Qawmi

Just another WordPress site

وعد بلفور

 

د. إبراهيم علوش 

 صحيفة تشرين 12 كانون أول 2017

 ليس الأقصى بديلاً عن القدس، ولا القدس بديلة عن فلسطين، إذ لا يصح أن يكون الرمز بديلاً عما يرمز إليه، لذلك فإن بقاء السفارة الأمريكية خارج القدس، لو افترضنا جدلاً أنها بقيت خارجها وأن ترامب لم يقرر نقلها ولا الإعلان عن قدسنا العربية المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الصهيوني، ما كان ليغيّر من حقيقة الاحتلال الصهيوني لفلسطين أو للقدس كثيراً، فكلاهما كان وبقي محتلاً من قبل وبعد قرارات ترامب بشأن القدس، لكن ما جاء به ترامب انتج صدمةً شعبيةً عربيةً سببّها الاعتداء على رمزية القدس العروبية والإسلامية والمسيحية عند شعبنا العربي، وهذا انتج ردة فعل طبيعية في الشارع العربي جانبها الإيجابي أنها  تُظهر أن الأمة حية لأن فلسطين لا تزال في قلبها، كما أنه انتج صدمةً لدى بعض النخب العربية والفلسطينية التي طالما خدعت نفسها بما يسمى مشروع “التسوية السلمية” مع العدو الصهيوني، فإذ به وهمٌ أجوفُ يرتطم بحائطٍ أجوفَ اسمه ترامب، وعلى هذا المستوى تحديداً، مستوى خداع الذات بأن ثمة “سلاماً” ممكناً مع الكيان، فإن أعلانات ترامب حول القدس جاءت بمثابة “صفعة القرن” بحسمها وضعية القدس مسبقاً، على مقاس اليمين الصهيوني، في ما كان يفترض أن يُحسم في “مفاوضات الوضع النهائي”، وهي  صفعةٌ لـ”مبادرة السلام العربية”، وصفعة لجماعة تغييب المقاومة المسلحة بحثاً عن “الاشتباك الدبلوماسي”، وصفعة لنهج “الفهلوة السياسية” في التعامل مع الحركة الصهيونية، وهذا البعد فيها تحديداً يمثل جانبها الإيجابي بمقدار ما ينتج يقظة، مهما كانت متأخرة، من غيبوبة المشروع التسووي برمته.

لكن قرارات ترامب لا تمس المخدوعين بأوهام “التسوية السلمية” مع الكيان الصهيوني فحسب، والمخدوعين بـ”الوسيط” الأمريكي، فحتى من يعرفون جيداً أن حكومة الولايات المتحدة عدوة شعوب الأرض، ومن يدركون عمق العلاقة العضوية بين الإمبريالية والصهيونية، ممن لم يخدعوا أنفسهم يوماً بما يسمى “العملية السلمية” أو بـ”وساطة” حكومة الولايات المتحدة فيها، يدركون أن ما قام به ترامب يدخل على خط المسألة الأساسية في الصراع العربي-الصهيوني منذ بدأ مع بدء الهجرات والمستعمرات اليهودية في فلسطين على نطاقٍ واسعٍ في ظل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في نهاية القرن التاسع عشر: هل فلسطين عربية أم يهودية؟  وهذا السؤال البسيط هو الذي يلخص جوهر الصراع: ما هي هوية الأرض؟   فمن يملك أن يفرض مقولته التاريخية حول هوية الأرض هو المنتصر في الصراع.  ولو اقتصرت أهمية قرارات ترامب الأخيرة على تعرية أوهام وخزعبلات جماعة “الحل السلمي” و”التعايش” لهانت، لكنها باستهداف رمزية القدس سعت لتزوير التاريخ ولفرض الرواية الصهيونية فرضاً، فإذا كانت القدس صهيونية، بحسب إعلانات ترامب، فإن فلسطين كلها تصبح كذلك، الرمز وما يرمز إليه، ويصبح أهلها غرباء في أرضهم، والمقاومة إرهاباً، والاحتلال الصهيوني مشروعاً، وتهويد الأرض “استعادةً لها”، وكل ما يقوم به الاحتلال “دفاعاً عن النفس”!  ولهذا يمكن أن نعدّ إعلان ترامب عن القدس بمثابة “وعد بلفور جديد” فعلاً، بعد مرور مئة عام على القديم، كما قال سماحة السيد حسن نصرالله.

لقد ظن العدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية أن إغراق البلدان العربية بالدماء والفتن والحقن الطائفي والأزمات الداخلية سوف يُنسي أمتنا قضاياها المركزية، وعلى رأسها فلسطين، فوجد أن كل ما قام به لم يُنسِ شعبنا العربي أرضه السليبة، لكن دعونا نتوقف هنيهةً لنسأل: ما الذي أوصلنا إلى هذه النقطة؟  وكيف انقلبت كل تنازلات السلطة الفلسطينية والمعاهدات العربية (والتركية) ومسيرة التطبيع الرسمي الخليجي مع العدو الصهيوني في السنوات الأخيرة إلى استهتار بالمطبعين والأنظمة العربية التابعة للولايات المتحدة؟  وكيف تحولت مسيرة التفاوض والصلح والاعتراف، منذ كامب ديفيد، إلى إقرارٍ تدريجيٍ بمرجعية اليمين الصهيوني المتطرف وأولوياته؟

علينا أن نعترف، بعد سبع سنواتٍ عجاف على ما يسمى “الربيع العربي” أنه أسهم في تغييب الوعي القومي في متاهاتٍ ليبرالية متغربة أو تكفيرية، وأن ذلك بدوره أسهم بشكلٍ مباشر في تهميش القضية الفلسطينية عند قطاعات من الشعب العربي، وأن ذلك “الربيع” أستنزف عدة أقطار عربية مركزية، مما لا بد أنه شجع الإدارة الأمريكية على الإقدام على مثل هذه الخطوة من دون توقع ردود فعل جماهيرية عارمة على إعطاء وعد بلفور جديد كتلك التي كانت تشهدها البلدان العربية في فترة النهوض القومي قبل عقودٍ خلت. 

الحرب الطائفية التي حاولت الرجعيات العربية إشعالها حرفت اتجاه البوصلة عند قطاعات من شعبنا العربي أيضاً، فتحول العدو الصهيوني إلى “حليف” ضد إيران، مما يشير كتاب الأعمدة الأمريكيون أنه لعب دوراً مباشراً في تشجيع ترامب على إعلان “صهيونية القدس”، وهو واثقٌ أن الأنظمة العربية الرجعية لن تُقدِمَ على أي خطوات عملية ذات أثر رداً عليه.  فالصفقات الكبرى بعشرات المليارات مع الولايات المتحدة لن تتأثر، ولا القواعد العسكرية الأمريكية في بلادنا، ومن دعوا لـ”الجهاد” في سورية والعراق ومصر وليبيا، لن يدعوا للجهاد الحقيقي في فلسطين!

النصاب السياسي أردوغان، الذي طالما تاجر بغزة وقضية فلسطين، فيما وصل التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني في ظله إلى أعلى مستوياته (عدة مليارات من الدولارات)، أرغى وأزبد كالعادة، مهدداً ومتوعداً، في مسعى يفترض أن يكون قد بات واضحاً لاستثمار قضية فلسطين عثمانياً عند الجمهور العربي، ثم تمخض الجبل فولد فأراً، لكن بعضاً مضللاً من شعبنا لا يزال يظنه “حامي حمى الإسلام والمسلمين”، وفي ظل زوغان البصيرة إلى هذا الحد، يذهب جزء من النقمة الشعبية إلى “منافذ آمنة” قابلة للتبديد والتجيير بعيداً عن قضية فلسطين في النهاية.  

كذلك لا بد من التذكير أن السلطة الفلسطينية، في سياق التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني، وبإشراف أجهزة أمنية أمريكية، لعبت دوراً أساسياً من أجل اجتثاث العمل المقاوم في الضفة الغربية والقدس، وبذلت جهوداً منهجية لإقناع قطاعات من الشعب العربي الفلسطيني أن المقاومة هي “كسب الرأي العام الإسرائيلي” إلى جانبنا وإلى ما هنالك من هراء، وقد كان هذا الدور من العوامل الرئيسية التي شجعت الإدارة الأمريكية على الإقدام على هذه الخطوة من دون خوف من العواقب.

نضيف أن ما لا يعيه بعض الذين استشاطوا غضباً (عن وجه حق) من إعلانات ترامب أنها لم تكن لتمر لولا إضعاف عدد من الدول العربية واستنزافها وتدميرها وتفكيكها، من احتلال العراق وتدميره، إلى العدوان على ليبيا، إلى تفكيك السودان، إلى استنزاف مصر، إلى تفكيك السودان، إلخ… فالكيان الصهيوني مفهومه للأمن الاستراتيجي يقوم على تفكيك البلدان العربية المركزية وتغيير هوية المنطقة من عربية إلى “شرق أوسطية”، وما التطبيع ومشاريع “السلام” إلا عمليات اختراق تستهدف تحقيق مثل هذا الهدف الاستراتيجي.  ومن هنا فإن الحرب على سورية شكلت مقدمة ضرورية من مقدمات إعلان وعد بلفور الجديد، فلا يمكن أن نتمشى مع الفتنة لنغضب بعد ذلك من عقابيلها، واستهداف سورية بالقصف والعصابات المسلحة من قبل الكيان الصهيوني، واستهداف القدرات الدفاعية والهجومية للمقاومة في لبنان وفي فلسطين، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، كله جزء من حزمة واحدة، فلا يمكن أن تكون مع فلسطين، إن لم تكن مع المقاومة، ولا يمكن أن تكون مع المقاومة، إن لم تكن مع حواضنها، ولا يمكن أن تكون ضد العدو الصهيوني حقاً، إن لم تكن مع سورية.

http://tishreen.news.sy/?p=126735

للمشاركة على الفيسبوك:

https://web.facebook.com/Qawmi

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *