Qawmi

Just another WordPress site

17571454_1602878046409063_743145731_o

 

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 نيسان 2017

 

– نقد الردة عن المشروع القومي العربي: مراجعة، استنتاجات وإضافات/ محمد العملة

 

– في معيار مصلحة الأمة/ بشار شخاترة

 

– شخصية العدد: القضية الحية جورج إبراهيم عبدالله/ نسرين الصغير

 

– التكفير والعرب والغرب/ طالب جميل

 

– الكفاءة لا تعني النجاح/ صالح بدروشي

 

– الصفحة الثقافية: مقابلة مع ثائر برتقالي/ ترجمة وتقديم: إبراهيم علوش

 

– قصيدة العدد: (وحلُ الخطايا)/ طارق شخاترة

– كاريكاتور العدد

 

العدد 35 – 1 نيسان 2017 

لقراءة العدد عن طريق فايل الـ PDF

TT35-1-1

للمشاركة على الفيسبوك

https://web.facebook.com/Qawmi

TT35-1-page-001 TT35-1-page-002 TT35-1-page-003 TT35-1-page-004 TT35-1-page-005 TT35-1-page-006 TT35-1-page-007 TT35-1-page-008 TT35-1-page-009 TT35-1-page-010 TT35-1-page-011 TT35-1-page-012 TT35-1-page-013 TT35-1-page-014 TT35-1-page-015

TT35-1-1-page-016

TT35-1-page-017 TT35-1-page-018 TT35-1-page-019 TT35-1-page-020 TT35-1-page-021 TT35-1-page-022 TT35-1-page-023 TT35-1-page-024 TT35-1-page-025 TT35-1-page-026 TT35-1-page-027 TT35-1-page-028 TT35-1-page-029 TT35-1-page-030

نقد الردة عن المشروع القومي العربي: مراجعة، استنتاجات وإضافات

 

محمد العملة

طرحت لائحة القومي العربي مؤخّراً كتابها “نقد الردّة عن المشروع القوميّ العربيّ” المرتكِز على مجموعة مقالات منتقاة من مجلة طلقة تنوير الشّهرية.

الكتاب يقع في تسعة فصول مرتّبة على شكل أبواب تتناول عناوين رئيسة تحت مظلّة الفكر القومي العربي الجذري، وتشكّل في مجموعها ما يشبه المصفوفة الرياضية، يبدأ الكتاب فيها بطرح قابليّة تحقيق الوحدة العربية عبر مجموعة من الأسئلة المفصلية ليخرج بنتيجة أن الوحدة ممكنة وقابلة للتطبيق على أرض الواقع.

ش

مراجعة:

بعد مناقشة الوحدة العربية كفكرة واقعية، ينتقل الكتاب لمناقشة تجارب الوحدة على اختلافها، للاستفادة منها والوقوف على خصوصية كل تجربة ضمن سياقها التاريخي، وضمنيّاً لوضع نقد ذاتي للتجارب العربية في الوحدة تكشف نقاط قوتها وضعفها وترسم إطاراً لمفاصلِ الخطاب الوحدويّ فيها.

تتسلسل المصفوفة في صفحات الكتاب لتنتقلَ إلى الحديث عن نموذج الوحدة المطلوب في الدولة العربية الواحدة، ثم في العوائق المانعة لتحقق الوحدة وعلى رأسها مشروعا التجزئة والتّفكيك بوصفهما مضادّين لفكرة الوحدة وتمثيلاً عمليّاً لأهداف أعداء الأمة وأعوانهم، وما يمكنهم استغلاله في اللعب على وتر الهويات المناطقية والعرقية والطائفية؛ لذلك يطرح الكتاب مواضيع عروبة الأمازيغ وأهمية المكوّن المسيحي كجزء أصيل من الأمة العربيّة لسدّ باب الذرائع أمام أي خطاب يحمل السلوك القبليّ التفكيكي في طيّاته.

وأخيراً تلتئم قطع المصفوفة بالتّعريج على مسألة الحداثة كرافعة للنهضة وطريق للوحدة ضمن إطار المشروع القومي بعيداً عن الاستلاب للغرب وأدواته، مما يستلزم الحديث عن دور اللغة العربية في ذلك ضمن البعد القومي، وإبراز أصالة الموروث، وهو الإسلام في حالتنا بالنظر إلى أنّ العرب هم حمَلَتُه ومادّته الأولى.

هل ما تزال الوحدة العربيّة حلّاً صالحاً؟ كيف للأمة أن تحافظَ على وجودها؟

بهذه الأسئلة يتناول الكتاب فكرة الوحدة كأساس للتخلّص من الهيمنة الأجنبية وتحقيق النهوض الاقتصادي والاستقلال السياسي بما ينعكس إيجاباً على واقع الأمة الموحدّة، ويضرب مثلاً تلك الدول التي:

  1. إمّا أنها انتهجت طريقاً وطنياً مناهضاً للهيمنة لكنها لم تستطع أن تتقدم خطوةً للأمام في ظلّ واقع التجزئة المُعاش ومواجهتها لأخطارٍ محدقة بشكل مستمر، على الرغم من تحقيقها لمكاسب عديدة، كحال سورية والجزائر.
  2. أو أنّها انتكست بفعل انتقال خطابها من القومية الجامعة إلى القُطرية الضيّقة كحال مصر منذ أيام المأفون السادات حتى يومنا هذا.
  3. أو أنها تعرّضت للدمار كحال العراق وليبيا، وهي الدول التي تمتلك ثروات نفطية يسيل لها لعاب الدول الصناعية الكبرى.

الأمثلة أعلاه هي سبب ونتيجة في آنٍ معاً لانحسار الفكر القومي وبالتالي مشروع الوحدة الذي تعرّض لانتكاسات عديدة منذ انفصال الجمهورية العربية المتّحدة، مروراً بحرب الأيام الستة، واتفاقيات التطبيع والاستسلام مع الكيان الصهيوني، وصولاً لاجتياح العراق واحتلاله، ومآل الأمور اليوم ضمن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” تحت مسميات “الربيع” و”الثورات”.

لكن تجارب التاريخ ترهن بقاء مشروع الوحدة العربية، بل وتجعله ممكناً بوجود الأمة العربية كحقيقة اجتماعية- سياسية قائمة حتى اللحظة، تحمل في وجدانها وتطلعاتها مشروعها هذا حتى في ظل واقع التجزئة الذي فرضته قوى الاستعمار في بدايات القرن المنصرم.

العامل الخارجي سببٌ رئيس في عدم تحقق الوحدة، لكن النقدَ الذاتي الحقّ لا يغفل العاملَ الداخلي الذي تتحمله حركات التحرر القومي بفشلها في تنفيذ مشروع الوحدة. وهو فشلٌ أجمَله المفكّر العروبي والمناضل الراحل ناجي علوش إجابةً على سؤال “لماذا لم تتحقق الوحدة؟” بما يلي:

  1. عجز الحركة القومية لأنها لم تمثّل إرادة الشرائح والطبقات ذات المصلحة في تحقق الوحدة.
  2. أنّ هذه الحركات لم تمتلك النظرية العملية لتحقيق البرنامج القومي.
  3. العجز الذي سمَح للقوى غير القومية يميناً ويساراً أن تهاجمَ المشروع القومي وتهمّشه.

وعلى النقيض، تتحقق الوحدة:

  1. بخلْق نَفَس عقلاني يقرأ الواقعَ اليوم بدوافع تاريخية ثقافية قومية من دون إغفال الجوانب الاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية.
  2. بتشكيل الأطر والمؤسسات المعبِّرة عن إرادة الشريحة الكبرى في الأمة لتكون حركات شعبية متصلة بالواقع، لا معزولة في رؤوس “النُّخَب” وكتُبُهم.
  3. عدم التعويل على القوى القُطرِيّة ما دون القومية، والقوى الطائفية ما فوق القومية بوصفها نقيضاً للمشروع الوحدوي؛ فهي التي لعبت دور المشوّش على القوميين في شتى المجالات.

لكن قبل تحقيق الوحدة، علينا طرح التساؤل عن ماهيّتها، التي يجيب عنها الراحل ناجي علّوش -بتصرّف- بقوله:

“الوحدة هي قيام دولة واحدة من الدول المنضوية في إطار الجامعة العربية زائد الأراضي العربية المحتلة، على أن تكون تلك الوحدة مركزية، بسيطة أو اتحادية، وعلى أن تسقِط الحدود السياسية والجمركية بين الدول العربية، لتصبحَ أي تقسيمات ضمن دولة الوحدة إداريّة داخلية، وعلى أن تقوم فيها مؤسسات مركزية واحدة (حكومة وبرلمان)”.  إذن دولة الوحدة هي تعبير عن مشروع سياسي يقوم على قيام دولة واحدة تعبّر عن وحدة الأمة.

يعتبر ناجي علوش في كتابه “الوحدة العربية: المشكلات والعوائق” أنّ وجود الأمم سابق على وجود الرأسمالية، ويستعرض أنماطاً مختلفة لنماذج الوحدة يمكن تقسيمها بحسب تاريخ حدوثها إلى:

  • النمط المَلَكي المطلَق في حالة التجربتين الفرنسية والإنجليزية، بتحوّل الدولة المركزية إلى امبراطوريّة تسعى لاحتواء القوميات المجاورة لها، وتفكيك التأثير الديني للسلطة البابوية، وتفكيك قوى الإقطاع والنبلاء.
  • النمط الألماني والإيطالي، المرتكز على أمة ذات قومية واحدة، تتحدث لغة واحدة، لكن تأخّر حصول الوحدة فيها يُعزى لعوامل داخلية وخارجية عديدة فرَضَتها قوانين الجغرافيا-السياسية ونمط الإنتاج السائد، إضافةً لعوامل أخرى تتعلق بصراعات داخلية ذات أثر تفكيكي.
  • النمط الآسيوي في القرن العشرين، وتحديداً في الصين وفيتنام والهند، وكانت تجارب الوحدة فيها محمولة على كاهل حركات شعبية فلّاحية يقودها الحزب الشيوعي بتوجهات قوميّة بحتة.

 

بأخذ أسباب عدم تحقق الوحدة، مع فهم ما نعنيه بالوحدة نظريّاً، ثم بالقياس على مختلف التجارب الوحدوية، يصل ناجي علوش لاستنتاجات عميقة تجعل من العامل الخارجي العائقَ الأساس في تعثّر قيام الوحدة، فالوطن العربي عانى على مدار ما يزيد على ألف عام من هجمة ممنهجة لإضعاف الحس القومي باسم “الإسلام” خلال سيطرة الأعاجم على الأرض العربية، وخلال سِنيِّ حكم الأعاجم الأخيرة؛ كان الهاجس العربي خائفاً من إحلال الاستعمار الأوروبي مكان العثماني، إضافةً لأن مصالح البرجوازيات العربية (العقارية والتجارية) آنذاك ارتبطت بمصالح قُطريّة في أماكن نشاطها، ساعدها في ذلك أن الاستعمار الأوروبي عمل على تجزئة الأرض العربية حتى خلال فترة الاستعمار، فكانت طريقة تقسيمه سبباً في خلق تناقضات جغرافية-سياسية، جعلت الفشل حليف الحركات القومية في تأسيس حالة قومية عابرة للأقطار، وأيضاً في غياب حركة شعبية تعبّر عن مشروع الوحدة، يُضاف إليها أنّ مساحة الوطن العربي وموارده تجعل من وحدته خطراً يتهدد القوى المجاورة له.

يشكل مشروع التجزئة -إذن- الأداة التي يستخدمها العامل الخارجي لمنع الوحدة، هذا المشروع يرتبط بوجود قوى تجزئة ضمن حدود الأقطار العربية لها حاضن اجتماعي مسانِد لها، ولعلّ ما يسعفها في ذلك هو غياب مشروع تؤسسه الحركة الشعبية، قادر على هزيمة قوى التجزئة ومانع لاستمرار المصالح الإمبريالية والصهيونية في الوطن العربي، ومن ثم هيمنتها على الواقع العربي المتأخر.

بعبارة أخرى، التجزئة نتاج للتأخر العربي بفعل العامل الخارجي، وفي استمرارها استمرارٌ للهيمنة الإمبريالية والصهيونية على الأرض العربية، ومن دون مشروع قومي تضطلع به حركةٌ شعبية جامعة، يصبح تكريس التجزئة أمراً حتمياً.  ليس هذا فحسب، فمع تغير تركيبة النظام الرأسمالي المعولَم باتت قوى التجزئة تلعب أدواراً جديدة بوصفها أنظمة رجعية أوصلت الأمّة للهاوية.

لكنّ الخطير هو المشروع المستحدَث من رحم التجزئة، وأعني به مشروع التفكيك، لتجزئة المجزَّأ وتقسيم المقَسَّم، واللعب على الهويات الإثنية أو العرقية أو الطائفية أو المناطقية، أو ما أحبذ أن أسمّيه “السّلوك القَبَليّ”.

لذلك فإن أي نشاط عملي أو نظري يتجاوز السلوك القبَلي يكون نشاطاً ثورياً بالضرورة، بعيداً عن أطروحات بعض القوميين الداعينَ لتبنّي نموذج دولة التجزئة القُطريّة في ظلّ مشروع التفكيك، وأبرز دعاة هذا الحل المشوَّه هو “محمد جابر الأنصاري” الذي ردَّ عليه د. إبراهيم علّوش في صفحات الكتاب الذي نناقشه. يطرح الأنصاري -عبر ما يسمّيه “حلّاً قوميّاً”- تنمية دولة التجزئة القُطريّة والعمل على تأسيس “مجتمع مدني” بما يناسب كل دولة على حِدة، كما يدعو لتبنّي الوحدة الإقليمية على أساس “الجغرافيا الطبيعية”، وكل ذلك في إطار ليبرالي نقيض للإطار الشمولي، إضافةً لأطروحات بالية عن المقاومة والدور التنمويّ الوحدويّ للنفط!

يُعَنوِن د. إبراهيم في ردّه على الأنصاري المرحلة الحالية بكثرة العناوين القومية وتفرّقها مع غياب مشروع قومي ممثِّل لها.. غيابٌ جعل من مشروع الدولة القُطريّة مشروعاً قوميّاً.  لكنّ الأنصاري يتغافل عن نقطة مهمّة، هي أنّ الاستعمار لم ينجِز مشروع التجزئة ليتركَ نواتجه تتصرف بحريّة بعيداً عن هيمنته، فكيف تكون لها إرادة الوحدة؟  لذلك تفتقد دولة التجزئة للمشروعية.

الأمر الآخر أنّ التجزئة ليست حالة جامدة يمكن فهمها أو تجاوزها بحل سطحي، بل هي حالة تفاعلية ديناميكية تعبر عن ذاتها بقوانين ذات أثر تفكيكي يمكن معاينته في الدول الوطنية التي تراوح لتحقيق استقلال حقيقي فقدت من أجله الكثير وتعرّضت من أجله لحروب طاحنة.

ثم إنَّ التجربة أثبتت فشل المشروع التنموي ضمن إطار قُطري ضيّق، فقوانين التجزئة تمنع تحقيق التنمية والأمن، وإذا أردنا الردّ بشيء من التفصيل على كلام الأنصاري، فإن مقالة د. سعدون حمادي عن إخفاق دولة التجزئة البنيوي في تحقيق التنمية والأمن لهي خير جواب، انطلاقاً من واقع الحركات الانفصالية في الأقطار العربية، وطمع القوى العالمية والإقليمية في مواردنا، وغياب العامل التقني، ومسألة سعة السّوق الاستيعابيّة، وأخيراً ما يضيفه د. إبراهيم عن أطروحة “الإقليم-القاعدة” كقاعدة صناعية- عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، إذ يسهل على الاستعمار مهاجمته وتدميره.

مشروع آخر كان عُرْضة للنقاش والنقد ضمن صفحات الكتاب، المشروع الشعوبي، القائم على تقاطعات تجربَتَيْ الدولة القطرية، والدولة-الأمة.

هذا المشروع تبنّته الجمهورية العربية السورية لتكون نقطة التقاء وحدة سياسة-اقتصادية وتعاون إقليمي ومركزاً يربط بحار (قزوين، الأسود، الأحمر، المتوسط والخليج العربي) مع بعضها البعض، وليكونَ مشروعاً بديلاً عن “الشرق الأوسط الجديد” الأمريكي.  لكنّ هذا المشروع لم ينجح لاعتبارات الجغرافيا السياسية، ووحدة المصير، علاوة على أنّ سورية لم تجنِ منه الثمار المرجوّة، إذ لم يمنع صدامها مع الغرب المهيمن في المنطقة، كما لم تلقَ من خلاله الدعم المنشود من أعضاءئه.

تحليلات أخرى تناولها الراحل ناجي علوش لأبرز أطروحات المساهمين في الفكر القومي، ومنهم: منيف الرزاز، نديم البيطار، ياسين الحافظ ومحمد عزة دروزة.

يقدّم ناجي علوش نقاط الضعف الكامنة في كل أطروحة، والتي تتراوح بين الدعوة إلى قيام وحدة اتحادية لا مركزية، أو أطروحات تتبنى نموذج “الإقليم- القاعدة”، أو عدم إعطاء مساحة كافية للتجارب التي حققت حركاتٌ شعبيةٌ من خلالها الوحدةَ، وأيضاً بعدم ربط المشروع القومي بالقوى والطبقات صاحبة المصلحة في تحقيقه، ويضيف إلى ما سبق مجموعة من الأسباب الثانوية التي تشكّل عائقاً أمام الوحدة العربية منها أن القوى الإقليمية المجاورة للعرب غير معنية بتحقيق الوحدة العربية، إضافةً للانقسام المذهبي الذي بات العامل الرئيس في مشاريع التفكيك.

استنتاجات وإضافات:

بهذا نفهم أن تقييم أي تجربة قومية ينضوي تحته فهمٌ لمكامن الخطاب القومي الحامِل، بما يتضمنّه من مفاهيم مركزية ودلالات لا تحتمل التأول على وجوه متضادة، وأنّ الإطار النظري عاملٌ بالغ الأهمية في نجاح التجربة، والأهم استمراريتها، ومن هذا المنطلق نجد أنّ التجربة الناصرية في مصر -كتمثيل على هذا الكلام- لم ترَ الاستمرارية على الرغم من سطوعها كنجمة مضيئة في ظلام الاستعمار الحالك.

يتحدث الكاتب إبراهيم حرشاوي عن التجربة القومية الناصرية في مصر ويؤسسها على مفصلين تاريخيين هما الحربان العالميتان، الأولى والثانية، ويشرح في مقالته تبلوُر الخطاب القومي في مصر عبر ثلاث مراحل هي:

  1. ما قبل الحرب العالمية الأولى، وسادت فيها ثلاثة اتجاهات قومية، الأول إقليمي محلي ذو نزعة ليبرالية، واتجاه بنزعة عثمانيّة كان السائد، واتجاه ثالث سعى لوحدة البلاد العربية والإسلامية متناولاً القومية بنزعة إسلامية.
  2. بين الحربيْن العالميتين، ظهرت قوى جديدة على حساب اتجاهات اختَفت بعد انهيار الدولة العثمانية ومجيء الاستعمار الغربي؛ فظهرت حركة “الإخوان المسلمين” وتيار “الرابطة الشرقية”، وكلتاهما لم تتبنيّا الخطاب القومي، فالإخوان تأسّسوا على نهج معادٍ للقومية في مظهره وجوهره، والرابطة الشرقية لم تؤطّر نفسها بخطاب واضح المعالم.
  3. قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، بدأت تيارات عروبية بالتشكل مثل حزب “الاتحاد والترقي”، حزب “مصر الفتاة”، منظمة “عروبة مصر”، “الاتحاد العربي” وغيرها.

نلاحظ مما سبق ولأسباب عديدة ضعف الخطاب القومي قبل ثورة يوليو 1952، الأمر الذي لم يوفّر مرتكزاً نظرياً تبني عليه الثورة مشروعها السياسي.  ليس مستَغرباً بالتالي أن لا يظهر الخطاب القومي  بوضوح في كلام الزعيم جمال عبد الناصر إلا بعد قيام الثورة بأربعة أعوام في كلمته التي أعلن فيها تأميم قناة السويس، وهذا لا يلغي بطبيعة الحال أنّ نجاح الثورة يحقق ضمنياً هدفاً قومياً لم يكن واضحاً لمن قام بالثورة نفسها في بداية الأمر، لكن تعزيز الأمن الوطني لمصر بعد إنشاء حلف بغداد لم يكن ليتحققَ إلا في إطار قومي وحدوي عيْنُه على مشاريع الاستعمار وكيفية مواجهتها، وهو ما نجحت التجربة الناصرية فيه إلى حدٍ بعيد، فتحققت خلالها نهضة حقيقية لمصر أفشَلَت مشروع الاستعمار، ودعَمَت حركات التحرر والمقاومة في عمق مصر العربي والإفريقي، كما كانت لها تجربة الجمهورية العربية المتحدة مع سورية -وإن كانت قصيرة-، والنهوض بالوعي القومي لدى عموم الجماهير العربية بوصفها أمة واحدة.

وعي الأمة بذاتها شرطٌ أساسي لتحقق مشروع الدولة المركزية الواحدة، فالأمة كيان اجتماعي يتمايز عن غيره من الكيانات الاجتماعية القائمة، ضمنَ إطار شمولي إنساني يتجاوز النزعات المذهبية والعشائرية والانتماءات الشوفينية التي تقود لمصيرٍ محتوم هو ثالوث التخلّف والتجزئة والتّبعية للآخَر، وعلى النقيض فإنّ الدولة المركزية كانت دوماً الحامل لآمال الأمّة وتطلعاتها في مشروع الوحدة العربية كإطار أيديولوجي يرسم للحركة العربية مشروعها القومي في أهدافه المتمثّلة بالوحدة والنهضة والتحرر، وتحقيق الكفاية لأفراد الأمّة بالاشتراكية كنظام اقتصادي، وكلما اقتربت الأمة من أهدافها، بدأت نهاية الصهيونية والإمبريالية وأدواتهما.

إنّ الدولة العربية المركزية كانت منذ فجر التاريخ، ضمن وضع المنطقة الجيوسياسي، الضامِن الوحيد للاستقرار الداخلي والخارجي لهذا المدى الجغرافي الواسع، وهي النموذج الأصلح والأنسب إذا ما قورنت مع غيرها من المشاريع الفيدرالية أو الكونفدرالية، كما أنّها متوائمة مع تعريف الوحدة من منظور قومي عربي جذري.

ولأنّ هذا المشروع يمثّل النقيض للأهداف الإمبريالية والصهيونية ويحقق التكامل والنهضة، فإنّه بالضرورة مشروع يساري الطابع، لكن الحالة العربية لا تجعل منه مقبولاً عند العديد من اليساريين لاعتباراتٍ تتعلق بفهمهم للأدبيات الماركسية ومنها كتاب “الماركسية والمسألة القومية” لجوزيف ستالين.

يتحدث د. إبراهيم علوش في قراءته لهذا الكتاب عن نظرة تيار واسع من الماركسيين العرب إلى القومية العربية بإسقاطهم معايير ميكانيكية جامدة تستند على أطروحة ستالين في المسألة القومية، والتي جاءت في سياق عملي فرضته ضرورات العمل السياسي والحزبي للبلاشفة والحركة العمّالية في روسيا القيصرية، خوفاً على وحدة الحزب من دعاة “الاستقلال الذاتي الثقافي” كفكرة مسروقة من الاشتراكيين الديمقراطيين في النمسا، وردّاً على البوند (اتحاد العمال اليهود في روسيا وأوكرانيا وليتوانيا).

الكتاب لا يؤسّس لنظرية صالِحة لكل وقت ومكان، ويؤخَذ فيه على ستالين أنّه لا ينظر لأي جماعة كأمّة متكاملة إلّا بمرورها في الطور الرأسمالي، ورؤيته لنماذج الوحدة في أوروبا بعد الثورة الصناعية والانتقال لنمط الإنتاج البرجوازي على أنها النموذج الوحيد والمعيار الذي يتحدد به تشكُّل أيّة أمة؛  كاشِفاً عن فقرٍ معرفي بتاريخ الأمم، لكنه تراجَعَ عن كثير من آرائه لاحقاً في مقالة طويلة له بعنوان “المسألة القومية واللينينية” يشير فيها ستالين إلى أنّ سياسة الحزب حول المسألة القومية تختلف باختلاف طبيعة الثورة في كل لحظة تاريخية.

لا يقتصر العداء للقومية العربية على بعض اليساريين، فهناك تيارات أخرى تهاجم التيار القومي متدثّرة بعباءة “الإسلام”، إمّا بقولها أن الخطاب القومي لا يعير الإسلام أهمية، وإمّا أنّه خطاب تأسّس على يد العرب المسيحيين فهو لا يمثل العرب المسلمين.  ويهدف مثل هذا الهراء المغرض إلى:

  1. محاولة ربط الحركة القومية بالغرب ومشروع الاستلاب له.
  2. الفصل بين هوية الشعب وتراثه مع الحركة القومية، وتعبئة الشعب العربي ضدّها.
  3. خلق هوّة بين الحركة القومية والإسلام.

إنّ مزاعم نسبة الحركة القومية العربية إلى المسيحيين فقط لاقت رواجاً عند العثمانيين خشيةً من أي مقاومة عروبيّة عليهم، وفي الطرف المقابل استخدمت أنظمة الاستعمار هذه الدعاية لعزل المسيحيين العرب عن محيطهم وزرع بذور الفتنة بين العرب والأتراك، وبين العرب أنفسهم. لاحقاً تبنّت جماعات ما يسمى “الإسلام السياسي” هذا الخطاب المعادي للحركة للقومية للأهداف السابقة نفسها دونما أدنى اعتبار لتاريخ الحركة القومية التي تأسست بأيدٍ عربية لا تنظر للمذهب والطائفة كمعيار للتمايز، بل إنّ رسالة الإسلام نفسها جاءت لتحقيق الوحدة العربية وسأبيّن ذلك فيما يلي من كلام.

إننا إذ نقول بأنّ المكون المسيحي لم يكن له السبْق في نشأة الحركة القومية، فإننا لا نقصد فيه هضم حقّهم أو دورهم المعروف منذ ما قبل الإسلام، بل تأكيد على مقتٍ للخطاب المذهبي والطائفي التفكيكي وكشف لزيف الدعاية التي يروّجها أعداء الحركة القومية؛ فقبائل العرب المسيحيين قاتلت الفرس في ذي قار، كما فعلت في فتح العراق العربي بقتالها إلى جانب العرب المسلمين أيام الإسلام الأول، ثم في تحرير بيت المقدس خلال الحروب الصليبية، علاوة على إسهامات العرب المسيحيين في النهضة الفكرية والفلسفية ما بعد انتشار دين الإسلام ودورهم الوازن في أيام الأمويين والعباسيين.

إنّ هذا الخطاب الهدّام يتماهى مع الدعاية الصهيونية التي تسعى إلى جرّ المنطقة إلى صراعات إثنية ومذهبية لتصبحَ معها مسألة “يهودية الدولة الصهيونية” أمراً طبيعياً، وتنزع أيضاً صفة العروبة عن فلسطين بمحاولة استمالة مكوّنها العربي المسيحي إلى ما ينشره الصهاينة عن اعترافهم بالقومية الآرامية، وكذا الحال في الخطاب المعادي للأقباط في مصر بهدف تفتيت الكيان الاجتماعي للعرب المصريين، والذي لا يأخذ بعين الاعتبار المواقف المشرفة للكنيسة القبطية من قضايا التطبيع ومواجهة العدو الصهيوني أيام “البابا شنودة”.

إنّ الخطاب التفكيكي لا يلعب على وتر المذاهب والمِلَل فقط، بل نجده في المغرب العربي بثنائية “عربي – أمازيغي” التي لاقت رواجاً أيام الاستعمار الفرنسي. وعلى كل حال، فإنّ كل هذه الخطابات الهدامة تمثّل السلوك القبلي الذي ذكرناه ضمن سطور المقال.

لنحاول تفنيد جملة الهراء المطروح ضمن هذه الخطابات، وبإيجاز أستعرض فيه النقاط الرئيسة من الكتاب مع بعض الإضافات ذات الصلة بالموضوع:

  • إنّ وصف أمّتنا اليوم بأنها “عربية” لا يحمل أي نزعات شوفينية، بل هي تأكيد على التاريخ المشترك الممتد لحضارة واحدة، كانت آشورية أو فينيقية أو قبطية أو آرامية …إلخ. بالتالي، التركيز على تسميات معينة للأمم ليس هدفه تأبيد هذه الأسماء، بل الوصول لدلالة معينة نفهم من خلالها الإطار الوحدوي لهذا التاريخ، فلا يهمّني مثلاً أن يكون اسم اللغة “العربية” أو “الفلانية” بقدر ما يهمّني أن نصل لدلالة نجمع فيها اللهجات المتعددة في وعاء واحد -وهي كذلك فعلاً-، لذلك كان استخدام صفة “العربية” كونها جامعة وذات دلالة وحدوية مفهومة ومستمرة حتى يومنا هذا.
  • إن مسألة القومية الآرامية فيها تحايُل على التاريخ بمحاولة فصلها عن العروبة، فالآراميون مثلهم مثل الآشوريين والفينيقيين وغيرهم، هم امتدادٌ لذات الأمة التي عاشت ضمن محيط جغرافي واسع نَصِفُه الآن بالوطن العربي الكبير، وعند قراءة تاريخ المنطقة منذ ظهور الإنسان العاقل الأول، نستنتج أنه تاريخٌ واحد من غير المنطقي تجزئته إلى تاريخ شعوب مختلفة، فالموروث واحد، منذ بدء عقيدة الخصب حتى اليوم، وما تكشفه النقوش الأثرية ينهض بهذا الدليل، كما أن اللغة واحدة على اختلاف لهجاتها الغربية والشرقية والعربية العرباء الفصيحة؛ ومحاولات البعض القول أنّ الفتح العربي الإسلامي لبلاد الشام كان غزواً فيه من الهراء ما فيه.

يورِد الباحث “تيسير خلف” في ردّه على بعض من يقول بأنّ على سورية الطبيعية ومحيطها التحدّث بالسريانية -على اعتبار أنّ اللغة العربية دخيلة عليها- ما يلي:

  1. العربية الفصحى هي محصّلة تطور اللهجة النبطية الشمالية.
  2. العربية الفصحى تشتمل بشكل أو بآخر على جميع المفردات والقواعد المتعلقة باللهجتين الآرامية والعبرية، وما هو مكتشف من النبطية والتدمرية والكنعانية- الفينيقية وكذلك نسبة كبيرة من الآكادية والأوغاريتية.
  3. اللهجة السريانية التي نحب ونقدر ونعتز بها، هي لهجة الرها وهي لهجة نبطية عربية شمالية، تسمى اصطلاحاً آرامية، ولم تكن في يوم من الأيام لغة عموم أهل الشام، وأنا لست ضد تسميتها آرامية كون العرب الشماليين هم في النهاية آراميون.
  4. أن جميع النقوش العائدة للغة العربية الفصحى قبل الإسلام عُثر عليها في جبل حوران وشرقي الأردن وفي خناصر جنوبي حلب، أي في سورية.

  • كما في النقطة السابقة، الأقباط عرب أقحاح هاجروا من اليمن نحو بلاد النّيل، إذ يورد المسعودي في كتابه أخبار الزمان: ” أجمع أهل الأثر أنّ أول من ملك مصر بعد الطوفان “مصرا بن بنصر”.. ونكح “مصرا” بنتاً من بنات الكهنة فولدت له ولداً فسمّاه قبطو، وكان قفطويم أكبر ولد أبيه ..”، ومنه اشتق- لفظ أرض القبط Egypt. ذكرت في مقالات سابقة أنه من الملاحظ أيضاً أن تسميات المواقع والقرى انتقلت مع هؤلاء عند رحيلهم إلى وادي النيل، فنجد أن الفيوم مثلا مأخوذة عن (الفي) في اليمن والواو والميم صيغة للتمويم في اللهجات اليمنية القديمة؛ وكذا الحال بالنسبة لمنطقة البابا في التي صارت (أمبابا) إذ الميم صيغة للتعريف في اليمنية القديمة؛ وذو سويس التي صارت السويس، ووادي سوط الذي صار أسيوط، وعين شمس الموجودة في اليمن انتقلت تسميتها إلى وادي النيل، وهي مذكورة في الشعر العربي على ما يورد ابن منظور في “لسان العرب”، بالإضافة لتسميات كثيرة تؤكد تضافر الدليل الخاص بعلوم الألسنيات مع الوثائق القديمة المدونة. لذلك فإنه من غير المنطقي أيضاً تصنيف الفتح العربي الإسلامي لمصر بأنه غزو، وأي غزو هذا الذي يندمج فيه المجتمع مع الغزاة؟!

  • أن النزعة البربرية الأمازيغية العرقية ظهرت في المغرب على يد ما يسمى بالحركة الأمازيغية نتيجة لضعف المجهود العربي في ترسيخ عروبة المغرب، ومدفوعة بطريقة الاستعمار الثقافية الفرنسية. يلخص “سعيد الدارودي” أسباب السكوت عن عروبة البربر أو الأمازيغ بعدم الاستثمار في دعاة المنابر الدينية وحثّهم على إشاعة حقيقة أن الأمازيغ هم عرب عاربة هاجرت قديماً لشمال إفريقيا، وترك البحث العلمي المتعلق بهذا الموضوع، ثمّ المراكمة عليه بإظهار القضية الأمازيغية على أنها قضية مغاربية لا علاقة للمشرق العربي بها، والتهوين من نشاط الحركة الأمازيغية المشبوه والممول من الغرب، وما يمارسونه من أنواع الإرهاب تجاه من يجاهر بعروبة الأمازيغ.

يؤكد د.عثمان السعدي وغيره على عروبة الأمازيغ في دراسات تاريخية مختلفة، لكنّ الحق يقال إن المغرب العربي تمنّع على الفتح العربي الإسلامي لفترة تزيد على مئة عام بسبب نزعة البداوة عند الأمازيغ، وهي نزعة تحافظ على خصوصيات معينة في هويتها عند أي جماعة، فكما أنها كانت سبب الحفاظ على هوية العروبة عند القبائل القديمة في جزيرة العرب مع محيطهم بواسطة الهجرات، فإنها سبب أيضاً في عزلة الأمازيغ عن إخوانهم في العروبة القديمة.  لكن منذ القرن الرابع الهجري ظهر الانسجام في المغرب العربي وترسّخت اللغة العربية في المجالات الثقافية الأدبية والدينية، وظهرت هوية عروبية كان للإسلام واللغة العربية الأساس فيها، فالثنائية العربية- الأمازيغية تقوم على الاندماج والانصهار لا الانفصال -كما يدّعي عملاء الاستعمار الفرنسي من دعاة الفرانكفونية والتغريب-، ولنا في جمهورية الريف المغربية خير مثال على ذلك.

وفي العصر الحديث ساهمت عوامل مختلفة في تطور القومية العربية بواسطة تنظيمات وأحزاب سياسية واجهت الاستعمار ووعت خطورة النزعة البربرية على وحدة المغرب العربي، وفي الحركات المناصرة للقضية العربية الفلسطينية.

كنا قد ذهبنا إلى استنتاج أن قيام دولة الوحدة العربية يقوم على إلغاء التناقضات العرقيّة والطائفية المذكورة أعلاه، وهو المدخل الأهم للحداثة كرافعة للنهضة -التي هي أهم أهداف الوحدة العربية-، هذا إن كانت ضمن مشروع قومي عربي، فهي سلاح ذو حديّن، قد تكون رافعة للاستلاب إذا وُظِّفت في غير هذا المشروع. بعبارة أخرى، مشروع الوحدة محتاج للحداثة، لكن الحداثة بدون مشروع سياسي تصبح استلاباً وتمييعاً للهوية وبالتالي فقداناً لها.

إن سبب التأخر العربي عموماً بدأ مع سيطرة الأعاجم على “الخلافة” في العصر العباسي الثالث، ووقتها أخذت أوروبا علوم العرب وما أُنتِج أو تُرجِم من فلسفة لتنفض عنها عصور الظلام، فيما قبع العرب تحت وصاية ساهمت في تقهقرهم الحضاري أكثر فأكثر، وصولاً لأيام العثمانيين الأخيرة، التي حلّ مكانها الاستعمار الأوروبي الذي احتلّ كل الأقطار العربية قاطبة في الفترة الواقعة بين 1820 و 1906، الجزء الأخير منها خلال فترة حكم “عبد الحميد الثاني” معشوق الإسلامويين.

أما تحقيق الحداثة فإنّه يكون:

  • بالانفتاح على الأمم الأخرى بكوننا أمة موحّدة مستقلة لا دولاً متفرقة تابعة للغير تعاني من مشاكل التدخل الخارجي، وحتى ذلك الحين، لا ضير من التعامل الحذِر مع المنتج المعرفي الغربي.
  • الوعي بأنّ الذاكرة الجمعية العربية هي الوحيدة التي تعود لبدء التاريخ واختراع الكتابة، فلا بدّ للتيار القومي أن يتمسك بأصالة الموروث العربي وما أنتجه من لغة وآداب وعلوم وعقائد، وعدم ترك كل ذلك عرضة للنهب والاحتكار من قِبَل جماعات “الإسلام السياسي”، أو الهجوم عليه كما يفعل الليبراليون المعتقدون بأنّ الحداثة تعني إلغاء الماضي وفكّ الارتباط معه.

بالربط مع النقطة السابقة، فإنّ تقويض الهوية العربية باسم الإسلام هو تقويض للإسلام نفسه قبل العروبة، ومحاولة خلق صراع بين المكونين فيه نفي للعقل وعدم فهم لمضامين الرسالة التي جاء الإسلام بها.   يمثل دين الإسلام جوهر مفهوم الوحدة عند العرب المرتبط بموروث إيجاد مخلّصٍ يجمعهم على راية واحدة. كنت قد ذكرت في مقالة سابقة لي -في مجلة طلقة تنوير- أن الأمة بحسب السياق القرآني تشير بالضرورة إلى جماعة محددة تشترك فيما بينها بأعراف وسمات معروفة، وليس أوضح من ذلك أن يقول منطق القرآن أنّ الله لو شاء “لجعلهم أمة واحدة” إلا أنّ “لكل أمة رسول” و”وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه”، والمعنى أنه “إنما أنت منذر ولكل قومٍ هاد” ولذلك “أنذر عشيرتك الأقربين” بماذا؟ “بلسان عربي مبين”.

فالنبي العربي محمد بن عبدالله هو رسول إلى أمة العرب التي هي إحدى الأمم، وعلاقة هذه الأمة بالإسلام الأول هي علاقة تقوم على تأسيس دولة عربية موحدة بنص مرجعي هو القرآن العربي الملائم لظروفهم في ذلك الوقت، والذي يخاطب العرب بلسانهم وبمنطقهم الذهني ليعقلوه، ولا يتعارض ذلك مع إنسانية الرسالة وشمولتيها المتعلقة بالإيمان بإله واحد وتوحيده دون الإخلال بمنظومة القيم الاجتماعية والأعراف الخاصة بأي جماعة أو قوم، فالمعنى هنا أنّ المنهج القرآني يؤكد على محاربة النمط القبلي العشائري وعصبيّاته فنجده يتعامل بمنطق الوعد والوعيد مع هكذا حالات.

الإسلام كحركة تاريخية ارتبط ظهوره باستبدال العصبيات القبلية المتناحرة السائدة في جزيرة العرب بسلطة مركزية واحدة؛ والإجماع على فكرة الإله الواحد كتعبير عن روح الجماعة وما يتمخّض عنها من أن المِلّة هي علاقة تربط الفرد بخالقه، أما الدّين فهو علاقة الفرد بالجماعة والقانون الناظم لهذه العلاقة، وما فَعَله النبي أنه استبعد الفاسد من أعراف العرب وأخذ بالصالح منها.

النزاع الحاصل في تاريخ المجتمع المسلم مردّه تلك الصراعات السياسية التي عادت بنا إلى السلوك القَبَلي الذي قطع النبي العربي أشواطاً في القضاء عليه، وصحيحٌ أن هذه النزعة القَبَلية أسّست فيما بعد لدولة عربية قوية كانت السيطرة فيها لبطون قريش، إلا أنها جمّدت العقل، فخَدَمت المشروع السياسي على حسابه وجَنَحت نحو توافُق على مرجعية السلالة لتبرير مشروعية حكمها، لكن تقييم هذه التجارب لا يفصل مسألة الجغرافيا السياسية -ذلك الوقت- عن التاريخ، ليجعل منه فقط تاريخاً استبدادياً واجه ثورات الزنج والقرامطة والشعوبيين على اختلافها متغافلاً عن مسائل وجودية تتعلق بدولة مركزية موحدة.

أخيراً، ولأننا نتحدث عن أمة واحدة ككيان اجتماعي ذي مصير واحد، فإنّ اللغة التي تتحدث بها هذه الأمّة تعبّر عن الانتماء للجماعة والرابط بينها وبين الفرد بما يعبر به عن مكنونات ذهنه، والتعبير منوط بقدرة الإنسان على فرض وظائف وضعية ترميزية؛ وظائف هي اللغة في ذاتها، إذ أنّ صناعة المنطوق “المصداق” تحتاج توفير شروط إشباع للمعنى المراد التدليل عليه، وشروط الإشباع تحتاج لشروط إشباع أخرى تعطي الصدق لهذا الذي ننطقه ونعبّر به عما يجول في أذهاننا، فيتحقق التواصل بين أفراد الجماعة.

إنّ هذا التواصل فيه تمثيل للمنطق العقلي المترجم في الواقع إلى لغات، إذ أنّ اللغة هي منطق العقل، ونحو اللغة هو منطقها؛ ولذلك تمّ اعتبار اللغة ظاهرة تاريخية ارتبط ظهورها بوجود الإنسان العاقل الأول؛ وبحسب ما يقول أبو سعيد السيرافي النحوي: “والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة. وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أنّ اللفظ طبيعي، والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائناً على الزمان، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، لأن مستملى المعنى العقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت”، ولا تُحتَرم أمّة إلا بقدر احترامها لِلُغتها..

 

في معيار مصلحة الأمة

بشار شخاترة

لعلّنا في لائحة القومي العربي أول من أصّل لمصطلح أو لمعيار “مصلحة الأمة” في إطار التنظير للفكر القومي، وإعادة إنتاج النظرية القومية مستلهمين ما سلَفَ من إنتاج فكري للمفكرين القوميين وللتجربة القومية، آخذين بالاعتبار التطورات على الساحة القومية والساحة الدولية والتفاعل بينهما.

أين يقع معيار “مصلحة الأمة” بين ثنايا الفكر القومي؟ وهل ينتمي لقائمة الأهداف القومية أم إلى الثوابت القومية؟

الحقيقة أنّه معيارٌ أو يصحّ القول أنّه نقطةُ مرجعٍ يُقاسُ من خلالها مدى انسجام – أي فعل أو موقف أو خطاب سياسي أو توجّه – مع صالح الأمة العربية، ولسان الحال أنّه بمدى اقتراب أي من التفاعلات السابقة مع مصلحة الأمة، فإنّه صحيح أو يقترب من الصحّة، وبالقدْر الذي يبتعد فيه عن صالح الأمة، فإنّه خاطئ أو مخترَق أو خائن أو عميل.

إذن فالمعيار هنا عبارة عن بوصلة تؤشّر إلى الاتجاه الصحيح، وحتى لا تضيع الاتجاهات فإنّه مؤشّرٌ قاطع لا يجوز الاختلاف في ضرورته كمعيار مرجعي، ولو اختلفت الاجتهادات في طريقة تطبيقه في كل حالة، إلاّ أنه يكشف بالضرورة عن حالات الانحراف عن الموقف الصحيح إن عاجلاً أم آجلاً، وهذا المعيار كاشف وليس منشئ؛ بمعنى أنه يكشف عن حقيقة الموقف القومي في موضع معين ولكنّه لا ينشئ مواقف كونه معيار فوقي تابع لبنية تحتية عقائدية قومية بثوابتها وأهدافها ونظريتها.

على أنّه في تحليل الصالح القومي للحكم على أي تفاعل في الشأن القومي، لا بدّ أنْ تؤخذ بعين الاعتبار أهداف الأمة المرحلية والأهداف العليا “النهائية”، ويُضاف إليها ربْطها بالثوابت القومية، ليصبحَ وقتها الحكمُ بمعيار المصلحة القومية صحيحاً ودقيقاً، لا يخضع للمهارة في الصياغة أو الفبركة على حساب الجوهر وعلى حساب الدقّة والصحة، وفوق هذا وذاك ليكونَ التحليل علمياً منطلقاً من أسس علمية في تحليل الظواهر من حيث التعرّف على عناصرها وجمعها وتصنيفها.

بالنظر إلى ما سبق، فإنّه لضبْط المعيار بشكل دقيق يقتضي أن يكونَ وضع المعيار موضع التطبيق – فيما يثور فيه الخلاف أو تُشتَبه فيه الأمور – بالأخذ بالظرف المرحلي الراهن للموقف المطلوب الحكم عليه، والخروج بموقف قومي في تلك الواقعة في تلك المرحلة الزمنية التي تزامنت مع الحدث، لأنه من المعلوم أن تغيّر الظروف ينبني عليه تغير الأحكام، وبالتالي ما يصحّ في زمان ما  قد لا يصحّ في غيره تبعاً لتطور العوامل المحيطة والمؤثرة في حركة الأمة ووفقاً للموقع الجغرافي للحدَث، موضوع الحكم عليه، بانسجامه مع مصلحة الأمة أم لا، وهذا يدخل في طيّاته العامل الجغرافي السياسي؛ فالتقييم الذي يخضع فيه تحليل الموقف السياسي أو العقائدي من قضية ما في سورية على سبيل المثال يختلف تماماً عنه في المغرب، وهنا يتّضح المعنى المقصود من الجغرافيا السياسية في هذا الجانب.

معيار المصلحة القومية معيارٌ مرِن في التطبيق، بمعنى أنّه يتمدّد ويتقلّص بالقدْر الذي تفرضه الثوابت والأهداف، فهو وإن كان يضيق ويتّسع تبعاً للعوامل السابق ذكرها، إلا أنه يبقى معياراً إيجابياً لأنه مبادرٌ ويعطي موقفاً يتجاوز به مستخدمه حالة اللاموقف التي قد تطبع بعض الحالات الدقيقة في السياق القومي، ويتجاوز حالة الصمت السلبية والمبهمة إلى حالة إيجابية تعبر عن موقف تنتظره جماهير الأمة كي لا تضلّ البوصلة وتصبح حالة الشارع نهباً لكل مارق، وحتى لا تقع في براثن القوى المعادية، يكفينا القول أنه لو قُيّض للجمهور العربي في مستهلّ “الربيع العربي” أن يطل من خلال موقفٍ قومي على التطبيق العلمي والعملي لمعيار “مصلحة الأمة” لاختلفت الصورة الآن ولكانت الحالة القومية تقترب أكثر من مشروع الوحدة والنهوض، موظِّفة الحركة الجماهيرية العارمة التي رافقت هذه المرحلة بشكل صحيح ينسجم مع الصالح العام لها.

معيار مصلحة الأمة معيارٌ منتمٍ ومنحاز للأمة، فالسمة المميزة فيه هي الانحياز ولا يمكن أن يكون حيادياً في التصدّي لأي موضوع، فطبيعة هذا المعيارلا تقبل الحياد لأنه من حيث ماهيته كنقطة مرجعية لتقدير الموقف قومياً لا بدّ أن يقدّم موقفاً يعبر عن المصلحة القومية، ومن حيث منطلقاته المرتبطة بالثوابت والأهداف القومية العليا تضعه في إطاره الصحيح، لذلك هو منحاز ومنتمٍ وغير حيادي ويتجاوز النرجسية الأكاديمية التي يدّعيها البعض أو بعض المواقف التي تدّعي التقدمية في تحليل المواقف وتقديم الأحكام عليها التي تنادي بعقل بارد أكاديمياً في تناول القضايا القومية، أو تستخدم أدوات ماركسية في التحليل بالارتكاز إلى منطلقات مصلحة البروليتاريا متجاوزةً مصلحة الأمة التي تنتمي لها لتصلَ إلى مواقف ونتائج تواجه جماهير الأمة ومشاعرها ومعتقداتها وثوابتها، أو بالارتكاز لمعيار ما فوق قومي مثل “الإنسان”، أو معيار عابر لحدود الأمم مثل “مصلحة الطائفة”.

وهو معيار علمي جذري، لأنه يأخذ بالعلم خياراً للحكم على الظواهر، من حيث رصد تلك الظواهر وتصنيفها وتحليل عناصرها من جذورها بما لا يكون بعد ذلك مجالاً لوضع الفروض أو طرح الأسئلة لأنه كمعيار جذري يكون قد عالَج الظاهرة في عمقها ويقدم الإجابة الشافية التي لا يبنى عليها أسئلة جديدة.

وحتى تكون قراءة معيار “مصلحة الامة” قراءة جذرية لا بد من طرح كافة التساؤلات التي يمكن أن تثور حوله، فمثلاً يمكن طرح السؤال هل هذا المعيار انتهازي؟

لأنّ فكرة المصلحية يُنظَر إليها عادةً على أنها ذات طبيعة انتهازية براغماتية، وخصوصاً أنها منتج ليبرالي يستند إلى الفرد والمصلحة الفردية في تبنّي المواقف وفي تغليب المصلحة الفردية وتعظيم فكرة الجري وراء الربح والسعادة الفردية، بالنظر إلى هذه الطبيعة لمفهوم المصلحة ليبرالياً نجد من السهل التبين أن معيار المصلحة القومية ليس انتهازياً براغماتياً لأنه ليس فردياً من حيث الأساس، فهو معيار عام وليس خاصاً، جامع وليس مفرّقاً، يأخذ بالاعتبار مصلحة عموم الأمة وبالتالي تسمو هذه المصلحة، من حيث موقعها، على غيرها من المصالح الفردية أو الفئوية، وهو ذو محتوى أخلاقي مستمد من تراث الأمة الحضاري.

فالمصلحة القومية قد تتعارض مع المصالح القُطرية، ويوجد من يحمل ظلامة المصلحة القُطرية المتعلقة بقُطر أو بجزء من الشعب العربي في منطقة ما ليرفع عقيرته بالصراخ واللطم على موال هذه المصلحة، وهذا واقعٌ بكثرة في الحياة العربية المعاصرة، فكثير من الترويج لواقع التجزئة والتبرير لحالة السقوط كان يتمّ على حساب المصلحة القومية، والتعارض بين (المصلحة القُطرية) والمصلحة القومية هو محضُ وهم، لأنه من المنطقي أن يتبعَ الجزء الكلّ ومصلحة القطر لا بدّ أن تكونَ مصلحة الأمة، وإذا بدا هناك تعارضٌ أو تناقضٌ عندها لا يمكن وصف النقيض للمصلحة القومية أنّها مصلحة قطرية، فهي إما أن تكون اختراقاً أو عدواناً أو مصالح فردية أو طبَقية انتهازية، وبالنتيجة هو عملٌ مضادٌ للمصلحة القومية وللأمة بعمومها وأول ضحايا تلك “المصلحة القُطرية” بالضروة هم الشعب العربي في ذلك القُطر، من هنا إنّ المصلحة القومية تسمو على وهْم المصالح القُطرية.

بالمحصلة معيار المصلحة القومية ما هو إلا أداة تحليلية، تبقى أحكامه صحيحة طالما استعمل المنهج والمنطلق الصحيحين في استخدام هذه الأداة، ويبقى قابلاً للتطوير وإعادة النظر تبعاً للطبيعة الحركية للواقع لأنه معيار مبدئي لكنه مرن بحسب اختلاف ظروف الزمان والمكان، ولا يصحّ أن يكون أيدولوجيا بديلة لأنه إذا تحول إلى عقيدة لا معيار تابع لعقيدة سيتحول بفعل الطابع الخاص له كمعيار مصلحي إلى معيار مضادّ، شوفيني بملامح إمبريالية لما سينطوي عليه من مبالغة في مسألة المصلحة القومية لتصبح أشبه بالإمبريالية الغربية ولكنّها إمبريالية عربية، لأنه بلا العقيدة القومية العربية الأخلاقية أساساً بكافة عناصرها، تنفلت الأمور وتصبح حالة متوحشة.

وبهذا المعيار يستطيع التنظيم القومي العربي الجذري أن يسترشدَ السبيل القومي السليم ويحمي مساره النضالي وكوادره وعناصره من الانحراف، لأنه يضبط إيقاع الحركة الثورية على وتر مصلحة الأمة، ويخلق الفرصة دائماً لتعديل الانحرافات داخل التنظيم ويحارب النزعات اليمينية والانتهازية في صفوفه.

مصلحة الأمة هي مصلحتنا جميعاً، ولكنها بالمطلق ليست مجموع مصالحنا الفردية جميعاً، وهذه المصلحة هي القاسم المشترك الأعظم بين أبناء الأمة، ومن هنا تصبح مصلحة الأمة معياراً لصحّة المواقف، لأنّ الهدف الأسمى للحركة القومية هو تحقيق مصلحة الأمة.

شخصية العدد: القضية الحية جورج إبراهيم عبدالله

نسرين الصغير

ولد جورج عبدالله يوم 2-4-1951 في عكّار، وتحديداً في قرية القبيات.  درس في دار المعلمين في الأشرفية، وتخرّج منها في العام 1970.

بدأ حياته النضالية في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية، والتحَقَ بعدها بالمقاومة الفلسطينية، وكان هدفه دوماً الدفاع عن لبنان وفلسطين.  جُرح في العام 1978 في الاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان، وفي خضم تلك المعارك تبلورت لديه، ولدى بعض المقاومين الآخرين، ضرورة قتال الصهاينة واستهدافهم خارج الأراضي العربية المحتلة وغير المحتلة ردّاً على الخسائر والضحايا واحتلال أجزاء من وطننا العربي.  وفي ظلّ الصمت العالمي على تمادي الصهاينة على شعبنا العربي، آمَن جورج دوماً بأنّ هذا العدوان هو برعاية النظام العالمي الجائر وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

أُسر جورج في فرنسا على يد الحكومة الفرنسية، بناءً على طلب السلطات الأمريكية، في 24 تشرين الأول عام 1984 بعد أن لاحَقَته مجموعة من الموساد الصهيوني وبعض العملاء في مدينة ليون الفرنسية.  كانت حجة الاعتقال حيازته لأوراق ثبوتية غير صحيحة بينها “جواز سفر جزائري شرعي”، وكان قد حوكم على أن يُطلق سراحه في أواسط الثمانينيات، لكن تمت إعادة محاكمته بعدها ووجهت له تهم جديدة وحكم بالمؤبد، وقد ناقش الرئيس الفرنسي ميتران مع الأمريكي ريغان موضوع محاكمة جورج عبد الله ودفعت السلطات الأمريكية نظيرتها الفرنسية إلى عدم إطلاق سراحه.

بدأت محاكمته في 10-7-1986، بتهمة حيازة أسلحة ومتفجرات بطريقة غير مشروعة، وصدَر بحقه حكم بالسجن لمدة أربع سنوات. رفض المحاكمة ولم يعترض.  تراجعت السلطات الفرنسية عن تعهّداتها، وبعد أن انتهت محكوميته وعدت السلطات الفرنسية بالإفراج عنه وأوفدت لهذا الغرض مدير استخباراتها للجزائر ليبلغ الحكومة الجزائرية بهذا القرار.

لكن وكعادة الحكومة الفرنسية وغيرها من الدول المُستعمِرة أخلفت الحكومة الفرنسية بوعودها، وتمّت محاكمة جورج للمرة الثانية؛ ليُحكَمَ عليه بالمؤبد في 1 آذار عام 1987 بتهمة التواطؤ في أعمال “إرهابية” وبالمشاركة بشبهة تأسيس “الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية” والتخطيط لمجموعة من العمليات أبرزها:

  • محاولة اغتيال كريستيان أديسون تشابمان، المسؤول الثاني في السفارة الأمريكية في فرنسا، في 12-11-1981؛

  • اغتيال الكولونيل تشارلز راي، الملحق العسكري في السفارة الأمريكية في فرنسا، في 18 كانون الثاني 1982؛

  • اغتيال ياكوف بارسيمنتوف، السكرتير الثاني للسفارة “الاسرائيلية” في فرنسا، في 3 نيسان 1982،

  • تفخيخ وتفجير سيارة رودريك غرانت، الملحق التجاري في السفارة الأميركية في فرنسا، في 22 آب 1982؛

  • اغتيال الديبلوماسي الأميركي ليمون هانت، المدير السابق للقوات الدولية في سيناء، في 15 شباط 1984؛

  • محاولة اغتيال القنصل العام للولايات المتحدة الأميركية في سترسبورغ، روبرت أونان هوم، في 26 آذار 1984…

قامت السلطات الفرنسية بتضليل الرأي العام واستغلال التفجيرات التي تعرّضت لها العاصمة الفرنسية باريس في عام الـ 1986-1987 والتي سقَطَ فيها عددٌ كبيرٌ من الفرنسيين قتلى، وقامت فرنسا باتّهام أخوة جورج عبد الله ورفاقه بتلك التفجيرات، وأعلنت الحكومة آنذاك عن جوائز مالية لمن يقوم بتزويدهم بأي معلومة عن المنفّذين، وقاموا بتعميم أسمائهم وصورهم على مستوى العالم لملاحقتهم.

وفي يوم من أيام المؤامرة الفرنسية على جورج عبد الله، خرَجَت علينا الحكومة الفرنسية لتعلنَ عن عثورها على مسدس في شقة مستأجرة باسم جورج، وادّعت أنّ المسدس المزعوم تمّ استعماله في عملية اغتيال الصهيوني بارسيمنتوف.  وكان هذا هو الدليل الوحيد لإعادة المحاكمة ولإدانة جورج عبد الله بحكم المؤبد!

وفي حينه عَمَدت السلطات الفرنسية إلى العمل بالمحكمة الخاصة بالإرهاب التي تصدر أحكامها استناداً إلى معطيات المخابرات، من دون الحاجة إلى أدلة ثبوتية وشهود وخلافه من أصول المحاكمة.  ولم يتقدّم أحدٌ على الإطلاق بشهادة على تورّط جورج عبد الله في كل ما نُسِبَ إليه من تُهم، وهو ما يثير علامات استفهام كبيرة على عدالة القضاء الفرنسي الذي تغنّى ويتغنّى بها الكثيرون، بل ويعتبر سقْطة من سقطات تاريخ القضاء الفرنسي.

ولقد تبين لاحقاً أنّ السلطات الأمنية الفرنسية كانت على علم بالجهة التي تقوم بالتفجيرات، وكانت تساومها وتفاوضها، ورضخت لاحقاً لشروطها، بالتوافق مع السلطات السياسية الفرنسية.

لم تتوصّل السلطات الفرنسية إلى أي أدلة تدين عبد الله، باستثناء العثور على بعض المنشورات لـ«الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»، وجواز سفر جزائري.  لذا، لم توجَّه له حين قُدِّم أمام المحكمة للمرة الأولى، في تموز 1986، سوى تهمة واحدة هي «استعمال وثيقة سفر مزوَّرة».

وأثناء المحاكمة تجرّأ محامي الحكومة الأمريكية على تشبيه القضاء الفرنسي بمخابرات فيشي الخاصة، فيما لو لم يأتِ الحكم مطابقاً تماماً لإرادة الخارجية الأمريكية، ما دفع النائب العام بيير باشلين إلى الردّ عليه بعبارات منتقاة بدقة: «أنتَ تمثّل هنا أمريكا، وليس من حقّ الادعاء المدني التدخل في القضايا الفرنسية. ولستَ مؤهلاً لتعطي الفرنسيين دروساً في كيفية التصرف».

ومنذ بدء محاكمته، كان الطرف الأمريكي حاضراً من خلال طرف الادّعاء على خلفية إدانة عبد الله باغتيال الملحق العسكري الأمريكي تشارلز روبرت راي، بالمقابل فضّلت عائلة مسؤول الموساد الصهيوني في باريس ياكوف بارسيمنتوف والحكومة الصهيونية ألَّا يكونا طرفاً في الادّعاء العام، ربما لأن الضلوع الأمريكي في القضية كان أكثر من كافٍ.

يشارف جورج عبد الله على إنهاء عامه الثالث والثلاثين في سجنه المؤبد، مع العلم أن بوسع وزارة العدل الفرنسية الإفراج عنه فور انتهاء عامه الخامس عشر في السجن، وذلك بمجرد صدور قرار إداري من وزارة العدل، طبقاً لقانون الجزاء الفرنسي الذي تمّ الحكم على جورج استناداً إليه.

في 17 نيسان 2008 قرر القضاة نقل ملف جورج عبدالله من محكمة الإفراج المشروط (لجنة إعادة النظر بالأحكام) إلى لجنة خاصة للنظر بدرجة خطورته، تطبيقاً لـ”قانون داتي”، على أن يصدر القرار في 4 أيلول 2008، وتجدر الإشارة إلى أن مبررات رفض “الإفراج المشروط” عن جورج عبدالله (مع أن كل الشروط المطلوبة متوفرة في حالته) لا تتفق مع معطيات قانون العقوبات الفرنسي، بل تعود إلى تقديرات الإدارة السياسية الفرنسية، لاسيما وزير العدل.

سألت رئيسة المحكمة القاضية إليزابيت غادولّيه Elizabeth Gadoullet عبد الله خلال الجلسة:

«أنت محكوم، ورفضت في حزيران 2008 الخضوع لفحص الحمض النووي كما يقضي حكمك، فكيف ترفض؟».  فأجاب: «لأنني لم أتوقع أن تستدعيني، بعد أكثر من 25 سنة، لهذا النوع من الدواعي. ولهذا السبب طلبت من المحامي جاك فرجيس عدم الحضور للمرافعة عني». وأضاف: «لقد سبق لأحد زملائك أن قضى بمنحي الحرية في عام 2003. ولكن سرعان ما استأنفت وزارة العدل الفرنسية الحكم القضائي، كما عارض النائب العام الإفراج عني بقوله الأمور ونقيضها معاً، إذ قال إني شيوعي وإسلامي، وخلص بالتالي إلى أنني خطير! وأرسلني حينها إلى الجهة المعنية لإجراء فحص الحمض النووي. لكن سبق لي أن خضعت لهذا الفحص».

المناضل الأسير منذ 26 سنة وقتها شكَر القاضية قائلاً: «إني لأشكرك اليوم لأنك استدعيتني. وأقول إني نادم للغاية على إجراء هذا الفحص في عام 2003، وبالتالي لم أجد أي مبرر لإجرائه في عام 2008: فنتيجة فحص الحمض النووي موجودة مسبقاً في الملف بين يديكِ».

رفضت القاضية هذا الموقف. وقالت إن النيابة العامة طالبت بإجراء الفحص لأنّ لديها أسباباً وجيهة، ولو أنّ المتهم سبق له أن أجراه، «ولربما تريد النيابة العامة تحديث معطياتها على ضوء تطور تقنيات هذا الفحص».

«على أي حال هذا هو القانون». قالت القاضية، وأضافت: «إذا بقيتَ مصراً على رفضك، فأنت تغامر بحرمانك من حقك بخفض عقوبتك». أثار هذا «التهديد» استياءً شديداً في قاعة المحكمة. وردّ الأسير «كلام غير مقبول من قاضية مثلك مطلوب منها أن تنطق بالقانون». فتكلّم مندوب النيابة العامة قائلاً: «عليك إثبات إجراء الفحص في عام 2008، وإن رفضك لذلك سيعرّضك إلى السجن من 3 إلى 5 أشهر».

وقالت غادولّيه: «لو أنك قبلت، لما كنت هنا الآن»؛ ثم انصرفت للمداولة ولم تعد إلا لتعلن حكمها المدوّي: «السجن ثلاثة أشهر»، ثمّ توجّهت إلى عبد الله: «أرأيت؟».

نقيب المحامين برتران الذي كان بين الحضور علّق بالقول «قرار مشين!» وعلَتْ صيحات في قاعة المحكمة: «الحرية لجورج عبد الله! الحرية لجورج عبد الله!».

أواخر شهر حزيران 2010 قررت محكمة الاستئناف فسْخ حكم محكمة البداية في تارب Tarbes وألغت عقوبة الأشهر الثلاث التي حكم بها. ولقد أُبلغ عبد الله لاحقاً أن الإدارة الفرنسية قررت رفع القضية إلى محكمة التمييز للبتّ بها.

تقدّم الأسير جورج عبد الله في كانون الثاني 2012 بطلب جديد للإفراج عنه.  وخَضَع مرة أخرى لمقتضيات قانون داتي، والذي سبق وخضع له عام 2008، وذلك بحكم مفعول رجعي، هذا مع العلم أن هذا القانون وُضع ليتم تطبيقه على نوع معين من محكومي جرائم الاغتصاب وما يماثلها.

واليوم بعد عرْضٍ مبسطٍ لقضية المناضل جورج عبد الله، وبعد اعتقال استمرّ لأكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً، نرى بعض الأنظمة العربية تتسابق في تقديم الولاء والطاعة للحكومة الفرنسية والأمريكية والصهيونية وتعتقل كل من كان ومازال يناهضها ويناهض احتلالها لبعض الأقطار العربية، وتشارك مع الاحتلال في قصف الأراضي العربية في العراق وليبيا وسورية واليمن.

التكفير والعرب والغرب

طالب جميل

 

بعد انتشار ظاهرة التكفير في السنوات الأخيرة وبروزها إلى السطح بشكل لافت، أصبحت مثار اهتمام ودراسة لدى كثير من الباحثين والمحللين السياسيين، وباتت مادة مغرية لكثير من المحاضرات والندوات والبرامج الحوارية، وفي هذا السياق جاءت محاضرة الدكتور إبراهيم علوش التي ألقاها في مقر جمعية الصوت العربي في مدينة عمان بتاريخ 11/3/2017، والتي أجاب من خلالها على كثير من الأسئلة المهمة حول نشوء هذه الظاهرة وجذورها التاريخية مثلما أثار كثيراً من الأسئلة المقلقة حول أبعاد ومستقبل هذه الظاهرة خصوصاً في وطننا العربي.

في الجزء الأول من المحاضرة عرَّف المحاضِر التكفير باعتباره رمي الناس بالكفر والحكم بإنكارهم الإيمان بعد بلوغهم رسالته حيث يُطلق هذا الحكم على فرد أو جماعة بما يراه مطلق الحكم حقائق مطلقة وغير قابلة للنقاش، وهي بالمجمل مسألة خلافية في الفقه الإسلامي ولا يوجد إجماع على تعريفها، ويختلف تعريفها باختلاف المذهب وطرق التعامل معها، مع الإشارة إلى أن هنالك نوعين من التكفير؛ الأول هو تكفير غير المسلم الذي بلغته الدعوة ولم يشهر إسلامه، والثاني وهو الأكثر شيوعاً وهو تكفير المسلم الذي يعتبر مرتداً، ثم تناوَلَ عناصر ظاهرة التكفير التي تتمثل في خروج المحكوم عليه من دائرة الإيمان أو الملّة بعد إطلاق حكم مبرم عليه بالكفر وإعطاء المتمسّكين بما يعتبرونه الدين الصحيح رخصةً لاستباحة من وقع عليه حكْم الكفر وعائلته وأملاكه، إضافة إلى انتحال صفة القاضي الأعلى في تطبيق وتنفيذ أحكام التكفير.

وفي الجزء الثاني من المحاضرة حاول د. علوش لفْت النظر إلى أنّ ظاهرة التكفير ليست بالأساس ظاهرة إسلامية بالشكل الشائع اليوم، حيث وُجدت عناصر التكفير في التوراة والتلمود لدى اليهود ومرجعيات التكفير النظرية موجودة فيهما، كما فكرة إبادة الشعوب غير اليهودية  (الأغيار) بحجّة أنّ روحهم نجسة وضرورة مخالفتهم في اللباس والطعام. فيما يمكن اعتبار ممارسات الأوروبيين في القرون الوسطى شكلاً من أشكال التكفير خصوصاً محاكم التفتيش الكاثوليكية التي نَشَطت بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر في البحث عمّن سمتهم المهرطقين والمرتدين والمنافقين وتعذيبهم باستخدام أبشع الطرق مثل بتْر الأوصال وحرق البشر أحياء وسحْق العظام.  وكان من ضحايا تلك الممارسات المفكّر والمصلح التشيكي (يان هوس) الذي أُعدم حرقاً بعد أن احتجّ على بيع صكوك الغفران عام 1415م، والعالم الإيطالي (جيوردانو برونو) الذي عوقب بالحرق بتهمة الادعاء أنّ الأرض كروية.

وضمن هذا السياق لم يغفل المحاضِر الإشارة إلى حملات الفرنجة التي كان جزء منها موجهاً ضدّ المسيحيين وبعض ضحايا الحملات الصليبية كانوا من المسيحيين العرب، خصوصاً الأرثوذكس منهم، ومنها حروب الاستئصال الديني التي شنّتها الكنيسة الكاثوليكية ضد حركة الإصلاح البروتستانتي في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر التي أدّت إلى مقتل ملايين البشر (ثلث سكان أوروبا) تقريباً، إضافة إلى حملات التبشير التي قام بها الإسبان والبرتغاليون في أمريكا الجنوبية والتي قضت على حضارات بأكملها مثل حضارة (المايا) وحضارة (الإنكا) بحجة أنهم كَفَرة، عدا عما قامت به محاكم التفتيش الإسبانية التي استأصلت مئات الآلاف من المسلمين وأجبرتهم على اعتناق المسيحية بطرق وحشية.

ركّز د. علوش في الجزء الأخير من المحاضرة على قضية الإسلام السياسي بصفته الحاضنة الحقيقية للفكر التفكيري، حيث أثارَ بعض خفايا الأمور المتعلقة بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين وارتباطها وتحالفها التاريخي مع الاستعمار البريطاني مستنِداً إلى كتاب (لعبة الشيطان- دور الولايات المتحدة في إطلاق الإسلام الاصولي) للكاتب الأمريكي روبرت دريفوس الصادر عام 2005، والذي تناوَلَ فيه الكاتب علاقة (جمال الدين الأفغاني) بالمخابرات البريطانية، وكيف مهّد لفكرة إنشاء “تحالف إسلامي” يضم (مصر، تركيا، فارس، أفغانستان) في مواجهة روسيا القيصرية في العام 1885م في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية على حافة الانهيار وباتت أداة بيد البريطانيين، حيث بدأ الأفغاني بالعمل على تأسيس حركة إسلام سياسي دولية في نهاية القرن التاسع عشر وعمل على اتّخاذ (محمد عبده) مساعداً له والذي كان مناهِضاً للمقاومة ضد بريطانيا وللقائد (أحمد عرابي)، وقد عمل الأفغاني وعبده معاً على إنشاء حركة إسلام سياسي في الهند والجزيرة العربية والشام ومصر والمغرب العربي، وظهر في تلك الفترة دور كل من عبده والأفغاني في دعم البريطانيين من خلال كتاباتهم في مجلة (العروة الوثقى) التي أصدراها في باريس، حيث كتب الأفغاني فيها ناصِحاً البريطانيين على خلفية قيام ثورة المهدي في السودان ضدّ البريطانيين ومحذّراً من انتشار المهدية، مشيراً إلى أنّ هذه الثورة المناهضة للاستعمار لا تمكن مواجهتها إلّا بتحدٍ معاكس يستند للإسلام، ولا تمكن مقاومتها إلا من خلال رجال مسلمين، وهي بالضبط فكرة استخدام الإسلام لمحاربة المناهضين للاستعمار.

وبعد وفاة الأفغاني عُيّن (محمد عبده) مفتياً لمصر بدعمٍ من حاكم مصر البريطاني والذي بدوره اتّخذ من (محمد رشيد رضا) القادم من طرابلس الشام مساعداً له، حيث قام الأخير بتعيين (حسن البنا) نائباً له، ليتمّ لاحقاً تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية التي كانت قاعدة بريطانية ومقر شركة قناة السويس وموطأ قدم للنزعة المساندة لبريطانيا وبدعم (5000) جنيه إسترليني، وذلك في العام 1928.

ولكي تكتملَ حلقة مشروع الإسلام السياسي الكبير سيطرت الحركة الوهابية بزعامة آل سعود على معظم شبه الجزيرة العربية بدعم بريطاني كبير انطلاقاً من إمارة الكويت التي تم اقتطاعها من البصرة عام 1899، وباجتياحٍ كلّف أكثر من (400) ألف قتيل وجريح وأكثر من (40) ألف عملية إعدام على الطريقة الوهابية و(350) ألف حالة قطع للأيدي والأرجل وفقاً للكاتب دريفوس.

يضيف د. علوش أنّ تنظيم الإخوان الذي تمتّع بعلاقة وطيدة مع النظام الملكي في مصر على مدى عشرين عاماً تحوّل بعد ثورة 23 يوليو 1952 إلى أداة بيد النظام السعودي الذي كان يدعمهم ويستخدمهم كأداة للسياسة (الخارجية) ومحاربة الزعيم جمال عبد الناصر وحركات التحرر الوطني، وعليه يمكن تفسير ارتباط وتلاقح خط التنظيم الدولي للإخوان مع النزعة الوهّابية وتأصيل ذلك فكرياً عبر (سيد قطب) وقبله (أبو الأعلى المودودي) باعتباره أنتَجَ المنظومة التي تناسلت منها حركات الإسلام السياسي المتشددة، والتي أفرَزَت الحركات التكفيرية المعاصرة.

لم يكتفِ د. علوش بكشْف تلك الحقائق التاريخية المهمة، بل قدّم تفسيراً تحليلياً ومنطقياً لنشوء ظاهرة التكفير وارتباطها بالإمبريالية التي وَجَدت فيها أداة صالحة لمكافحة الحركات القومية واليسارية في العالم الثالث قبل وأثناء وبعد الحرب الباردة، حيث أنّ تحالف الإخوان والوهابيين كان المصدر الرئيسي لنشوء الفكر التكفيري في هذا العصر، كما دَحَضَ التحليل السطحي لبعض الليبراليين لأسباب انتشار ظاهرة التكفير وتبريرها باعتبارها نتاج الديكتاتورية والاستبداد والقمع السياسي، متجاهلين أنّ الظاهرة التكفيرية معادية للدولة الحديثة سواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية، بدليل أن الحياة الديمقراطية في بعض الدول الغريبة لم تمنع بعض التكفيريين الذين  عاشوا فيها من سلوك النهج التكفيري، كما أنّ الظاهرة التكفيرية لم تظهر في بعض الدول الاشتراكية ودول أوروبا الشرقية رغم وجود أنظمة ديكتاتورية قمعية فيها بالمقياس الليبرالي.

عموماً، وكما أنّ للظاهرة التكفيرية جذوراً تاريخية في المجتمع العربي فقد أثبَتَ د. علوش في محاضرته وجود جذور تاريخية للتكفير أيضاً لدى الغرب واليهود، أمّا في العصر الحالي وبصيغتها الحالية فتعتبر إحدى منتجات الحداثة الغربية وهي استثمار ناجح للإمبريالية، ولم تكبر وتتكاثر هذه الظاهرة إلا نتيجة تعثّر المشروع النهضوي ولا يمكن اعتبارها إلا ردّة على مشروع التحرر القومي الوحدوي العربي بدعم من الكمبرادور النفطي الرجعي.

الكفاءة لا تعني النجاح

 

صالح بدروشي

قبل الدّخول في الموضوع تجدر الإشارة إلى أنّ سياق هذه المقالة متأتٍ من اعتبار المنظمات والجمعيات والأحزاب والجبهات النضالية وتجمّعات النشاط السياسي والثوري والمؤسسات الصناعية والخدماتية كلّها منظّمات تجتمع فيها مجموعة بشرية تؤدّي نشاطاً أو عملاً بشكل متناسق فيما بينها لتحقيق هدف مشترك بين أعضاء المجموعة، وكل هذه المنظمّات معنية بتحسين أدائها الفردي والجماعي لتحقيق غاياتها في أفضل الظروف وعلى أحسن وجه؛ أي تحقيق النجاح. كما تشترك هذه المنظمات في أنّ ثروتها الأساسية هي طاقاتها البشرية.

إنّ ما يهدف إليه كلّ شخص أو مجموعة أفراد أو مؤسّسة أو تنظيم هو دائما النجاح في كلّ مسعى أو مشروع يراد إنجازه. والنجاح يقاس بمدى بلوغ الأهداف المرسومة ومدى تحقيق نتائج مرضية.  والنتائج تكون مرتّبة بثلاثة مستويات كالآتي، حيث نرمز لكلمة نتائج بالحرف (ن) ، ولكلمة “هدف” بالحرف (هـ):

دون المأمول           –              مساوية لما هو مأمول       –          تفوق المأمول

المأمول حسب ما هو مخطّط أي:

(ن) < (هـ)            –                     (ن) = (هـ)            –           (ن) > (هـ)

والتجربة تؤكّد أنّه بنفس مستوى الكفاءة يمكن الحصول في حالات مختلفة على نتائج بمستويات مختلفة من حسنة جداً إلى رديئة جداً.. فما هو وجه الاختلاف يا ترى؟ وما هو دور الكفاءة إذًا؟

الكفاءة تعريفًا هي امتلاك المعرفة والمهارة اللّازمة لأداء عمل ما أو وظيفة ما.  ولكن الكفاءة لا تؤدّي مفعولها إلّا ضمن منظومة تكون هي أحد ركائزها الثلاث، هذه المنظومة هي منظومة الأداء وركائزها هي: 1) الكفاءة، و2) التحفيز للعمل، و3) المناخ المحيط بالعمل.

التحفيز

منظومة الأداء :                             الأداء

الكفاءة                                  المناخ المحيط

 

فالكفاءة تكون ذات قيمة متواضعة ومحدودة لو لم تكن أحد الركائز الثلاث لعنصر “الأداء” الذي هو أحد أهمّ عناصر النجاح، ومن هنا فقط تكتسب الكفاءة أهمّيتها وكما سنرى لاحقاً لا تكون للكفاءة فعالية ذات بال ولا تؤدّي دورها إلّا من خلال تفاعلها داخل منظومة الأداء.

فالكفاءة كما أسلفنا هي “امتلاك المعرفة والمهارة اللّازمة لأداء العمل” وإنّ ما يميّز شخص عن آخر أو مؤسّسة أو تنظيم عن آخر، يمتلك كلّ منهما نفس الكفاءة اللازمة لحسن الأداء، هو التّحفيز والدافع الذاتي أي الرّغبة في العمل كعنصر ثاني مهمّ بعد الكفاءة، وكعنصر ثالث مؤثّر نجد المناخ المحيط بالعمل الذي قد يكون مساعداً ومشجّعاً أو معطّلاً ومحبطاً.

خلاصة القول إنّ علينا لتحقيق النجاح الانتباه والتركيز على الأداء وإيلاء كل عنصر حقّه من الاعتناء (التحفيز للعمل ومناخ العمل ثم الكفاءة). فالعنصر الأخير يمكن شراؤه بالمال عبر التكوين والانتداب والاستعانة بخبرات من خارج المؤسسة، ولكن تحفيز العاملين وتقوية دافعهم الذاتي للعمل وتطوير المناخ لكي يكون مساعداً وليس معطّلاً ومنفّراً هو من واجب ووظيفة القياديين المؤطّرين والمدراء.

وكثيراً ما يقع الخلط بين الكفاءة والأداء في توصيف الأمور ويتمّ اعتبارهما شيئاً واحداً بمسمّيات متنوّعة، وفي مثل تلك الحالات لا يمكن الاستفادة ممّا قدّمته التجارب والخبرات والبحوث العلميّة في مجال تحسين العمل، حيث فاقد الشيء لا يعطيه.

التحفـيز

تفــاعل منظومة الأداء :                   الأداء

الكفـاءة                                  المناخ المحيط

لقد أردنا أن يكون هذا المقال جرعة قصيرة مركّزة ومفيدة لتبصير من لا يعلمون وتمكينهم من أدوات تساعدهم على البحث في الموضوع في مواقع أوسع من فضاء “طلقة تنوير” التي لا تحتمل دراسة مستفيضة لمثل هكذا مواضيع تقنية ولكن فقط طلقة.  نورد فيما يلي إيضاحات إضافية عن عنصري التحفيز والمناخ لتيسير مهمّة البحث لغاية التطبيق:

التحفيز له بُعدان؛ بعد ذاتي داخلي وبعد موضوعي خارجي، الأوّل يُعبَّر عنه بالدافع الذاتي، وهو ينبع من داخل الشخص (أو المجموعة) ويتأتى من وجود شيء في المؤسسة أو التنظيم ينجذب إليه العامل، وهذا الشيء إمّا في طبيعة أو نوع العمل أو نظام التسيير أو شفافية ووضوح الأهداف أو سمعة المؤسسة أو المبادئ والقيم المعتمدة إلخ .. وهي عناصر مستقرة ودائمة المفعول وليست مصلحة آنية أو منفعة مادية تحفيزية متغيّرة ومحدودة المفعول.  والعناصر الموضوعية التي تنمّي الدافع الذاتي الذي يقوّي الرّغبة في العمل ويرفع مستوى الأداء عديدة ويجب على القياديين البحث عنها وتوفيرها وإبرازها للعاملين. من بين هذه العناصر نذكر على صعيد بيئات العمل في القطاعين العام والخاص (مما لا ينطبق كله على العمل التنظيمي التطوعي بالتعريف): الإنصات والاحترام والاهتمام الدائم والإحاطة بمشاكل العاملين وأسرهم وتوفير الرعاية الصحية وتوفير مستلزمات السلامة في الشغل وتوفير أسباب الرّاحة النفسية وإتاحة إمكانية وفرص التكوين والترقية المهنية وتوفير فرص الإبداع والابتكار، كما يكون التحفيز أيضاً عن طريق فهْم العامل للمشروع الذي يعمل ضمنه ومعرفة الأهداف والدور الخاص وعدم البقاء على الهامش بالإدماج في التخطيط ورسم الأهداف (كل حسب وظيفته وقدرته) وبالاعتبار والاعتراف بالإنجازات الفردية والجماعية وتثمين المجهود والمكافأة المعنوية والمادية وتقاسم الاستمتاع بالنجاح .. وهذا التحفيز ينطبق على الأفراد والمجموعات أو الفِرَقِ.

وحذارِ من الاقتصار على استعمال عنصر واحد من عناصر التحفيز وهو التشجيع بالمكافأة المادية كبديل سهل عن كلّ العناصر الأخرى .. فمفعول التحفيز المادي سرعان ما ينطفئ بعد فترة وجيزة من استهلاكه ويصبح مكسباً عاديّاً وحتى وإنْ كانت المكافأة متواصلة ومتغيّرة بحسب النتيجة فإنّها تعطي الشعور بالرّضا، ولكن لا تنمّي الرغبة والدافع الذاتي الذي يشتغل بمجموع العوامل المعنوية الأخرى التي وقع سرد بعضها أعلاه والتي يمكن القياس عليها لتحديد عناصر أخرى مشابهة لها.

أمّا عن مناخ العمل فكثيراً ما تجد كفاءات متوفّرة ولديها التحفيز والدافع الذاتي والرغبة في العمل، ولكن المحيط يعرقل أداءها أو يمنعها من تأدية عملها بالشكل المطلوب وذلك إمّا بسبب عدم توفّر الإمكانات أو عدم ملائمة المنظومات والأساليب والقوانين الداخلية أو بسبب سوء تنظيم فرق العمل أو عدم مرونة التوقيت أو غياب ثقافة العمل الفِرَقِي أو بسبب فشل حلقة من حلقات العمل أو وظيفة من الوظائف مثل الصيانة أو الإعلام أو الاتصال إلخ ..

وكذلك فإنه بحكم الترابط بين الوظائف وتضارب الأهداف الجزئية في العمل، كثيراً ما تحصل خلافات واحتكاكات متشنّجة بين الأفراد وبين المجموعات يكون سببها أحياناً غياب التنسيق وغياب ثقافة إدارة الصراعات المهنية وهذه الصراعات يمكن أن تكون مدمّرة وتلغي كلّ فوائد الكفاءة والتحفيز. كثيرون يفكّرون بعقلية ضرورة إزالة الصراعات، وهو خطأ لأنه أمرٌ مستحيل لأنّ الصراعات المهنية هي من طبيعة تضارب الأهداف الجزئية في العمل، وعوضاً عن “إزالة الصراعات” يجب “إدارة الصراعات” وتوجد تقنيات ودورات تدريبية لذلك، تمكّن من الاستفادة من التفاعل الإيجابي للتناقضات وتضارب الأهداف الفرعية وتجنّب سلبياتها.

وكما يقول أحد العلماء القدامى عن اختلاف طرق التعليم: “أعطِ للطفل الرّغبة في التعلّم تصبح كل الطرق ناجعة”. ومقولة علّم الصغار وهم يلعبون فإننا نرى أنها تنطبق أيضاً على الكبار، وتنطبق ليس على التعلّم فقط، بل أيضاً على العمل لأنّ من أكثر الأشياء التي يحبّها الناس ويؤدّونها بشغف هو اللعب الذي يحبّونه وتجد أحدهم وهو منهمك في لعبته (ورق أو شطرنج أو كرة أو حاسوب أو موسيقى أو رسم أو مبارزة رياضية أو فكرية أو سباحة إلخ… ) وينادَى عليه عديد المرّات لتناول الغداء فلا يأتي حتّى يفرَغ من لعبه .. لذلك يقول البعض يجب تحسين ظروف العمل لكي ينجز العامل عمله كما يلعب .. فنكسب الأداء الحسن والمنتج الجيّد والوفير وسعادة العاملين عندما يمكّن مناخ العمل من الارتقاء بالعمل إلى مستوى اللعب المرغوب بشغف.

وكما يقول أحد الخبراء اليابانيين، وهم مشهورون في هذا المجال، إنّ أسوأ تبذير هو عدم استخدام المواهب والكفاءات البشرية، ونحن نعرف أنّ “المبذّرين إخوان الشياطين”. لأن هدر الطاقات الإبداعية للعاملين يضيّع كلّ شيء في المؤسّسة أو التنظيم خاصة في البيئة التنافسية المتصاعدة التي يشهدها عالمنا اليوم، حيث أن المؤسسات والتنظيمات الناجحة هي تلك التي تولي عنايتها لأداء عامليها (أو أعضائها) بتمكينهم من تحديد أفضل الممارسات المهنية في ميدانهم ووضعها حيّز التطبيق. فالأداء هو الذي يعطينا أو لا يعطينا النتائج المرجوّة، والأداء هو أداء العنصر البشري الذي يقوم بكلّ أفعال العمل (من إنتاج وصيانة وشراء وبيع وتحليل وإعلام وتعليم وتكوين وعلاج واتّصال ونقل إلخ…). ومهما كان نوع النشاط فإنّ هذه المعادلة نفسها هي التي تنطبق.وإذا كانت المؤسسات والمنظمات تبذل مجهوداً في عملية الاستقطاب والانتداب، فإنّ هذه العملية لا تتوقّف عند انتقاء أفضل الكفاءات بل تمتدّ لغاية تعهّد هذه الكفاءات بالتّكوين المتواصل والملائمة للمتغيّرات، ثمّ بعد كلّ ذلك، وهو الأهمّ، المحافظة على تلك الكفاءات ضمن مواردها البشرية وعدم خسارتها عبر نزيف الهروب من جرّاء فساد المناخ المحيط بالعمل أو خسارتها وهي تَضْمُرُ أو تتعفّن بيننا. وأخيراً نودّ لفت الانتباه إلى أنه على القارئ أن يقرأ هذه المقالة بقراءتين حسب التطبيق الذي يبحث عنه، فهناك من ناحية مجال العمل الاقتصادي وهو لإنتاج سلع وخدمات بمقابل أو بأجر ومن ناحية أخرى هناك النشاط النضالي الحزبي والجمعياتي وهو أيضاً عمل ولكنه تطوّعي ومن دون أجر والأساس فيه هو العطاء والمقابل الوحيد هو تحقيق الذات والقناعات وتحصيل الرّضا بتأدية الواجب الوطني الذي يعتبره المواطن الحرّ دين في رقبته تجاه وطنه وأمّته وإنّا نقدّم هذه المعاني والتجارب للمجال النضالي لأنّ العديد من القواعد الناتجة عن الدراسات الواسعة والمتعدّدة في مجال علم إدارة الأعمال والأنشطة الاقتصادية تنطبق في كلتا الحالتين ويمكن للتنظيمات السياسية الاستفادة منها لتحسين أداء ناشطيها .. وعند قراءة المقالة يجب، في كلّ نقطة، استحضار فكرة التمييز بين وضعيات التطبيق إن كانت عملاً بمقابل أو عملاً نضالياً تطوّعياً.. فمثلاً في عنصر التحفيز يكون مادياً ومعنوياً في المجال الاقتصادي ولكن في النشاط السياسي التحفيز يكون معنويّاً فحسب.. وعندما نقول مثلاً يجب الاعتناء بالمشكلات الذاتية والعائلية في بعض الأحيان للفرد فهو لإشعاره أن المجموعة متلاحمة ولتقوية شعوره بالانتماء للمجموعة.. كذلك فإن البيئة المعطِّلة لا تساعد على إدماج العناصر الجديدة وتحبطهم من أوّل الطريق إلخ…كما أن العمل على تهيئة الأفراد وإعطائهم مسؤوليات ومحاسبتهم لمساعدتهم وتمكين المجموعات من أدوات الإبداع مثل تقنيات العصف الذهني وكيفية تسيير الاجتماعات وعدم هدر الوقت هذه كلّها يمكن أخذها من تجارب المجال الاقتصادي.

بالخلاصة نقول أنّ ما تمّ اختباره واستنتاجه من الحياة العملية عامة يمكن للأحزاب والتنظيمات السياسية أن تستثمره لإنجاح مشاريعها، وأن كلّ التقنيات المستخدمة في المؤسسات الاقتصادية من علم القيادة والعمل الفرقي وقواعد المنافسة الإيجابية وأنظمة القياس وغيرها، تنطبق وتصلح أيضاً للاستعمال في المنظمات والأحزاب السياسية وهي أولى بالحرص على تحقيق النجاح نظراً لنبل وعمومية أهدافها.

الصفحة الثقافية:

مقابلة مع ثائر برتقالي

ترجمة وتقديم: إبراهيم علوش

المقابلة أدناه نشرتها صحيفة “أبوريا” الفنزويلية (الموالية لحكومة ماذورو) في 23/3/2014، وهي مقابلة مع مواطن كوبي عمل على مدى عقود كعميل مزدوج.  فقد استقطبته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي إيه)، ليتبيّن أنّه في واقع الأمر ضابطٌ في الأمن الكوبي، ولم يتضح من المقابلة في أي مرحلة من حياته وعمله استقطبه الأمن الكوبي أو السي أي إيه، لكن كلامه في المقابلة يوحي أن ذلك ربما تمّ في العام 1994، بعدما بدأ التواصل مع الحلقات المشبوهة للسي أي إيه بين عامي 1988-1989.

صاحب المقابلة كاتب وأستاذ جامعي كوبي يُخرِج فيها إلى بؤرة الضوء، من وراء الكواليس، طريقة عمل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في سعيها لتنظيم “ثورات ملونة” من خلال اصطياد أشخاص من البيئة الثقافية بخاصة، مثل أساتذة الجامعات والطلبة والفنانين والكتّاب، وكيف تعجب السي أي إيه حتى فكرة تعرّض أحد “القادة الشعبيين”، الذين تمّ استقطابهم، للقتل في الشارع لكي يحوّلوا الأمر إلى مادة دعائية لمشروعهم، وكيف يقدّم المخترَقون أنفسهم كـ”ثوريين” أحياناً، ودور الإعلام المفصلي في “الثورات الملونة”، وإلى ما هنالك…

وقد سبق لبعضنا أن قرأ واستدلّ من بين سطور الأحداث والوقائع على الكثير مما أدلى به الرجل، لكنّ الفارق هو أنه يعرفه من الباطن، فهو لا يتكهّن ولا يستدلّ، بل يبرز الاختراق الاستخباري الأمريكي في مجال العمل النقابي والطلابي والثقافي.  وفيما اعتقدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أنه واحدٌ منهم، كمدير لبعض مشاريع السي أي إيه في كوبا في إحدى المراحل، كان راؤول كابوتي يعمل مع جهاز المخابرات الكوبية طوال الوقت!

يذكر العميل المزدوج كابوتي ليبيا وسورية لماماً، لكن بدون تفاصيل، ولن يكون من الصعب على القارئ النبيه أن يسقط الخطوط والدوائر التي رسمها في موطنه كوبا، وفي فنزويلا، على الحالة العربية وغيرها من الدول التي عاشت ردّات رجعية مدعومة إمبريالياً تحت عنوان “الثورات الملونة”.

ويمكن إيجاد النسخة الإسبانية الأصلية من المقابلة على هذا الرابط:

http://www.aporrea.org/actualidad/n247624.html

ويمكن إيجاد ترجمة إنكليزية لها هنا:

http://richardedmondson.net/2014/03/27/cuban-agent-goes-deep-cover-and-exposes-us-regime-change-operations/

المقابلة طويلة، لكننا لا نعتذر على ذلك، فكل حرف فيها مهم لمن يرغب أن يفهم: 1) حقيقة “الثورات الملونة” في عالمنا المعاصر، 2) طريقة عمل أجهزة الاستخبارات الغربية في إسقاط وتجنيد المثقفين والمناضلين والطلبة والنقابيين وغيرهم من فئات “المجتمع المدني”.

نصّ المقابلة:

من هو هذا الرجل، ولمَ تخافه السي أي إيه؟  لأنها ظنّت أنه واحدٌ من رجالها، ليتبيّن أنه على النقيض من ذلك تماماً.  والآن ها هو يكشف على الملأ ما يعرفه عنهم…

راؤول كابوتي مواطن كوبي.  لكنّه ليس كأي كوبي.  فقد تورّط في شبابه مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي أي إيه).  عرضوا عليه كمية لانهائية من المال ليتآمر على كوبا.  لكن شيئاً غير متوقَّع حدث بالنسبة للولايات المتحدة، لأن كابوتي كان يعمل في الواقع مع الأمن الوطني الكوبي.  منذ تلك اللحظة خدم كعميلٍ مزدوج.  تعلم قصته، من خلال هذه المقابلة الحصرية مع برنامج “تشافيز حي”، التي تمّت في هافانا:

س: ما الذي أدّى لتورطك مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية؟

ج: بدأ ذلك بعملية استمرت سنوات عدّة، عدّة سنوات من الإعداد والاصطياد.  كنتُ قائداً لحركة طلابية كوبية في ذلك الوقت تمخّضت عنها منظمة “جمعية الأخوة سايز الثقافية”، وهي مجموعة من المبدعين والرسامين والكتّاب والفنانين الشباب.  عملتُ في مدينة في جنوب وسط كوبا هي “سينفويغوس” اتسمت بخصائص شديدة الأهمية للعدو لأنها كانت مدينة كان يتمّ تشييد قطب صناعي كبير فيها وقتها.  كانوا يبنون مركزاً كهربائياً، كان الوحيد في كوبا، وكان هنالك الكثير من الشباب يعملون فيه.  لذلك كانت مدينة تضم عدداً من المهندسين الشباب.  لذلك السبب أيضاً، كان فيها مهندسون شباب كثيرون من خريجي الاتحاد السوفييتي.  ونحن نتحدث هنا عن السنوات الأخيرة من الثمانينيات عندما كانت توجد عملية تسمى “برسترويكا” في الاتحاد السوفييتي.  وكان العديد من المهندسين الكوبيين، ممن وصلوا لكوبا في ذلك الوقت، قد تخرّجوا من الاتحاد السوفييتي، وكانوا يُعتَبرون أناس تشربوا فكرة الـ”برسترويكا” (تعني بالعربية “إعادة البناء” – المترجم).  لهذا السبب كانت منطقتنا مثيرة للاهتمام بحكم وجود كثيرٍ من الشباب فيها.  وحقيقة كوني قائداً شبابياً لمنظمة ثقافية في ذلك الوقت عمِلَت مع قطاع مهم من المهندسين المهتمين بالفنون وأصبحتُ موضع اهتمام بالنسبة للأمريكيين الشماليين، فبدأوا بالتردّد على الاجتماعات التي نحضرها، ولم يعرّفوا أنفسهم أبداً كأعداء، أو كموظفين في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

س: هل حَضَر عددٌ منهم، أم الشخص نفسه دوماً؟

ج: عدة أشخاص.  لم يقدّموا أنفسهم أبداً كموظفين في السي أي إيه، ولا كأناس قَدِموا لإثارة المشاكل أو أي شيء من هذا القبيل.

س: من ظننتهم؟

ج: قدّموا أنفسهم كأناس جاؤوا لمساعدتنا ودعم مشروعنا الثقافي، ممّن يملكون القدرة على تمويله، وبأنّ لديهم فرصة لتحويله إلى واقع.  المقترح، كمقترح، بدا مثيراً للاهتمام لأنه، نعم، كان مشروعاً في العالم الأدبي يحتاج لمعرفة ناشر، وعلاقات مع محررين.  إنه سوقٌ معقد.  وقد أتَوا وفي جعبتهم أسماء ناشرين.  وما حدث هو أنهم، خلال فترة التواصل معنا… ما أرادوه فعلاً أصبح بديهياً، لأنّهم حالَ قيامهم بالاتصال، حال بدئهم بالتردد على اجتماعاتنا، وحالما وعدونا بالتمويل، أتت معهم شروط تمويلنا.

س: ما هي الشروط التي وضعوها؟

ج: أخبرونا: لدينا القدرة على وضع السوق تحت تصرفكم، وأن ندخلكم لأسواق الكتب والنحت والأفلام وما شابه، ولكننا نريد الحقيقة، لأنّ ما نبيعه في السوق هو صورة كوبا.  وصورة كوبا يجب أن تكون واقعية، صورة صعوبات، وما يجري في البلاد.  لقد أرادوا تشويه حقيقة كوبا.  كان ما يطلبونه هو انتقاد الثورة، بناء على خطوط الدعاية المضادة لكوبا، التي قدّموها لنا.

س: كم بلغت موازنة أولئك الناس؟

ج: جاؤوا بكمية غير محدودة من المال طبعاً لأننا اكتشفنا مع الوقت من أين أتى.  مثلاً، كانت هناك وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية USAID، التي كانت داعماً كبيراً، والمتعاقد العام لهذه الموازنة، التي مررت المال عبر منظمات غير حكومية تمّ اختراع العديد منها فقط من أجل كوبا.  كانت منظمات غير حكومية غير موجودة، تمّ خلقها حصرياً لهذا النوع من العمل في كوبا، ونحن نتحدث عن آلاف وآلاف الدولارات.  لم يكونوا يعملون بموازنات صغيرة.  ولأعطي مثالاً: عرضوا عليّ مرة عشرة آلاف دولار فقط لأدخل عناصر معادية لكوبا في الرواية التي كنتُ أكتبها.

س: عن أي سنة نتحدث هنا؟

ج: حوالي 1988-1989.

س: حسب رأيك ما هو عدد الناس الذين تواصل معهم أولئك الناس أو اصطادوهم؟

ج: في الحقيقة لم يدُم نجاحهم طويلاً، لأنّ كوبا كانت توجد فيها ثقافة مواجَهة شاملة مع مثل هذه الأشياء، وقد عرف الناس بأنه كان يوجد أمر مريب وراء قصة رغبة أولئك الناس بمساعدتنا.  لم يكن ذلك شيئاً جديداً في تاريخ البلاد.  لذلك السبب، كان من الصعب عليهم أن يصلونا.  في لحظة تصميم، في العام 1992 تقريباً، عقدنا اجتماعاً، كل أعضاء المنظمة، وقررنا طردهم.  لم يعد مسموحاً لهم أن يحضروا المزيد من اجتماعاتنا.  أولئك الناس، الذين كانوا يأتون وفي جعبتهم اقتراحات ملموسة ومساعدة اقتصادية مشروطة كانوا يقدّمونها لنا.  ما حدث هو أننا في اللحظة التي فعلنا فيها ذلك، فرفضناهم وطردناهم من مقر الجمعية، بدأوا بالتحديد…   بدأوا بزيارتي، تحديداً، ورفاق أخرين، أناس شباب.  نجحوا مع بعضهم، أو ربما يجب أن أقول أنهم نجحوا بإخراج بعضهم خارج البلاد أيضاً.

س: ما هي نوعية الأشخاص التي كانوا يبحثون عنها، بشكل عام، إذا كان يمكن تحديد نوعية من هذا القبيل؟

ج: أرادوا قبل كل شيء أن يقدّموا كوبا كأرضٍ تحكمها الفوضى، وبأنّ الاشتراكية في كوبا لم تنجح في تلبية حاجات الشعب، وبأنّ كوبا بلدٌ أوقَعَته الاشتراكية في فقرٍ مطلق، وبأنّ الاشتراكية كنموذج لا يعجب أحداً.  كان ذلك ما يرمون إليه، قبل كل شيء، في ذلك الوقت.

س: كم قضيتَ من الوقت كعميل لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية؟

ج: كنتُ في هذه القصة من البداية حتى العام 1994.  ففي ذلك العام ذهبتُ لهافانا، عدتُ للعاصمة، وهناك، في العاصمة، بدأتُ أعمل في اتحاد عمال الثقافة، وهو اتحاد يمثّل العاملين بالثقافة في العاصمة، فأصبحتُ أكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لهم، لأنني مضيت لإدارة اتحادٍ يضم 40 ألف عضو في مدينة هافانا فقط، بعد أن كنتُ قائداً لمنظمّة شبابية تضم أربعة آلاف عضو فحسب.  ثم أصبح الأمر أكثر إثارة للاهتمام.  توالَت الاتصالات.   في تلك الفترة ظهرت أستاذة جامعية من جامعة جديدة حضرت في مهمة إطلاق عملية إنتاج أعمالي الأدبية، لتصبح مديرة أعمالي، ولتنظم لي المناسبات الأدبية.

س: هل يمكن أن تعطي اسمها؟

ج: كلا، لأنهم كانوا يستخدمون أسماء مستعارة.  لم يستخدموا أسماءهم الحقيقية أبداً.  وكان ذلك النوع من العمل، أي الترويج لي ككاتب، هو محطّ اهتمامهم.  فقد أرادوا أن يحوّلوني إلى شخصية بارزة في ذلك العالم.  الترويج لي الآن، ومساومتي معهم بطريقة غير مباشرة.  ثمّ، في العام 2004، وصل لهافانا شخص معروف في فنزويلا هو السيدة كيلي كيدرلينغ (تمّ تعيينها قائماً بأعمال السفارة الأمريكية في فنزويلا في 2011، وتمّ طردها مع اثنين من الدبلوماسيين الأمريكيين في فنزويلا عام 2014 – إ. ع).  جاءت كيلي لهافانا لتصبحَ رئيساً لمكتب الصحافة والثقافة.عقدوا لقاء.  ثم رتّبوا لحفلة كوكتيل، وفي تلك الحفلة التقيتُ مع اثني عشر “موظفاً” أمريكياً شمالياً، بل أمريكياً شمالياً وأوروبياً.  لم يكونوا أمريكيين شماليين فقط.  كانوا جميعاً أناسٌ يتمتعون بالخبرة، بعضهم حصل عليها من داخل الاتحاد السوفييتي السابق، وغيرهم شارَكَ في تدريب الناس وإعدادهم في يوغوسلافيا السابقة، في الثورات الملونة، وكانوا مهتمين جداً بي…

أصبحت كيلي قريبة جداً مني.  بدأتْ بإعدادي.  بدأتْ بتعليمي، وبدأتُ أتلقى منها تدريباً محكماً: بناء المجموعات البديلة، المجموعات المستقلّة، تنظيم القادة الشباب وإعدادهم، ممن لا يشاركون في عمل مؤسساتنا الثقافية.  وكان ذلك في فترة 2004-2005. وفي فترة 2005-2006 اختفت كيلي فعلياً من المشهد.  وعندما بدأتُ أعمل، وضعتني في اتصال مباشر مع ضباط السي أي إيه.  يفترض أنني كنتُ ملتزماً معهم، وكنتُ جاهزاً لمهمتي المقبلة، ووضعوني باتصال مع رينيه غرينوالد، وهي ضابط في السي أي إيه عَمِل معي مباشرة، ومع رجل اسمه مارك واترهاين كان في ذلك الوقت رئيس “مشروع كوبا” التابع للمؤسسة الأمريكية للتنمية.

هذا الرجل، مارك، بالإضافة لإدارته لـ”مشروع كوبا”، كان على اتصالٍ مباشر مع كوبا لتمويل مشروع مضاد للثورة، كما كانَ متورطاً بالعمل ضدّ فنزويلا.  أي أنه كان رجلاً يعمل، مع معظم فريق موظفيه في ذلك المشروع الشهير، ضدّ فنزويلا أيضاً.  كان المشروعان وثيقي الاتصال، وأحياناً كان على المرء أن يجتهد كثيراً ليفرّق بين من كانوا يشتغلون على كوبا، ومن كانوا يشتغلون على غيرها، لأنّهم كانوا في أحيانٍ كثيرة متشابكين.  مثلاً، كان هناك فنزويليون أتَوا ليعملوا معي، كانوا قد عملوا في واشنطن أيضاً، وكانوا مرؤوسين في المؤسسة الأمريكية للتنمية والسي أي إيه، وقد أتَوا لكوبا ليدرّبوني ولإحضار المستلزمات…  ومن هناك نشأت فكرة خلق مؤسسة، أو مشروع يسمى “تكوين”.

“التكوين” كان قالباً، كفكرة، للعديد من الأشياء التي تجري في العالم اليوم، لأنّ “تكوين” هو مشروع موجّه لشبيبة الجامعات في كوبا.  كانوا يفعلون شيئاً مشابهاً في فنزويلا.  لماذا؟  كانت الفكرة أن يتمّ تحويل الجامعات – فقد كانت دوماً ثورية، تنتجُ ثوريين، أتى من صفوفهم عددٌ من ثوريي البلدين – وأن يتمّ تحويلها إلى مصانعَ للرجعيين.  إذن، كيف تفعل ذلك؟  بصناعة القادة.  ما الذي بدأوا يفعلونه في فنزويلا؟  أرسلوا طلاباً ليوغوسلافيا، بتمويل من المعهد الجمهوري الدولي الذي كانت تموّله الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID ومعهد ألبرت أينشتاين، وأرسلتهم، في مجموعات من عشرة، مع أساتذتهم.

س: هل لديك أسماء الفنزويليين؟

ج: لا، فنحن نتحدث عن مئات ممن تمّ إرسالهم.  تحدثّتُ مع البرفسور، وراقبتُ إحدى تلك المجموعات وتتّبعت أخرى، لأنهم كانوا يعملون على المدى الطويل.  كانت الخطة نفسها قد طُبقت في كوبا.  روّجت “تكوين” في الجامعة لخطة منح تدريبية لقادة الطلبة الكوبيين والأساتذة الجامعيين.  كانت الخطة مشابهة جداً (في كوبا وفنزويلا – إ. ع).  أيضاً، في العام 2003، أعدّوا هنا في هافانا مساقاً في قسم رعاية المصالح الأمريكية بعنوان “الإطاحة بقائد، الإطاحة بديكتاتور” تمّ استقاؤه من تجربة الأتوبور في إزالة سلوبودان ميلوسوفيتش من السلطة.  وكانت الخطة داخل الجامعة الكوبية أن يتمّ العمل على المدى الطويل، لأنّ مثل هذه المشاريع يتطلب دوماً وقتاً طويلاً لقطف الثمار.  لذلك السبب، بدأوا أيضاً في فنزويلا.  وأعتقد أيضاً، لكن ليس عندي دليل على هذا، أعتقد بأنهم بدأوا في فنزويلا قبل حكومة تشافيز، لأن خطة تحويل جامعات أمريكا اللاتينية، التي كانت دوماً من أهم مصادر العملية الثورية، إلى جامعات رجعية، هي أقدم من العملية الفنزويلية البوليفارية، فالهدف كان قلب الاتجاه وخلق جناح يميني جديد.

س: هل عملت السي أي إيه في العاصمة كراكاس فقط؟

ج: كلا، عبر كل فنزويلا.  لدى “تكوين” حالياً خطة مِنَح لخلق قادة في كوبا.  إنهم يقدّمون المنح للطلاب ليذهبوا للجامعات الأمريكية الشمالية الكبيرة، ليدرّبوهم كقادة، مع دفع كافة النفقات.  يدفعون تكاليفهم، ويقدّمون لهم منحاً كاملة.  نتحدث عن فترة 2004-2005 هنا.  كان الأمر واضحاً.  ثم يعود أولئك القادة للجامعة عند نقطة ما.  إنّهم طلاب.  يذهبون لينهوا المرحلة الطلابية.  وعندما لا يعودُ أولئك القادة طلاباً، يذهبون لوظائف مختلفة، وإمكانيات مختلفة، كمهندسين، وكحملة شهادات في قطاعات مختلفة من المجتمع الكوبي، لكن هناك غيرهم ممن يستمر في العمل على إعداد القادة ضمن الجامعة.  وقد كانت إحدى أهم مهمات القادة أن يحتلوا قيادة منظمات الشبيبة الرئيسية في الجامعة.  في حالة كوبا، نحن نتحدث عن “اتحاد الشبيبة الشيوعية” و”فدرالية الطلبة الجامعيين”.  أي أن المهمة لم تكن خلق منظمات موازية في ذلك الوقت، بل أن يصبحوا قادة المنظمات الموجودة أصلاً في كوبا، ليتمّ بعدها تشكيل مجموعة من القادة في استراتيجيات الانقلاب “الناعم”.  أي تدريب الناس على اللحظة المواتية لبدء “الثورات الملونة” الشهيرة، أو “الحروب غير العنفية”، التي، كما تعرف جيداً، لا تمت بصلة لفكرة اللاعنف.

س: عمَّاذا كنتَ تبحث في الأستاذ الجامعي من أجل اصطياده؟

ج: الأساتذة الجامعيون سهلون جداً.  عليك أن تحددَ أساتذة جامعيين مستاءين من المؤسسة، أناس محبطين، لأنهم اعتبروا أنّ المؤسسة لم تضمن لهم أي شيء، أو لم تعترف بجدارتهم.  إذا كانوا أكبر سناً، يكون ذلك أفضل.  لم يحددوا لنا سنّاً.  ابحث عن أشخاص أكبر سناً، تختارهم… إذا أرسلت خطة مِنحة، أو إذا أرسلتها وفي الفرصة الأولى قمت بإرسال دعوة لهم للمشاركة في مؤتمر دولي عظيم في أحد العلوم، فسيكونون ممتنين لك للأبد لأنكَ كنتَ الشخص الذي اكتشف موهبتهم، التي لم يسبق أن اعترفت لهم بها الجامعة من قبل!  ثمّ أن ذلك الرجل الذي ترسله للدراسة في الخارج، إذا كنتَ من جامعته، وكان يشارك في مؤتمر كبير، ونشرتَ أعماله، ثم لقنّته منهاجاً أكاديمياً، فإنّه عندما يعود إلى كوبا، فإنّه سيعود بمنهاج أكاديمي ضخم، لأنه شارك في حدث علمي من الدرجة الأولى، ونجح في مساقات علمية من جامعات مهمة، فإنّ تأهيله الأكاديمي سيصل السماء مقارنة بغيره، عندها سيصبح نفوذه في الجامعة أكبر، لأنّه سيتم الاعتراف به كشخصية رائدة في حقله، مع أنّ ذلك الرجل يمكن أن يكونَ في الواقع جاهلاً جداً.

س: كم كان ذلك النوع من الاصطياد مؤثراً، وما هو نوع المهام التي أتَوا لينجزوها هنا؟

ج: في حالة كوبا، لم يحصلوا على نتيجة تُذكر.  أولاً، كان هنالك سبب مهم جداً، لأنني كنتُ أنا مدير المشروع، وأنا لم أكن، في الواقع، عميلاً للسي أي إيه، بل كنتُ عميلاً للأمن الكوبي.  لذا، مرّ كل المشروع من بين يدي، وظنّوا أنني من سينفّذه.  وقد مرّت الخطة دوماً عبر العمل الذي كنتُ أستطيع القيام به، وما فعلناه هو أننا أبطأنا تلك الخطة بقدر الإمكان، لنبقى حالاً في صورة ما يتمّ تخطيطه.  لكن فكر بهدف الخطة.. كانوا يحسبون اللحظة التي تختفي فيها الشخصيات التاريخية للثورة الكوبية.  كانوا يخططون على مدى خمس أو عشر سنوات، عندما يختفي فيديل كاسترو من المشهد السياسي، وراؤول، والقادة التاريخيون للبلاد.  كانت تلك هي اللحظة التي ينتظرونها، وعندما يحدث ذلك، كان عليّ أن أغادر الجامعة، مع كل الدعم الذي يمكن أن تقدمه الصحافة العالمية والمنظمات غير الحكومية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID وكل الناس الذين يعملون بتمويل من السي أي إيه، لتنشأ منظمة تقدّم نفسها أمام الجمهور كبديل لما تفعله الثورة.  ذلكم هو ما كان يفترض أن يحدث مع “معهد تكوين من أجل الحرية”.

س: ما هو ذلك المعهد؟

ج: كان على “معهد تكوين من أجل الحرية” أن يتبنّى خطاباً ثورياً من الناحية الظاهرية، لكنّ الفكرة كانت هي تشويش الناس.  الفكرة كانت بأن يقولوا بأنهم ثوريون، وبأنّ ما يريدونه هو القيام بتغييرات في الحكومة، لكن فعلياً، عندما تأتي لجوهر المشروع، عندما تسأل نفسك: “ما هو المشروع؟”، فإنّ الخطاب كان، والمشروع، متطابقان تماماً مع خطاب ومشروع اليمين التقليدي.  فالتغييرات التي كانوا يروّجون لها كانت نفسها التي روَّجَ لها اليمين لمدة طويلة في البلاد.

عملياً، كادوا يحصلون على فرصتهم الكبيرة، حسب معيارهم، عام 2006، عندما أعلَن التلفزيون بأنّ فيديل كاسترو سوف يتنحّى عن مسؤولياته الحكومية لأسبابٍ صحية، وقد قالوا دوماً بأنّ الثورة الكوبية سوف تموت عندما يموت فيديل.  لأنّ الثورة كانت فيديل، وفي اليوم الذي لا يعود فيه موجوداً، إما بالموت أو ترْك الحكومة، فإن الثورة الكوبية سوف تسقط في اليوم التالي.  وحسبوا بأنّه ستكون هناك مواجهات داخلية، وسيكون هناك استياء من هذا وذاك.  وهي حسابات لا أعرف من أين وصلوا إليها، لكنّهم صدقوها.  في تلك اللحظة، اعتقدوا أن الوقت حان للعمل.

س: نحن نتحدث عن العام 2006.  ماذا كانت الخطة؟

ج: اتصلوا بي أوتوماتيكياً.  التقينا، رئيس محطة السي أي إيه وأنا، هنا في هافانا.  وأتى موظفون دبلوماسيون، وقال لي أحدهم: سوف ننظّم استفزازاً.  سوف ننظم انتفاضة شعبية في ضاحية مركزية في هافانا.  سيذهب شخص هناك ليحتج من أجل الديموقراطية، ولسوف ننفذ مجموعة من الاستفزازات في مواقع مختلفة بطريقة تضطر معها قوات الأمن الكوبية أن تردّ على أولئك الناس، وبعدها سنبدأ حملة صحافية كبيرة ونبدأ بالتفسير كيف سيعمل كل هذا.  الجزء المثير للاهتمام في ذلك، ما لفَتَ نظري، كان هذا: كيف يملك موظف في قسم رعاية المصالح الأمريكية أن يدعو وسائل الإعلام الرئيسية، ليتجاوبوا معه بمثل ذلك الخنوع؟  كان شيئاً مثيراً للانتباه حقاً.  كانت الفكرة – حتى أنني قلت لهم هذا – بأنّ ما يخبرونني إياه هو محْض جنون.  هذا الرجل الذي ذكرتموه، واسمه ألسي فررير – الرجل الذي اختاروه – كان عميلاً شاباً وطبيباً، وقد اختاروه ليكون زعيم الانتفاضة.  قلتُ لهم: هذا الرجل لن يستطيع أن يحرّك أحداً.  لن يحتجّ أحدٌ في وسط هافانا.  ولم يكن اليوم الذي اختاروه لتنظيم الاحتجاجات سوى يوم ذكرى ميلاد فيديل كاسترو نفسه، وقد أخبروني عن الموعد!  فقلت: انظر يا صاحبي، إذا قرر ذلك الرجل، في ذلك اليوم، أن يذهب للشارع ليطلقَ التصريحات ضد كاسترو، فإنّ الناس سوف يردّون بخشونة.  من الممكن حتى أن يقتلوه.  فكيف ترسلونه إلى حيٍ عمالي متواضع ليثير مثل هذه الأشياء، أبناء المنطقة سوف… فقاطعني: بصراحة، إنّ أفضل شيء يمكن أن يحدث بالنسبة لنا هو أن يقتلوه، سيكون ذلك رائعاً… ثم فسّروا كيف سيحدث ذلك.  كل ما على الطبيب الشاب أن يفعله هو أن يقومَ بالاستفزاز.  سوف يذهبون للشارع، وهناك سوف يحدث صِدام.  إذا حدث ذلك، فإنّ الإعلام سيتكفّل بالباقي.  وقالوا لي: سوف نبدأ حملة إعلامية كبيرة لنظهر بأنّ هناك فوضى في كوبا، وبأنّ كوبا لا يمكن حُكْمها؛ وبأنّ راؤول كاسترو في كوبا غير قادرٍ على الإمساك بزمام السلطة؛ بأنّ المدنيين يتعرضون للقتل؛ وبأنّ القمع يطال الطلاب والناس في الشارع؛ بأنّ الشرطة ترتكب الجرائم.  يا له من تشابه مع ما يجري في فنزويلا!  إنها ليست صدفة.  إنها هكذا.

س: ماذا كان يفترض أن يحدث في تلك الظروف؟

ج: عندما يتمّ خلْق مصفوفات الرأي العام جميعها، وبعد أن تقوم مصفوفات الإعلام بتشكيل مثل هذه الصورة، فإنّ العالم برمّته ستتكون لديه صورة عن كوبا باعتبارها كارثة كبرى، وبأنّهم يقتلون الناس، وبأنّهم يقتلونهم جميعاً.  ثم كان على منظمتي أن تتمم المهمة الأخيرة.

س: ماذا كانت تلك المهمة الأخيرة؟

ج: حسناً، أن أدعو الصحافة العالمية، بصفتي أستاذاً جامعياً وكاتباً وقائداً لتلك المنظمة، وأن أخرج علَناً لمطالبة حكومة الولايات المتحدة بالتدخل في كوبا، لضمان حياة المدنيين والإتيان بالسلام والهدوء للشعب الكوبي، بأن أخاطبَ البلاد باسم الشعب الكوبي.  تصوّر ذلك!

لقد تساقَطَت تلك الخطة عليهم.  لم تأتِ لهم بأية نتيجة، لكن كما تستطيع أن ترى، من الطريقة التي سارت فيها الحرب في ليبيا، والطريقة التي تمّ فيها ترتيبها… لقد كان أكثر من ثمانين بالمئة من المعلومات التي رأيناها مفبركة.  وهم يفعلون الشيء نفسه في سورية، وفعلوه في أوكرانيا.  لقد سنَحَت لي الفرصة بأن أتّحدث مع الكثير من الأوكرانيين، بما أنّهم كانوا في القواعد، وهم أناس يفضّلون الاتحاد مع أوروبا.  حاولتُ التحدث معهم مؤخراً لأعرف كيف جرت تلك العمليات… لقد تفاجأوا من الصور التي كان يتمّ بثّها حول العالم.  كانت هنالك أماكن توجد فيها مجموعات يمينية، من أقصى اليمين، حيث وقعت أحداثٌ من هذا النوع، حيث كانوا يحرقون، لكن معظم التظاهرات لم تتسم بتلك الصفات.  فهذا هو، مرة أخرى، تكرار لنفس المخطط، اعتماداً على وسائل الاتصالات.

س: العلاقة بين السي أي إيه والسفارات، في كل بلد، هل هي مباشرة إذن؟

ج: نعم، مباشرة تماماً.  في كل سفارة في أمريكا اللاتينية، يوجد ضباط من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يعملون فيها خلف واجهة العمل الدبلوماسي.

س: حسب معلوماتك، هل هناك وجود أكبر للسي أي إيه في المنطقة؟

ج: حسناً، في لحظة ما، كانت الإكوادور قوة رئيسية في هذا، إذ كان يوجد فيها تركيزٌ عالٍ منهم، وطبعاً فنزويلا، وذلك أنني عندما حضرت معرض الكتاب في كاراكس في 2012، وجدت كل الأشخاص الذين عملوا معي ضدّ كوبا، كل ضباط السي أي إيه، ومنهم كيلي كيدرلينغ، في كاراكس في ذلك الوقت.  وقد ظهرتُ على برنامج تلفزيوني على التلفزيون الفنزويلي تحدثتُ فيه عن هذا الموضوع، بحذرٍ شديد، لأننا نتحدث هنا عن بلدين توجد بينهما علاقات دبلوماسية، وهذه ليست الحال مع كوبا، أي أنّ كوبا ليست لديها علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة.  بل هو عدوٌ معلن.  لكننا نتحدث هنا عن موظفين في السي أي إيه لديهم صفة دبلوماسية، لذلك كان من غير الملائم التعريض بهم علناً بدون امتلاك أدلة ملموسة يمكن عرضها.  لكن المقابلة تمّت، كما تمّت إدانة ما يجري.  كيلي كيدرلينغ خبيرة في هذا النوع من الحروب.  ليس لدي أدنى شكّ حول هذا إذا تتبع المرء مسارها، عبر البلدان التي خدَمَت فيها، وطبيعة النزاعات التي وقعت فيها.

لقد جالَت في سلسلة من بلدان العالم حدثَت فيها أوضاع متشابهة، كما حاولت أن تفعل في فنزويلا، وعندما تحلل وضع فنزويلا وما يجري فيها اليوم والطريقة التي عملت فيها…  أعتقد أنهم في فنزويلا كانت خاصية عملهم بأنهم كانوا أكثر هجوميةً بكثير في التلاعب بالمعلومات.  لقد كانوا هجوميين تماماً إلى حدٍ تستطيع معه أن تقول أنّهم وقعوا بأخطاء فادحة.  فقد كانت هناك صورٌ في الإعلام من الواضح أنها لم تأتِ من فنزويلا.  وقد رأيت صورة شهيرة من بينها يظهر فيه جندي مع صحافي معه كاميرا:  لقد كانوا كوريين!  لقد كانت تلك الصورة من كوريا.  لقد كانوا آسيويين.  لم يبدوا كفنزويليين على الإطلاق.  أيضاً، البزّات التي يرتدونها.  لقد كانوا هجوميين جداً في تلك الصورة التي تقدّم ما يجري في فنزويلا لبقية العالم.  بالنسبة لمعظم الناس في العالم، كانت تلك الصورة ما يروْنه…

س: إنهم يتحكمون بالإعلام.  هل تعرف أية حالة لأي صحفي معروف أو غير معروف كان، على ما رأيت، في عملية التدريب؟

ج: لا.

س: من قناة CNN مثلاً؟

ج: لا، كان هناك شخص لديه الكثير من الروابط معي في ذلك الوقت كان يخدم كصلة وصل للقاء مع ضابط من السي أي إيه، واسمه الشخص أنطوني غولدن، وكان يعمل مع وكالة رويترز.  لكن الحقيقة أنه كان مستقلاً عن رويترز.  أما قناة الـCNN فقد كانت دوماً متصلة بشكلٍ وثيق بهذه الأشياء.  فالـCNN، منذ اللحظات الأولى لتشغيلها، قبل هذه الخطوة الأخيرة، وفوق كل شيء، قناة الـCNN بالإسبانية، كانت أداة لا غنى عنها لأولئك الناس، لكن المشكلة أن عليك أن تفهم شيئاً واحداً: لفهم ما يجري، ولتكونَ قادراً على شنّ حملة إعلامية، عليك أن تفهم أن أي محطة تلفزيونية لا تتصرف من تلقاء ذاتها.  فهنالك الشركات المتكتّلة، تكتلات الاتصالات، من الذي يديرها؟  مثلاً، شركة تايم ورنر وAOL، وكل شركات الاتصالات الكبيرة – تلفزيون الكابل، قنوات الأفلام، التلفزيون عامة – من هو رئيسها في النهاية؟  هنا هي شركة وستتنغ هاوس.  هناك هي شركة جنرال إلكتريك.  أي أنّ الشركات التي تبني الطائرات الحربية، وتملك صناعة السلاح الأمريكية، يملكها نفس الأشخاص الذين يملكون شبكات التلفزة واستديوهات الأفلام والصحف والمجلات ودور النشر.  لذا فإنّ نفس الأشخاص الذين ينتجون الطائرات الحربية، والبسكويت الذي تتناوله في الليل، والذين يقدّمون لك فناناً ما، هم أنفسهم الذين يحكمون صحف كل العالم.  فمن الذي يسائلهم عما يفعلونه في النهاية؟

س: عندما ترى ما يحدث في فنزويلا وتقارنه مع ما فعلته هنا في كوبا، ما هو الاستنتاج الذي تستخلصه؟

ج: إنها استراتيجية جديدة عكفوا على تطويرها اعتماداً على الخبرة التي حصلوا عليها من كل أرجاء العالم، لكن أنا أرى، ومقتنعٌ، بأنّهم لم يحصلوا على نتائج تروق لهم إلا عندما كان الشعب في تلك الأماكن لا يدعم الثورة (المناهضة للإمبريالية – إ. ع).  لقد نجحوا مع ميلوسوفيتش لأن ميلوسوفيتش كان زعيماً يوغوسلافياً عانت صورته كثيراً بفضل الأشياء التي وقعت في يوغوسلافيا.  الشيء نفسه حدث في أوكرانيا لأن يانكوفيتش كان رجلاً لا يتمتع بالكثير من الدعم الشعبي، ووقعت على نتائج في أماكن أخرى لا تتمتع فيها الحكومات بدعم الشعب كثيراً.  وحيثما كانت توجد حكومة شرعية، حكومة قوية، وشعب يميل للدفاع عن الثورة، فإنّ الخطة فشلت.

س: في أي طور يدخلون عندما تفشل الخطة؟

ج: سوف يستمرون بالخطة، محاولين تطويرها دوماً.  نحن العدو.  أي فنزويلا وكوبا وكل ما يبدو في أمريكا اللاتينية كبديل.  نحن منشقو العالم.  إننا نعيش في عالم تحكمه الرأسمالية حيث تسود الطريقة الرأسمالية الجديدة في الحياة، فلا يستطيع المرء الآن حتى أن يسمّيها إمبريالية.  إنها شيء جديد، شيء يذهب أبعد بكثير مما كتب عنه تلامذة الماركسية في أيامٍ مضت.  إنها شيء جديد، حديث.  إنها قوة، معولمة فعلياً، للشركات الكبرى متعدية الحدود، والمراكز العالمية العملاقة التي خلقوها.  لذلك نحن العدو.  نحن نقدم مشروعاً بديلاً.  الحل الذي يقدمه العالم لنا ليس هذا.  نحن نعرف كيف نقدم مثل ذلك المشروع البديل، وكوبا وفنزويلا ودول الألبا (التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا، أي أمريكا الخاصة بنا، ويضم فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا والإكوادور وبوليفيا وعدد من الدول الامريكية اللاتينية الصغيرة – إ. ع) أظهروا جميعهم بأننا يمكن أن ننجح، وبأنّ يوماً أو يومين أو أكثر عبارة عن لا شيء.  الثورة الكوبية قيد الوجود منذ 55 عاماً، وقد تمكنت بالإرادة السياسية من تحقيق أشياء لم تتمكن حكومة الولايات المتحدة، بكل مال العالم، أن تحققها.

وكما أقول لطلابي: هل تستطيعون أن تتخيلوا لو أنّ حركة المحتجين في إسبانيا، وآلاف وملايين العمال العاطلين عن العمل في إسبانيا، ومثلهم من اليونانيين، ومثل أولئك الناس في العالم، يعرفون ماذا يفعلون؟  هل تستطيعون أن تتخيلوا ماذا سيحدث لو عرف أولئك الناس من هو تشافيز؟  أو من هو فيديل؟  أو بعض الأشياء التي نفعلها هنا؟  أو الأشياء التي نفعلها بموارد قليلة لهذا الحد، فقط بإرادة صنع الثورة وتقاسم الثروة؟  ماذا سيحدث للرأسمالية عندها؟  كم ستدوم بعدها؟  هذه الرأسمالية التي تضطر لإنفاق مليارات الدولارات كل يوم لبناء صورتها وخداع الناس؟  ماذا سيحدث لو عرف أولئك الناس من نكون؟  ما هي الثورة الكوبية، حقيقة، وما الثورة الفنزويلية؟  لأنك لو تحدثت لإسباني وسألته عن تشافيز، فإنه سيعطيك جواباً فظيعاً عنه، لأنّ ذلك هو ما زرعوه في ذهنه.  فقد تلتقي شخصاً عاطلاً عن العمل فيقول لك أنّ تشافيز شخصٌ سيء لأن وسائل الإعلام أقنعته بذلك.. لكن فقط لو عرف أولئك الناس كيف هي الأمور حقاً!! لذلك لا يستطيعون أن يسمحوا لأعداء هائلين مثلنا أن يقفوا هناك على بابهم.

س: من وجهة نظر السيادة الوطنية لشعبنا، كيف نستطيع أن نوقف السي أي إيه عند حدّها؟  سبق أن تناولنا وعي الشعب، وهو أمر أساسيٌ في مواجهة مثل هذه الأعمال، لكن، بشكل ملموس، كيف يستطيع المرء أن يتنبّأ بما تقوم به السي أي إيه؟  ما الذي يمكن عمله؟  وما هي توصياتك؟

ج: أفكر بما قاله تشافيز، وما قاله فيديل دوماً، فهو مفتاح هزيمة الإمبراطورية (الولايات المتحدة كما تُلقّب في أمريكا اللاتينية – إ. ع)، وذلك هو الوحدة.  إنّها ليست مجرد شعار.  إنّها حقيقة.  إنّها الطريقة الوحيدة لهزيمة مشروع كهذا، مشروع تديره “الخدمات الخاصة” والرأسمالية.  لا يستطيع المرء أن يهزم مثل ذلك المشروع إلا بالوحدة.

س: تقصد وحدة الشعب والجيش؟

ج: نعم، الوحدة بكل معانيها.  الوحدة القائمة على التعددية، في الشعوب، لكن الوِحدة كأمة، الوِحدة كمشروع.  حيثما يكون الشعب منقسماً، هنالك واقعٌ آخر.

س: أين علينا أن نركّز؟  في أي منطقة يجب أن نركّز قوانا لندافع عن أنفسنا إزاء مثل هذه الأعمال، هذا النوع من الهجمات؟

ج: إنّ الجيش الذي يمكن أن يهزم مثل هذا المشروع هو الشعب.  أؤمن أنّ التجربة الكوبية علّمتنا ذلك جيداً.  وثمةَ تجارب في العالم تشير لذلك بوضوح.  ما الذي حدث في العالم عندما لم يكن الناس أنصار الدفاع عن الثورة (المناهضة للإمبريالية – إ. ع)؟  وحيثما كان الناس أنصارها، ما الذي حدث؟  ثم هناك حالة كوبا.  لقد نجحنا في دحْر السي أي إيه والإمبراطورية ملايين المرات، لأنّ الشعب كان نصيراً للثورة.

س: هل تستفيد السي أي إيه من شبكات التواصل الاجتماعي عند وضع خططها؟

ج: إنهم أساتذة في ذلك المجال.  نعم، ثمّة إدانات لسنودن وكل ما تمخّض عن فضيحة ويكيليكس، وكل تلك الأشياء التي لم تعد سراً على أحد، لأننا كنا قد شككنا بها، أمّا الآن فقد تمّ إظهارها على الملأ.  لقد تبيّن أن السيرفرات، الإنترنت، هي ملكهم.  كل السيرفرات في العالم تنتهي في الخوادم الأمريكية الشمالية.  إنّهم أم الإنترنت، وكل الشبكات والخدمات مسيطَر عليها من قبلهم.  يستطيعون الوصول لكل المعلومات على الإنترنت، وهم لا يترددون بتسجيلها.  الفيسبوك هو بنك معلومات استثنائي.  فالناس يضعون كل شيء على الفيسبوك: شبكة أصدقائهم، أذواقهم، الأفلام التي شاهدوها، ما يستهلكونه… إنها مصدر مباشر للمعلومات.

س: هل تواصلت مع كيلي كيدرلينغ بعد ما حدث في فنزويلا؟

ج: لا لم يكن لي أي تواصل معها.  ولا أعرف إلى أين ستذهب بعد طردها من فنزويلا (على خلفية اللقاء بإرهابيين وتمويلهم).

س: بالخبرة التي تمتلكها كيلي كيدرلينغ، إلى أي مدى تعتقد أنّها تمكنت من اختراق فنزويلا والجامعات الفنزويلية؟

ج: أنا واثق بأنها نجحت بذلك إلى حدٍ بعيد.  فهي عميل ذكي جداً، مستعد جيداً، قدير جداً، ومقتنعة بما تقوم به.  كيلي هي شخصٌ مقتنعٌ بالدور الموكَل إليها.  إنها مقتنعة بعدالة ما تقوم به، من وجهة نظرها.  فهي ممثل للرأسمالية من دون قيد أو شرط، لأنها من نخبة الرأسمالية.  وهي مندمجة عضوياً في الأعمال التي تقوم بها.  وليس في ذهنها أي تناقض من أي نوع حولها.  وبناء على خبرتها في مجال عملها، وقدراتها، أنا مقتنع بأنها نجحت إلى حدٍ بعيد، وأنها سوف تستمر في القيام بالدور ليس فقط الآن، بل لفترة طويلة قادمة، لقلب اتجاه الريح في الجامعات الفنزويلية.  وما يجري الآن سوف يستمر إلى أبعد نقطة يمكن أن يصلوا إليها على المدى البعيد، وهو ما سيختبر العملية البوليفارية، بمقدار ما يدرك الشعب ما الذي يمكن أن يحدث: إذا أصبح اليمين الفاشي خارج السيطرة، فإنّه يمكن أن يعودَ للسلطة مجدداً.

س: أي نوع من الأشخاص، ممن يملك صِلات، ويستطيع الوصول للناس، مثل ناشط في حركة سياسية مثلاً، يمكن أن تصطاده السي أي إيه؟

ج: سوف يحاولون إيجادهم… سوف يحاولون القيام بذلك بالتأكيد.  إذا كان شاباً وقائداً، سيحاولون أن يصطادوه عبر اهتماماته.  علينا أن ندرّب قادتنا.  لا نستطيع أن نترك ذلك للحس العفوي، لا نستطيع أن نتركه للعدو.  فإذا فعلنا، سنخلق فراغات سيملؤها العدو.  أي مشروع بديل نتركه بلا حراسة، أي مشروع بديل، أي مشروع بديل لا ندرك الحاجة للاقتراب منه، سيكون مشروعاً سيحاول العدو بالضرورة أن ينفذ إليه، مستخدماً الكمية الهائلة من المال التي خصصها لهذا الغرض، وهي كمية بلا حدود، بالنسبة للموارد المستخدمة، لأنهم يلعبون بالمستقبل، وهنا يصبح الشباب هم المفتاح.

الأمر الجيد هو أنّ الشبيبة هم حاضرُ أمريكا اللاتينية في الزمن الحاضر.  فالثورة الأمريكية اللاتينية الموجودة هناك، والموجودة في كل مكان، هي ثورة الشباب.  ولو لم تكن، فإنها لن تحقق أي نتائج.  فإذا استطعت أن تجعل الشبيبة يفكرون بشكل مختلف، إذا نجحت بجعل اليافعين يعتقدون بأن الرأسمالية المتوحشة هي الحل لمشاكلهم، لن تكون هناك ثورة في أمريكا اللاتينية.

قصيدة العدد: (وحلُ الخطايا)

 

طارق شخاترة

كي تُجيدَ الموتَ في هذا السبيلْ
وصدى الأجراسِ يرتدُّ عويلْ
لتقيمِ العدلَ بالفكر الدخيلْ
لا ولا أشياءُ من هذا القبيلْ
ولطيفٌ بالعبادِ وجميلْ
فجَلَتْ أنوارُهُ الليلَ الطويلْ
لمْ نسلِّمْ حُلمَنا للمستحيلْ
صوتُنا الظمآنُ جيلاً بعدَ جيلْ
بعدَ تقزيمِ الأماني للفصيلْ
وتساوي العبدَ بالحرِّ الأصيلْ
تَجِئْ بالذبحِ والفوضى بديلْ
لا يليقُ الغارُ بالرأسِ الذليلْ
غيرُ مختلٍّ وذيفكرٍ هزيلْ
ثمَّ يمضي بعدَ تنصيبِ العميلْ
بعدَ كلِّ القتلِ يبكونَ القتيلْ
في بلادِ العُرْبِ أنهاراً تسيلْ
ذلكَ الميدانُ أولى بالصهيلْ
  في سبيلِ اللهِ عشْ قبلَ الرحيلْ
لنْ ترى الأفراحَ والآذانُ يبكي
لا تَجِئْ بالذبحِ والتنكيلِ جهلاَ
ليسَ في الإسلامِ تكفيرٌ وقتلٌ
إنَّ ربَّ الكونِ رحمانٌ رحيمُ
ورسولُ اللهِ بالحسنى دعانا
قدْ تشظَّينا دويلاتٍ ولكنْ
ببلاد العربِ أوطاني تغنَّى
بيدَ انَّ الثائرينَ اليومَ غنُّوا
تصنعُ الحريةُ الإذلالَ حيناً
أيُّها الغارقُ في وحلِ الخطايا
ثورةٌ تُبقيكَ ذيلاً لا تَثُرْها
لا تقاتلْ بصفوفٍ ليسَ فيها
سيكونُ الغاصبُ المحتلُّ عَوناً
والذين ثوَّروكَ لن تراهم
في سبيلِ اللهِ عشْ واحقنْ دماءً
ثمَّ وجِّه مُهرَكَ الرمَّاحَ غرباً

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *