدَ من لم يركبِ الخطرا

 

صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي

 

 

 

ولا يَــنـالُ العُـلـى مـن قــدَّمَ الحـذرا
قضَى، ولم يَقضِ من إدراكِها وطرا
لا يجتني النفعَ من لم يحملِ الضررا
ولا تَـتِــمُّ الـمُـنى إلاّ لِــمَـنْ صَــبَـرَا

لا يَقرَبُ الوِردَ حتى يَعرِفَ الصَّدَرَا
عـينـاهُ أمـراً غـدا بالـغـيرِ مـعتبـرا
ولا يُـقـالُ عِـثـارُ الـرّأيِ إنْ عَـثَـرَا
صـفواً وجاءَ إليهِ الخـطبُ معتـذرَا
من أخطأ الرأيَ لا يسـتذنبُ القدرَا
بالبِيضِ يَقدَحُ من أعطافِها الشّرَرَا
مـاءَ الـرّدى فـلو اسـتقطرتَه قطرَا
حـتى أتـى بـدمِ الأبطـالِ مـؤتـزرَا
ولا يَـلـيـقُ الـوَفَـا إلاّ لِـمـنْ شَـكَرَا
خِلالُـهُ فـأطـاعَ الـدّهــرَ مـا أمَــرَا

فـلـو توعّـدَ قـلبَ الـدّهـرِ لانفطرَا
والغـدرَ عن نابِهِ للحربِ قد كشرَا

فعافَها، واستَشارَ الـصّارِمَ الـذّكَرَا
ملكٌ عن البيضِ يستغني بما شهرَا

ما في صحائفِ ظهرِ الغيبِ قد سُطِرَا
والليثِ والغيثِ في يوميْ وغًى وقرَى
ولا عــفــا قــطّ إلاّ بــعــدمـا قــدَرَا
هل تَقدُرُ السُّـحبُ ألاّ تُـرسـلَ المَطرَا
من شـاءَ فلـيجنِ مـن أفـنانِـهِ الثـمَرَا
إذ كانَ كالمِـسـكِ إن أخـفَيـتَـهُ ظَـهَرَا
والنـاقـلـيـنَ من الأسـيافِ ما قـصرَا
إلاّ وأبـقَـوْا بِـهـا مِــن جـودِهـم أثَـرَا
والغَـيـثُ إن سـارَ أبقَـى بعدَهُ الزَّهَرَا

فـكـلّـما غـابَ نـجـمٌ أطــلـعـتْ قـمـرَا
ذكراً طوَى ذكرَ أهل الأرض وانتشرَا
حَصاة ُ جَدّك ذاك الدّسـتَ فانكَـسَـرَا
يظلّ يخشاكَ صرفُ الدّهرِ إن غدرَا

إنّ النـبيّ بفَضلِ الـرّعبِ قـد نُـصِـرَا
فالبحـرُ من يومِه لا يعـرفُ الـكـدرَا
أنّ الـتـأنّيَ فـيـهـمْ يـعـقـبُ الـظـفـرَا
لـكـم، ومن كـفـرَ النُّـعمـى فقد كفـرَا
وصلْ وصلّ لـربّ العـرشِ مؤتمرَا
إنْ كـانَ غـيـركَ للأنـعـامِ قـد نحـرَا

 

 

  لا يمتطي المجدَ من لم يركبِ الخطرا
ومـن أرادَ العُـلـى عَــفـواً بِـلا تَـعــبٍ
لا بُــدّ لـلــشــهـدِ مـن نـحـلٍ يــمـنـِّعـهُ
لا يُـبلَـغُ الــسّـــؤلُ إلاّ بـعـدَ مُـؤلـمـة ٍ
وأحـزَمُ النّـاسِ مَن لو ماتَ مِنْ ظَـمإٍ
وأغـزَرُ النّـاسِ عَـقلاً مَن إذا نـظَرَتْ
فـقَد يُـقالُ عِـثارُ الـرِّجـلِ إن عـثـرَتْ
مـن دبــر العــيــشَ بـالآراءِ دامَ لـهُ
يَهونُ بالـرّأيِ ما يَجري القَضـاءُ بِه
مــن فـاتـهُ العــزُّ بـالأقــلامِ أدركَــهُ
بـكـلّ أبـيَـضَ قد أجـرى الـفِـرِندُ بهِ
خاضَ العجاجة َعريانَ فما انقشعتْ
لا يـحـسـنُ الحـلـمُ إلاّ فـي مـواطـنِـهِ
ولا يـنـالُ العُـلى إلاّ فـتـىً شــرفَـتْ  كالصّالِح المَلِكِ المَرهوبِ سَـطوَتُـه
لـمّا رأى الـشـرَّ قـد أبـدَى نـواجـذَهُ
رأى الـقـسـيَّ إنـاثـاً فـي حـقـيقـتِـها
فجَرّدَ العَـزمَ مـن قَتلِ الـصِّفـاحِ لها
يـكـادُ يُــقـرأُ مـنْ عُــنـوانِ هِــمّـتِـهِ
كالبحرِ والدّهرِ في يومَيْ ندًى وردًى مـا جـادَ للنـاسِ إلاّ قــبـلَ ما ســألـوا
لامـوهُ في بـذلِهِ الأمـوالَ، قلتُ لهم:
إذا غـدا الغـصـنُ غـضّاً في مـنابتِه
مـن آلِ ارتـقٍ المـشـهـورِ ذكـرهُـمُ
الحـامـلـيـنَ مـنَ الـخـطـيّ أطـولَــهُ
لم يَرحَلوا عن حِمَى أرضٍ إذا نزَلوا
تَبقَى صَـنائـعُـهم في الأرضِ بعدَهمُ
لِلَّهِ دَرُّ سَــما الــشّـهـبـاءِ مـن فَـلَـكٍ
يـا أيّـهـا المـلـكُ الــبـانـي لــدولـتِـهِ  كانتْ عِداكَ لها دَستٌ، فقد صَدَعتْ  فاوقعْ إذا غدروا سوطَ العذابِ بهمْ
وارعَبْ قلوبَ العِدى تُنصَرْ بخَذْلِهمُ
ولا تـكــدّرْ بـهـمْ نـفــسـاً مُـطهـرَة ً
ظَـنّوا تأنّـيكَ عن عَـجـزٍ وما عَلِموا
أحـسَـنتُمُ، فـبَـغَوا جَهلاً وما اعترَفوا  واسعدْ بعيدك ذا الأضحى وضحّ بهِ  وانحَـرْ عِداكَ فـبالإنعامِ ما انصَلَحوا

 

 

صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي هو عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم، السنبسي الطائي، ولد في الحِلِّة العام 1276 م (675 هـ) وتوفي في بغداد عام 1349 (750 هـ).

وُصف بأنه شاعرعصره، ولد ونشأ في الحلّة، لذلك فهو يُنسب إليها، حيث تقع الحلة بين الكوفة وبغداد، نظم صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي الشعر بالعامية والفصحى، عاش في الفترة التي تلَتْ دخول المغول لبغداد مباشرة وتدميرهم الخلافة العباسية، وكان لهذا تأثيرٌ بالغٌ على شعره.

اشتغل شاعرنا بالتجارة فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في تجارته ويعود إلى العراق.  تفرّغ فترةً من الزمن ليسكن في ماردين وتَقَّرب من ملوك الدولة الأرتقية ومدحهم بشعره فأجزلوا له العطايا.  كما رحل إلى القاهرة، ومدح السلطان الملك الناصر.

له ديوان أسماه (ديوان شعر)، وله كتاب أسماه العاطل الحالي، وهورسالة في الزجل والموالي، حيث كان أول كتاب اختصّ بالشعر العربي العاميّ، أورد فيه نماذج من ذلك الشعر في زمنه، وضمّت أشعاراً أوردها بنفسه.  والأغلاطي، وهو معجم للأغلاط اللغوية، وكذلك ديوان درر النحور، وهي قصائده المعروفة بالأرتقيات، وفيها يمدح الملك منصور الأرتقي ملك ماردين. وله كذلك صفوة الشعراء وخلاصة البلغاء، والخدمة الجليلة، وهي رسالة في وصف الصيد بالبندق.

يذكر أن من أشعاره الشهيرة التي لا تزال تتداول حتى أيامنا هذه:

سَلي الرّماحَ العَوالي عن معالينا واستشهدي البيضَ هل خابَ الرّجا فينا

بِـيـضٌ صَـنائِـعُـنا، سـودٌ وقائِعُنا خِـضـرٌ مَـرابـعُـنـا، حُـمـرٌ مَـواضـِيـنـا

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *